كلام الإمام

صفات البارئ تعالى

هذه بعض الأدلة على وجود الخالق ذكرناها على سبيل المثال.

هذا وينبغي أن تعلموا أيضا أن الإله الذي دعانا إليه القرآن الكريم قد ذكره بهذه الصفات بقوله:

هُوَ اللهُ الَّذِي لا إلَهَ إلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (الحشر: 23)،

وقوله تعالى:

مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (الفاتحة: 4)،

وقوله تعالى:

الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبّارُ الْمُتَكَبِّرُ (الحشر: 24)،

وقوله تعالى:

هُوَ اللهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (الحشر: 25)،

وقوله تعالى:

عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (البقرة: 149)،

وقوله تعالى:

رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (الفاتحة: 3-5)،

وقوله تعالى:

أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ (البقرة: 187)،

وقوله تعالى:

هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (آل عمران: 3)،

وقوله تعالى:

قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ * اللهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (سورة الإخلاص) ..

أي أن الله هو الإله الأحد، الذي ليس له شريك يستحق العبادةَ والطاعة. ذلك لأنه لو كان معه إله شريك لجاز أن يغلب عليه الإله الشريك بسلطته، وبالتالي تتعرض ألوهيته للخطر. وقوله بأنْ لا أحد يستحق العبادة سواه فيعني أنه إله كامل ذو محامد كاملة ومحاسن عالية وكمالات سامية.. بحيث لو أردنا أن نختار معبودا من بين جميع الموجودات نظرا إلى كمال الصفات، أو تصورنا غايةَ ما نستطيع تصورَه من صفاتٍ أعظم وأعلى لمعبود، لكان الأعلى بين الجميع.. الذي لا يوجد أعلى منه مطلقا.. هو الله.. الذي من الظلم أن يشرِكَ في عبادته مَن هو دونه.

ثم قال إنه “عَالِمُ الْغَيْبِ”، أي أنه هو نفسه يعلم ذاته، ولا يقدر غيره أن يحيط ويدرك ذاته. نستطيع أن نرى صورة الشمس والقمر وكل مخلوق، إلا أننا عاجزون عن رؤية ذات الله تعالى.

ثم قال “والشهادةِ”، يعني أنه لا شيء مستتر عن نظره. لا يجوز أن يسمى إلها مَن يبقى في غفلة عن علم المخلوقات. كلا، إن كل ذرة من العالم تحت بصره، وأما الإنسان فلا يستطيع ذلك. إنه تعالى يعلم متى يُفني هذا النظام ومتى يقيم القيامةَ، ولا أحد سواه يعلم متى يكون هذا.. فالذي يعلم جميعَ هذه المواعيد هو الله تعالى.

وقوله “هُوَ الرَّحْمَنُ” يعني أنه هو الذي يُهيّء لذوات الحياة كل ما تحتاج إليه من أسباب المعيشة والراحة حتى قبل وجودها. كل ذلك بفضلٍ بحت منه، وليس نتيجةً لأعمالها وسعيها. فإنه سبحانه خلَق لأجلنا الشمس والأرض وغيرهما من المخلوقات حتى قبل وجودنا ووجود أعمالنا. وهذا العطاء يسمى في كتاب الله “الرحمانية”، ونظرًا إلى هذا الصنيع يُدعى الله بـ”الرحمن”.

وقوله “الرّحِيمُ” يعني أنه يجزي على الأعمال الصالحة خيرا، ولا يضيع عمل عامل. وباعتبار هذه الصفة يُدعَى الله بـ “الرحيم”، وصفته هذه تسمى “الرحيمية”. وقوله “مالِكِ يومِ الدينِ” يعني أنه جعل في يده جزاءَ كل واحد، وليس له من وكيل فوض إليه تدبيرَ ملك السماوات والأرض، وقعد بنفسه جانبا لا يفعل شيئا، بينما يقوم أو سيقوم وكيله بمهمة المجازاة والعقاب.

