في عالم التفسير
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ) البقرة: 20)

 شرح الكلمات:

أو: حرفُ عطفٍ يُفيد اثنيْ عشر معنى، وهي: الشك؛ الإبهام؛ التخيير؛ الجمع المطلَق؛ التقسيم؛ والإضراب؛ والإباحة؛ بمعنى “إلا”؛ بمعنى “إلى”؛ التقريب؛ الشرطية؛ التبعيض. (مغني اللبيب)

لقد وردت (أو) في هذه الآية بمعنى الجمع المطلق والتقسيم، وفيما يلي الأمثلة:

  • أما بمعنى الجمع المطلق، أي بمعنى الواو، أي للجمع بين أمرين، فمثاله قول الشاعر:

وقد زعمت ليلى بأني فاجرُ    لنفسي تقاها أو عليها فجورها

فقد وردت (أو) هنا بمعنى الواو، أي أن تقوى نفسي ستنفعني وفجورها سيكون وبالًا علي.

  • أما التقسيم فمثاله قول النحويين: الكلمة اسمٌ أو فعلٌ أو حرفٌ، أي أنها ثلاثة أقسام: اسمٌ وفعلٌ وحرفٌ.

صيِّب: الصيّب: السحاب ذو الصوب. (الأقرب)

الصَيّب: السحاب المختصّ بالصوب، وهو نـزول المطر بقدر ما ينفع. (المفردات)

السماء: هي: كلُّ ما علاك فأظلَّك؛ سقفُ كلِّ شيء؛ رواقُ البيت؛ ظهرُ الفرس؛ السحاب؛ المطر؛ المطرة الجيدة؛ العُشب. ( الأقرب)

ظلمات: العرب تقول لليوم الذي تلقى فيه الشدة يومٌ مظلم. (تاج العروس)

(للمزيد راجع شرح كلمات قول الله تعالى (وتركهم في ظلمات لا يبصرون).

رعدٌ: الرعدُ صوت السحاب. رعَد السحابُ: صاتَ وضجّ للأمطار. (الأقرب)

والمراد من الرعد في هذه الآية الأحكامُ الإلهية الكبيرة وأنباءُ الهلاك والنبوءات الوعيدية وأحكام الحرب، فكلها قد شُبّهت بالرعد.

برقٌ: البرق وميضُ السحاب. (الأقرب)

والمراد من البرق هنا مشاهد الحرب، والنكات العلمية البينة، والآيات الدالة على الصدق، والغنائم، والانتصارات الإسلامية.

يجعلون: جعَله: صنَعه، ومنه قيل: جعَل الله الظلماتِ والنورَ. جعَل الشيءَ: وضَعه. وجعَل: ظنَّ، يُقال جعَل البصرةَ بغدادًا، أي ظنّها إياها؛ وجعَل يعني شرع، يقال: جعل ينشد. (الأقرب)

ومعنى يجعلون في هذه الآية أنهم يضعون أصابعهم في آذانهم.

الصواعق: جمعُ الصاعقة وهي: الموت؛ كلُّ عذابٍ مُهلِك؛ صيحةُ العذاب؛ نارٌ تسقط من السماء في رعد شديد لا تمرّ على شيء إلا أحرقته. (الأقرب).

والصاعقة: هي الصوت الشديد من الجو، ثم يكون منه نار فقط، أو عذاب، أو موت، وهي في ذاتها شيء واحد، وهذه الأشياء تأثيرات منها. (المفردات)

حذر: الحذر: التحرزُ ومجانبةُ الشيء خوفًا منه. (الأقرب)

الموت: زوال الحياة عمن اتصف بها. (الأقرب)

الموتُ: زوال القوة الحيوانية وإبانة الروح عن الجسم. وأنواع الموت بحسب أنواع الحياة:

فالأوّل: ما هو بإزاء القوَّة النامية الموجودة في الإنسان والحيوانات والنّبات، نحو قوله تعالى: يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا (الروم 20).

الثاني: زوال القوة الحاسة، كقول مريم عليه السلام في القرآن: يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا (مريم 24).

الثالث: زوال القوة العاقلة وهي الجهالة نحو: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ (الأنعام 123).

الرابع: الحزن المكدِّر للحياة وإياه قصد بقوله: ويَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ (إبراهيم 18).

والخامس: المنام. (المفردات)

وقد يستعار الموت للأحوال الشاقة كالفقر والذل والسؤال والهرم والمعصية (اللسان).

