آيات من السماء

آيات من السماء

مصطفى ثابت

السيرة المطهرة (24)

تحت سلسلة السيرة الطاهرة يتناول الكاتب سيرة حضرة ميرزا غلام أحمد الإمام المهدي والمسيح الموعود مبرزا الوقائع والأحداث الهامة من حياته الطاهرة

“ذكرنا في العدد الماضي كيف أن الإمام المهدي قد تعرض لخملات ضارية من الاضطهاد والتكذيب وفتاوى الكفر والشكاوى للحكومة ضده، وكيف أنه كان يقف وحده أمام عواصف الرفض والمعارضة المدمرة، حتى أن بعض ضعاف النفوس من القلة التي اتبعته تخلت عنه وتركته، وانغلق كل باب في وجهه إلا باب الله تعالى، فلجأ إلى التضرع والدعاء حتى ينصره الله تعالى كما نصر رسوله سيدنا محمد المصطفى في بدر، وقد نشر ذلك الدعاء في كتاب “نور الحق” ولم تمض أيام حتى جاء نصر الله تعالى عندما اكتمل القمر بدرا، ووقعت آيتا الكسوف والخسوف في شهر رمضان، وهما الآيتان اللتان ذكر رسول الله أنهما علامة على ظهور الإمام المهدي”.

وطبع الإمام المهدي الجزء الثاني من كتاب نور الحق، وعلى غلافه:

“الحمد لله الذي أجزل لنا طَوْلَه، وأنجز وعده وأتمّ قَوْلَه، وأرى بعض الآيات، وأفحم المنكرين والمنكرات. فأردتُ أن أُظهر سناه، لمن أَمَّ مسالك هُداه. ولم أخل ينتابني نصر الله الكريم، وعون الله الرحيم، إلى أن ظهرت آية الخسوف والكسوف، من الله الرحمن الرؤوف. فأُلقي في روعي أن أُؤلّف رسالة في هذا الباب، هداية للطلاّب. فألّفتها لله الأحب الأحق، وجعلتها حصّة من حصَّتي “نور الحق”، ومعها إنعام خمسة آلاف، للذين يلغون كغُداف، والذين يُكذّبون القرآن، ويتّبعون الشيطان، ويتكلمون في بلاغة القرآن، ولا يحسبونه من الله الرحمان. وأردتُ بتأليف هذه الرسالة والحصّة الأولى، أن أُظهر جهالة النوكَى، وضلالة تلك الحمقى، وأكشف خديعتهم على أولي النُّهى، وأُرِي الحق لمن يرى. وبعد ما أزمعت تأليف هذا الكتاب، أُلهِمتُ من رب الأرباب، أن الكافرين والمنكرين لا يقدرون على أن يؤلفوا كتابا مثل هذا في نثرها ونظمها مع التزام معارفها وحِكَمِها. فمن أراد أن يُكذّب إلهامي، فليأت بمثل كلامي، فإن المهدي يُهدَى إلى أمور لا يُهدَى إليها غيره، ولا يدركه مُعاند ولو كان على الهوا سيره، وهذا الكتاب الذي هو ألطف وأدق، سُمّي الحصة الثانية من نور الحق.

هذه رسالة كالعضب الجراز، لإفحام كل من نهض للبراز، وأوّل مخاطبينا بالإطماع في الإنعام، المتنصّرون الذين هم كالأنعام، وعمادهم الذي يُرِي عنقه كالأنعام، وإخوانه الذين يقولون إنّا نحن المولويون الماهرون في العربية والعلوم الأدبية، ثم البطالوي الشيخ محمد حسين مضلّ العوام، بكلمات كالسراب أو كالجهام. ثم بعد هؤلاء، كل مخالف من أهل الأهواء، وكل من قال إني أرضعتُ ثدي الأدب، وحَوَت معرفتي من علوم النخب، مع خلافه في الملّة والمشرب. فالآن ننظرهم.. هل يقومون في الميدان، كقيامهم على منبر الافتراء والعدوان؟ أو يولّون الدبر ويشهدون على أنفسهم أنهم كانوا من الجاهلين؟” (نور الحق الجزء الثاني، الخزائن الروحانية ج 8 ص 187)

ثم افتتح الكتاب بهذه الكلمات:

“الحمد لله المحسن المنّان، جالي الأحزان، والصلاة والسلام على رسوله إمام الإنس والجان، طيّب الْجَنان، القائد إلى الْجِنان، والسلام على أصحابه الذين سعوا إلى عيون الإيمان كالظمآن، ونُوّروا في وقت ترويق الليالي بنَيِّرَي إكمال العمل وتكميل العرفان، وآله الذين هم لشجرة النبوّة كالأغصان، ولشامّة النبي كالريحان.

