كلام الإمام

 لقد قال اللهُ تعالى مخاطبا إيَّايَ أن أُخْبر جماعتي بأن الذين يؤمنون إيمانا لا تشوبُهُ شائِبةٌ من الدنيا، وليس ذلك الإيمان مُلوَّثا بالنفاق أو الجُبنِ وليس خاليًا من الطاعة، فأولئك هم المـَرْضِيُّون عند الله تعالى. ويقول الله تعالى إنهم هم الذين قدمُهم قدمُ صِدْقٍ.

يا من  يملكون السمع .. أَنصِتوا! ماذا يريد الله منكم؟ إنما يريد أن تكونوا لـه وحده. لا تشركوا به أحدا.. لا في السماء.. ولا في الأرض. إن إلهنا هو ذلك الإله الذي هو حيٌّ الآن أيضًا كما كان حيًّا من قبل، ويتكلم الآن أيضا كما كان يتكلم من قبل، ويسمع الآن أيضا كما كان يسمع من قبل. إنه لظَنٌّ باطل أنه يسمع الآن ولكنه لم يعد يتكلم. كلا، بل إنه يسمع ويتكلم أيضًا. إن صفاته كلها أزلية أبدية، لم تتعطل منها صفة قط، ولن تتعطل أبدًا. إنه ذلك الأحد الذي لا شريكَ له ولا ولدَ ولا صاحبة. وإنه ذلك الفريد الذي لا كفوَ لـه، والذي ليس كمثله أحد متفرد في صفاته، والذي ليس له ندّ. ولا شريك له في صفاته، ولا تتعطل قوة من قواه. إنه قريب على بُعده، وبعيد على قربه، وإنه يمكن أن يُظهر نفسه لأهل الكشف على سبيل التمثل، إلا أنه لا جسمَ لـه ولا شكلَ. وإنه فوق الجميع، ولكن لا يمكن القول إن أحدًا تحته؛ وإنه على العرش، ولكن لا يمكن القول إنه ليس على الأرض. هو مجمع الصفات الكاملة كلها، ومظهر المحامد الحقة كلها، ومنبع المحاسن كلها، وجامع للقوى كلها، ومبدأ للفيوض كلها، ومرجع الأشياء كلها، ومالك لكل ملك، ومتصف بكل كمالٍ، ومنـزه عن كل عيب وضعف، ومخصوص بأن يعبده وحده أهلُ الأرض والسماء، ولا شيء مستحيل لديه. إن جميع الأرواح وما فيها من القوى، وجميع الذرات وما فيها من القوى من خلقه هو، ولا شيء يظهر بدونه. إنه يجلّي نفسَه بنفسه عن طريق قواه وقدراته وآياته، ولا نصل إليه إلا عن طريق ذاته. ويتجلى دائمًا على الأبرار بوجوده ويريهم قدراته، وبها يُعرَف هو وبها تُعرف سبيله التي فيها رضاه.

إنه يرى ولكن بدون عيون جسمية، ويسمع ولكن بدون آذان عنصرية، ويتكلم ولكن بدون لسان مادي. هكذا فإن من أعماله الإيجاد من لا شيء، كما تشاهدون أنه يخلق في مشهد الحلم عالـمًا آخر بدون أية مادة ويُري في حيّز الوجود كلَّ من كان قد فنى وصار معدومًا. وعلى هذه الشاكلة تكون كل قدراته. والأحمق من يكفر بقدراته، والأعمى من لم يطلع على عميق قواه. إنه يفعل كل شيء ويقدر عليه إلا ما يخالف شأنه أو ما يتنافى مع وعوده. هو الواحد في ذاته وصفاته وأفعاله وقدراته. لقد سُدّت أبواب الوصول إليه إلا بابٌ فَتَحَه القرآن المجيد، ولم تعد هناك حاجة لاتّباع جميع الرسالات والكتب السماوية السابقة، لأن النبوّة المحمدية احتوتها جميعًا. فالأبواب كلها مُغلقة إلا بابها. (الوصية ص 14 إلى 17).