والله: الواو هنا حالية، والمعنى أن الكفار ماداموا قد وقعوا في بطش الله تعالى وصاروا موشكين على الهلاك، فالخوف منهم حماقة.

محيط: أحاط بالأمر: أحدقه من جوانبه. (الأقرب)

التفسير:

بَدءًا من هذه الآية يتحدث القرآن الكريم عن فئة ثانية من المنافقين، وهم الذين لم يكونوا كافرين في قلوبهم، ولكن كان إيمانهم ضعيفًا، فكانوا يخشون عندما كانوا يطالَبون بالتضحيات أو عند هجوم الأعداء، وكانوا من عقوبة الناس أشدّ خوفا من عقوبة الله تعالى، لذا كانوا في الظروف الصعبة يتواصلون مع الكفار في السر استرضاءً لهم، أو كانوا يتكلمون معهم بما يوهمهم أنهم ناصحون لهم، أو كانوا يمدّونهم ببعض أخبار المسلمين، معلّلين أنفسهم بأن الإسلام دين الله الحق، ولن يتضرر بتصرفاهم هذه ضررا حقيقيا، فما الحرج لو صانوا أنفسهم من الأذى والمعاناة بهذا التصرف.

ولكن لا مكان لمثل هؤلاء القوم أيضًا في الإسلام الذي هو دين التضحيات، ولذلك يعلن القرآن الكريم منذ بدايته صراحةً أن مثل هؤلاء القوم منافقون عند الله تعالى وسوف يعاملهم كما يعامِل المنافقين. إن الإسلام يعني التضحية بكل شيء لرضا الله تعالى، فالذي لا يستطيع أن يُنشئ مع الله تعالى علاقة مخلصة صادقة فلا يرجونَّ الجوائز المنوطة بالإسلام.

أما الدليل على أن هذه الآية وما بعدها تتحدث عن ضعيفي الإيمان -الذين كانوا لا يساهمون في مهمات الأمة بشجاعة لضعف إيمانهم، بل يظهر ضعفهم عند الاختبار- فهو أن الآيات السابقة تتحدث عن المنافقين الذين يوقدون النار، أما هذه الآيات فلا تتحدث عن إيقاد المنافقين للنار، بل تتحدث عن ظهور أسباب من السماء. في الآيات السابقة أخبر الله تعالى أنه ذهب بنور المنافقين عند إضاءة النار، أما في هذه الآية فأخبر أن هؤلاء القوم يقفون على أقدامهم ويمشون قُدمًا كلما أضاءت النار. ثم في المثال السابق المذكور في الآيات السابقة قال الله تعالى أنهم ليسوا بمؤمنين وأنهم صم وبكم وعمي، بينما يقول عن المذكورين في هذا المثال إنه لو أراد الله تعالى لجعَلهم صمًا وعميًا، ولكنه لم يفعل ذلك حتى الآن، إلا أنهم لو استمروا في تصرفاتهم فسوف يصبحون صمًا وعميًا. كذلك في المثال السابق قال الله تعالى إن هؤلاء يريدون إلحاق الضرر بالمسلمين، أما في هذا المثال قال إنهم لا يريدون إلحاق الضرر بالمسلمين، وإنما يتخلّون عنهم عند المصائب حذر الموت.

لقد اعترض البعض هنا قائلا: إن ورود لفظ أو في هذه الآية يعني أن المنافقين ينطبق عليهم المثال الأول أو المثال الثاني، وهذه العبارة تدل على الشك، والله تعالى أسمى من الشك، فثبت أن هذا كلام البشر.

هذا الاعتراض دليل على قلة تدبر المعترض، لأن هذه الآية ما كانت تعطي معنى الشك إلا إذا كان مفهومها أننا لا ندري أحالُ المنافقين كما ورد في الآية السابقة أم كما ورد في هذه الآية، ولكن لا يوجد في هذه الآية أية كلمة يُستنبط منها هذا المفهوم. لا جرم أن لفظ أو الوارد في هذه الآية يفيد التقسيم أو الجمع المطلَق كما أسلفنا، لكن لا يدل أيٌّ من هذين المعنيين على الشك هنا. لو فسّرنا أو هنا بمعنى الواو، فستعني الآية: أن المنافقين ينطبق عليهم المثال الأول والمثال الثاني أيضًا، أي أن المنافقين فئتان ينطبق على إحداهما المثالُ الأول وعلى الأخرى المثالُ الثاني. أما إذا فسّرنا أو بمعنى التقسيم فستعني الآية: أن حالة المنافقين إما ما ذكرنا في الآيات السابقة، وإما ما نذكرهم الآن، أي أن إحدى فئتي المنافقين حالها ما سبق ذكره والأخرى صفتها ما نذكره الآن.

