التقوى تنال بالصيام

التقوى تنال بالصيام

ضحى أحمد

ضحى أحمد

  • الحكمة وراء اختلاف صيام الأمم
  • الأرواح الشريرة لا تخرج إلا بالصّيام والدّعاء
  • شهر الآيات والهدايات
  • الصيام كفّارة للذنوب
  • الترقّي الروحاني لا توقيت له
  • الفدية والدّعاء لنيل بركة الصّيام

__

الحكمة وراء اختلاف صيام الأمم

على الرغم من أن الله تعالى قد فرض الصيام على الأمم السابقة إلا أنّ هناك اختلافًا في صورة الصيام بين أمة وأخرى، فصيام الهندوس يختلف عن صيام اليهود والمسيحيين، وحتى المسيحيين الكاثوليك لهم صيامُهم الخاص، وهذه الاختلافات ذات حكمة كبيرة من الله سبحانه وتعالى العليم الحكيم، فيفرض ما فيه خير للإنسان بحسب الزمان والمكان، وهذا ما يوضحه المصلح الموعود في شرحه لمناسبة أوامر الله تعالى المتماشية مع الظّروف حيث يقول: «صدرت من الله سبحانه وتعالى أوامر مختلفة على مرّ الزمان، وكلّها من حكمته تراعي مقتضى الحال، فالأمم التي تعتاد القتال والحروب، وتعيش على القنص والصّيد، وتكثر من أكل اللحم لمدة طويلة فإنّها تتعرى من أخلاق محمودة تتحلّى بها أمم تقتات على النباتات من فاكهة وخضروات. فلو قال لهم الله – إصلاحًا لحالهم – إنّ الخضروات أيضًا غذاء طيّب وضروري، وأمرهم بالإمساك عن أكل اللحم مرّة في الأسبوع، فهذا أيضًا صومٌ مليء بالحِكم. أمّا نحن المسلمين فقد أمرنا الله أمرًا عامًّا بأكل اللحم والخضروات وما طُبخ على النّار وما لم تمسّه النّار، وهكذا جمع الله في طعامنا كلَّ نوعٍ من الاحتياط والحكمة، وربما كان هذا الاحتياط بمثابة قيود شاقّة على الأمم السّابقة، ومن أجل إصلاح أخلاقهم فرض عليهم صيامًا كهذا.» (1)

فتكاد لا ترى أمةً سابقة ولا ملةً ليس فيها حكم الصّيام بطريقة ما، بل في كلّ دين هناك أمر بالصّيام بما يتناسب مع أحوال النّاس وزمانهم.

الأرواح الشريرة لا تخرج إلا بالصّيام والدّعاء

يصفُ أطباء اليوم الحميات الغذائية للمرضى، حتى أنّ الطب الحديث سجّل حالات شفاء تام من بعض الأمراض الخطيرة بفضل الصيام، وهذا من الجانب المادي للجسم، أما فيما يتعلق بالجانب الروحاني، فقد عُرف عن السالكين كثرة صيامهم، لما لمسوا فيه من خفة أرواحهم وصلاح أحوالهم، وازدياد قواهم الكشفيّة.

وكذلك بيّن الأنبياء عليهم السّلام عبر الزّمان أنّ الصّيام يقوي الروحانية والعلاقة بالله تعالى، وحثّوا أتباعهم عليه، فهذا هو المسيح الناصري يوجّه الحواريين قائلًا: «ومتى صمتم فلا تكونوا عابسين كالمرائين، فإنّهم يغيّرون وجوههم لكي يظهروا للناس صائمين، الحق أقول لكم إنهم قد استوفوا أجرهم. وأما أنت فمتى صمتَ فادهن رأسك واغسل وجهك، لكي لا تظهر للناس صائمًا، بل لأبيك الذي في الخفاء. فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية». (2)

وحين عجز الحواريون عن إخراج روح شريرة ذهبوا إلى المسيح وسألوه عن السبب فقال لهم: «هذا الجني لا يمكن أن يخرج بشيء إلا بالصلاة والصيام». (3)

