الحياة بعد الموت

 

العلم الحقيقي عن الحياة بعد الموت يمكن الحصول عليه بواسطة الوحي فقط. وقد وصف لنا النبي الحياة بعد الموت بقوله : هي “ما لا عينٌ رأتْ ولا أُذنٌ سمعتْ ولا خَطَرَ على قلب بشر”. (البخاري). وحتى بواسطة الوحي يحصل الإنسان على علم عن الحياة بعد الموت بلغة المجاز وبالرموز. وكل توضيح عن حالات تلك الحياة يرتكز على المشابهة فقط.

وحياة الإنسان على الأرض ليست بحد ذاتها حياة متكاملة وتامة. وكثيرا ما يبدو عند الموت وكأنها قد انتهت كما لو قطع شريط وظل طرفاه يلوحان في الفضاء بلا وظيفة. ولو لم يكن هناك شيء لاحِقٌ وتابع فإن تناسق القيم في هذه الحياة سيخلو من أي معنى الحياة ويصبح بالحقيقة غير عملي أبدًا، ولن يكون هناك حساب ولا مسئولية، وفوق ذلك لن يكون هناك كمال أو تمام لتطلعات النفس البشرية وحنينها العميق، وكل إدراك أو فهم ممكن في هذه الحياة لا يتجاوز أن يكون بصيصًا من الاختبار.

إن الإسلام يصر على الإيمان بالحياة بعد الموت. هناك معتقدات يعتبرها الإسلام أساسية، لكن الإيمان بالحياة بعد الموت يعتبر ملازِمًا بوجود الله تعالى: فقد جاء في القرآن الكريم قوله تعالى:

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَىٰ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (سورة المائدة: 70)

فبدون الإيمان بالحياة بعد الموت لا يبقى معنى للإيمان بالمرة، وإن غياب مثل هذا الإيمان لا يتفق مع الإيمان بالله بل ويعتبر بمثابة إنكار لوجوده تعالى.

ولطالما قال الإنسان بنفسه: إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (المؤمنون: 38) ثم جاء:

وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (مريم: 67 -68).

والحقيقة أن الإنسان بل الكون بأسره قد خُلِقَ من لا شيء. وإنه لمن الخطأ القول، بناءً على اختباراتنا الشخصية، بأن الإنسان يموت ويفنى جسده، وأن وجُوده وشخصيته ينتهيان بموته. إن في خلق الإنسان وحياته لبرهانًا على أن هناك إمكانية الاستمرار. وحينما نلاحظ عملية خلق الإنسان الطويلة بالمقارنة مع وجود الخالق الحكيم القدير، نصل إلى النتيجة الحتمية بأن الإنسان إنما خُلق لغاية، وأن تحقيق تلك الغاية يتطلب استمرارية الحياة. فالله يقول في كتابه العزيز:

وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا * قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا * أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا * يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (الإسراء: 50-53)

إنه لمن الخطأ القول إن استمرارية الحياة بعد الموت عبارة عن جمع عظام الأجساد وعناصرها بعد أن بَلِيَتْ وانحلت ثم إنشاء جسد جديد منها. فالجسد الذي أُنشئ من أجل الحياة الأرضية مهيَّئ ومُعَدٌّ لهذه الحياة. وإن الحياة بعد الموت لا تعني، ولا يصح أن تعني، بأن الأموات سيُحشرون ويُنشَأون بأجسادهم ثانيةً على الأرض. وحتى لو سلمنا بإمكانية ذلك فإن الكرة الأرضية لا يمكن أن تستوعب أو تتسع لواحد من مليار منهم. لذا فالنتيجة هي أن فساد وانحلال الجسد البشري لا علاقة له، ولا يمكن ربطه بإمكانية الحياة بعد الموت.

القرآن الكريم يلفت الانتباه إلى ظاهرة النوم والأحلام ليبيـن لنا أن الإنسان قابل لتلقي الاختبارات والانطباعات بدون مشاركة جسدية سواء في المكان أو الزمان. ولكون هذه الاختبارات جزءًا من هذه الحياة، فإن الصلة ما بين الروح والجسد قائمة دون شك، ما دامت هذه الاختبارات قائمة، إلا أن علاقتها الفيزيولوجية قد تحولت. وهناك إدراك تام بأن الجهاز بكامله، أي الجسد والروح، مشترك في هذه الاختبارات. فالقرآن الكريم يقول:

اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (الزمر: 43).