لقد سبق أن ذكرنا عند شرح الكلمات أن (أو) يفيد التقسيم، بالإضافة إلى الشك والإبهام. أي أنه يفيد بيان أقسام الشيء، كقولنا: “الكلمة اسم أو فعل أو حرف”، وهذا لا يعني بأننا لا نعرف هل الكلمة اسم أو فعل أو حرف، وإنما المراد أن الكلمة ثلاثة أقسام: اسم أو فعل أو حرف. وعليه فهذه الآية تعني أن المنافقين قسمان: أحدهما أولئك الذين هم كافرون في الحقيقة، ولكنهم أسلموا في الظاهر، والقسم الثاني أولئك الذين هم مسلمون عقيدةً، ولكنهم لضعف إيمانهم يوالون الكفار ولا يضحّون في سبيل الإسلام خوفًا من الكفار.

ورد في ديوان الحماسة بيت شعر لجعفر بن علبة الحارثي:

فقالوا لنا ثنتانِ لا بد منهما  صدور رماح أُشرعت أو سلاسلُ

أي: أنهم قالوا لنا: ليس عندنا لكم إلا شيئان ولا بد لكم من اختيار أحد منهما، فإما أن تتلقوا رؤوس الرماح المرفوعة أو السلاسل، أي أننا سنقتل بعضكم ونأسر بعضكم. وليس في هذ التعبير شائبة شكٍ، وإنما هو تقسيم للأعداء حيث يقول الشاعر: سنقسمهم قسمين، نقتل بعضهم ونأسر بعضهم.

وكما قلنا آنفًا أن (أو) يفيد الجمع المطلق أيضًا، وليس التخيير فقط. ومثاله قول الشاعر:

لنفسي تقاها أو عليها فجورها

فهو لا يعني أن نفسي ستنال تقواها أو فجورها، بل يعني أن نفسي ستنال جزاء تقواها وأيضًا عقاب آثامها.

فثبت من هذه الأمثلة أن الآية لا ذكر فيها للشك، بل قد بين الله فيها أن المنافقين الوارد ذكرهم هنا نوعان: النوع الأول مذكور قبل هذه الآية، والنوع الثاني مذكور في هذه الآية. وهناك مثال آخر لاستعمال (أو) وهو قول الشاعر:

قوم إذا سمعوا الصراخ رأيتَهمْما بينَ مُلْجِمِ مُهْرةٍ أو سافِعِ

(لسان العرب)

أي أنهم إذا سمعوا صوتَ مستغيث تراهم مسارعين إليه، فيبدأ بعضهم في إلجام حصانه وبعضهم يجر حصانه من شعر ناصيته. أي كلهم يهبّون فورًا لإغاثة المستغيث.

باختصار هذه الآية تتحدث عن فئتين من المنافقين ولا تدل على الشك.

الحق أن هؤلاء المعترضين لم يفكّروا أن القرآن الكريم لا يتحدث هنا عن فرد واحد، بل عن طائفة أوضاع أفرادها مختلفة، وفي مثل هذا السياق لا يكون لفظ أو للشكّ، وإنما يكون الشك حين تُذكر حالتان لشخص واحد باستعمال لفظ (أو)، كأن يقال زيد قائم أو قاعد. ولكن إذا قيل عن جماعة إنهم قائمون أو قاعدون، فالمعنى أن بعضهم قائمون وبعضهم قاعدون.

بل الحق أنه لو ذُكرت حالتان لشخص واحد باستخدام (أو)، فهذا أيضًا لا يدل على الشك. فمثلا نستطيع القول عن شخص جبان: إنه يفر أو يختفي عند الخطر، فهذا لا يعني أننا لا نعلم ماذا يفعل، بل نعني أنه يخاف في الموقف الخطير، فحينًا يلوذ بالفرار، وحينًا يختفي في مكان.

