بُشرى لنا معشر الإسلام..

قد بُعث لنا نبي بهذه الصفة وهذا الكمال التام

الحمد لله الذي خلق الأشياء كلها فأودع مِن جمالٍ خَلْقَها، وبرأ نفوس الناس لنفسه فسوّاها وعالجَ بوجهه قلقها، وأتقن كلَّ ما صنع وحسَّن وأبدع وأحكمَ، وأضاء الشمس وأنار القمر وأنعم على الإنسان وأعزّه وأكرمَ. والصلاة والسلام على رسوله النبيّ الأُمّيّ.. محمد أحمد الذي كان اسماه هذان أوّل أسماءٍ عُرضتْ على آدم بما كانا علّةً غائيّةً للنشأة الأولى وكانا في علم الله أشرف وأقدم. فهو أوّلُ النبيين درجةً لهذين الاسمين وآخرهم بما ختم الله عليه كلّ ما علّم النبيين وفهّم، وأكمل كلّ ما أوحى إليه وألهم، وبما أعطاه الله آخر المعارف وجمع فيه ما أخّر وقدّم، وأرسله إلى كل أسود وأبيض، واختاره لإصلاح كل أعمى وأصمّ وأبكم، وضمّخه بعطرِ نعمه أزْيدَ مما ضمّخ أحدا من الأنبياء، وعلّمه من لدنه، وفهّمه من لدنه، وعرّفه من لدنه، وطهّره من لدنه، وأدّبه من لدنه، وغسله من لدنه بماء الاصطفاء. فوجب عليه حمدُ هذا الربِّ الذي كفَل كلَّ أمره بالاستيفاء، وأدخله تحت رداء الإيواء، وأصلح كل شأنه بنفسه مِن غيرِ منّةِ الأساتذî والآباء والأمراء، وأتمّ عليه من لدنه جميع أنواع الآلاء والنعماء. فحمده روحُ النبي بحمد لا يبلغ فكرٌ إلى أسراره، ولا تدرك ناظرةٌ حدود أنواره، وبالغَ في الحمد حتى غاب وفنى في أذكاره.

وأمّا سببُ هذا الحمد الكثير.. وسرُّ إحماده، فهو بحار فضل الله وموالاة إمداده، وعناية الله التي ما وكَلتْه طرفة عين إلى سعيه واجتهاده، حتى شغفه وجهُ الله حُبًّا وأوحده في وداده، ففار قلبُه لتحميد هذا المحسن حتى صار الحمد عين مراده. وهذه مرتبة ما أعطاها الله لغيره من الرسل والأنبياء والأبدال والأولياء، فإنهم وجدوا بعض معارفهم وعلومهم ونعمهم بوساطة العلماء والآباء والمحسنين وذوي الآلاء، وأما نبينا فوجد كل ما وجد من حضرة الكبرياء، ونال ما نال من منبع الفضل والإعطاء، فما فارت قلوب الآخرين للحمد كما فار قلب نبيّنا لحمدِ مُنعِم تولّى أمره وحده مِن جميع الأنحاء، فلأجل ذلك ما سُمّي أحدٌ منهم باسم أحمد، فإنه ما أثنى على الله أحدٌ منهم كمحمّد وما وَحَّدَ، وكان في نعمهم مَزْجُ أيدي الإنسان، وما علّمهم الله كعلمه وما تولّى كل أمورهم وما أَيَّدَ. فلا مهديَّ إلا محمد ولا أحمد إلا محمد على وجه الكمال، وهذا سرٌّ لا يفهمه إلا قلوب الأبدال.

ثم إذا كان حمدُه بإيثارِ وجه الله والإقبال عليه بنفي أهواء النفس والحَفْدِ إليه بإخلاص وصدق وتوحيد، فرجّع اللهُ إليه صلةً منه ما أرسلَ إلى ربّه من تحميد، وكذلك جرتْ سُنّته بكل صديق وحيد، فحُمِّدَ محمّدنا في الأرض والسماء بأمر ربّ مجيد. وفي هذا تذكرة للعابدين، وبشرى لقوم حامدين. فإن الله يردّ الحمد إلى الحامد ويجعله من المحمودين، فيُحمَد في العالمين، ويوضع له القبولية في الأرض، فيثني عليه كلُّ من كان من الصالحين. وهذا هو كمال حقيقة العبودية، ومآلُ أمر النفوس المطهرة، ولا يعرفها إلا الذي أُعطيَ حظًّا من المعرفة. وهذا هو غايةُ نوع الإنسان، وكماله المطلوب في تعبُّد الرحمن. وهذا هو الذي تنتهي إليه آمال الأولياء، ويختتم عليه سلوك الطلباء، وتستكمل بها العنايةُ نفوس الأصفياء. وهذا هو لُبُّ أعباء الشريعة، ونتيجة المجاهدات في الملّة، وسرُّ ما نزل به الناموس من الحضرة على قلب خيرِ البريّة، عليه أنواع السلام والصلاة والبركات والتحية. يرغب فيه المجاهدون، وإلى الله متبتّلون، الذين في خيامِ حبّه يسكنون، وبه يحيون، وله يموتون، وعليه يتوكلون، ولحُكْمه بصدق القلب يطيعون، ولأمره بِهَمْلِ العين يتّبعون، وفي مرضاته يفنون، وفي أحزانه يذوبون، وبأُنسه يبقون، وله تتجافى جنوبهم من المضاجع ويتحنّثون، ويبيتون سُجّدًا وقيامًا ولا يغفلون، ويأخذهم القلق فيذكرون حِبّهم ويبكون، وتفيض أعينهم من الدمع وفي آناء الليل يصرخون ويتأوّهون، ولا يعلم أحد إلى أي جهة يُجذَبون ويقلَّبون. يُصَبُّ عليهم مصائب فبصدقهم يتحمّلون، ويُدخَلون في نيران فيقال: “سلام”، فيُحفَظون ويُعصَمون. أولئك هم الحامدون حقًّا وأولئك هم المقدّسون والنجيّون، فطوبى لهم ولمن صَحِبَهم فإنهم المنفردون، والشافعون المشفَّعون.