إن التحذير والطلب بأن نتدبر في الآيات التي تشير إليها هذه الظاهرة يتضمنان إشارة واضحة أن الإنسان بمقدوره أن يصل إلى إدراك طبيعة النفس وتفاعلها وحالتها بعد الموت، وذلك بالتفكير والتأمل في اختباراته أثناء النوم.

أثناء النوم يسترخي الجسد في السرير لكسب الراحة، ويكون في حالة من الحيوية المنخفضة. بينما تجتاز النفس اختبارات وتتلقى انطباعاتٍ تترك أثرها عليها بحسب زخامة الاختبارات ومداها، وبغض النظر عن هذه الاختبارات فإنها تكون واضحة جلية بحيث تترك أثرًا دائما على الشخصية. وهذه الاختبارات لا تقتصر على الأحلام حين تكون فعالية الجسد قد انخفضت إلى الحد الأدنى وحين لا يكون الإنسان الذي يجتاز الاختبار على وعي مما يجري خارج نطاق الاختبار، بل وفي حالات عديدة يمر الناس باختبارات متشابهة حتى في حالة اليقظة التامة، رغم أنه في تلك اللحظة يكون هناك تراجع عن فعاليات أخرى سواء كانت عقلية أو جسدية. وهذه على العموم يطلق عليها اسم تنبؤات. والأحلام والتنبؤات يجب ألا نخلطها بالأثر الذي يحدث على وعي الإنسان بتأثير التنويم المغناطيسي. فذلك الاختبار من نوع آخر يختلف كليةً بحيث أصبح من المسلَّم به اليوم أن مثل هذا الأثر أو التسلط يمكن إحداثه وتطويره من خلال التركيز والممارسة كأي مهارةٍ أو قدرة أخرى.

والقرآن يستدعي انتباهنا إلى ولادة الإنسان الجسمانية في هذه الحياة ليشرح لنا عملية الولادة من جديد، تلك التي تنتقل فيها الروح بعد الموت. يقول الله تعالى بهذا الصدد في كتابه العزيز:

أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (يس: 78-82)

وهنا يلفت الله تعالى الانتباه إلى عملية خلق الإنسان في هذه الحياة. فاللحم والعظام والعضلات والدم والمخ بل جميع القوى وكل الجهاز البشري المعقد المنسق بدقة كلها تكونِّ عالمــًا كاملاً، وجميعها مشتملة على ما هو أقل من جزء من مليون من قطرة سائل. فالخلَّاق الحكيم يعلم ما يفعل. وحسب القواعد العديدة التي وضعها سبحانه فإن هذه القطرة من السائل تمر بخلق جديد حين ولادتها ثم تنمو لتصبح إنسانًا عاقلا لأن يرتقي إلى أعلى الدرجات في جميع المجالات وميادين الحياة. بينما تكون النفس مركز هذه العملية كلها. والجسد جزء أساسي في هذه الحياة بأحوالها الخاصة. وإلى حد معين يظل الجسد والنفس وحدة لا تتجزأ، ثم تأتي ساعة الموت، فيحدث الانفصال ما بين الجسد والروح وتنتهي الحياة على الأرض. لكن ذلك لا يعني نهاية الحياة نفسها. في ساعة الموت ينتهي عمل الجسد. ولولا الاعتبارات الأخلاقية والأدبية واحترام الميت فإنه ليس من الأمر المهم بحد ذاته كيف يكون التخلص من ذلك الجسد الميت. عندها تدخل الروح في عملية ولادة جديدة تأخذ خلالها شكلا جديدًا، ويتكون جهاز آخر يتناسب مع أحوال ومتطلبات الحياة الجديدة. وهكذا “تُحيَا العِظام” ولكنها تحيا من الروح ذاته. وقوله تعالى: وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ يشير إلى أن “إحياء العظام” سيكون خلقًا من نوع جديد. فالخلاق الحكيم القدير الذي خلق الإنسان من نطفة ضعيفة، وخلق الكون بأسره من أجل تحقيق الغاية لخلق الإنسان، قادرٌ على أن يمنح النفس البشرية الإمكانية لأن تتطور إلى بنية جديدة، وهو سبحانه قادر على نقل هذه الروح إلى عالم آخر تحقق فيه غايتها.