خلاصة القول: إن هذه الآيات لا تدل على الشك، بل تبيّنُ أن المنافقين فئتان: فئةٌ مَثلها كمثل قوم إذا نزل المطر المصحوب بالظلمة والرعد والبرق تقدموا تقدمًا جيدًا، ولكن لو نزلت الصاعقة توقفوا واضعين أصابعهم في آذانهم مخافة الموت، مع أن المطر آيةُ رحمة الله ولا بد من أن يكون مصحوبًا بالظلمات والرعد والبرق، كما أن حدوث الصواعق عند المطر ظاهرة كونية، فحرمان المرء نفسه من منافع المطر خوفًا من هذه الظواهر حماقة وغباء. على سبيل المثال، لو جلس الفلاح عند المطر عاطلًا في بيته واضعًا أصابعه في أذنيه، بدلًا من أن يُصلح أطراف حقله ليجمع فيه الماء، فلن يعدّه أحد من العاقلين. إن ظهور الإسلام كمطر السماء، ولا بد أن يكون مقرونًا بظلمات ورعد وبرق، والمؤمنون يدركون ذلك جيدًا فينتفعون منه بتقديم التضحيات بدلًا من الخوف، ولكن المنافقين ضعيفي الإيمان والعمل يظلّون قابعين في بيوتهم خوفًا من هذه الأهوال، فيظلون محرومين من هذه المنافع المقرونة بالرقي الظاهري للإسلام، كما يجلبون على أنفسهم سخط الله أيضا.

ثم يقول الله عز وجل: والله محيط بالكافرين ، أي مِمَّ يخاف هؤلاء؟ أيخافون إيذاء الكفار الذين قد قضى الله تعالى بهلاكهم؟ فلِمَ الخوف من قوم قد قضى الله بهلاكهم؟!

لقد بين الله تعالى هنا أنه كلما ظهرت جماعة ربانية في الدنيا صاحبَتْ ظهورَها ظلماتٌ وبرق ورعد كما هو حال السحاب الممطر، بمعنى أنه لا بد للجماعات الربانية من مواجهة المحن والشدائد. ومن هذه الظلمات مثلًا أن المؤمنين يؤمَرون حينًا بقطع صِلاتهم عن أقاربهم وأصدقائهم السيئين، وحينًا يؤمَرون بالهجرة، وتارةً يُدعَون إلى تقديم التضحية المالية، وأخرى يطالَبون بالتضحية بالنفس.

ثم إن الجماعات الربانية تكون مصحوبة بالرعد، بمعنى أنها تعلن مواجهة العالم كله، فيتراءى للرائي أن هذه الجماعة قد جعلت الدنيا كلها عدوًا لها بدعوتها إلى دينها.

ثم إن هذه الجماعات تكون مصحوبة بالبرق أيضًا، أعني تظهر هناك أمور تُبهر الأبصار.

ثم إن هذه البروق تصبح صواعق أحيانًا، بمعنى أن الأعداء يشنون هجمات على المؤمنين للقضاء عليهم، أو أن المؤمنين يقومون بهجمات مضادة على الكافرين، وفي بعض الحالات يُقتل المؤمنون نتيجة هذه الحروب.

إن ضعاف القلوب من المنافقين يخافون جميع أنواع المشاكل، ولكن تكاد تزهق نفوسهم من هذا الخطر الأخير بوجه خاص.

ولقد رد الله تعالى في هذه الآية على أولئك الذين يزعمون أن بعثة الأنبياء مدعاة إلى ظهور الفساد والشتات، فأخبرهم أن المطر نعمة ربانية ذات منافع عديدة، ولكن تصحبه أيضًا بعض الظواهر الشديدة، حيث تختفي الشمس وتحلّ الظلمة، ويكون هناك رعد وبرق. كذلك الأنبياء، فعند بعثتهم تكون هناك ضجة من المعارضة والشر، ولكنها لا تكون علامة نحس وشؤم، بل تكون بشارة بالبركات المقبلة. إن مَثل تغيُّرِ معاملة الله مع العباد كمثل الشمس التي تختفي عند المطر، ولكن بعد هطول المطر الروحاني تشرق الشمس الإلهية ثانية وهي أحلى ما تكون منظرًا وجلالا.

لقد سبق أن بينّا لدى شرح الكلمات أن الصاعقة تعني الصوت الشديد المصحوب بالسحب الذي يكون معه نار، ومن معانيها أيضا الموت والعذاب. وهذه هي الأمور التي يخافها ضعاف القلوب، ولكن الله تعالى يقول: أولاً، ماذا ينفعهم وضع أصابعهم في آذانهم بسبب الصاعقة. إن صوت الصاعقة يصدر بعد سقوطها، فما الفائدة بعد سقوطها من وضع الأصابع في الآذان مخافة الموت.