أمّا بعد.. فاعلموا يا معشر الإخوان، وصفوة الخلاّن، أن أيام الله قد قرُبت، وكلمات الله تجلّت، وبدت وظهرت الآيتان المتظاهرتان، وانخسف النّيّران في رمضان، وجاء الماء لإطفاء النيران، فطوبى لكم يا معشر المسلمين، وبشرى لكم يا طوائف المؤمنين.” (المرجع السابق ص188- 189)

ثم تبع ذلك قصيدة يقول في مطلعها:

غَـسَا  النَّـيِّرَانِ هِدَايَةً  لِّلْكَوْدَنِ

يَقُولاَنِ لاَ  تَتْرُكْ  هُـدًى  وَّتَدَيَّنِ

.

وَإِنَّهُمَـا  كَالشَّاهِـدَيْنِ  تَظَاهَرَا

هُمَا الْعَدْلُ  قَدْ  قَامَا فَهَلْ مِن مُّؤْمِنِ

.

وَقَـدْ فَرَّ قَـوْمِي نَخْوَةً وَّتَعَصُّبًا

وَّأَيْنَ الْمَـفَرُّ مِنَ  الدَّلِيلِ الْبـَيِّنِ

.

وَتَرَكُوا حَدِيثَ الْمُصْطَفَى خَيْرِ الْوَرَى

فَسَادًا وَّكِبْرًا مَّعَ  دَعَـاوِي التَّسَنُّنِ

.

وَوَاللهِ إِنَّ الْيَـوْمَ يَـوْمٌ مُّبَـارَكٌ

يُذَكِّرُنَا  أَيَّامَ  نَصْـرِ الْمُهَـيْمِنِ

.

وَهَـذَا عَـطَاءٌ مِّنْ قَدِيرٍ مُّكَوِّنٍ

وَفَضْـلٌ مِّنَ  اللهِ النَّصِيرِ الْمُهَوِّنِ

.

فَفَاضَتْ دُمُـوعُ الْعَيْنِ مِنِّي تَأَثُّرًا

إِذَا مَا رَأَيْتُ  حَنَانَ  رَبٍّ  مُّحْسِنِ

وتبع ذلك بقصيدة أخرى نقتطف منها هذه الأبيات:

ظَهَرَ الخُسُـوفُ وَفِيهِ نُورٌ وَّالْهُدَى

خَيْـرٌ لَّنَا وَلِخَــيْرِنَا أَمْـرٌ بَدَا

.

هَـبَّتْ رِيَاحُ النَّصْرِ مِـنْ  مَحْبُوبِنَا

مَشْمُولَةً قَدْ  بَرَّدَتْ حَــرَّ الْعِدَا

.

في لَـيْـلَةٍ قُـدَّتْ ثِـيَابُ غَمَامِهَا

بَـرْقُ الرَّوَاعِـدُ كَانَ فِيهَا مُرْجِدَا

.

قَـمَرٌ مُّـعِينُ الصَّـادِقِينَ مُـبَارَكٌ

حَـكَمٌ مُّـهِينُ الْكَاذِبِـينَ تَهَدُّدَا

ز

نَـصْـرٌ مِّـنَ اللهِ الْقَرِيبِ  بِفَضْلِه

إِنَّ الْمُـهَـيْمِنَ لاَ  يُؤَخِّرُ مَوْعِدَا

.

هَـذَا مِـنَ اللهِ  الْمُهَـيْمِنِ آيَـةٌ

لِـيُبِيدَ مَـنْ  تَرَكَ الْهُدَى مُتَعَمِّدَا

.

فَاسْـعَـوْا زُرَافَاتٍ وَّوُحْـدَانًا لَّهُ

مُتَـنَدِّمِـينَ  وَبَادِرِينَ إِلَى الْهُدَى

ثم قال بعدها:

“وأمّا تفصيل الكلام في هذا المقام، فاعلموا يا أهل الإسلام، وأتباع خير الأنام، أن الآية التي كنتم توعدون في كتاب الله العلاّم، وتُبَشَّرون من سيد الرسل نور الله مُزيل الظلام.. أعني خسوف النــيِّريْن في شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن، قد ظهر في بلادنا بفضل الله المنّان، وقد انخسف القمر والشمس وظهرت الآيتان، فاشكروا لله وخرّوا له ساجدين.