يقول الله تعالى في كتابه العزيز:

وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَٰلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (المؤمنون: 13 – 17).

وقوله تعالى: ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ يشير إلى المرحلة التي يتم فيها التحام الجسد بالروح. وبعد الموت تمر الروح بعملية مشابهة حين “تُنشأ خلقا آخر”. وبالإشارة إلى الحياة الأكمل تكون الروح عند الموت في حالة شبيهة بحالة النطفة. إنها تمر بحالة يمكن تشبيهها مجازًا بالرحم حيث تتطور القوى التي قد تحتاج إليها وتكون مناسبة لحالات الحياة الأخرى. إن ميلادها لحياة جديدة بعد مرورها بعملية تكوين قواها، إلى حد معين، لـهو البعث. وحتى قبل الوصول إلى تلك المرحلة تكون الروح حيةً في ظروف وجودها الجديد، قادرة على التفاعل بشكل بدائي كما يتفاعل الجنين داخل الرحم.

يقول الله تعالى:

أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى $ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَىٰ $ ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ $ فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَىٰ $ أَلَيْسَ ذَٰلِكَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَىٰ (القيامة: 37 – 41).

هناك جواب واحد لهذا السؤال: بَلَى، إنه قادر، لأنه سبحانه هو الخلاّق العليم.

إن الذين ينكرون الحياة بعد الموت إنما يفعلون ذلك لأنهم يكرهون أن يتأثر حكمهم بالحقائق. هؤلاء المتكبرون المتغطرسون يرفضون حتى حكم الله عليهم، ويرفضون استمرارية الحياة بعد الموت والمثول أمام الله لحسابهم عما فعلوه في هذه الدنيا. يقول تعالى:

إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ * لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (النحل: 23-25)

أما الذين يُصرّون على الإنكار فيحذرهم الله بقوله:

قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (عبس: 18-23)

والقبر هنا لا يعني القبر الذي يُدفن فيه الجسد عند الموت، لأنه لا تدفن جميع الأجساد في قبور؛ فكثير منها تحرق، والبعض تلتهمها الوحوش المفترسة، والبعض تموت في الحرائق، بينما البعض تموت غرقا. القبر هنا يشير إلى المرحلة التي تمر بها الروح بعد الموت حتى البعث. وهذه المرحلة توازي المرحلة التي يمر بها الجنين في الرحم حين تتكون فيه الأعضاء والقوى اللازمة على الأرض. ويظهر من قوله تعالى أن الروح في هذه المرحلة لا تكون مجردةً من الحس والإدراك حيث جاء:

الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَىٰ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (النحل: 29 – 30).

كذلك بالنسبة للمتقين يقول الله تعالى:

وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا * لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَٰلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (النحل: 31 – 33).

من الواضح أن حالات الحياة بعد الموت يمكن شرحها إلى حد ما بلغة البشر، إلا أنها ليس لها نفس الطبيعة كما في حالات هذه الحياة فإن بعد الموت حياة روحية محضة، ومع ذلك فإن حالاتها ظاهرة بحيث يمكن أن نشعر بها ونختبرها وندركها أكثر مما نشعر وندرك حالات هذه الحياة على الأرض. ولكنه من المحال أن ندرك بقوانا الحالية طبيعية الحياة بعد الموت بالمعنى الصحيح. كل ما يمكن هو أننا نحاول أن نفهم بالبديهة طبيعة تلك الحياة. وكما قال النبي إنه من المستحيل للعقل البشري أن يدرك حقيقة تلك الحياة بصورة كاملة صحيحة. كذلك يقول القرآن الكريم:

فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (السجدة: 18).