حيث وجّههم إلى فضل الصّيام وقدرته على طرد الأرواح الشريرة ألا وهي الاضطرابات النفسية والعقلية، وهكذا عالج المسيح هؤلاء المرضى فشفوا على يده ببركة الصيام مراتٍ كثيرة.ففريضة الصيام على الأمم السابقة أكبر دليل على أهميته، وأمّا فضائله فموجزة في قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (4) وهنا يشير سبحانه وتعالى إلى مدى عظمة نتائج الصّوم، فهو ينجي ويحمي من المهالك ويحفظ النّفس مما يُؤثم فيُكسبها روح التقوى.

فالبعض يخرج من شهر رمضان سمين الجسم سقيم الروح؛ لانشغاله بما يفنى، وإهماله ما يبقى، ولاستبداله الذي هو أدنى بالذي هو خير، مما يؤدي لهبوطه من جنة الله تعالى ويبوء بغضب من الله تعالى لتفريطه بفرص عظيمة، فرضها الله تعالى لترتقي بعباده ورحمة بهم، فمن شاء أن ينشغل بلذيذ الطعام ويتفنن بإطعام جسده الفاني، فقد استوفى هدفه، وهيهات أن ينال ما يناله المضحّون وأصحاب الهمم الرفيعة،…

شهر الآيات والهدايات

إنّ قوله تعالى:

شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ (5)

يعطي عظمة لشهر رمضان المبارك، فكما أنّ فيه تُنوّر القلوب، وتحظى بالقرب وبالكشوف، فيحظى السّاعي برؤية الله تعالى، كذلك جعل الله تعالى هذا الشهر المبارك شهر إظهار آيات صدق إمام آخر الزمان، وشهر النبوءات لتجلي آيات الرحمن، وخصّه من بين الشهور بهذه الميزة ليبرز مكانته وعظمته، وهذا ما وضّحه حضرة المسيح الموعود ومهدي آخر الزمان حيث يقول: «لقد ورد في الدارقطني حديث أن من علامات المهدي الموعود أن الله تعالى سيُظهر له في زمنه آية أن القمر سينخسف في أول ليلة من ليالي الخسوف المحددة- التي حددها الله للخسوف أي الثالثة عشر والرابعة عشر والخامسة عشر- وستنكسف الشمس في اليوم الأوسط من الأيام التي حددها الله تعالى لكسوف الشمس أي يوم 27، 28، 29 وسيحدث الكسوف والخسوف في رمضان. وجاء في حديث آخر أنهما سيحدثان مرتين في زمن المهدي. فقد وقع الكسوفان مرتين في رمضان في زمني، مرة في بلدنا هذا ومرة في أميركا. لا يعنينا كم من المرات وقع الخسوف والكسوف في رمضان في هذه التواريخ منذ بدء خلق السماوات والأرض حتى اليوم، بل ما يهمنا هو فقط أن الخسوف والكسوف لم يقع كآية منذ خلق الإنسان على الأرض إلا في زمني وفي حقي. أما قبلي فلم تتسنّ لأحد فرصة كهذه، أي أن ادّعى أنه المهدي الموعود من جهة، ومن جهة ثانية حدث الخسوف والكسوف بعد دعواه في رمضان وفي التاريخ المحدد في رمضان أعلنَ الخسوف والكسوف آية له.(6)

الصيام كفّارة للذنوب

ما أنزل الله داء إلا وجعل له دواء، وسبحان من جعل في الصيام دواء للذنوب، فبه يمسحها وبه يتوب على عباده، فإن اللغو في عقد الأيمان كفارته الصيام، وقتل الصّيد في الأيام الحرم كفارته الصيام، والذين يظاهرون من نسائهم فلا تثريب عليهم بعد التوبة فالصيام يستر آفاتهم، ومن لم يستطع حلق رأسه يوم الحج لمرض أو أذى فيمكنه أن يفتدي ذلك بصيام.فلو لو تأملنا في كفارة الصيام التي تغفر أنواعًا شتى من الذنوب فنتلمّس عظمة الصيام عند الله تعالى، لكأنه باب توبة وتطهير يصهر الجسم المذنب فيه وتذوب الروح، ففي الصيام تصبح الجوارح كأنها خاوية غير قادرة على الإقدام على فعل الشر والسوء أو حتى مجرد التخطيط له، وبدخول هذه الحالة التطهيرية التي يعيشها المؤمن يخرج منها كالثوب الأبيض مغفور الذنب بإذن الله من قابل التوب سبحانه…فبتشريعه حلًّا للذنوب فلا بد أنّه يقبل من يتخذه ويغفر له.