وإنّكم قد عرفتم أن الله تعالى قد أخبر عن هذا النبأ العظيم في كتابه الكريم، وقال للتعليم والتفهيم:

فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ $ وَخَسَفَ الْقَمَرُ $ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ $ يَقُولُ الإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ  (القيامة:8-11)

فتفكّروا في هذه الآية بقلب أسلم وأطهر، فإنه من آثار القيامة لا من أخبار القيامة كما هو أجلى وأظهر عند العاقلين. فإن القيامة عبارة عن فساد نظام هذا العالم الأصغر، وخلق العالم الأكبر، فكيف يقع في حالة الفك، الخسوف الذي تعرفون باليقين لا بالشك.. علله وأسبابه، وتفهمون مواقعه وأبوابه؟ وكيف يظهر أمرٌ لازمٌ للنظام، بعد فكّ النظام والفساد التام؟ فإنكم تعلمون أن الخسوف والكسوف ينشآن من أشكال نظامية، وأوضاع مقررة منتظمة على أوقات معينة، وأيام معروفة مُبينة، فكيف يُعزَى وقوعها إلى ساعة لا أنساب فيها ولا أسباب، ولا نظام ولا إحكام؟ فانظروا إن كنتم ناظرين.

ثم من لوازم الكسوف والخسوف أن يرجع القمر والشمس إلى وضعهما المعروف، ويعودا إلى سيرتهما الأولى، وفي هويتهما داخل هذا المعنى. وأمّا تكوير الشمس والقمر في يوم القيامة فهي حقيقة أخرى، ولا يُرَدُّ فيهما نورهما إلى حالةٍ أولى، بل لا يكون وقوعه إلا بعد فكّ النظام والفساد التام، وهدم هذا المقام، وما سمّاه الله خسوفا وكسوفا بل سماه تكويرا أو كشط الأجرام، كما أنتم تقرأون في كلام الله العلاّم. فثبت من هذا الكلام عند الخواص والعوام، أن ما ذكر من الآية، في هذه الآية، فهو يتعلّق بالدنيا لا بالآخرة، وعَزْوِهِ إلى القيامة بناءً على الرواية خطأ في الدراية، بل هو خبر من أخبار آخر الزمان، وقرب الساعة واقتراب الأوان كما لا يخفى على المتدبّرين.

ويؤيده ما جاء في الدارقطني عن محمدٍ الباقر بن زين العابدين قال:

“إن لمهدينا آيتين لم تكونا منذ خلق السماوات والأرض، ينكسف القمر لأول ليلة من رمضان وتنكسف الشمس في النصف منه”، وأخرج مثله البيهقي وغيره من المحدّثين.” (المرجع السابق ص188-196)

ثم يرد على الذين أثاروا الاعتراضات بأن الحديث ينص على أن ينخسف القمر في أول ليلة من رمضان، وليس في أول ليلة من ليالي الخسوف وهي الليلة الثالثة عشرة. فيبين أن رسول الله، النبي العربي الذي آتاه الله قمة البلاغة وجوامع الكلم، لم يكن ليرتكب هذا الخطأ اللغوي ويُطلق لفظ “القمر” على “الهلال” الذي يظهر في الأيام الثلاثة الأولى من الشهر. فيقول حضرته:

“… فإن عبارة الدارقطني تدل بدلالة صريحة، وقرينة واضحة صحيحة، على أن خسوف القمر لا يكون في أول ليلة رمضان أصلا، ولا سبيل إليه جزما وقطعا، فإن عبارته مقيّدة بلفظ القمر، ولا يُطلق اسم القمر على هذا النَّـيِّر إلاّ بعد ثلاث ليال إلى آخر الشهر، وسمُي قمرا في تلك الأيام لبياضه التام. وقبل الثلاث هلال، وليس فيه مقال. وهذا أمرã اتفق عليه العرب كلهم وجُلّهم إلى هذا الزمان، وما خالفه أحد من أهل اللسان، ولا ينكره إلاّ من فُقدت بصيرته، وماتت معرفته، ولا يخرج كلمة خلاف ذلك من فمٍ إلا من فم غمرٍ جاهل، أو ذي غمر متجاهل، ولا تسمعها من أفواه العاقلين. فإن كنت في شك فارجع إلى القاموس وتاج العروس والصحاح وكتاب ضخيم المسمى لسان العرب، وجميع كتب اللغة والأدب، وأشعار الشعراء وقصائد النبغاء، ولك منّا ألف من الورق المروّج إنعامًا، إن تثبت خلاف ذلك كلامًا. فلا تُحرّف كلام سيد الأنبياء، وإمام البلغاء والفصحاء، واتق الله يا مسكين. ولا تجترئ في شأن أفصح العجم والعرب، ومقبول الشرق والغرب.