يتبين لنا من دراسة القرآن الكريم أن كل إنسان من خلال سلوكه وتصرفه في هذه الحياة تنشأ في نفسه خصالٌ أو عيوب تجعلها قادرةً أن تتقبل وتستمتع بحالات الحياة بعد الموت أو تجعلها تتفاعل بألم مع الحالات. فنرى مثلاً الجسم الصحيح يتفاعل بسرور مع حالات هذه الحياة ويجد فيها متعة وسعادة، بينما نرى الجسم المريض المعتل يتفاعل بألم مع حالات هذه الحياة والتي تؤثر فيه تبعًا لذلك. مثلا أشعة الشمس تنشط الأعين الصحيحة وتكون مصدر سرورٍ لما تقدمه من تسهيلات في تعامل الناس وقيامهم بواجباتهم وأعمالهم اليومية. لكن هذا الجمال والرونق الذي تفضيه أشعة الشمس يصبح مصدر ألم شديد وقلق بالغ لمن أعينهم أُصيبت بالرمد إلى حد أنهم إنْ يُحَلْ بينهم وبين الشعاع بسرعة فإنهم يتعرضون لمعاناة وجراح أليمة إلى درجة فقدان بصرهم كلية. والشيء نفسه يمكن أن يطبَّق على الحواس الأخرى كالسمع والشم والذوق واللمس والتأثر بالحر والبرد وحاسة العضلات.

مثل هذا نرى في الحواس الروحية. فإن تفاعل النفس في الحياة الأخرى يتأتى بحسب الحالة التي تنتقل فيها إلى تلك الحياة. فالنفس المريضة ستتفاعل بألم شديد مع حالات الحياة بعد الموت. قد تعاني من عذاب لا يوصف وذلك بحسب درجة المرض الذي أصاب قواها خلال حياتها على الأرض. أما النفس الصحيحة فتتفاعل بسرور مع حالات الحياة الأخرى كلها. يقول تعالى:

وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (الشمس: 8-11)

وهذا المفهوم نفسه يعبر عنه القرآن الكريم بصورة أخرى بقوله تعالى: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَىٰ (طه: 75).

وهذا يعني أنه الذي يدخل الحياة بعد الموت بنفس مريضة فإنه سيلاقي ألمــًا ومعاناةً لأمدٍ طويل، ولا يكون بمقدوره التخلص من هذا الألم عن طريق الفناء الكلي، لأن النفس لا تموت ولا يعتريها الفناء، ولن يستمتع بكامل السرور خلال هذه الفترة من الآلام، لأن وجوده سيكون مجرد سلسة من البؤس والعذاب. ثم يقول الله تعالى:

وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَٰئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَٰلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّىٰ (طه: 76 -77).

فهؤلاء الناس الذين تبقى أنفسهم طاهرةً أو بعبارة أخرى أولئك الذين يُنمّون قواهم الروحية أثناء هذه الحياة إلى درجة من الطهارة هي درجة العافية التامة للنفس، هم الذين سيختبرون تفاعلاً روحيا من السعادة والنعيم. وهذا التفاعل يعتمد على مدى الانضباط الذي حقَّقته النفس في هذه الحياة.

هذا المفهوم بكامله يشرحه لنا القرآن الكريم بالتفصيل حيث يصف أن نتائج أَنماطٍ معينة من السلوك في هذه الحياة كالعيب والقصور، تؤثر على النفس في الحياة الأخرى. مثلا يقول القرآن الكريم أن الأعمى في هذه الحياة يكون أعمى في الحياة الأخرى لقوله تعالى:

وَمَنْ كَانَ فِي هَٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلً (الإسراء: 73).

وهذا بالقطع لا يعني أن من كان في هذه الحياة أعمى فيزيولوجيًا سيكون أعمى روحيا في الحياة الأخرى. فالعمى المقصود هنا هو العمى الروحي. فالذي فشل في تنمية بصيرته الروحية في هذه الدنيا سيدخل الحياة الأخرى أعمى، كقوله تعالى:

فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (الحج: 46 -47).