وثانيا: مادام الله تعالى قد أعلن الحرب، فلن يتغير قرار الحرب هذا نتيجة خوف المنافقين. والنتيجة الحتمية الآن هي أن الكفار سيهاجمون المسلمين، فتقع المضرات على المنافقين لا محالة، أو يبدأ الهجوم من جانب المسلمين على الكفار، وبالتالي يتضرر المنافقون أيضاً، ولا مناص من كون إعلان الحرب الذي صدر من الله لن يُلغى بوضعهم أصابعهم في آذانهم، كذلك فإن هذه الحرب بين الكفر والإيمان لن تتوقف بسبب جبنهم.

وكما سبق عند شرح الكلمات فإن الصاعقة هي غير الظلمات والرعد والبرق، وليس ضروريًا أن تسقط الصاعقة مع البرق، فهي تسقط أحيانًا، لا دومًا، كذلك فإن المواجهة مع الكفر لا تؤدي إلى الحرب دائمًا. وأحيانا يضيء البرق المكان فقط بدون سقوط الصاعقة معه، وأحيانا تسقط معه الصاعقة أيضًا، كذلك فعندما لا يكون برق الإسلام مصحوبًا بنزول الصاعقة فلا يصاب المنافقون بالقلق، لأن ظهور البرق وحده إظهار لشوكة الإسلام وقوته، ولكن إذا كان هذا البرق مصحوبًا بالصاعقة، فإن المنافقين يصابون بالهلع الشديد. وقد بين الله هذا الفرق في الآية التالية.

لقد اختلف النحويون حول قوله تعالى من الصواعق و حذر الموت ؛ قال أكثر المفسرين إن حذر الموت هو مفعول له، وردّ عليهم آخرون فما القول في من الصواعق إذًا؟ فأجاب الفريق الأول أن مِن هنا سببية، فقال الفريق الثاني إذا كانت سببية فمعنى ذلك أنها أيضا بمعنى مفعول له، وفي هذه الحالة لابد من ورود حرف عطف بين المفعولين له. فأجاب الأولون أن قوله تعالى من الصواعق بمعنى المفعول له، أو في محله، لكن (من) هنا ليست مفعولاً له على وجه الحقيقة، وبالتالي فإن “معنى المفعول له” شيء، أما “المفعول له” فهو شيءٌ آخر، فلا حاجة لورود حرف العطف. (البحر المحيط)

وقد حل بعض النحويين هذا الإشكال بقولهم أن قبل حذر الموت فعلا محذوفا هو (يحذرون)، والتقدير: يجعلون أصابعهم في آذانهم خوفًا ويحذرون حذر الموت (إملاء ما من به الرحمن لأبي البقاء).

وقال صاحب الكشاف أن قوله تعالى من الصواعق متعلق بـ يجعلون .

يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ  ) البقرة: 21)

 شرح الكلمات:

البرق: راجع شرح كلمات الآية السابقة.

يخطَف: خطَف الشيءَ: استلبَه بسرعة. وخطَف البرقُ البصرَ: ذهب به. (الأقرب)

أضاء: راجع شرح كلمات قول الله تعالى فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم…

أظلم: أظلم عليهم الليل: صار مظلما عليهم (الأقرب). أي أحاطت بهم ظلمته.

ذهب: ذهب به: أزاله. (الأقرب)

لقد ورد لفظ (ذهب) في القرآن الكريم بمعان عديدة منها مثلاً، قول الله تعالى: فلما ذهب عن إبراهيم الروعُ (هود: 75)، أي زال خوفه.

وقول الله تعالى: فلا تذهَبْ نفسُك عليهم حسراتٍ (فاطر: 9)، أي فلا تهلك نفسُك.

وأذهبَه يعني: ذهب به، قال الله تعالى: إن يشأ يُذْهِبْكم ويأتِ بخلق جديد (إبراهيم: 20)

فالمراد بقول الله تعالى ذهب بسمعهم : ضيّعه ودمّره.

الشيء: مِن شاء يشاء: أي أراد. والمصدر في العربية يُستعمل أحيانًا مكان اسم المفعول، وقد ورد الشيء هنا بهذا المعنى، أي بمعنى: ما يراد، أو يُبتغى، أو يُقصد. والشيء أيضًا كلُّ ما يصحّ أن يُعلَم أو يُخبَر عنه. (الأقرب)

ويترجَم لفظ الشيء عموما بمعنى الأمر، ولكن معناه الحقيقي ما يشاؤه أو يريده الفاعل. وبعض الجهال الذين لا يعرفون هذا المعنى ينخدعون بقوله تعالى إن الله على كل شيء قدير ويقولون: هل يعني ذلك أن الله قادر على أن يسرق أو يموت أيضًا؟ والحق أن الله تعالى لا يريد السرقة ولا الموت، لأن هذا عيب وليس بكمال، والله بريء من العيب.