أيُفتي قلبك ويرضى سربك، بأن الأعرف الأفصح الذي أُعطى له الجوامع، والكلام الجامع، وجُعلت كلماته كلها مملوءة من غُرر الفصاحة، ودُرر البلاغة، والنوادر العربية، واللطائف الأدبية، واللبوب اللغوية، والحقائق الحِكَمية، هو يُبتلَى بهذا العثار، ويترك جزل اللفظ ويختار ركيكا سقْطًا غلطًا غير المختار، بل يخالف مسلّمات القوم ومقبولات بلغاء الديار، ويصير ضحكة الضاحكين؟ ووالله ما يصدر هذا الخطأ المبين والعثار المهين، من فطنة خامدة ورويّة ناضبة، فكيف يصدر من فارس ذلك الميدان، بل سيد الفرسان؟ ما لكم لا تنظرون عزة الله ورسوله يا معشر المجترئين؟ أبخلكم أحبّ إليكم وأعز إليكم من خاتم النبيين؟ ألا تعرفون أن هذا اللفظ في هذا المحل منكَرٌ مجهولٌ لا يُعرف استعماله في كلمات أهل اللسان، وما أورده قطّ بليغ ولا غير بليغ في موارد البيان، وما أخذه عند اضطرار غبي حاطب ليل، فكيف سلطان الفصاحة وسيد خيل؟ وقد سبر بذلك غور عقلكم، ومقدار نقلكم، ومبلغ علمكم وفضلكم، وحقيقة أدبكم، وحديقة حدبكم. فإنكم عزوتم إلى سيد الأنبياء ما لا يُعزى إلى جهول من الجهلاء، تكاد السماوات تنشق من هذا الاجتراء، فاتقوا الله ذا الكبرياء، ولبّوا دعوة الحق تلبية أهل الاهتداء. قد وقع واقع فلا تميلوا إلى المراء، واتبعوا قول النبي الذي إشارته حُكْمٌ، وطاعته غُنمٌ، ولا تكونوا من الأشقياء، ولا يفرط وهمكم إلى الألفاظ من غير دواعي كاشفة الخفاء، بل فتشوا الحقيقة واعرفوا الطريقة بحسن النيّات، ولا تلاعبوا كالصبيان بالأمور الدينيات. وأي حرج عليكم أن تقبلوا ما بان كالبديهات، وتتركوا طرق الأكاذيب والتمويهات؟ وإنني ناصح أمين، ويراني ربي عالم المخفيات، عارف الصادقين والكاذبين.” (المرجع السابق ص 198-201)

وردّ على الذين يقولون إن هذا الحديث من الأحاديث الموضوعة فقال:

“… وقال المعاندون والعلماء المتعصّبون إن هذا الحديث ليس بصحيح، بل هو قول كذّاب وقيح، وما لهم بذلك من علم. كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلاّ كذبا، وكذّبوا ما أظهر الله صدقه وجلّى، ما كان حديثا يُفترى، ولكن عُمّيت عليهم وطُبع على قلوبهم طبعًا.

يا حسرة عليهم! لم ينكرون الحق معاندين؟ ما لهم لا يتّقون يوم الدّين؟ ما لهم لا يُفكرون في أنفسهم أنه حديث قد أنار صدقه، ولا يُصدّق الله قول الكذّابين. وما كان الله ليُطلع على غيبه كاذبا دجّالا عدوّ الصادقين. وقد علمتَ ما جاء في كتاب مبين، وكيف يكذبونه.. وإنّ ظهور صدقه يشهد بشهادة واضحة أنه كلام رسولٍ صدوقٍ أمين.

