متى تنتهي القطيعة بين العلم والدين؟!

متى تنتهي القطيعة بين العلم والدين؟!

أحمد وائل

كاتب
  • العلم الأول كان وحيا خالصا.
  • لماذا لا نرى الله جهرة؟!
  • مبدأ السببية عقبة في طريق الإلحاد.

___

البداية.. وحدة المعرفة

يتعرض الدين اليوم وبشكل متزايد للسخرية وغالبًا ما ينظر إلى من يتبنون وجهات نظر دينية كنوع مهدد بالانقراض، إذ الفكرة المسبقة عنهم أنهم يتمسكون بالتقاليد بدلاً من روح الدين. بينما يزخر تاريخ العلم بالمؤمنين بالله، بل المؤكد أن منظومة العلم الحالية كانت بذرتها الأولى تُنشَّأ في تربة الدين الخصبة،  حيث إن

«سلسلة العلوم الإنسانية بدأت دون تمييز بين المعارف الدينية والعلوم الدنيوية، وكان المُشْتَغِلُ بهذا المحتوى ككل يوصف بالحكمة، فيقال له كاهن، أو حكيم، أو فيلسوف».(1)«وأشرقت شمس نبي الإسلام فكان من إنجازاته أن أزال الخصام الحاصل بين المعارف الدينية والعلوم الدنيوية، بعد أن كان الناس قبله يظنون أن من يتعلم علومًا دنيوية يفقد الدين. وإن النبي الكريم هو أول من دعا إلى المبدأ القائل بأن الدين هو كلام الله والعالَم هو فعل الله تعالى».(2)

لماذا لا نرى الله جهرة؟!

يقول الله تعالى عن نفسه:

لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ..(3)

إن التجربة الحسية والملاحظة تشكلان إحداهما أو كلتاهما أبرز أدوات المنهج العلمي، وقد بات من الـمُسَلم به أكاديميًا أن الشيء أو الظاهرة التي تستعصي على القياس أو الملاحظة والرصد أو المعالجة المباشرة أو غير المباشرة فقد اصطُلِح على إخراجه من دائرة العلم، وبهذا المعيار الناقص تم إبعاد كل ما يتصل بالأمور الغيبية من دائرة النقاش العلمي، الأخطر من هذا أن تم تجاهل اسم الله تعالى من كافة الدراسات العلمية والتاريخية، بحجة أن ما لا يُرى لا يمكن بحال أن يكون موجودًا، هذا على الرغم من أن القائلين بهذه الفكرة الواهية هم أنفسهم لا يملكون دليلًا يطمئنون إليه على عدم وجود الله.

إننا بواسطة العلم، نتفحص ما يعنُّ لنا من ظواهر؛ ولكن الله تعالى ليس ظاهرة تُفحص، لأنه ليس حادثًا كخلقه، فهو تعالى لا يمكن دراسته كظاهرة، وإنما يُجلِّي نفسه لبعض خلقه ممن يجدُّون السير بحثًا عنه.

سبب آخر لأجله يستحيل علينا رؤية الله تعالى رأي العين المجردة، فالعين لا يمكن أن تصل إليه، إذ هو عز وجل متعالٍ عن القياس، فبما أن كل محاولة للقياس تتم عبر تقسيم الشيء المراد قياسه إلى أجزائه المكونة ومن ثم تعريفه بمجموع تلك الأجزاء، يبين الله هنا أنه لا يتألف أصلًا من أي أجزاء أدق أو أصغر، بحيث يمكن قياسه من خلالها.(4)

وقد اجتهد كثير من المتدينين في محاولة التوفيق بين إمكان رؤية الله تعالى وتنزهه عز وجل عن التجسم، فذكر مثلًا الدكتور محمد البوطي: «على الرغم من أن الله تعالى ليس جسمًا ولا هو متحيز في جهة من الجهات، فإن من الممكن أن ينكشف لعباده انكشاف القمر ليلة البدر كما ورد في الأحاديث الصحيحة، وأن يروا ذاته رؤية حقيقية لا شبهة فيها، وستحصل هذه الرؤية إن شاء الله بدون الشرائط التي لا بد منها للرؤية»(5)، فليس لعاقل أن ينفي كون الرؤية حاصلة بدون العين، وإلا فبم نفسر ما نراه في منامنا في حين أننا مغمضو العينين؟! وقد أوضح حضرة مرزا ​​غلام أحمد، المسيح الموعود جانبًا آخر من هذه المسألة حين تحدث عن أن للمعرفة حاستها المخصوصة التي تدرَك بها وحدها، فقال حضرته:

“… ولكن الشقي لا يرغب في هذه السبل قط، بل يريد أن يصل إلى حق اليقين بواسطة السبل التي لم تحددها سنن الله الأزلية في الكون لمعرفة هذه الأمور؛ ومَثله في ذلك كمثل الذي يضع على عينه قطعة حلوى ثم يريد أن يعرف هل هي حلوة أو مُرة، أو كالذي يغلق عينيه ويريد أن يستخدم الأذنين للرؤية.”(6)

يبين هنا أن الإصرار على الرؤية الفيسيولوجية المباشرة لله ربما تكون طريقة غير مناسبة لإدراك وجوده، فطبيعة ما هو موضوعي تتطلب منا في بحثنا وسيلة ملائمة لها. نعلم أن لكل مثير الحاسة الخاصة والمناسبة له، فالضوء يدرك بالعين، والصوت يدرك بالأذن، والنعومة والخشونة والحرارة والبرودة تدرك بالجلد والروائح تدرك بالأنف والطعوم تدرك باللسان، وليس لعاقل أن يصر على أن يدرك مذاق الطعام مثلا بإصبعه، وإصراره المتهافت هذا دليل على أنه يبحث عن الوسيلة، ولا تهمه المعرفة ذاتها في شيء. ..إذن، فليس بالعين وحدها يرى الإنسان.

وبالرغم من أن الله فوق وسائل القياس المادية لدينا، إلا أنه زودنا بالوسائل التي تنفع في إدراكه عز وجل، لا إدراكًا ماديًا كالمعتاد، ولكنه إدراك من نوع خاص. فإننا نرى أن الدين أيضًا يقدم وسيلة ناجعة للكشف عن وجود الله تعالى، وربما رؤيته بالنسبة للبعض، ولكن تلك الوسيلة تبدو مختلفة عن الوسائل المعملية المادية، تمامًا كاختلاف الحواس بالنسبة للمؤثرات المختلفة، وهذا أحد معاني قوله تعالى:

لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ .(7)

إن الله وحده هو الذي يقيس قدراتنا ويظهر نفسه بشكل مناسب وفقًا لها. ويوضح المسيح الموعود هذه النقطة أكثر في معرض حديثه الشائق عن الحاسة الفريدة التي أُعطِيَها حضرة يعقوب ، قال سيدنا المسيح الموعود:

“… ثم ينال حواسًا جديدة يرى بسببها مشاهد عالم الغيب. تُنال تلك الحواس بأساليب مختلفة، أحيانًا في حاسة البصر وأحيانًا في الشم وأخرى في السمع كما قال والد يوسف: إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ . المراد من ذلك هي الحواس الجديدة التي أُعطيها يعقوب وعلم بسببها أن يوسف حيّ وسيقابله قريبًا. ولم يستطع الآخرون القريبون منه أن يشموا تلك الرائحة لأنهم لم يُعطَوا حواسًا أُعطيها يعقوب.”(8)

وإننا كبشر أصبحنا ندرك تمام الإدراك كيف لأعيننا وحواسنا أن تخدعنا! تمامًا كما أن جمهور المتفرجين على خدعة سحرية يدركون أنها بالفعل خدعة، وأنهم واقعون تحت تأثير خداع بصري، حتى لينطبق عليهم القول الذي حكاه القرآن:

لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (9)،

وعلى هذا النحو، فإن تقديم الله دليلًا ماديًا محسوسًا مباشرًا لإثبات وجوده لن يجدي الملحدين بشيء، لأنهم في كل الأحوال سيقولون: «إنما سُكرت أبصارنا»، هذا ما يفسر تجلي الله بطريقة وشكل فريد من نوعه في تواصله، أي روحانيًا، بما نعرفه أيضًا باسم «الوحي». إذن فمن وجهة النظر التجريبية المباشرة، لا يمكن للعلم أبدًا أن يجعل الدين باليًا ولا يمكنه دحض وجود الله أبدًا، لأن الله يكمن وراء قدراتنا على الكشف المادي ولا يمكننا أن نثق بهذه القدرات لدرجة الاعتماد عليها. إذا كان الله لا يمكن رؤيته مباشرة، فهل من المستحيل معرفة الله كيقين موضوعي؟ هل الإيمان بالله إذن توجه لاعقلاني لا يمكننا أبدًا التحقق منه أو معرفته بحق؟