وهذا يُظهر لنا بالوضوح بأن من يقصِّر في التأمل والتدبر والحذر فإنه يحرم نفسه تدريجيا من النظرة الروحية فيصبح أعمى روحيًا. ومثل هؤلاء حينما يواجهون نتائج إهمالهم وإعراضهم سيَصرخون قائلين: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (الملك: 11). فالذي ينمَّي في نفسه ميزة التأمل ويتفكر فيما يشاهد ويستخلص العبر والنتائج الصحيحة مما يشاهد، فإنه يشحِّذ بذلك نظرته الروحية، فيدخل الحياة الأخرى وهو في حالة تمكِّنه من التمتع بالسرور إلى أبعد الحدود، وهو يتفاعل مع حالات الحياة الأخرى.

كذلك جاء أن أولئك الذين يتولَّون السلطة ثم يسيئون التصرف بها، فيحدثون في الأرض الفساد والقطيعة بين الناس بدل أنْ يُوثقوا بينهم العلاقات الحَسنة، هؤلاء سيصابون بالصمم والعمى الروحي، لقوله تعالى:

فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَارَهُمْ (محمد: 23 -24).

ثم إن المداومة على مثل هذا المسلك تحرم صاحبه من الاستعداد لتقبل النصح الحسن أو استخلاص الدروس من تأملاته وتفكيره، فيصبح متغطرسًا ظالما لا يتحمل السؤال أو النقد على حكمه وطريقة ممارسته السلطة.

وعلى نفس المنوال فإن الذين يصدّون عن الهداية الربانية ويغمضون عيونهم يضيعون نظرتهم الروحية. يمكن أن يتكبر المرء ويتعالى بسبب فهمه الحاذق ونظرته الحادة، بل ومن الممكن أن يعتبر نفسه غير محتاج لهداية أحد، لكنه بإعراضه عن الهداية الربانية يهدم في الواقع نظرته الروحانية. يقول تعالى:

وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (طه: 125-127)

يشرح لنا القرآن الكريم أن كل عمل الإنسان يترك أثره على النفس، وحينما ترتحل النفس إلى الحياة الأخرى ينقل معها كل ذلك الأثر، وتتفاعل تلك الحياة بحسب ذلك الأثر. ثم تُعرض أمام الإنسان أعماله وكأنها كتاب مفتوح، ويُطالب أن يقرأ ذلك الكتاب، ويسلك حسبما جاء فيه، ويكون تفاعله بمقتضى ذلك التسجيل. ثم على ضوء هذا الكتاب يقدم بنفسه تقريرًا عن حياته التي قضاها على هذه الأرض. وبحسب هذا التقرير يتعين جزاءه أو عقابه لقوله تعالى: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا * مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (الإسراء: 14-16)

حالة عناصر النفس وهي تدخل حياتها الجديدة تكون كحالة قواها الروحية حين موتها، وبمقتضى ذلك يكون تفاعلها مع حالات الحياة الجديدة. وهذا التفاعل يكون برهانا قاطعا على سلوك الإنسان وأفعاله في هذه الدنيا. فالأُذن أو العين أو اللسان أو الجلد المريضة روحيًا، من خلال تفاعلها مع أوضاع الحياة الجديدة، ستشهد على سوء استعمالها واستغلالها في هذه الحياة. يقول الله تعالى:

حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (فصلت: 21-24)

من المؤكد أن الإنسان إذا عاش جميع أوقات حياته واعيًا أنه تحت نظر الله، فإن ذلك يكون أقوى رادع له عن الشر وأكبر حافز على عمل الخير. فالذين يحيون حياتهم وهم على وعي تام أنهم تحت نظر الله في كل لحظة            سيدخلون الحياة الجديدة وهم في تمام العافية الروحية، وسيكون تفاعلهم مع الحياة الجديدة تفاعل سرورٍ فقط. يقول تعالى في كتابه العزيز:

وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (الزمر: 74-76)

الجنة والنار ليستا منفصلتين بل هما متصلتان. يقول القرآن الكريم بأن الجنة عرضها السماوات والأرض:

سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (الحديد: 22).

وسُئل النبي : “إذا كانت الجنة عرضها السماوات والأرض فأين مكان النار؟”. فأجاب النبي بسؤال آخر: “حين يكون النهار فأين يكون الليل؟”. والليل معناه غياب النور. والنار هنا تعني حالة النفس التي قد مرضت قواها واعتلت التي يكون تفاعلها تبعًا بذلك أليما بعكس النفس الصحيحة التي يأتي تفاعلها سارًا وحسنًا.