وكان الإمام محمدٌ الباقر من أئمة المهتدين وفلذة الإمام الكامل زين العابدين. وفي سلسلة الحديث رجال من الصادقين، الذين كانوا يعرفون الكاذبين وكذبهم وما كانوا مستعجلين. وما كان لهم أن يكتبوا حديثًا في صحاحهم وهم يعلمون أنه لا أصل له بل في رواته رجل من الكذّابين الدجّالين. أخلطوا الخبيث بالطيّب بعد ما كانوا على خبثه مستيقنين؟ وإن كان هذا هو الحق فما بال الذين خلطوا قذرًا بالماء المعين متعمّدين؟ وهم كانوا أوّل عالم بأحوال الرواة المفترين. أهم صلحاء عندكم؟ كلا.. بل هم أوّل الفاسقين. ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كان معين روايات الكاذبين؟ أفأنت تشهد أن الدارقطني وجميع رواة هذا الحديث، وناقلوه في كتبهم، وخالطوه في الأحاديث، من أوّل الزمان إلى هذا الأوان، كانوا من المفسدين الفاسقين، وما كانوا من الصالحين؟ وأنت تجد كتب القوم مملوءة من الحديث الذي سمّيتَه موضوعا في مقالك، مع زيادة علمهم منك ومن أمثالك، ومع زيادة اطّلاعهم على حقيقة اشتبهت على خيالك، فلا تتّبع جذبات نفسك وفكّر كالمتّقين.

أفأنت تشك في حديث حصحصت صحّته وتبيّنت طهارته، أنه ضعيف في أعين القوم، أو هو مورد اللوم، أو في رواته أحد من المطعونين؟ أفذلك مقام الشك أو كنتَ من المجنونين؟ وقد صدّقه الله وأنار الدليل، وبرّأ الرواة مما قيل، وأرَى أنوار صدقه أجلى وأصفى، فهل بقي شك بعد أمارات عظمى؟ أتشكّون في شمس الضحى؟ أتجعلون النّور كالدّجى؟ أتعاميتم أو كنتم من العمين؟ أتقبلون شهادة الإنسان ولا تقبلون شهادة الرحمن وتسعون معتدين؟ أأنت تعتقد أن الله يُظهر على غيبه الكذّابين المفترين المُزَوّرين؟ أتشك في الأخبار بعد ظهور صدقها؟ وإذا حصحص الصدق فلا يشك إلاّ من كان من قوم عادين. وهذا أمر لا يحتاج إلى التوضيح والتعريف، ولا يخفى على الذكيّ الحنيف، وعلى كل من أمعن كالمتدبرين.” (المرجع السابق ص206-208)

ثم ذكر أن هذه الآية لم تجتمع من قبل لرجل يقول بأنه الإمام المهدي المنتظر فقال:

“… ولا شك أن اجتماع الخسوف والكسوف في شهر رمضان مع هذه الغرابة أمر خارق للعادة، وإذا نظرت معه رجلا يقول إني أنا المسيح الموعود والمهدي المسعود، والملهم المرسل من الحضرة، وكان ظهوره مقارنا بهذه الآية، فلا شك أنها أمور ما سُمِع اجتماعها في أوّل الزمان، ومن ادّعى فعليه أن يثبت وقوعه في حين من الأحيان. ثم لما ظهرت هذه الآية في هذه الديار وهذا المقام، ولم يظهر أثر منها في بلاد العرب والشام، فهذه شهادة من الله العلاّم، لصدق دعوانا يا أهل الإسلام. فقوموا فرادى فرادى، واتركوا من بخل وعادى، ثم تفكّروا ودعوا عنادا، ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ولا تفسدوا إفسادا، ولا تعرضوا مستعجلين.

يا عباد الله.. رحمكم الله. اتقوا الله ولا تتكبّروا، وفكّروا وتدبّروا، أيجوز عندكم أن يكون المهدي في بلاد العرب أو الشام، وآيته تظهر في هذا المقام؟ وأنتم تعلمون أن الحكمة الإلهية لا تُبْعِد الآية من أهلها وصاحبها ومحلّها، فكيف يمكن أن يكون المهدي في مغرب الأرض وآيته تظهر في مشرقها؟ فكفاكم هذا إن كنتم من الطالبين.

