كليم الله والأنباء الغيبية حول مستقبل الإسلام
  • في أية ظروف وأي سفر التقى موسى بالعبد الصالح؟
  • ما الأمور التي حدثت خلال اللقاء والتي يلوح فيها نور النبوءة؟

__

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (الكهف 61)

لقد اختلف المفسرون في الواقعة المذكورة هنا. فقال أكثرهم – كما ورد في بعض روايات الحديث أيضًا – أن هذه الآيات تتحدث عن أخبار سفر قام به موسى للقاء رجل اسمه الخِضر.

ثم اختلفوا في بيان دواعي هذا السفر، فقال بعضهم إن موسى قال لله يومًا: هل يوجد رجل أعلم منه؟ قال : نعم، يوجد الرجل الفلاني. فذهب موسى لملاقاته. وفي رواية أن موسى سُئل مرة: هل يوجد رجل أعلم منك؟ فقال لا أعلم. فأوحى الله إليه وأخبره عن مكان الرجل الذي كان أعلم منه، فذهب لزيارته. (الكشاف والقرطبي والطبري، والبخاري: كتاب التفسير سورة الكهف).

الحق أن الناس قد أخطأوا في فهم هذا الحادث. ذلك أن سورة بني إسرائيل أنبأت عن هجرة النبي ونتائجها على شكل إسراء، حيث أخبرت عما سيحققه المسلمون من الرقي والازدهار، وعما سيحيق بهم خلال هذه الترقيات من الأخطار المتمثلة في المعارضة الشديدة مِن قبل اليهود والنصارى. وكان من أكبر هذه الأخطار الخطر الآتي من إحدى طائفتي الأمة الموسوية وهي طائفة النصارى – علمًا أن النصارى هم، عند الله تعالى، من أمة موسى وإن كانوا لا يعدّون أنفسهم منها. فأخبر الله تعالى أن هؤلاء سيُلحقون بالمسلمين في آخر الزمان ضررًا كبيرًا جدًّا. وقد ذَكَرَ الله تعالى إسراء موسى عقبَ إسراء محمد ليؤكد أن العاقبة لمحمد ولأمته، وأن هذه الطائفة الثانية من أمة موسى، أي المسيحيين، لن يبقوا غالبين.

كان أستاذي المكرم حضرة المولوي نور الدين يرى أن هذه الواقعة كانت كشفًا من كشوف موسى ، وأنها لم تقع بالجسم المادي (حقائق الفرقان ج 3 قولـه تعالى: وأما الغلام فكان أبَواه مؤمنَين). وبعد التدبر في الأمر توصلت إلى أنه كان مصيبًا في رأيه هذا. وإليكم الأدلة على ذلك:

الأول: أنه لا يوجد في التوراة أي ذكر لهذا السفر، مما يدل على أن هذا الحادث لم يقع في العالم المادي. كان من الممكن أن يختلف العهد القديم والقرآن الكريم لحد ما في بيان تفاصيل هذا السفر، أما أن يخلو العهد القديم عن ذكره أصلاً فهو أمر جد غريب.

نعم إن الروايات الإسرائيلية تتحدث عن معراج لموسى (الموسوعة اليهودية كلمة Ascension).

وقد بلغني أن عزيزي المولوي جلال الدين شمس قد استخرج من المصادر الموجودة في مكتبة المتحف البريطاني بلندن رواياتٍ يهودية تشير إلى معراج موسى، وأنه كان معراجًا بالجسد المادي. ولكن قولهم هذا ليس حجة علينا، إذ يوجد بيننا نحن المسلمين أيضًا من يزعم أن إسراء سيدنا محمد كان بالجسد المادي (تفسير ابن كثير، وتفسير معارف القرآن: سورة الإسراء).

الثاني: لم يثبت لموسى قبل بعثته إلى بني إسرائيل إلا سفر واحد، وهو سفره إلى مَدْيَنَ، وقد ذكره القرآن الكريم في أكثر من موضع. وقد أجمع القرآن والعهد القديم على أنه لم يكن مع موسى في ذلك السفر أحدٌ (سورة القصص: 22- 24، وسفر الخروج 2: 15، 16). بينما نجد في السفر المشار إليه هنا رفيقًا لموسى تابعًا له على ما يبدو، لأن لفظ «فتى» إذا ورد مضافًا إلى أحد فيعني ابنَه أو خادِمَه. إذًا فكلمات هذه الآية لا تنطبق على السفر الذي قام به موسى إلى مَدْيَن. وبما أنه لم يثبت لموسى سفر غيره فثبت أن السفر المشار إليه لم يكن إلا كشفًا.

سورة بني إسرائيل أنبأت عن هجرة النبي ونتائجها على شكل إسراء، حيث أخبرت عما سيحققه المسلمون من الرقي والازدهار، وعما سيحيق بهم خلال هذه الترقيات من الأخطار المتمثلة في المعارضة الشديدة مِن قبل اليهود والنصارى. وكان من أكبر هذه الأخطار الخطر الآتي من إحدى طائفتي الأمة الموسوية وهي طائفة النصارى – علمًا أن النصارى هم، عند الله تعالى، من أمة موسى وإن كانوا لا يعدّون أنفسهم منها.