ثم قال “المـَلِكُ القُدّوسُ” أي أنه صاحب السلطان الذي ليس فيه وصمة عيب. الواضح أن مُلك البشر لا يخلو من نقص، فمثلا لو هاجرت الرعية كلها من دولة ملِكٍ إلى دولة أخرى لضاع مُلكه؛ أو لو حل القحط والمجاعة بالرعية كلها، فمن أين تُجبى الأموال؟ أو إذا قامت الرعية تجادل الملِك قائلة: بأي ميزة صرتَ ملكًا علينا.. فماذا عساه يقول ردا على ذلك؟ ولكن سُلطان الله ليس كهذا. إنه قادر على أن يُهلك الجميعَ في لمح البصر ويأتي بخلق آخر جديد. ولو لم يكن خلاقا وقديرا هكذا لَما قام حكمه إلا بظلم. وإلا فمن أين يأتي بخَلقٍ جديد إلى الدنيا ليمارس عليهم سلطانه.. بعد أن يكون قد شمل جميعَ خلقه الأولين بالعفو والنجاة؟ فهل يسترد -ظلمًا واعتسافا- من عباده الناجين النعمَ التي أعطاهم إياها، ويسلبهم المغفرةَ التي تفضل بها عليهم، لكي يزجّ بهم مرة أخرى في الحياة الدنيا ليعمرها ويحكمها. ستكون ألوهيته في هذه الحالة معيبة، ويصير مُلكه ناقصا شأنَ ملوك الدنيا الذين لا يبرحون يسنّون لرعيتهم قوانين جديدة، ويستبدّ بهم الغضب على كل صغيرة وكبيرة، وعندما لا يجدون بدًّا من الظلم -قضاءً لمآربهم- يستسيغون الظلم والجور كما يستسيغ الرضيع لبنَ أمه. فمثلا يجيز القانون الملكي إغراقَ ركاب سفينة صغيرة إنقاذا لسفينة كبيرة، ولكن الواجبَ ألا يُضطرَّ الإله القدير هذا الاضطرار. فلو لم يكن الإله كاملا في قدرته، خلاقًا من عدمٍ محض، للجأ -بدلاً من إظهار قدرته- إلى الظلم كالملوك الضعفاء، أو لتخلى عن ألوهيته مراعاةً للعدل. كلا، إن سفينة الله سائرة مع كل قدرة وفي عدل كامل.

وقوله “السَّلامُ” يعني أنه منـزه عن جميع العيوب، سالم من كل المصائب والمشقّات، بل إنه مانح السلام للآخرين. وهذا بديهي، لأنه لو كان بنفسه عُرضةً للنوائب وللضرب بأيدي الناس، وللفشل في إرادته فكيف تطمئن قلوبنـــا -برؤية سوء حاله هذا- بقدرة مثل هذا الإله على تخليصنا من الآلام؟ ولأجل ذلك يقول تعالى في الآلهة الباطلة:

إنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (الحج: 74-75).

وقوله تعالى: “ضَعُفَ الطَّالِبُ والمطْلوبُ” يعني أن عابدي هذه الآلهة ضعافُ العقول. أما الآلهة نفسها فهي ضعيفة القوة والحيلة. فهل يمكن لمثل هؤلاء أن يكونوا آلهة حقيقيين؟ إنما الإله مَن يكون أقوى من كل قوي وغالبا على الجميع. لا أحد يقدر على القبض عليه أو على ضربه. إن الذين يقعون في أعمال خاطئة كهذه لا يعرفون عظمة الله تعالى، ولا يدركون ما هي الصفات الواجبة للإله.

أما قوله “المؤْمِنُ” فيعني أنه واهب الأمان، والذي يقيم الدلائل على توحيده وكمالاته. وفي هذا إشارة إلى أن المؤمن بالإله الحق لا يخزى أبدا أمام مجلس من المجالس، كما لن يخجل أمام ربه، ذلك لأن معه أقوى البراهين. أما عابد الإله الباطل فهو دائما في مشكلة كبيرة، وبدلا من بيان الأدلة يسوق كل لاغية واهية مدعيا أنها من الأسرار الغامضة، هروبا من خزي الاستهزاء، وإخفاءً لأخطاء تأكد زيفُها.

وقال تعالى: “الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ”.. أي أنه الحافظ للجميع، الغالب عليهم، المصلح لما خرب وفسد، المستغني كل الاستغناء.

وقال: “الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى”.. أي أنه خالق الأرواح كما أنه خالق الأجسام، وأنه المصور في الأرحام، وأنه صاحب جميع الأسماء الحسنى التي يمكن أن تُتَصور.

وقال: “يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ”.. أي أن سكان السماوات يذكرون اسمه بالتسبيح والتقديس كما يذكره سكان الأرض. وفي هذه الآية إشارة إلى أن الأجرام السماوية أيضا عامرة بسكان ملزَمين بتعاليم الله تعالى.

وفي قوله تعالى: “عَلَى كُل شَيْءٍ قَدِيرٌ” سلوانٌ للعابدين.. إذ ما الفائدة أن نعقد عليه أملا ورجاءً إذا كان عاجزا غير قادر؟

وقوله تعالى: “رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرحْمَنِ الرحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدينِ” يعني أنه هو الإله الذي يقوم بتربية كل العوالم. وأنه رحمن رحيم وهو بنفسه مالك يوم الدين، ولم يجعل هذه السلطة في يد أحد غيره.

وقوله تعالى: “أُجِيبُ دَعْوَةَ الداعِ إذَا دَعَانِ”.. يعني أنه يسمع دعاءَ كل داعٍ يستجيب لدعائه؛ أي أنه مستجيب الدعوات.

وقوله تعالى: “هُوَ الْحَيُّ الْقَيّومُ”.. يعني أنه الباقي للأبد، وأنه حياةُ جميع الأحياء وقوامُ الموجودات كلها. إذ لولا أنه الأزلي الأبدي لكنا دائما أبدا في قلق ووَجَل من موته قبل موتنا.

(فلسفة الأصول الإسلامية، ص: 57 إلى 62)

Share via
تابعونا على الفايس بوك