ثم مع ذلك لا يخفى عليكم أن بلاد العرب والشام خالية عن أهل هذا الادّعاء، ولن تسمع أثرا منه في تلك الأرجاء. ولكنكم تعلمون أني أقول من بضع سنين، بأمر رب العالمين، إني أنا المسيح الموعود والمهدي المسعود، وأنتم تُكفّرونني وتلعنونني وتُكذّبونني، وجاءتكم البيّنات وأُزيلت الشبهات، ثم كنتم على التكفير مُصرّين. أعجبتم أن جاءكم منذر منكم على رأس المائة، في وقت نزول المصائب على الملّة، واشتداد العلّة؟ وكنتم تنظرون من قبل كانتظار الأهلّة. وقد جاءكم في أيام إحاطة الضلالات، وتغير الحالات، بعد ما ترك الناس الحقيقة، وفارقوا الطريقة. ألا تنظرون أو صرتم كالعمين؟ ألا تذكرون ما قال عالم الغيب وهـو أصدق القائلين، وبشّركم بإمام آتٍ في كتابه المبين؟ وقال:

ثُلَّةٌ مِنِ الأَوَّلِينَ $ وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ

ولكل ثلّة إمام، فانظروا هل فيه كلام، فأين تفرّون من إمام الآخِرِين؟” (المرجع السابق ص 215- 217)

وذكر سيدنا أحمد الكثير من الآيات التي يتميز بها هذا الخسوف والكسوف بالذات فقال معدّدا إياها:

“… ثم اعلم أن الله نفث في روعي أن هذا الخسوف والكسوف في رمضان آيتان مُخَوِّفَتَان، لقوم اتّبعوا الشيطان، وآثروا الظلم والطغيان، وهيّجوا الفتن وأحبّوا الافتنان، وما كانوا منتهين. فخَوَّفَهُم الله بهما وكل من تبع هواه وخان، وترك الصدق ومان، وعصى الله الرحمن، فيتأذّن الله لئن استغفروا ليغفرنّ لهم وَيُرِي المنّ والإحسان، ولئن أبوا فإن العذاب قد حان. وفيها إنذار للذين اختصموا من غير الحق وما اتّقوا الرب الديّان، وتهديد للذي أبى واستكبر وما ترك الحران، فاتقوا الله ولا تعثوا في الأرض مُفسدين.

وما لكم لا تَخافونه وقد ظهرت آية التخويف من ربّ العالمين. وقد ثبت في الصحيحين عن نبي الثقلين وإمام الكونين في الدارين، أنه قال لتفهيم أهل الإيمان: “إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكنهما آيتان من آياته يُخَوّف الله بهما عباده، فإذا رأيتموها فافزعوا إلى الصلاة”، فانظر كيف أوصى سيّد السادات وخاتم النبيين. وفي الحديث إشارة إلى أن تلك الآيتين من الرحمان مخصوصتان لتخويف عصاة الزمان، ولا يظهران إلاّ عند كثرة المعاصي وغلوّ الخلق في العصيان، وكثرة الخبيثات والخبيثين، ولأجل ذلك أمر عند رؤيتهما لفعل الخيرات والمبادرة إلى الصالحات، من الصلوات والصدقات …..

وحاصل الكلام.. أن الخسوف والكسوف آيتان مخوّفتان، وإذا اجتمعا فهو تهديد شديد من الرحمان، وإشارة إلى أن العذاب قد تقرر وأُكّد من الله لأهل العدوان. ومع ذلك من خواصهما أنهما إذا ظهرا في زمان، وتجلّيا لبلدان، فينصر الله أهلها المظلومين، ويقوّي المستضعفين المغلوبين. ويرحم قوما أُوذوا وكُفّروا ولعنوا من غير حق فينْزل لهم آيات من السماء، وحمايات من حضرة الكبرياء، ويُخزي المنكرين المعادين، ويحكم بالحق وهو أحكم الحاكمين. ويقضي بين المتشاجرين، ويقطع دابر المعتدين. فتصيبهم خجالة وإحجام، وتندّم وانهزام، وكذلك يجزي الكاذبين. يحب الضعفاء الأتقياء، ويجيح أصل المفسدين الذين يتركون وصايا الحق ومواقعها، ويقفون ما ليس لهم به علم ويقولون آمنّا بالقرآن وما هم بمؤمنين. يصرّون على أمور لا يعلمون حقيقتها، وأُمِروا بالتزام طرق التقوى فتركوها، وكفّروا إخوانهم المؤمنين. أولئك يئسوا من أيام الله وبشاراتها ونبذوها وراء أبعد المبعدين. وسيعلمون كيف يكون مآل المفتنين الخائنين.