قدير: قدَر عليه قدرًا وقدرةً: قَوِيَ عليه. القدرة: القوة على الشيء والتمكن منه. (الأقرب)

والقدرة إذا وُصف بها الإنسان فاسمٌ لِهيئةٍ له بها يتمكن من فعلِ شيءٍ ما، وإذا وُصف الله تعالى بها فهي نفيُ العجز عنه. ومحال أن يُوصف غير الله بالقدرة المطلقة معنًى، وإن أُطلق عليه لفظًا. والقدير هو الفاعل لما يشاء على قدر ما تقتضي الحكمة، لا زائدًا عليه ولا ناقصًا عنه. (المفردات)

والقدير صيغة المبالغة للقدرة، أي كثير القدرة وعظيمها.

التفسير:

لقد بيّن الله تعالى في قوله تعالى يكاد البرقُ يخطَفُ أبصارَهم أنه لو نزلت هذه الصاعقة مرة بعد أخرى لكان هناك خطر ضياع أبصارهم، أي ضياع إيمانهم نهائيًا، ولكن الله تعالى دبَّر الأمر بحيث أن هذا البرق يكون بمثابة السراج الذي يضيء الطريق أحياناً، بمعنى أنه يُهيء أسباب ظهور شوكة الإسلام وقوته، فينضم هؤلاء المنافقون إلى المسلمين نتيجة رؤية الآيات، ولكنْ في أحيانٍ أخرى تكون الصواعق مصاحبةً للبرق أيضاً، فتُظلِم الدنيا في أعينهم، فيتوقفون خائفين، ويرفضون المضي قدما مع المسلمين.

يتضح من هذه الآية أنَّ ظهور البرق بطريقتين مختلفتين يترك على المنافقين تأثيرين مختلفين، فعندما يظهر مصحوبًا بالضوء فقط يكون عليهم تأثيره على عكس تأثيره عندما يكون مصحوبًا بالموت والهلاك. يبدو من ظاهر كلمات الآية أن الضوء والظلمة كلاهما فعلُ البرق، لأن الفعلين (أضاء) و(أظلم) كلاهما من أفعال البرق، ولكنَّ الواقعَ يشهد أن البرق يُضيء ولا يُظلم، فثبت أن الظلمات هنا لا تعني الظلمات الظاهرة بل هي إشارة إلى الدمار والهلاك نتيجة سقوط الصاعقة. وهناك دليل آخر على ذلك وهو أن الله تعالى قال في بداية هذه الآية يكاد البرق يخطف أبصارهم ، ولكنه قال أيضًا كلما أضاء لهم مشوا فيه ، بمعنى أنهم يطمئنّون عندها وينضمّون إلى المسلمين للعمل معهم. فما داموا يصبحون على ما يرام عند الضوء وينتفعون بدلًا من أن يتضرروا، فمتى يخطف البرق أبصارهم؟ ولو قيل أنه يخطف أبصارهم حين لا يُضيء ويسود الظلام، فهذا القول خلاف للعقل والواقع، لأن البرق لا يخطف الأبصار حين لا يُضيء. فثبت أن الظلمات هنا ظلمات معنوية، أي شدة المصائب والمحن. وتنسب المصائب والشدائد إلى البرق عندما يصبح صاعقة فتسقط وتُهلِك.

فمفهوم الآية أنه عندما يُضيء البرق ولا تسقط الصاعقة فإنهم يطمئنون ويسيرون مع المؤمنين، ولكن البرق عندما يؤدي إلى ظلمات، أي يتحول إلى صاعقة ويؤدي إلى الموت والهلاك، فإنهم يتوقفون مذعورين ويتخلون عن المسلمين.