وبالرغم من أن الله فوق وسائل القياس المادية لدينا، إلا أنه زودنا بالوسائل التي تنفع في إدراكه عز وجل، لا إدراكًا ماديًا كالمعتاد، ولكنه إدراك من نوع خاص. فإننا نرى أن الدين أيضًا يقدم وسيلة ناجعة للكشف عن وجود الله تعالى، وربما رؤيته بالنسبة للبعض، ولكن تلك الوسيلة تبدو مختلفة عن الوسائل المعملية المادية، تمامًا كاختلاف الحواس بالنسبة للمؤثرات المختلفة

مبدأ السببية عقبة في طريق الإلحاد

بدا الآن بوضوح أن المشاهدة العينية المباشرة لله ليست هي الطريق الأمثل للإيمان به. إن آثاره عز وجل في هذا الكون هي ما يضعنا أمام عدد متزايد من احتمالات وجوده، هي كل ما هو مطلوب. الجانب الثاني للمعرفة العلمية هو ما إذا كانت هذه «الآثار» على وجود الله قابلة للدحض أم لا.

لقد درجنا على استعمال تعبير «لا دخان بلا نار» حين نريد التعبير عن أن لكل شيء سببًا. ويستخدم المسيح الموعود عليه السلام هذا التشبيه لشرح أنواع التعرف إلى  الله: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين، فيقول:

«…أشار الله سبحانه وتعالى إلى ثلاثة أنواع من العلم (المعرفة)، وهي علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين. يمكن إيضاح ذلك بالآتي: عندما ينظر الشخص إلى الدخان من مسافة بعيدة، فإن عقله يتصور أن الدخان والنار لا ينفصلان، وبالتالي عندما يكون هناك دخان، يجب أن يكون هناك نار أيضًا. فهذا هو علم اليقين. ثم عند اقترابه يرى بعينه لهيب النار وهذا هو عين اليقين. إذا دخل في النار، فسيكون هذا هو حق اليقين.»(10)

أدت دراسة الظواهر العلمية – وخاصة في مجال علم الكونيات – إلى إدراك العديد من العلماء أن وجود خالق للكون ليس احتمالاً فحسب، بل هو ضرورة منطقية. قبل اكتشاف الانفجار الكبير كأصل لهذا الكون، كان يعتقد على نطاق واسع أن الكون كان أبديًا في الزمان والمكان وأن الكون الأبدي لا يحتاج إلى خالق. مع اكتشاف «التحول الأحمر» للمجرات و «الإشعاع الكوني للموجات الصغرية الكونية» (وهو صوت متبقٍ من انفجار المادة في الكون)، ثبت أن للكون أصل. تنص حجة «الكلام» الكونية، التي طورها الإمام الغزالي واللاهوتيون المسيحيون، على أن أي شيء يأتي للوجود، لا بد أن يكون له سبب، وأن ظهور الكون هو دليل قوي على وجود الله. إذا لم يكن هناك سبب من غير مسبب، لكان للكون سلسلة لا حصر لها من الأسباب التي تسبقه. إذا كان هذا هو الحال، لما وصلنا أبدًا إلى أصل الكون، لأننا ما زلنا في هذا القطار اللانهائي من الأسباب، دون الوصول أبدًا إلى وجهة نهائية، لأنه لا يمكن اجتياز مجموعة لانهائية من الأحداث المتسلسلة. وبالتالي، فإن وجود «سبب دون مسبب» هو ضرورة مطلقة لحدوث الانفجار الكبير.

السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو ما إذا كان هذا السبب دون مسبب واعيًا أم لا. إذا كانت هناك بداية مادية غير واعية للكون، فهذا لا يفسر الضبط الرائع والدقيق الذي يجعل الحياة ممكنة في الكون. فكثافة المادة الكونية على سبيل المثال مضبوطة بدقة على 59 منزلة عشرية؛ ومعدل توسع الكون 18 منزلة عشرية؛ ونسبة البروتونات إلى الإلكترونات في الكون 37 منزلة عشرية؛ والثابت الكوني (القيمة في الكون التي تحدد كثافة الفضاء الفارغ) 120 منزلة عشرية. لو أن الثابت الكوني، على سبيل المثال، تم ضبطه بدقة إلى 119 منزلة عشرية فقط، لانهار الكون على نفسه. لا يمكن لقانون فيزيائي لا واع معرفة درجة ضبط قانون آخر؛ فقط كائن واع يمكن أن يصدر مثل هذا الحكم. هذه أمثلة على وصول العلم حتمًا إلى استنتاج مفاده وجود مصمم واع. تبدو هذه الاستنتاجات حول حتمية وجود مصمم أكثر ملاءمةً للكنيسة أو المسجد، بخلاف المختبرات، والكثير من العلماء لم يعجبهم ما كان يشير إليه العلم.