وهكذا لا يأس مع الصيام الذي جعله الله تعالى بابًا لقبول توبة عباده، وكأنه مغتسلٌ لهم من ذنوبهم يرتادونه كلّما أُحبطوا من ذنوبهم فيزيلون عنهم كدر الذنوب وآفاتها ويعودون بأمل متجدد من رب غفور لا يخلف الوعد.

الترقّي الروحاني، لا توقيت له

لقد حدّد الله تعالى للفرائض أوقاتًا معينة لإقامتها، فالصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا، والحج أشهر معلومات، وللزكاة وقتها معروف، ومن رحمته سبحانه وتعالى لم يحصر الترقي الروحاني بهذه الأوقات، فمن تذوق روعة أداء الفروض وبركاتها له أن يستزيد متى شاء فمن تطوّع خيرًا فهو خير له، وهذا ما يُسمّى في ديننا الحنيف بالنوافل التي تقرّبنا من الله تعالى وتكسبنا محبّته ورضاه، وكذلك الصيام فمن جرّب قوة مكاشفاته من الصالحين لابد بأنه سيرغب بمزيد من الصيام والدخول متى شاء جنة الله تعالى ليتنعّم بقربه سبحانه، فتراه مركزًّا عينيه على نور الله ليعبر ظلام الدنيا ويترفّع عمّا يراه أهل الدنيا زينة ومغانم.

فيصوم عن ملذات كانت مسموحة له، ويتبتل لله تعالى ليرتقي درجات ودرجات كأنَّ روحه تأبى البقاء قابعة في هذه الأرض فتراها متشوقة لتعلو وتحلق في ملكوت الله وجماله الأخّاذ، فبالصيام تتزود وترتوي بوصال الله تعالى.وفي هذا يقول الإمام المهدي : «فالله تعالى يريد بالصيام أن نقلّل من غذاء ونكثر من آخر. يجب على الصائم أن يتذكّر دائمًا أن الصّوم لا يعني الجوع فقط، بل عليه أن يشتغل في ذكر الله تعالى حتى يتيسر له التبتل والانقطاع إليه . فليس الصوم إلا أن يستبدل الإنسان بالغذاء الذي يساعد على نمو الجسم فقط غذاء آخر تشبع به الروح وتطمئن». (7)

الفدية والدّعاء لنيل بركة الصّيام

صحيح أنّ الله عزّ وجل أعطى للمرضى رخصة الإفطار في شهر رمضان المبارك، ولكنّ دعاء المريض وحرقته مخافة أن يُفوِّت فرصة بركة رمضان ونيل ثماره العظيمة تُحيل مرضه شفاء وضُعفه قوةً، فلو دعا أدعية استدرّت عطف الله تعالى لانتقل من رخصة المرض والراحة إلى القدرة على التّحمل والاستعداد لهذه الفريضة العظيمة ولاستجاب الله تعالى دعاءه فهو القائل سبحانه:

قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ (8)

