مملكتي ليست من هذا العالم
  • ماذا عنى المسيح الناصري عليه السلام بقوله: “مَمْلَكَتِي لَيْسَتْ مِنْ هذَا الْعَالَمِ”؟
  • كيف أثبت المسيح الموعود وخلافته صدق مقولة المسيح الناصري المذكورة؟
  • ألا ترى أن مسلمي هذا الزمان يجهدون أنفسهم في البحث عن خلافة هي أصلا أمام أنظارهم؟!
  • كيف يعد رمضان تحقيقا متجددا لعبارة “مَمْلَكَتنا لَيْسَتْ مِنْ هذَا الْعَالَمِ”؟

__

«مَمْلَكَتِي لَيْسَتْ مِنْ هذَا الْعَالَمِ»، عبارة ذات مغزًى عميق، وردت في إنجيل يوحنا على لسان السيد المسيح الناصري في أثناء موقف عصيب، حين التحقيق معه بتهمة تشبه تمامًا ما يسمى بـ “محاولة قلب نظام الحكم”، وهي بهذا المعنى تهمة خطيرة حقًّا، وتستوجب إعدام من تثبت ضده، نظرًا إلى ما يترتب عليها من إفساد سلام المجتمعات وزعزعة أمنها. ولكن، أترى هذه التهمة الشنعاء قد ثبتت حقًّا على السيد المسيح الناصري، وحاشاه؟! بالقطع كلا، لذا كان رده القاطع والساطع الذي ينقض بناء إفك الكتبة والفريسيين أن مملكته لا تنتمي إلى عالمهم المادي، ولا هي سلطة نفوذ سياسي البتَّة، بدليل أن ما لله لله، وما لقيصر لقيصر، فرجال الله المقدسون لا يُبعثون لقيادة مظاهرات تندد بأحد، أو تنادي بإسقاط أحد، بل على العكس تماما، فإن دين الله تعالى هو دين معايشة وتعارف، مهما اختلفت المشارب والأذواق، بل والأديان، شريطة الاحترام المتبادل أولا.. لا يمكن تفسير سبب هياج الممسكين بزمام السلطات المادية إزاء بعث المجددين إلا بخوفهم المرضي من سحب البساط من تحت أقدامهم، كونهم يقرون في قرارة نفوسهم بأنهم ليسوا أهلاً لهذا الأمر، أو بحسب التعبير الدارج “يتحسسون رؤوسهم”، مع أن مجيء المبعوثين إنما يضمن لهم ولمجتمعاتهم الاستقرار الصحي الأمثل، بغض النظر عن مسألة قبول دعوة المبعوث أو رفضها بأدب.وفيما يتعلق بواقع مسلمي هذا العصر، فثمة حال لا شك أننا مررنا بها جميعًا في سني طفولتنا المبكرة، بل هناك كثيرون مازالوا يعيشونها إلى الآن وفي أيام نضجهم، إنها حالة تتلخص في انهماكنا في البحث عن ضالتنا بينما هي في أيدينا. وكثيرًا ما يصطبغ هذا المشهد الحياتي بشيء من الفكاهة حين يبحث أحدنا عن نظارته وهي على عينيه. إنه مشهد مألوف لدى الكثيرين، وهو فكاهي تتسرى به القلوب البائسة وتبش الوجوه العابسة حال تذكره، ولكن ليس دائما، فحين تتعلق المسألة بنبوءة عليها مدار اعتقادنا، ينبغي علينا التوقف برهة والتفكر في هذا الأمر، لماذا يحدث أن نبحث عن ضالتنا المنشودة بينما هي في متناول أيدينا؟! لماذا يحذو أغلب المسلمين من التقليديين حذو اليهود في توقعهم مسيحًا مخلِّصًا عسكريًّا وخلافة سياسية، بينما مسيحهم بينهم ومنهم، وخلافة المسيح الروحية تجوب العالم بإنجازاتها وبشائرها؟! أم ما زالت عقدة الطفولة عالقة في الأذهان؟!

على أية حال، فبالرجوع إلى قضية السيد المسيح الناصري ، وعلى الرغم من إيماننا القطعي بصدق حضرته، إلا أننا ربما نجد أنفسنا مدفوعين إلى التماس بعض العذر لمحاكميه الرومان، الذين تأثروا بوجهة النظر اليهودية السائدة آنذاك، والقائلة بأن مسيحهم الآتي يكون ملكا يجلس على كرسي داود، نعم، اليهود كانوا، وما زال أكثرهم، ينتظرون مخلصا عسكريا، وهذا الاعتقاد هو ما أفزع الحكام الرومان.