عندما ينظر الشخص إلى الدخان من مسافة بعيدة، فإن عقله يتصور أن الدخان والنار لا ينفصلان، وبالتالي عندما يكون هناك دخان، يجب أن يكون هناك نار أيضًا. فهذا هو علم اليقين. ثم عند اقترابه يرى بعينه لهيب النار وهذا هو عين اليقين. إذا دخل في النار، فسيكون هذا هو حق اليقين.»(10)

الإدراك الشخصي- حق اليقين

يقول تعالى:

وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (11)

يقولون: «ليس أدل على وجود الحلوى أكثر من أكلها»، هذا قول سائر يختصر كثيرا من الجدل، وبهذا الصدد تتفوق المعارف الروحانية بمراحل بعيدة على العلوم التجريبية، إذ من النادر في العلم أن يجري العالم اختباره على نفسه، بل الأمر مستحيل في العديد من فروع العلم، مثل الفيزياء الفلكية. بينما الإسلام دين يدعو الجميع إلى البحث عن الله بأنفسهم حتى يتمكنوا من بلوغ أعلى مرحلة من المعرفة فيما يتعلق بالله – وهي اللقاء التام والكامل مع الله. يشهد المرء في مرحلة «عين اليقين» آثار الله من خلال الوحي السماوي، أما في مرحلة «حق اليقين» يصبح الفرد نفسه آية من الله للآخرين. إن معرفة الشخص بوجود الله تعادل معرفته بوجود نفسه في هذه المرحلة، وهو أعلى شكل من أشكال المعرفة.

والقرآن الكريم لم يقف صامتًا بشأن الظواهر العلمية، وهناك الكثير مما يجب عمله واكتشافه. فالعديد من النبوءات وجوانب من الآيات القرآنية لم تتحقق بعد. والقرآن، هذا الكتاب المقدس بحق، سيظل يؤتي ثمارًا وأسرارًا ما دام الجنس البشري موجودًا، ولذا ينبغي أن ندع هذا الكتاب يقودنا. من بين أسراره، يتحدث القرآن الكريم عن العسل كعلاج للبشرية،  عن اكتشاف كواكب أخرى قادرة على احتواء الحياة، عن التواصل أو الاتصال مع حضارات تلك الكواكب،  ويشير إلى ظواهر أخرى من هذا القبيل ستكتشفها الإنسانية، وهي تفوق حاليًا فهمنا.  وبالتالي لا يزال هناك الكثير مما يستدعي البحث والاكتشاف. إن على المسلمين الأحمديين، الذين تهفو قلوبهم وأرواحهم إلى هذا الكتاب، أن يكشفوا عن هذه الجوانب من حقيقته عن طريق الخوض في أعماق أسرار الطبيعة من خلال البحث العلمي.

لدى المسلمين تاريخ طويل وزاخر بالسعي العلمي. يشجع القرآن الكريم الباحث على التأمل في السماء والأرض وعلى مشاهدة آيات الله فيها.  هناك اتجاه فكري اليوم يقول إنه كلما زادت الاكتشافات العلمية، كلما زاد تخلي الناس عن الله. في الحقيقة، ما يحصل في الواقع هو العكس. لقد عزز تطور الاكتشافات العلمية وجود إله حي. من واجبنا التبحر في أسرار كوننا، حتى يشرق وجه الله المنعكس في السماء والأرض على قلوب البشر.

 

المراجع:

  1. مجلة التقوى، عدد نوفمبر 2018، “من مظاهر إحسان محمد إلى الإنسانية…”  بقلم: سامح مصطفى
  2. المرجع السابق
  3. (الأنعام: 104)
  4. مجلة مقارنة الأديان، “هل جعل العلم الدين معدومًا” Has science rendered religion obsolete
  5. محمد سعيد رمضان البوطي، “كبرى اليقينيات الكونية”،ص171، ط. دار الفكر المعاصر
  6. حضرة مرزا غلام أحمد القادياني، مرآة كمالات الإسلام، الطبعة العربية الأولى، ص496.
  7. (الأنعام: 104)
  8. حضرة مرزا غلام أحمد القادياني،جريدة البدر، مجلد4، رقم8، عدد 13/3/1905م، ص2.
  9. (الحجر: 16)
  10. حضرة مرزا غلام أحمد القادياني، فلسفة تعاليم الإسلام، ص 190
  11. (العنْكبوت: 70)
Share via
تابعونا على الفايس بوك