فلا تستسلموا وتركنوا للرّخص، بل هبّوا لتكونوا في الصّفوف الأولى في الامتثال لأوامر الله تعالى فما الذي نناله ونحن في زاوية الرّخص مقارنة بحال هؤلاء الأصحّاء المقبلين على الله تعالى بقلوب محبّة وشغف لمزيد من القرب والعطاء، فالله يشفي عباده الطالبين لشفائه رغبةً في التقدّم والفوز برضاه، ويُكرمهم ويمدّهم بطاقة خلاقة للصيام ولكسب بركاته، فقد كان الإمام عليه السّلام يرى أنّ الدّعاء والفدية يوفّقان العبد للصيام حيث يقول حضرته: «في إحدى المرّات خطر ببالي سؤال عن الأمر بأداء الفدية، فعلمت أنها تسبب التوفيق للقيام بالصيام. إنّ الله تعالى هو الموفّق لكل شيء، فيجب أن نطلب كل شيء من الله وحده. إنّه هو القادر القدير على أن يهب للمسلول أيضًا قوة على الصيام إذا أراد ذلك. لذا فالأنسب للذي هو محروم من الصيام أن يدعو الله تعالى أنْ يا إلهي إن شهرك هذا شهر مبارك وأنا لا أزال محرومًا من بركاته، ولا أدري هل أكون على قيد الحياة في العام القادم أم لا، أو هل أقدر على صيام الأيام الفائتة أم لا، لذا يجب أن يسأل الله سبحانه وتعالى التوفيق. وإنني على يقين أن الله تعالى سوف يوفّق شخصًا كهذا».(9)

ويحضرنا في هذا المقام قول الإمام الحسن البصري : «يا ابن آدم إنّما أنت أيامٌ فإذا ذهب يومك ذهب بعضك».

ومن هذه الحكمة البالغة النذر التي تحثنا على اغتنام الوقت وخاصة الأيام الفضيلة، لا أن ننشغل عنها بجعل شهر رمضان المبارك شهر أكل وراحة، فالبعض يخرج من شهر رمضان سمين الجسم سقيم الروح؛ لانشغاله بما يفنى، وإهماله ما يبقى، ولاستبداله الذي هو أدنى بالذي هو خير، مما يؤدي لهبوطه من جنة الله تعالى ويبوء بغضب من الله تعالى لتفريطه بفرص عظيمة، فرضها الله تعالى لترتقي بعباده ورحمة بهم، فمن شاء أن ينشغل بلذيذ الطعام ويتفنن بإطعام جسده الفاني، فقد استوفى هدفه، وهيهات أن ينال ما يناله المضحّون وأصحاب الهمم الرفيعة، والذين أخذوا على عاتقهم إصلاح نفوسهم والارتقاء بها، وجعلوا هموم الإنسانية همّهم، فتجافت جنوبهم عن المضاجع وهبّوا لنيل رضا الله تعالى بشتى الطرق.

فليس الصوم إلا أن يستبدل الإنسان بالغذاء الذي يساعد على نمو الجسم فقط غذاء آخر تشبع به الروح وتطمئن.

ونختم بنصيحة من إمام الزمان تشحذ الهمم، وتهزّ جذع القلوب لتُساقط رطبًا جنيًا فيجني منها ما يقوّيه في هذا الشَّهر الفضيل ويدوم لما بعده، حيث يقول حضرته ناصحًا: «فيا مَن تعتبرون أنفسكم من جماعتي، إنّكم لن تُعدوا من جماعتي في السّماء إلا إذا سرتم في دروب التّقوى حقًّا وصِدقًا فأدُّوا صلواتكم الخمس بخشية وخضوع كأنّكم ترون الله تعالى، وأتمّوا صيامكم بصدق القلب لوجه الله تعالى، وكلّ من وجبت عليه الزّكاة فليؤدّها، وكلّ مَن وجب عليه الحج فليحج ما دام ليس هناك مانع. افعلوا الخيرات على أحسن وجه، واتركوا الشّر كارهين له. اعلموا يقينًا أنّه لن يصل إلى الله عملٌ هو خالٍ من التّقوى». (10)

المراجع
1. التفسير الكبير ج2 ص 4262. متى 16: 6-83. مرقس 9: 294. سورة البقرة 1845. البقرة: 1866. ينبوع المعرفة 1727. تفسير المسيح الموعود ، قوله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ 8. الفرقان: 789. الفتاوى الأحمدية ص 175

10. سفينة نوح =ص 15

Share via
تابعونا على الفايس بوك