ومن خواص هذين الكسوفين أنهما إذا اجتمعا في رمضان، الذي أنزل الله فيه القرآن، فيشيع الله بعدها العلوم الصادقة الصحيحة، ويبطل البدعات الباطلة القبيحة، ويهوي الناس إلى إمامهم باستعدادات شتّى، وتجري من العلوم الحقة أنهار عظمى، ويتوجه الخلق من القشر إلى اللب، ومن البغض إلى الحب، ومن المجاز إلى الحقيقة، ومن التيه إلى الطريقة. ويتنبه الذين أخطأوا مشربهم من الحق والصواب، ويرجع الذين سرّحوا أفكارهم في مرعى التباب. ويتندم الذين ضاع من أيديهم تعظيم الإمام، ويتطهّر الذين تلطّخوا من أنواع الآثام، ويهيج تلك التأثيرات في قوى الأفلاك، بحكم مالك الإحياء والإهلاك، فيمتلئ العالم من الوحدانية وأنوار العرفان، ويخزي الله حماة الشرك والكذب والعدوان، وتأتي جذبات الله بعد أيّام الضلال، وتجد كل نفس ما يليق بها من الكمال. فمن كان حريّا بمعارف التوحيد، يُعطى له غضٌّ طريّ من حقائق الكتاب المجيد، ومن كان مستعدا للعبادات، يعطى له توفيق الحسنات والطاعات، ويجعل الله مقام المجدد مركز البلاد ومرجع العباد، ويبلّغ أثره إلى أقصى الأرضين …..

اعلموا يا معشر الغافلين أن الله لا يُضيع الدين، وقد جرت سُنّته، واستمرت عادته، أنه إذا جاء زمان الظلام، وجُعِل دين الإسلام غرض السهام، وطال عليه ألسِنَةُ الخواص والعوام، واختار الناس طرق الارتداد، وأفسدوا في الأرض غاية الإفساد، فتتوجه القيومية الإلهية إلى حفظه وصيانته، ويبعث عبدًا لإعانته، فيُجدد دين الله بعلمه وصدقه وأمانته. ويحعل الله ذلك المبعوث زكيّا وبالفيوض حريّا، ويكشف عينه ويهب له علما غضَّا طريًّا، ويجعله لعلوم الأنبياء من الوارثين. فيأتي في حُللٍ تقابل حلل فساد الزمان، وما يقول إلاّ ما علّمه لسان الرحمان، وتُعطَى له فنون من مبدأ الفيضان، على مناسبات فساد أهل البلدان. ثم لا تعجب من أن روحانية القمر تقبل بعض أنوار الله في حالة الانخساف، وروحانية الشمس في وقت الانكساف، فإن هذا من أسرارٍ إلهية، وعجائبات ربانية، فلا تكن من المرتابين.

وربما يختلج في قلبك أن القرآن لا يشير إلى رمضان، فاعلم أن الفرقان ذكره على الطريق المجمل المطوي، وهو كاف للبصير الذكي، ولا حاجة إلى تفصيل وتبيين.

وأما إذا سألت شيئا عن تفصيله، فأعلّمك أقلّ من قليله، فاعلم أن الله تبارك وتعالى أسس نظام الدين من رمضان، فإنه أنزل فيه القرآن، فلما ثبتت خصوصية هذا الشهر المبارك بنظام الدين، وفيه ليلة القدر وهو مبدأ لأنوار الدين المتين، وثبت أن العناية الإلهية قد توجهت إلى نظام الخير في رمضان وأجرت الفيضان، فبان أن الله لا يتوجه إلى إعانة النظام، في آخر أيام الظلام، إلاّ في ذلك الشهر المبارك للإسلام. وقد عرفتَ أن الانخساف والانكساف توجه جمالي وتجلٍّ جلالي، وفيه أنوار لنشأة ثانية، وتبدلات روحانية، وهو لبنة أولى لتأسيس نظام الخير، وتعمير المساجد وتخريب الدير، وتغلب فيه القوى السماوية، على القوى الأرضية، والأنوار المسيحية على الحِيَل الدجّالية، ويُرِي الله خلقَه سراجًا وهَّاجًا، فيدخلون في دين الله أفواجا، وكان قدرًا مقضيًّا من رب العالمين.” (المرجع السابق ص227-238)

ويتضح من هذا المقطع أن آية الخسوف والكسوف قد وقعت للإنذار وتحذير المخالفين بأن العذاب: “قد تقرر وأُكّد من الله لأهل العدوان.” كذلك فإن هذه الآية تشير إلى أنها مصدر رحمة ونصر للمظلومين والمستضعفين. وأن الذين “أُوذوا وكُفّروا ولُعِنوا من غير حق فينْزل لهم آيات من السماء، وحمايات من حضرة الكبرياء.” وكذلك تشير هذه الآية إلى انتشار العلوم الصحيحة، وأن الناس سوف يدخلون في دين الله أفواجا، ويصل أثر المجدد، أي سيدنا أحمد ، إلى أقصى أنحاء الأرضين.