صحيح أن الاصطلاح متى تكرر استعماله يخلق في الفكر خيالاً وتصورًا ما. ولا مناص من ذلك في حالات وجود النفس البشرية في هذه الحياة. وإن اللغة الوحيدة التي يفهمها الإنسان هي اللغة التي اعتاد عليها، وأنه بواسطة الاصطلاحات والشرح فقط يمكن القيام بتجربة التقريب للعقل البشري من فهم هذه الحالات والتي في حقيقتها فوق إدراك الإنسان.

والقرآن يشرح لنا أن حالات الحياة بعد الموت ستكون استعراضًا صوريا لأفكار الإنسان وأهدافه وأفعاله في هذه الحياة وثمرة لها. يقول الله تعالى:

وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَٰذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (البقرة: 26).

وهذا يظهر أن الأتقياء حين تقدَّم لهم الفاكهة في جنات الحياة الأخرى فإنهم سيرونها وكأنها شيء قد استمتعوا به في هذه الحياة أيضا، ويتذكرون السرور الروحي الذي اختبروه في هذه الحياة، ويدركون الشبه ما بين هذه الفاكهة وما يقدم لهم من فواكه في الجنة. وبالطريقة نفسها يقال بأن الأتقياء سيكون بمقدورهم أن يختاروا في الحياة بعد الموت الفاكهة التي يحبونها واللحم الذي يشتهونه. وهذا اللحم المشار إليه هو “لحم الطير”. لقوله تعالى: وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (الواقعة: 21 -22). و”الطير” في الاصطلاح القرآني يعني “السلوك” أو العمل أيضًا، لقوله تعالى: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (الإسراء: 14). وهنا أيضا فإن الإشارة إلى الفاكهة ولحم الطير تعني ثمار ونتائج الأعمال الصالحة.

يقول تعالى:

مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (محمد: 16).

تبدأ الآية بالقول بأن هذا إنما هو شبيهٌ بالجنة التي وُعد المتقون. وأنهار تعني بعض الأحوال والخصال الروحية. مثلاً، الماء يعني الرخاء في كل شيء، واللبن يعني العلم بالصفات الإلهية، والخمر تعني حب الإنسان لله تعالى، “يُقال أحيانا أن شخصًا ما سَكِرَ وثَمِلَ بالفرح أو الحب لأحد أو لله تعالى”، والعسل يعني فضل الله ورحمته.

وفيما يتعلق بذكر الخمر في هذا السياق يجب ألا يغيب عن البال أن هذه الخمر ليست الشراب المـُسكر، فالقرآن يصفها: بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ * لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (الصافات: 47 و48). كذلك: بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ  *لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (الواقعة: 19 -20). وبعكس ذلك فإن عذاب الأشرار وصف كأنه: نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (الهمزة: 7 -8). وذلك يعني بوضوح أن ذلك عاقبة السلوك السيء الذي حسب القانون الإلهي يأخذ صبغة النار الموقدة التي تطلع على الأفئدة فتسبب عذابًا بالقلب.

يشير القرآن الكريم مثلاً أن لجهنم سبعة أبواب لقوله تعالى: لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (الحجر: 45). وجهنم لا تعني مكانًا ماديًّا معيَّنا، والأبواب المذكورة لا تعني سوى طرق للتوجه أو وسائل للدخول. والرقم سبعة أو سبعون طالما تستعمل بالعربية لتعني الكثرة. وحتى لو اعتبرنا أن “سبعة” لها في هذا المجال أهمية قليلة يمكن القول أن العذاب المتعلق بمعنى جهنم سيتحقق بواسطة حواس سبع: النظر والسمع والشم والذوق واللمس والإحساس بالحر أو البرد وما يسمى بحس العضلات أو الشعور بالتعب. والقرآن يشير إلى أنواع العذاب المتعددة التي قد تلاقيها النفس وحين يرى الظالمون العذاب يدركون أن القوة لله فقط وأن الله شديد العقاب. يقول تعالى:

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (البقرة: 166).

