في عالم التفسير

ومن الدلائل أيضًا على وجود الاعتقاد بين القبائل المتوحشة بإله واحد غير مرئي خالق للكل أن سكان (المكسيك)، وهم من أقدم الشعوب.. يعتقدون بإله واحد اسمه (أيوونا ويلونا) خالق كل الأكوان، المحيط بها، أبو الآباء؛ وأنه في بدء الخليقة.. عندما لم يكن شيء ولم يوجد كائن.. فكّر (ويلونا)، وعن فكره نشأت قوة النمو، وتحولت تلك القوة المتزايدة إلى صورة فضاء واسع، ومنها تجلى نور الإله، ثم أخذ الفضاء يتقلص فنشأ منه الشمس والقمر. وما أشبه هذه الأفكار بمعتقدات الأديان الحاضرة عن خلق هذا الكون.

وهناك بعض القبائل الإفريقية البدائية الموغلة في التوحش، ولديها اعتقاد مماثل بإله يسمى (نينكو). ووجدت على آثار بابل عبارات التضرع إلى الإله الواحد. وبابل من أقدم مراكز الحضارة الإنسانية، وهاك ترجمتها.

“يا أيها الملك الأزلي الأبدي، مالك جميع المخلوقات؛ أنت خالقي. يا أيها الملك، ليكن طِبق رحمتك، يا مولانا أنت ترحم الجميع. لتكن مملكتك الواسعة ذات رحمة. أغرس في قلبي حب عبادة ألوهيتك، وهب لي كل ما ترضى، لأنك أنت الذي صيرت حياتي بهذه الصورة”. ولكن بعد ذلك الدور التوحيدي تحولت بابل إلى مركز للعقيدة الشركية.

وكذلك كانت قبائل كندا وأستراليا البدائية تعتقد بإله واحد يدعى هنا وهناك بأسماء مختلفة. ويتبين مما سبق من الشواهد الدينية والتاريخية أن عقيدة التوحيد كانت سابقة في الوجود على عقائد الشرك.

وأريد هنا أن أكشف الغطاء عن خطأ آخر.. أوقع هؤلاء الفلاسفة في ظنهم الباطل هذا. إنهم لما قرأوا في التوراة وغيرها من الكتب الكلام عن إله قبيلة كذا وإله شعب كذا، استدلوا بهذه الكلمات على أن فكرة الآلهة المتعددة هي الأصل الذي تطورت عنه عقيدة الإله الواحد. وقد وقع الفلاسفة في هذا الخطأ لأنهم لم يتنبهوا إلى أن الديانات السابقة على الإسلام كانت غير عالمية، أي أن كل دين يخص قوما بعينهم أو قبيلة بذاتها. وهكذا كان أتباع هذه الديانات يحسبون أن الإله الواحد إلههم وحدهم دون غيرهم. وهذه الرسالات وإن كانت سماوية صادرة عن إله واحد، إلا أن اختلاف أحوال القبائل والأمم اقتضى أن تكون هناك اختلافات في تفاصيل الديانات. وقد نشأ عن تلك الاختلافات ذلك الظن الخاطئ لدى من يجهل هذه الحقيقة بأن لكل دين منها إلها خاصا به. والحقيقة أن الإله الذي شرف البشرية بالرسالات السماوية إله واحد، أعطى كل شعب طبق حاجته. وقد أبان القرآن الكريم وجه الحقيقة في هذه القضية قائلاً: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (فاطر: 25).

ومما يثير العجب الشديد.. أولئك الذين يظنون بأن الاعتقاد بالإله (يهوه) إله بني إسرائيل قد ظهر فيهم بعد موسى. ألم يروا بأن إبراهيم سبق موسى بزمن طويل، وكان من ذريته قوم يسكنون مكة، وكانت عقيدتهم تخالف عقيدة اليهود.. إذ أنهم أسرفوا في الشرك، وجمعوا في الكعبة عددا كبيرا من الأصنام، وكانوا بعيدين عن عوامل الحضارات الخارجية بعدًا تامًّا.. ثم جاء نبي الإسلام محمد ونادى في قومه الذين عادوه أشد العداء، بأن جدهم إبراهيم كان موحدا ولم يكن من المشركين؟ يقول القرآن المجيد عنه: بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (البقرة: 136).

ورغم الخلاف الشديد بين النبي وبين قومه من أحفاد إبراهيم لم ينكروا عليه أبدًا هذا القول، ولم يدَّع أحد منهم بأن إبراهيم لم يكن موحدًا. وفي هذا دلالة واضحة على أن مشركي مكة كانوا يعترفون بأن إبراهيم كان موحدًا، وأن عامة العرب كانوا يعتقدون بأن إبراهيم لم يكن من المشركين. ومن ثم فإن التقاليد العريقة لأبناء إبراهيم من قبل موسى تقوم على عقيدة الإيمان بإله واحد. والزعم بأن عقيدة التوحيد لم تكن في بني إسرائيل إلا بعد موسى زعم داحض، لأن بني إسرائيل من ذرية إبراهيم الذين كانوا يعتزون بأنه أبوهم الأكبر وهو حامل لواء التوحيد في قومه وبنيه.

وخلاصة القول إن الآية الكريمة التي تدعو إلى التوحيد وتنهى عن الشرك لا تقدم حلقة ارتقائية متطورة من حلقات عقائد الشرك، بل إنها توطد أركان عقيدة راسخة عريقة في تاريخ الإنسان.. قد ضلت عنها الأمم بعض الوقت، وانحرفت عنها الجماعات البشرية، فوقعت في الشرك.

وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (البقرة: 24)

عبدنا: يُقال عبد له: تألَّه له. عَبَدَ الله أي طاع له وخضع وذل وخدمه والتزم شرائع دينه ووحده. والعبادة هي الطاعة ونهاية التعظيم لله. والعبودية إظهار التذلل، والعبادة أبلغ منها لأنها غاية التذلل، ولا يستحقها إلا من له غاية الأفضال وهو الله. والعبادة أيضًا تقبل الشيء للطابع أو العلاقة، وهو مأخوذ من قولهم: طريق معبد أي مذلل بالوطء. فالعبادة فيما يتعلق بالله تعالى يكون معناها أيضًا تقبل الإنسان لطابع صفات الله تعالى. والعبد هو الإنسان حرًا كان أو رقيقا؛ والأسير، والخادم، والموحد. عبد الطاغوت: من يخدم الشيطان أو يعبده. يقال: ما عبدك عني: ما حبسك. عبد به: إذا لزمه ولم يفارقه. قال ابن الأنباري: فلان عابد، هو الخاضع لربه، المستسلم المنقاد لأمره، والمتفرد المنفرد بالعبادة.

شهداء: جمع شهيد. والشهادة والشهود: الحضور مع المشاهدة إما بالبصر أو البصيرة. وقد يعبر بالشهادة عن الحكم والإقرار. والشهادة: الخبر اليقين. شهد المجلس: حضره. شهده: اطلع عليه وعاينه، شهد على الأمر: أخبر به خبرًا قاطعًا. شهد عند الحاكم لفلان على فلان: أدى ما عنده من شهادة فهو شاهد. والشهيد: الشاهد، الأمين في شهادته، الذي لا يغيب عن علمه شيء. والشهيد: المساعد أو العون. ويكون المراد من قوله (ادعوا شهداءكم) اليهود الذين كانوا يتوددون إلى الكفار.

التفسير

جاء أول أمر سماوي في القرآن الكريم في الآيتين السابقتين.. يتضمن عبادة الله تعالى وتجنب اتخاذ أنداد له. تشير هذه الآية إلى نتيجة طبيعية تترتب على أول أمر قرآني، تلك هي قول الكفار: إن هذا الكلام لم يكن جديرًا بأن نرضى به، لأنه قد دمر حياتنا الآمنة، وأورثنا الحرمان من اليقين الذي كنا نتمتع به، وفتح علينا أبواب الشكوك والشبهات. و(ممَّا) في الآية تدل على أن الريب الذي قد سبق ذكره، إنما نشأ عند المعترضين عن القرآن نفسه، وهو أن هذا الكتاب قد جعل حياتنا قلقة مضطربة. فالمراد بقوله وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ أن ادعاءكم بوجود الريب في القرآن افتراء وكذب فقط، فإن كنتم صادقين فيما تزعمون، فعليكم أن تأتوا بسورة من مثله، وإن لم تفعلوا ولن تفعلوا، فادعاؤكم هذا أيضًا باطل، لأن الإتيان بمثل الكلام المريب أسهل ما يكون.

والاعتراضات على القرآن الكريم كانت وما تزال تجري على ألسنة الكفار. والكتاب المسيحيون لا يبرحون يسوقون الاعتراضات على القرآن المجيد، ولكنهم إلى اليوم لم يجرؤوا على قبول تحدي القرآن بالإتيان بمثله. وهم يدعون بأفواههم أن القرآن، وحاشا له، قد اقتبس من الإنجيل كذا كذا، وأخذ من التوراة كذا وكذا، واستعار من كتب المجوس كذا وكذا. وإذا كان الأمر كذلك.. فما الذي يمنعهم من الأخذ والاقتباس والاستعارة ليجمعوا ويؤلفوا كتابا جامعا مثل القرآن؟ إن اعتراضهم هذا يشبه من يزعم بأن الشهد ليس له فضل أو مزية، لأن النحل امتص من الأزهار والأثمار رحيقها وأخذ حلاوتها ورائحتها العذبة.. ولكن هل يمكن لهذا المعترض أن يقدم عسلا مثله، وأنى له ذلك؟ ها هي الأزهار والأثمار أمامه. فهل بوسعه أن يمتص منها ويخرج لنا شهدا حلوا مغذيا شافيا؟ والقرآن الكريم يهدم اعتراضهم ويقول بأنه لا يحتوي على كل الحقائق الموجودة في الكتب السابقة فحسب، بل إنه جامع لكل الحقائق السابقة والتي لم تكن معلومة من قبل أيضًا، فيقول:

فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (البينة: 4)

وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (البقرة: 152)

فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (البقرة: 240)

فالقرآن يعترف بأنه يتضمن التعاليم المفيدة التي كانت موجودة في الكتب الأخرى، ويؤكد أن به أيضًا تعاليم بديعة أخرى. والطعن على القرآن بعرض بعض المتشابهات يخالف الأمانة، لأن الذي يزعم بأن القرآن يحتوي على مقتبسات أو سرقات فقط فليؤلف كتابا مثل القرآن ويجمع فيه ما شاء من السرقات، ثم لينظر مصير كتابه بإزاء القرآن الحكيم. إن أي كتاب ملفق لن يبلغ جزءا من ألف من معارف القرآن.

Share via
تابعونا على الفايس بوك