أنا لا أودعك بل ألتقيك

أنا لا أودعك بل ألتقيك

أسعد موسى عودة

  • العلماء يبقون ببقاء علمهم.

__

غابة من نخيل  في أعالي النّيل

في رحيل العالم والمعلّم والإنسان، فتحي عبد السّلام

كان اطمئناني إلى خير حالك مرّتيْن، قبل ثلاثة أسابيع وقبل أسبوعيْن ويوميْن من نبأ النّذير إذ جاء، ويا لغصّة قلبي إذ جاء وما كان ينفع أن أفزع فيه إلى تكذيب؛ وقد كان جوابك في المرّتيْن يقول عنك من أنت حتّى وأنت في أحلك ساعاتك؛ تلعب النَّرْد مع «كورونا»، يقول عنك من أنت: كلمة طيّبة كشجرة طيّبة أصلُها ثابت وفرعُها في السّماء تؤتي أُكُلها كلّ حين؛ فهكذا أنت يا أستاذنا الجليل، أيّها المؤمن الرّاسخ الأصيل مثل نخيل النّيل، العميق الإدراك لكلّ ما حولك وكلّ من حولك، المتواضع حدّ الخرافة، العالم العاشق والمعلّم السّاخر من نوائب الدّهر ونوازل الحياة، هكذا أنت أيّها الإنسان الجميل؛ وقد كان هذا جوابك: «بحمده ونعمته وتكرّمه سبحانه نعم السّميع العليم الرّحمن.. وصلنا لقمّة الـمُنحنى، والآن حالة ميل للهدوء وبدايات العافية تهلّ. وصلّى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله. ركّزنا على الصّلاة بحضور، بالفاتحة الصّالحة النّاجحة المانحة الرّابحة العطرة الرّائحة. الأمور تتحسّن واستعملنا الرّاحة والأكسجين والأدوية والتّغذية. الحمد لله ربّ العالمين.» كما كان جوابك: «كنّا فين وصرنا فين. كنّا في قاع القبر. طالعين لقمّة الـمنحنى. والآن في قمّة المُنحنى الجيبي. وبدأ الاستقرار. وبشائر هبوط المُنحنى نحو الهدوء. الحمد لله ربّ العالمين. اللّهمّ صلّ على محمّد وعلى آله.»

هكذا كان جوابك يا حبيب الفاتحة ويا عاشق القرآن ويا الصّوت الّذي سيظلّ يعلو بعِلم الإسلام. لطالما لفَتتني منهجيّتك العلميّة في عرض المسائل العقَديّة، ودقّتك الاصطلاحيّة، وعذوبتك اللّغويّة، وأسلوبك السّهل الممتنع في الجدَل، الّذي لطالما أحببتَه جَدَلًا صاعدًا دائمًا، وقدرتك الفطريّة على إقامة الحُجّة والبُرهان. ولطالما أحببتك وأحببت فيك طبيعة الإنسان ونقاء الجَنان وحبّ الجِنان وصفاء الوِجدان وشجاعة الفرسان وهمّة الجِدْعان.

عند رأس يوبيلك الماسيّ رحلت كتلة من ألماس، هي عادت إلى حيثُ أتت، وبين هذيْن، العودة والإتْيان، أشعّت بأنوار السّماء فأضاءت فضاءات الظّلام. فشكرًا لك يا فقْدنا العزيز على من كنت وما كنت وعلى من أنت وما أنت، وعلى أن كنت وستظلّ، دومًا، خطوة إلى الأمام عند عتبات الإمام ومعارج الإيمان.

نوّرَ اللّه مرقدَك وعطّرَ مشهدَك وطيّبَ مضجعَك وآنسَ وحشتَك؛ وغفرَ لك ورحمَك وعافاك وعفا عنك وأكرمَ نُزُلَك ووسّعَ مُدخَلَك.

وأرجو أن تصفح عنّي، أنا، المتطفّل الجاهد، الآن، في تَعَمْشُق قامتك العالية، محاولًا إيفاءَك غَيْضَ شيءٍ أو بعضِ شيءٍ من فَيْضِ حقّك، وأن أبثّك شذراتٍ من حبّي لك، لربّما، أيضًا، لأنّني لم تسعفنيَ الحياة لفعل ذلك وأنت على قيْد الحياة، وهأنذا أرجو أنّك تُسعف فمي ليفعل ذلك، ههنا والآن، وأنت على قيْد قيْد الحياة الحياة.

دقّاتُ قلبِ المرءِ قائلةٌ له  \   إنّ الحياةَ دقائقٌ وثوانِ

فارفعْ لنفسِكَ بعدَ \ [قبلَ] موتِكَ ذكرَها\ فالذِّكرُ للإنسانِ عُمرٌ ثانِ. قالها ابن بلدك، أحمد شوقي بك. وقد ارتفع ذكرك قَبْلًا وسيظلّ يرتفع بَعْدًا وبُعدًا بعيدًا، إقدامَ عمرٍو في سماحةِ حاتمٍ \ في حِلْمِ أحنفَ في ذكاءِ إياسِ؛ يا سيّدَ النّاسِ.

نوّرَ اللّه مرقدَك وعطّرَ مشهدَك وطيّبَ مضجعَك وآنسَ وحشتَك؛ وغفرَ لك ورحمَك وعافاك وعفا عنك وأكرمَ نُزُلَك ووسّعَ مُدخَلَك.

أمّا الآن، وأعلم أنّك تسمعنيَ، الآن، وأنت في الصّفوف الأماميّة على أبواب الجنّة العليّة، فأرجو أن تتوسّط لنا لدى الحاجّ رضوان؛ أن يحفظ لنا مكانًا في الصّفوف الخلفيّة هناك، على أمل أن تُسعفنا الحياة الأُخرويّة على أن نقترب منك أكثر، وأنت البعيد منّا حِقَبًا نورانيّة؛ لا لشيء إلّا لنسلّم عليك ونعود القَهْقَرى، إلى حيث المسافة بيننا أزليّة أبديّة سرمديّة.

Share via
تابعونا على الفايس بوك