وأنهم سيسمعون أجيجها عن بُعد لقوله تعالى:

إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (الفرقان: 13).

وسيشربون ماءً حميمًا يتجرعونه ولن يقدروا أن يبتلعوه لقوله تعالى:

مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (إِبراهيم: 17-18)

وأنهم لن يذوقوا النوم ولا الشراب اللذيذين، وإنما الماء المغلي والسائل الآسن، لقوله تعالى:

لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (النبأ: 25 -26).

وسيكون طعامهم جافًا وحارًا وعشبًا ذا أشواك لا يُنعشهم ولا يسدّ جوعهم، لقوله تعالى:

لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (الغاشية: 7 -8).

وستكون جنهم لهم سريرًا وغطاء، وسيصيبهم العذاب من خلال حاسة اللمس، لقوله تعالى:

لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (الأعراف: 42).

وحين يُلقى بهم في مكان معينٍ مكبَّلين بعضهم ببعض سيتمنون الموت، لكن الموت لن يصل إليهم لقوله تعالى:

وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (سورة الفرقان: 14).

شرابهم سيكون إما باردًا جدًا وإما مغليًّا فلن يستطيعوا شربه، وسيعانون من أنواع أخرى من العذاب متشابهةً، لقوله تعالى:

هَٰذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ * وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (ص: 58 -59).

وسيُعذَّبون بسلاسل من حديد لقوله تعالى: إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (الدهر: 5).

بعض الوجوه ستكون منهوكة ذليلة، لقوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (سورة الغاشية: 3 -4).

ولكن العذاب الأشد هو بأن الله لن يكلمهم ولن ينظر إليهم ولن يطهَّرهم، لقوله تعالى:

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَٰئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (البقرة: 175).

وقوله تعالى:

إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَٰئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (آل عمران: 78).

وستكون هذه الاختبارات أشد رعبًا وعذابًا من أي اختبار آخر. فسيدركون بصورة لم يسبق لها مثيل أنهم وضعوا أنفسهم في طرف مغاير ومناقضٌ للغاية التي خُلقوا من أجلها، وهي أن يكونوا مظهرًا وصورة للصفات الإلهية، لقوله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (الذاريات: 57).

ومن الناحية الأخرى فالحالات التي سيجد المتقون أنفسهم فيها، وسيكون تفاعلهم مع هذه الحالات مبعث سرور وهناء لجميع قواهم وحواسهم هي أن ستشع فرحًا وسيكونون راضين مما عملوا لقوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ * لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (الغاشية: 9-10)، كذلك: لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (النبأ: 36)، كذلك: لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا (مريم: 63)، وأيضا:

أُولَٰئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (الفرقان: 76)،

كذلك:

لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (الواقعة: 26 -27).

وستُحييهم الملائكة بتحية:

سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (الزمر: 74).

ولن يُعانوا من قسوة الحر أو البرد:

لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (الدهر: 14).

وسيسقيهم الله شراباً طيباً:

وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (الدهر: 22).

وسيقيمون في جناتٍ وعيون لقوله تعالى:

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (الحجر: 46).

ويحظون كذلك باستقرار وراحة بال لقوله تعالى:

لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ (الحجر: 49).

وسيتمتعون بالهناء والسعادة لقوله تعالى:

فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (الواقعة: 90).

ويظلون فرحين على الدوام لقوله تعالى:

فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَٰلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (الدهر: 16).

وستنم وجوههم عن حياة النعيم وسيكون شرابهم طيبًا ومعطرا بالمسك، لقوله تعالى:

تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (المطففين: 25 – 27).

وسيقيمون في ملكوت من النعيم قائلين:

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (الزمر: 75).

لكن الفوز العظيم هو الإحساس بنيل رضاء الله تعالى، لقوله تعالى:

قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَٰلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (آل عمران: 16).

وقوله تعالى:

اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (الحديد: 21)،

وقوله تعالى:

يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (التوبة: 21)،

كذلك قوله تعالى:

وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (التوبة: 72).،

وكذلك قوله تعالى:

وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (التوبة: 100).