ثم يقول الله تعالى ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم . سبق أن ذكرنا أن الذهاب بالشيء يعني إزالته أو إضاعته، وهذا هو المعنى الذي ينطبق هنا، حيث بين الله تعالى أنه لو أراد لدمّر سمعهم وبصرهم، أي أنهم يُوفّقون حتى الآن لسماع القرآن والإيمان به، ولكنهم إذا ظلوا على حالهم هذه فمن الممكن تمامًا أن يضيع ما عندهم من الإيمان، ولا يتولد في قلوبهم الإيمان مطلقًا بسماع القرآن أيضا. كذلك لو استمر وضعهم هذا فهناك خطر أن يفقدوا أبصارهم أيضًا، أي ينفصلوا عن المسلمين كلية بسقوط الصاعقة مرارًا، أي بحلول المصائب والآفات على التوالي. إنهم في الوقت الحالي يسيرون مع المسلمين طالما الضوء موجودًا، ولكنهم لو استمروا على هذا الوضع فسوف يفقدون بصرهم الروحاني، وبالتالي فلن يحالفهم التوفيق لمرافقة المسلمين ما داموا على هذا التردِّي، بل إنهم سيخذلونهم كليةً لا محالة.

وهذه الآية من الآيات التي يصعب تفسيرها، وقد فسّرها الآخرون تفسيرا مجملًا ولم يفسروا كل فقرة منها تفسيرا تنسجم به كل فقرة من فقراتها، ولكني تمكنت بتوفيق الله تعالى من تفسيرها جزءًا جزءًا، ثم الربط بين عناصرها من ناحية وبينها وبين الآيات السابقة والتالية لها من ناحية أخرى، فلا يبقى في فهمها أي غموض أو إشكال.

يظن البعض أن القرآن الكريم لا يقول بوجود المنافقين عملًا، ويرون أن المثال الثاني المذكور في قوله تعالى أو كصيب… الآية هو أيضًا عن المنافقين عقيدةً. أذكر أنني عندما كنت أدرُس القرآن الكريم على يد حضرة المولوي نور الدين      (الخليفة الأول ) كان يدرس معي الحافظ المرحوم “روشن علي” الذي كان من العلماء الأجلاء الموهوبين بملكَة خاصة في استنباط معاني القرآن الكريم -أنزل الله عليه بركاته ووهبه القربى والزلفى عنده. وكان الحافظ يناقش حضرته كثيرًا حول موضوع النفاق، وكان يقول إن وجود المنافقين في الأعمال محالٌ عقلًا، وإنما المنافق من هو فاسد العقيدة.

والحق أن مفهوم هذه الآيات يدل على أنها تتحدث عن المنافقين بالعمل. وبالإضافة إلى ذلك قد عثرتُ على حديث لرسول الله يذكر المنافقين بالعمل، فعن أبي سعيد قال: قال رسول الله : «القلوب أربعة: قلبٌ أجرَدُ فيه مِثلُ السراج يَزهَر، وقلبٌ أغلفُ مربوطٌ على أغلافه، وقلبٌ منكوس، وقلبٌ مصفّح؛ فأما القلب الأجرد فقلب المؤمن سراجُه فيه نورُه، وأما القلب المنكوس فقلب المنافق، عرَف ثم أنكرَ، وأما القلب المصفّح فقلب فيه إيمان ونفاق، فمَثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدّها الماء الطيب، ومثلُ النفاق فيه كمَثل القُرحَةِ يمدّها القيح والدم، فأيُّ المـَدَّتين غلبت على الأخرى غلبتْ عليه» (مسند أحمد بن حنبل، باقي مسند المكثرين، مسند أبي سعيد الخدري).

أي أن قلوب البشر أربعة أنواع: أوّلُها قلبٌ صافٍ شفاف كالسيف اللامع، مستعدٌ لخدمة الدين دائمًا، وقلب آخر مُغلف بالغلاف بإحكام، وقلبٌ ثالثٌ هو منكوس، وقلبٌ رابع مُعوجّ أو مدفون تحت الأحجار. والقلب الأول الذي هو صاف وشفاف هو قلب المؤمن، وسراجه ذلك النور الذي فيه، أما القلب المـُغلف بأغلفة محكمة فهو قلب الكافر لأن الحق لا يدخل فيه والكفر لا يخرج منه، وأما القلب المنكوس فهو قلب المنافق الذي يؤمن بالحق أولًا ثم يضيع إيمانه، أما القلب المدفون تحت الأحجار فهو قلب إنسان فيه إيمان ونفاق كلاهما، فمَثل إيمانه كالخضار التي يسقيها الماء الطيب، ومثل نفاقه كجرح يفسده القيح والدم، فأي الحالتين غلبت عليه ينضم إلى أصحابها.

فهذا الحديث يؤكد أن مِن المنافقين مَن يُعَدُّ مسلمًا من حيث الإيمان، ولكنه ضعيف من ناحية العمل، فإن غلبت عليه حالة إيمانه أصبح مؤمنًا، وإن غلبت عليه حالة نفاقه صار منافقا كاملًا، أي يضيع إيمانه كلية.