وهذه مرتبة لا تُعطى إلا لمحبوبي الحضرة، وإنما جاء الإسلام لتبيين تلك المنـزلة.. ليُخرج الناس من وِهاد المنقصة، ويوصلهم إلى حظيرة القدس ويهدي إلى مقام السعادة، وينذر الغافلين ويصدِم قلوبهم بوعيدِ مُدى القطعية.

وما تعلم ما الحمد والتحميد، ولِم أعلى مقامه الربُّ الوحيد. وكفى لك مِن عظمته أن الله ابتدأ به كتابه الكريم، ليبيّن للناس عظمة الحمد ومقامه العظيم. وإنه لا يفور من قلبٍ إلا بعد المحويّة والذوبان، ولا يتحقق إلا بعد الانسلاخ ودوسِ أهواء النفس الثعبان، ولا يجري على لسان إلا بعد اضطرام نار المحبة في الجنان، بل لا يتحقق إلا بعد زوال أثر الغير من الموهوم والموجود، ولا يتولّد إلا بعد الاحتراق في نار محبّة المعبود. فمن ألقى نفسه في هذه النار، فهو يحمد الله بقلبٍ مُوجَع وسِرِّ محوٍ في الحبيب المختار، وهو الذي يُدعى في السماء باسم أحمد ويقرَّب ويُدخَل في بيت العزّة وقُصارة الدار، وهي دار العظمة والجلال.. يُقال استعارةً إن الله بناها لذاته القهار، ثم يعطيه لحمّادِ وجهه فيكون له كالبيت المستعار، فيُحمَد هذا الرجل في السماء والأرض بأمر الله الغفّار، ويُدعى باسم محمّد في الأفلاك والبلاد والديار، ومعناه أنه حُمّد حمدًا كثيرا واتفق عليه الأخيار من غير الإنكار.

وإن هذين الاسمين قد وُضعا لنبيّنا مِن يوم بناء هذه الدار، ثم يُعطَيان للذي صار له كالأظلال والآثار. ومن أُعطي من هذين الاسمين بقبس فقد أُنير قلبه بأنواع الأنوار. وقد جرى على شفتَي الرسول المختار، أن الله يرزق منهما عبدًا له في آخر الزمان كما جاء في الأخبار، فاقرؤوا ثم فكِّروا يا أولي الأبصار.

فالغرض أن الأحمدية والمحمدية أمرٌ جامع دُعِيَ الموحّدون إليه، ولا يتمّ توحيد نفس إلا بعد أن يرى في وجوده تحقُّقَ جَنْبَيه، ولا تصير نفس مطمئنةً، ولا تتنـزل على قلبٍ سكينة، إلا أن يكون سابحا في هذه اللُّجّة، ولا ينجو أحدٌ من مكائد الأمّارة إلا أن يحصل له حظٌّ من هذه المرتبة. والذين بعدوا منها وما أخذوا منها حصّةً ترهَقهم ذلّةٌ في هذه ويوم القيامة. هم الذين يمشون على الأرض كغُثاءٍ على السيل، كأنّما أُغشيتْ وجوههم قِطعًا من الليل. يتولدون محجوبين، ويعيشون محجوبين، ويموتون محجوبين. أولئك الذين أعرضتْ قلوبهم عن حمد ربهم وضيّعوا أعمارهم في حمد أشياء أخرى أو رجال آخرين.

فبُشرى لنا معشر الإسلام.. قد بُعث لنا نبي بهذه الصفة وهذا الكمال التام، وسُمّي أحمد ومحمد من الله العلاّم، ليكون هذان الاسمان بلاغا للأُمّة وتذكيرا لهذا المقام.. الذي هو مقام الفناء والانقطاع والانعدام، لترغب الأُمّة في هذه الصفات وتتّبع اسمَي خيرِ الأنام. وقد نُدب عليهما إذ قيل حكايةً عن الرسول: فاتّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ ê. فاهتزّت أرواحنا عند وعد هذا الجزاء والإنعام، وقلوبنا مُلئت شوقا وصارت أشكالها ككؤوس المُدام. وما أعظمَ شأنَ رسول ما خلا اسمُه مِن وصيّة للأُمّة، بل مُلئ مِن تعليم الطريقة، ويهدي إلى طرق المعرفة، وأُشيرَ في اسمَيه إلى مُنتهى مراحلِ سبلِ حضرة العزّة، وأُومِئَ إلى نقطةٍ خُتم عليها سلوك أهل المعرفة. اللهم فصَلِّ عليه وسلِّمْ وآلِه المطهرين الطيبين، وأصحابه الذين هم أسودُ مواطن النهار ورهبانُ الليالي ونجوم الدين، رضي الله عنهم أجمعين.(نجم الهدى)

î سقطت التاء من الكلمة سهوا، والصحيح: الأساتذة. (الناشر)

ê  آل عمران:32

Share via
تابعونا على الفايس بوك