وفي نهاية الكتاب كتب قصيدة أخرى نقتطف منها هذه الأبيات:

فَـدَتْكَ النَّفْسُ يَا خَيْرَ الأَنَامِ

رَأَيْنَا نُـورَ نَبْـئِكَ في الظَّلاَمِ

.

رَأَيْنَـا آيَـةً تَسْقِي وَتَرْوِي

وَتَشْفِي الْغَافِلِينَ مِنَ السَّـقَامِ

.

رَأَيْـنَا النَّـيِّرَيْنِ كَمَآ أَشَرْتَا

قَـدِ انْـخَسَفَا لِتَـنْوِيرِ الأَنَامِ

.

بِحَمْـدِ اللهِ قَدْ خُسِفَا وَكَانَا

شَرِيكَيْ مِحَــنِ أَيَّامِ الصِّيَامِ

.

أَتَانَا النَّصْرُ بَعْدَ ثَـلاَث مئةٍ

وَبَـعْدَ مُرُورِ مُـدَّةِ أَلْفِ عَامِ

.

فَتُوبُوا وَاتَّـقُوا رَبًّا قَـدِيرًا

مَلِيكَ الْخَلْقِ وَالرُّسُـلِ الْعِظَامِ

.

أَتَانِي الصَّالِحُونَ فَبَايَـعُونِي

وَخَافُوا رَبَّهُمْ يَـوْمَ الْـقِـيَامِ

.

وَأَمَّا الطَّالِحُونَ فَأَكْفَـرُونِي

وَلَعَنُونِي وَمَا فَهِمُـوا كَلاَمِي

.

وَأَفْتُـوا بِالْهَوَى مِنْ  غَيْرِ عِلْمٍ

وَقَالُوا كَافِــرٌ لِلْكُفْرِ كَامِي

.

وَصَالُوا كَالأَفَاعِي أَوْ  ذِئَابٍ

وَإِنَّ اللهَ لِلصِّـدِّيقِ حَــامِي

.

لَقَـدْ كَذَبُوا وَخَلاَّقِي يَرَاهُمْ

وَلِلشَّـيْطَانِ صَارُوا كَالْغُـلاَمِ

.

فَلاَ وَاللهِ  لَـسْتُ كَكَافِرِينَا

فَدَتْ نَفْسِي نَبـِيًّـا ذَا الْمَقَامِ

.

وَأَصْبَـانِي النَّبيُّ بِحُسْنِ وَجْهٍ

أَرَى قَلْبي لَهُ كَالْـمُــسْتَهَامِ

.

وَذِكْرُ الْمُصْطَفَى رَوْحٌ لِّقَلْبي

وَصَارَ لِمُهْجَـتي مِثْلَ الطَّعَامِ

.

وَإِنِّـي سَـوْفَ يُدْرِكُني إِلَهٌ

عَلِيمٌ قَـادِرٌ كَـهْفِي مَرَامِي

.

أَأَنْتَ تُـكَذِّبَـنْ  آيَاتِ رَبِّي

أَأَنْتَ  تُعَادِيَنْ سُبُـلَ  السَّلاَمِ

.

لَنَا مِنْ رَبِّـنَـا نُـورٌ عَظِيمٌ

نُرِيكَ كَمَا يُرَى  بَرْقُ  الْحُسَامِ

(المرجع السابق ص 256- 258)

*  *  *

هذه هي آية الخسوف والكسوف التي تحققت لتصديق الإمام المهدي . هذه هي معجزة رسول الله التي ذكرها منذ ثلاثة عشر قرنا، وحققها الله تعالى إعظاما لشأنه وتدليلا على سُموّ مقامه. فمن ذا الذي يستطيع أن يذكر نبأ من أنباء الغيب، يتحقق بحذافيره بعد هذه المدة الطويلة، إلاّ إذا كان قد تلقّاه من الله تعالى.

ã قال صاحب تاج العروس: يُسمى القمر لليلتين من أوّل الشهر هلالا، وفي الصحاح: القمر بعد ثلاث إلى آخر الشهر، وقال بعضهم الهلال إلى سبع، وقال أبو إسحاق: والذي عندي وما عليه الأكثر أن يُسمّى هلالا ابن ليلتين، فإنه في الثالثة يتبين ضوؤه. منه

Share via
تابعونا على الفايس بوك