هناك سؤال هام يتعلق بحالات الحياة بعد الموت: هل ستكون هذه الحالات دائمة وأبدية أم أن لها النهاية؟ فالقرآن يجيب على هذا السؤال ويعلمنا أن حالة الهناء والسرور في الحياة بعد الموت ستكون دائمةً بل وبازدياد دائم، بينما لحالة الألم والعذاب نهاية بحيث سيدخل جميع البشر في النهاية في رحمة الله. فقد جاء في القرآن أن البشرية خُلقت من أجل أن تكون مظهرًا لصفات الله تعالى، قال الله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (الذاريات: 57). إذا كان هذا هو الغرض الإلهي فيجب أن يتحقق بالنسبة لجميع الناس لقوله تعالى:

عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ (الأعراف: 157).

والحقيقة أن البشرية قد خُلقت من أجل تحقيق هذه الرحمة الإلهية لقوله تعالى: إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ (هود: 120). وعندما يتحقق الغرض من الألم والعقاب والعذاب والذي هو بمثابة عملية العلاج إظهارًا لرحمته تعالى عندها سيصبح كل إنسان قادرًا ومؤهَّلاَ برحمة الله ليتفاعل بسرور مع الحالات في الحياة الأخرى. يقول النبي : “سيأتي على جهنم زمان ليس فيها أحد ونسيمُ الصبا تحرّك أبوابها” (تفسير معالم التنزيل، الآية: وأما الذين شقوا).

فالله وحده يعلم مدة الحياة الآخرة، وهو وحده يعلم إلى متى ستستمر حالات تلك الحياة. وإنه لمن المجرب أن ساعات الفرح والسرور تمر بسرعة بينما تبدو ساعات الألم والقلق وكأنها لا نهاية لها. إن ساعات العذاب والآلام تبدو طويلة الأمد لأن العذاب الإلهي أليم جدًا بحيث لا يرى له تخفيف أبدا، لكن الدوام لا حدود له. وفي كل الأحوال فلا بد من الوصول إلى مرحلة ينتهي فيها العذاب ويختفي الألم ويعم السرور. وحيث أن الألم والعقاب يتم به الإصلاح فإن كل مرحلة لاحقة ستأتي معها بإصلاح ما. ولكن ما دامت هذه العملية لم تأت إلى نهايتها فسيظل الألم قائما والتفاعل مؤلما. يقول القرآن الكريم بأن عقاب الأشرار سيبدو وكأنه دائم لا نهاية له، لكنه في الواقع سينتهي متى شاء الله، لقوله تعالى:

خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ (هود: 108).

كذلك السرور في الحياة الآخرة أيضا خاضع لمشيئة الله، ولكن بالنسبة لهذا السرور فقد تم الإعلان والتأكيد عن مشيئة الله تعالى بأنه عطاء غيرُ مجذوذٍ لا نهائي في قوله تعالى:

وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (هود: 108).

وأن جزاء المتقين لا انقطاع له لقوله تعالى:

إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (التين: 7).

هكذا فستكون هناك فرصة ومجال لجميع الناس لأن يتقدموا في الحياة بعد الموت. فالذين قد حُكم عليهم بالعقاب سيقضون فترة العذاب، ولكن ليس كفارة بل كعملية علاج، والغرضُ منها تطهير النفس من العيوب والإهمال الذي تراكم عليها أثناء حياتها على الأرض وإيصالها إلى حالة من الطهر والعافية بحيث تتفاعل مع حالات الحياة الآخرة بغبطة وسرور. وسيظل الأتقياء يسعون ويعدون من أجل اكتمال ذلك النور لقوله تعالى:

يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (التحريم: 9).

وسيحييِّهم الله بتحية:

يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي (الفجر: 28-31).

بهذه الكلمات يخاطب الله المتقين بأنهم بسبب سعيهم الدائب للتعرف على صفاته تعالى بغيةَ أن يصبحوا مظاهر تامة لهذه الصفات فإن الجنة هي حالة يظل العمل فيها متواصلا ومطردًا. ولأن صفات الله لا حدود لها فإن سعي الإنسان وعمله من أجل أن يصبح مظهرًا كاملا لصفات الله تعالى سيظل هو أيضا غير متناهٍ.

Share via
تابعونا على الفايس بوك