“الحمد لله؛ إن كل المحامد ثابته لذلك الإله الحق المستجمع لجميع الصفات الكاملة الذي اسمه السامي الله جل جلاله. وقد سبق أيضا أن ذكرنا أن الله في اصطلاح القرآن اسم لتلك الذات الكاملة التي هي الإله الحق المستجمع لجميع الصفات الكاملة والمنزّه عن كل الرذائل. وإنه لواحد لا شريك له، منبع لجميع الفيوض، لأن الله جعل اسمه الله، موصوفا لسائر الأسماء والصفات، ولم يشرّف اسما آخر دونه بهذا الشرف. فإن اسم “الله” بصفته موصوفا تاما يدل على جميع صفاته العليا وأسمائه الحسنى. ولأنه متصف بجميع الأسماء والصفات الكاملة، فتبين من ذلك أن هذا الاسم الجليل يحتوي على جميع الصفات المذكورة. فملخص “الحمد لله” وزبدة معانيه أن جميع أنواع الحمد ظاهرة كانت أو باطنة، بالكمالات الذاتية متعلقة كانت أو بمظاهر عجائب القدرة، مختصة بـــ “الله” لا شريك له فيها، وأيضا أن كل المحامد العليا والكمالات التامة التي يمكن أن يدركها عقل الإنسان أن يأتي بها تفكير مفكّر، لمتحققة في ذات الله ، وما من فضيلة يشهد بصحتها العقل يحرَم منها اللهُ كإنسان شقي. من المستحيل لعاقل أن يقدم فضيلة لا توجد في ذاته ، فإن كل الفضائل التي يمكن أن يبلغها تخيل الإنسان وإدراكه لمتحققة في ذاته عز وعلا، وإنه لمتمكن من الذروة العليا من الكمالات التامة في ذاته وصفاته ومحامده من كل الوجوه، وإنه لأسمى وأجل عن كل الرذائل. فالآن، انظروا أن هذا لـهو الحق المبين الذي يتبين به دين الحق عن الدين الباطل، لأن سائر الأديان يتوضح بإمعان النظر فيها أنه ليس منها أحد ينزه الله من جميع الرذائل ويصفه بكافة المحامد الكاملة سوى الإسلام. إن عامة الهنادك يدون آلهتهم شركاء في صناعات الربوبية، ويتخذونها دخلاء غير منفكين في أعمال الله عز وعلا، بل إنهم ما زالوا يظنون أن هؤلاء الآلـهة قادرة على تغيير مشيئة الله وقاهرة على تقليب مقاديره، وأيضا أن الهنادك أنفسهم يزعمون أن آلهتهم هذه كانت تتولد متمثلة بصور عامة الناس وبأشكال سائر الحيوانات من الخنازير وغيرها من آكلات الأنجاس، وما زالت تلك الآلـهة تتلطخ بكل تلك الأنجاس والأدناس، وإن إلههم المزعوم ظل يعاني أنواع الخزي والآفات، من الجوع والعطش والتألم والتوجع والأحزان والأمراض، وما زال يتذوق ألوانا من المرارة من الموت والذل والهوان والعجز والتواني. ومن الجلي أن أمثال هذه المعتقدات كلها لتنال من جلال الله وعظمته نيلا عظيما، وتسم صفاته الجلّى بسمات التشويه والقبح. وأصحاب “آرية سماج” الذين يدّعون بالفضل على إخوانهم وبالتسمك بنصوص “ويدا” تمسكا حرفيا هم أيضا يعطَلون الله تعالى حتى من خالقيته، ويقرون بأن كل الأرواح غير مخلوقة وواجبة الوجود وهي موجودة بوجودها الحقيقي كذات الله الكاملة عز وعلا، مع أن العقل السليم يعد من العجز الفاضح لذات الله أن يكون رب العالمين، ولا يكون مع ذلك ربا وخالقا لكل شيء من الأشياء، وأن تكون حياة الدنيا واجبة بنفسها ولا تكون متوقفة على قدرته . وإذا وُجّه للعقل السليم السؤالان التاليان:

أنه هل من الأنسب والأصلح للمحامد التامة لله القادر المطلق التام أن يكون هو بنفسه قد خلق الأكوان كلها بقدرته الكاملة، فيكون خالقا لها وربًّا وتنتهي جميع مراحل نظام الكون إلى ربوبيته، وتكون ذاته الكاملة متصفة بقدرة الخالقية، ومنزهة عن الولادة والفناء؟ أو هل يليق بشأنه أن تكون جميع المخلوقات التي يستولي عليها بتصرفه، خارجةً عن نطاق خالقيته ولا يتوقف وجودها على ربوبيته، وهي غنية عنه في بقائها كل الغنى، وأنه تعالى ليس لها خالقا ولا ربّا وأنه لعاطل عن صفة الخالقية وقدرتها كما إنه ليس منزّها عن الولادة والفناء؟؟ فالعقل السليم عندئذ لا يفتي بأن الذي هو رب العالمين ليس بخالق لهذا العالم، وأن الألوف من الصفات الحكيمة الموجودة في الأرواح والأجسام هي بنفسها وليس لها صانع ولا خالق، وأن الله الذي هو يدعى رب العالمين لا يملك في الحقيقة شيئا وأنه لمالك مزوّرٌ. وكذلك لا يحكم العقل بعجزه عن الخلق وحرمانه وتعطيله من كل القوى، أو تعزى إليه عز وعلا عادة قبيحة من أكل الأنجاس والأرجاس، أو يعد خاضعا للتألم والتوجع والموت أن يوصف بالتعطل والجهالة. بل إن العقل السليم ليشهد شهادة صريحة أن الله تعالى أحق وأجدر بأن يكون أسمى من كل هذه الرذائل الكاملة. فإذا كان محروما من القدرة الغالبة عاجزا عن خلق شيء، ولم يقدر حتى على إنقاذ نفسه من المناقص والمعائب، لم يكن من الكمال التام في شيء ولم يحظ من المحامد الكاملة بحظ.