هذا الحديث شرحٌ لهذه الآيات، لأنها أيضًا تبين أن أسماع وأبصار هؤلاء لم تزُلْ بعد، ولكنهم لو استمروا على هذه الحالة فهناك خطر كبير أن تضيع تماما.

إن هذه الآيات تنبّه المؤمن تنبيهًا قويا حيث بيّنَت أنه كلما نزل الهُدى من عند الله تعالى كان في بدايته مصحوبا بكثير من المحن والمصائب. إن طريق الدين ليس مفروشا بالورود، بل إن الإنسان يصل إلى غايته الروحانية عبرَ كثيرٍ من الفيافي المحفوفة بالأهوال، فإن أردتم الإيمان فلا بد لكم من الصبر على تلك المصاعب، ولا مناص لكم من تقديم التضحيات التي جعلها الله تعالى في سبيل هذه الغاية. إن الذي يريد أن ينال الإيمان بدون التضحيات فهو غبي يريد بنفاقه الفوز برضى الله، ولن ينجح في مرامه أبدًا. لو أن الباحثين عن الحق أدركوا هذا السر فإن نجاحهم مؤكد، وإلا فإنهم يبنون قلاعا في الهواء، وسيجلبون عليهم غضب الله بدلاً من فضله، أعاذنا الله من ذلك.

أما قوله تعالى إنّ اللهَ على كلِّ شيءٍ قديرٌ فبين الله فيه أن خوف ضعاف الإيمان سببه أنهم لا يؤمنون إيمانًا كاملًا، ولا يدركون صفات الله حق الإدراك. لماذا يخافون تقديم التضحيات ياترى؟ إنما سببه أنهم يخافون الأذى الذي يمكن أن يصيبهم بيد الكفار. لو كانوا موقنين بصفات الله تعالى حق اليقين لما ساورتهم هذه الشُبهة. لو كانوا موقنين بأن الله تعالى قادر على كل أمر أبرمه، فكيف يمكن أن يخافوا من أذى الكفار؟ عليهم أن يدركوا أن الله إذا أراد أمرًا فإنه قادر على تنفيذه كل القدرة، ولا مانع لما أراد. وما دام الله تعالى قد قضى بازدهار الإسلام وغلبته فأَنّى للكفار أن يحوُلوا دون قضاء الله هذا مهما امتلكوا في الظاهر من القوة والأسباب. لذا يجب على هؤلاء القوم أن يتدبروا صفات الله تعالى ويقوّوا إيمانهم، ولو فعلوا ذلك زال عنهم الخوف تلقائيًا.

لا جرم أن كل أنواع الضعف والإثم ناجمٌ عن عدم إدراك الصفات الإلهية وعدمِ الإيمان الكامل بها. فمن خاف غيرَ الله تعالى فليعلمْ أن إيمانه بصفات الله تعالى ناقصٌ بقدر خوفه، وإلا ما تولَّدَ في قلبه خوفٌ ممَّا سوى الله تعالى.

لقد اعترض البعض على قول الله تعالى إن الله على كل شيء قدير قائلا: هل الله قادر على أن يكذب أو أن يموت؟

هذا الاعتراض ناجم عن قلة التدبر وضحالة التفكير. ذلك أن القدير يدلّ على كمال القدرة والقوة، فمتى كان الكذب والموت علامة القدرة والقوة حتى يقول أحد بسبب هذه الآية هل الله قادرٌ على الموت والكذب؟! إن مثل هذا الاعتراض كمثل أن يقول أحد: إن فلانا عظيم الشجاعة، فيعترض عليه غيره قائلا: هل هو شجاع بحيث يهرب من الفأر؟! فمَن ذا الذي يعدّ مثل هذا المـُعترض من العقلاء؟.

كما أن قوله تعالى كل شيء يعني كل ما يشاؤه الله سبحانه وتعالى ويريده، ذلك أن “الشيء” مصدر بمعنى المشيئة والإرادة، ومفهوم الآية أن الله تعالى قدير على كل ما يشاءه هو ويريد. وهكذا فإن كلمات الآية نفسها تفنّد هذا الاعتراض كلية، لأن الله تعالى لا يريد لنفسه الموت والكذب، لأنهما علامة ضعف، ومنافيان للقدرة والكمال.

Share via
تابعونا على الفايس بوك