ولكنهم تغافلوا على مقولة السيد المسيح «مَمْلَكَتِي لَيْسَتْ مِنْ هذَا الْعَالَمِ» والتي تحققت بشكل أوضح خلال بعثة المسيح الثاني.. المسيح المحمدي ، لكن لننظر كيف أن دعوته المستمرة بخلافته الإسلامية الأحمدية أثبتت بما لا يدع مجالا للشك صدق هذه المقولة «مَمْلَكَتِي لَيْسَتْ مِنْ هذَا الْعَالَمِ»، إذ التزمت، ولا زالت، بمنهج واحد ثابت طوال تلك المدة التي كسرت حاجز القرن من الزمان، ودون أن تنحرف عنه قدر أنملة، على الرغم من أن فرصة صنع القرار واتتها غير مرة! إن خلافة كهذه ربانية، تثبت كل حين أنها خلافة التغيير السلمي مهما واجهت من قمع واستبداد، لا تجيز لأبنائها رفع السلاح في وجه مجتمع يضطهدها، في وقت تنتاب العالم قشعريرة لمجرد سماع كلمات نحو “خلافة” و”جماعة” وما إلى ذلك، إذ تُستعاد على الفور ذكريات أليمة عن الملك العاض البغيض. ولأن مَمْلَكَتَنَا لَيْسَتْ مِنْ هذَا الْعَالَمِ، فإن العقل يفرض أن ننتقل إلى عالمنا الحقيقي في يوم ما، أو على الأقل نزوره زيارةً نستعيد بها قوتنا وقدرتنا على مفارقته مدة من الزمان. ونظرا إلى هذه الحاجة الفطرية، ينعم الله تعالى علينا بإحضار عالمنا الحقيقي إلينا كل عام، ممثلا في شهر رمضان الذي له من الفضائل ما له! والذي تتحقق فيه مقولة “مَمْلَكَتُنَا لَيْسَتْ مِنْ هذَا الْعَالَمِ” أجلى تحقق، بما أنه شهر انقطاع عن مغرِيات الدنيا المادية السفلية، وأهواء النفس القذرة.

ينعم الله تعالى علينا بإحضار عالمنا الحقيقي إلينا كل عام، ممثلا في شهر رمضان الذي له من الفضائل ما له! والذي تتحقق فيه مقولة «مَمْلَكَتَنَا لَيْسَتْ مِنْ هذَا الْعَالَمِ» أجلى تحقق، بما أنه شهر انقطاع عن مغرِيات الدنيا المادية السفلية، وأهواء النفس القذرة.

عزيزي قارئ التقوى، من جميل المفارقات أن توافق شهر التقوى هذا العام، الذكرى الثانية عشر بعد المائة لقيام الخلافة في جماعة المتقين، فيُسعد فريق التحرير أن يهديك باقة من المواد الثرية التي تتقوى بها الروح على قلة غذاء البطن، لذا فقد ارتأى فريقنا أن يتحفك بإحدى خطب الجمعة التي تشير إلى هذا التزامن اللطيف، ثم باقة من المواد المقالية المعنية بشهر رمضان وفضائله ونفحاته الروحية والمادية كذلك.

هذا ومنذ قرابة الشهرين دبت ضجة فيروس كورونا في جميع الأصقاع، واتفق أن نشرنا في عدد مارس 20 مادة مقالية وثائقية عن وباء الطاعون المتفشي خلال بواكير القرن العشرين. بالطبع لم يكن نشر هذا المقال لتغطية أحداث مشكلة كورونا، بل كان النشر لسبب آخر أكثر وجاهة أَدْرَكَهُ من اطلع على المقال. أما قضية فيروس كورونا، ففي إطار سعي «التقوى» لأن تُطلع قرَّاءها على آخر مستجداتها على مدار الساعة أولا بأول، رأينا أن يحفل موقع «التقوى» الرسمي www.altaqwa.net بتلك المادة الإخبارية المتجددة يوميا، إلى جانب ما يتم نشره في النسخة المطبوعة بين الفينة والفينة، ولتكون مجلتكم «التقوى» ملبية لرغبات شتى الأذواق والميول.

ندعو الله تعالى في هذا الشهر الفضيل أن يوفقنا لسلوك سبيل التقوى، واتباع النبي واتباع خادمه إمم الزمان والمزكي وخليفته حق الاتباع، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

Share via
تابعونا على الفايس بوك