هذا ما للهنادك من أوضاع دينية. وأما ما يبديه المسيحيون من جلال الله وعظمته، فهو يتبين لكل عاقل من سؤال واحد، هل يصح لذات كاملة قديمة غنية تجل عن كل حاجة أن تمس بها الحاجة إلى ابن مع كونه كافيا من أجل صفاته العظيمة القديمة غير المنقطعة، وخالقا لكافة الصالحين دون أن يحتاج إلى أب وابن، واهبا كل القوى اللازمة لجميع الأرواح والأجسام، وحافظا وقيّوما ومدبّرا للكائنات قاطبة، ميسرا كل ما كان يلزم حياتها حتى قبل وجودها طبق مقتضى صفتيه الرحمانية والرحيمية، وخالقا للشمس والقمر والنجوم التي لا تحصى، وجاعلا الأرض عامرةً بألوف النعم، متفضلا على الإنسان غير منتظر لعمل عامل، غنيا في كل هذه الأعمال عن ابن يساعده. لكن على رغم تلك القدرة التي لا تعرف الحدود، إن ذلك الإله الكامل العظيم يفقد في الزمن الأخير كل جلاله وقدرته، ويحتاج في إظهار مغفرته للناس وتخليصهم من الذنوب إلى ابن، وهو أيضا لا يماثل أباه في صفة من الصفات، ولم يخلق مثل أبيه حتى ولا قطعة من الأرض ولا ناحية من السماء، لكي يكون عمله هذا دليل على ألوهيته، بل قد تبين عجزه في إنجيل مرقس (الإصحاح 8، الآية: 12)

وأيضا لقد طالبه اليهود عند صلبه بأنه إن يعد الآن إلى الحياة أمام أعيننا، نؤمن به، لكنه عجز عن الاتيان بهذه المعجزة، ولم يقدم ولا أقل ما يكون من البرهان على ألوهيته وقدرته الكاملة، ولئن أتى بشيء من المعجزات، فإنما هي ذات المعجزات التي تكاثرت للأنبياء من قبل، بل كان هناك في نفس العصر حوض (من الماء) تصدر منه أيضا مثل هذه المعجزات، كما ورد في إنجيل يوحنا (الإصحاح الخامس).

وقصارى القول إن إله المسيحيين المزعوم لم يقدر على إثبات ألوهيته ولا بمعجزة واحدة، بل لقيَ بعد أن تولد في بطن امرأة ضعيفة عاجزة، من الذل والهوان والخزي والخذلان ما لا يلقاه إلا الأشقياء من الناس. ثم لطخ نفسه بأنواع من الأنجاس بعد أن ظل حبيس ظلمات الرحم مدة، خارجا منها عن طريق مجرى البول. ولم يبق من أوصاف البشرية ولا من عيوبها شيء إلا وقد وقع فيه ذلك الابن المسيء إلى أبيه، ثم أنه بنفسه اعترف بجهله وغباوته وعجزه المفرط كما أنه أقر في إنجيله بأنه ليس بصالح. ثم إن ذلك العبد الضعيف القاصر الذي اتُّخذ ولدا لله دون مبرّر، كان أيضا أحط من كبار الأنبياء من ناحية الفضائل العلمية والعملية، وكانت تعاليمه أنقص ما تكون، ولم تكن إلا فرعا من شريعة موسى . فإذن كيف يجوز الافتراء على الله القادر المطلق والأزلي والأبدي بأنه احتاج مع استغنائه وقدرته المطلقة إلى مثل هذا الابن الناقص، وضيّع جلاله وعظمته جميعا مرة واحدة، ولا أعتقد أبدا أن أحدا من أولي الألباب يمكن أن يجيز هذه المخازي كلها لذاته المستجمعة لجميع صفات الكمال.

(البراهين الأحمدية ص 364 إلى 369، الحواشي 11)

Share via
تابعونا على الفايس بوك