الثالث: لم يثبت لموسى حتى بعد بعثتِه سفرٌ فارقَ لأجله قومَه. ولقد سجّل العهد القديم أحداث حياة موسى من الأول إلى الآخر بترتيبها الواقعي، ولكن لا نجد فيها أيضًا ذكرًا لهذا السفر، وهذا يدل على أن هذا السفر لم يكن حادثًا ماديًّا.

الرابع: لما ذهب موسى لسماع كلام الله إلى الجبل الذي كان يقع على بعد بضعة أميال فقط من قومه، وبقي هناك أربعين ليلة، اتخذ بنو إسرائيل في غيابه العجلَ إلهًا (الأعراف: 143-149). فإذا كانت غيبته لمجرد أربعين يومًا أدّت إلى مثل هذا الفساد في قومه، فماذا عسى أن يقع فيهم أثناء غيابه الطويل عنهم بسبب هذا السفر الطويل؟ ولكننا نعرف أنه لم يقع أي فساد بين بني إسرائيل نتيجة هذا السفر، إذ لا تشير التوراة إلى أي فساد آخر غير الذي حصل باتخاذهم العجل إلهًا. كما أنه لم يكن من الحكمة أن يذهب موسى في مثل هذا السفر الطويل بعد ما شاهدَ من فساد قومه ما شاهدَ.

الخامس: عندما ذهب موسى إلى الجبل لميقات ربه أربعين ليلة استخلف أخاه هارون على قومه، ولكن لم يثبت أن موسى استخلف أحدًا – هارونَ أو غيره – خلال هذا السفر. إذا كانت التوراة قد سكتت عن ذكر أحداث هذا السفر لسبب ما، فكان من واجبها أن تذكر – على الأقل – استخلافَ موسى لأحد عند هذا السفر، إذ ليس من المعقول أن يذهب موسى لهذا السفر الطويل من دون أن يستخلف على قومه أحدًا. فعدم ذكره في الكتاب المقدس يدل على أن هذا السفر لم يكن بالجسد المادي.

السادس: مما يتعارض مع سنة الأنبياء أن يفارقوا قومهم لأمد طويل بعد أن يبعثهم الله تعالى، حيث لا نجد بين الأنبياء الذين يذكرهم التاريخ نبيًّا واحدًا فعَل ذلك. لا ريب أن المسيح فارقَ قومَه حسب عقيدتنا، ولكنه في الحقيقة فارقَ طائفةً من قومه إلى طائفة أخرى منهم؛ وهناك أمثلة كثيرة حيث قام الأنبياء برحلات تبليغية بين قومهم، لكن سفر موسى هذا لم يكن من أجل التبليغ، كما لم يسافر في منطقة قومه، وإنما فارقَ قومه لمجرد أن يتعرف على الرجل الذي كان أعلم منه.

السابع: قال ابن عباس في تفسير الكنـز المذكور في هذا الحادث: «ما كان الكنـز إلا علمًا» (ابن كثير، قوله تعالى: ذلك تأويلُ ما لم تَسْطِعْ عليه صبرًا). والجلي أن ما قاله ابن عباس تعبيرٌ، والتعبير لا يكون إلا للكشوف والرؤى. ولما كان الكنـز علمًا فثبت أن الجدار الذي أقامه موسى ورفيقُه لم يكن جدارًا ماديًّا كذلك، كما أن الطعام الذي طلباه من أهل القرية لم يكن طعامًا ماديًّا. فإذا كان هذا الجزء من الواقعة كشفًا فلا شك في كون الواقعة كلها كشفًا من الكشوف.

الثامن: أن الشهادة النابعة من الحادث نفسه أيضًا تؤكد أنه لم يكن حادثًا ماديًّا. خُذْ مثلاً حادثة خرق السفينة، حيث قيل إنما خرَقها صاحبُ موسى كيلا يأخذها الملِكُ غصبًا. ولكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا: هل تعطلت السفينة من ذلك الخرق أم لا؟ وإذا كانت لم تتعطل فلِمَ لم يغصِبْها الملكُ؟. وإذا كانت تعطلت بالمرة فلِمَ لم تغرَق من الخرق الحاصل فيها؟ إذ من المستحيل في العالم المادي أن تسلم من الغرق السفينةُ التي يُنـزع لوح من ألواحها. ولكن رؤية مثل هذا المنظر في الكشف ممكن تمامًا، ولا يخالف العقل بتاتًا.

فثبت أن الجدار الذي أقامه موسى ورفيقُه لم يكن جدارًا ماديًّا كذلك، كما أن الطعام الذي طلباه من أهل القرية لم يكن طعامًا ماديًّا. فإذا كان هذا الجزء من الواقعة كشفًا فلا شك في كون الواقعة كلها كشفًا من الكشوف.

كذلك لا يمكن أن تؤخذ حادثة «قتل نفس بغير نفس» من حيث الظاهر، لأن العبد الذي تبعه موسى ليتعلم منه إما أن يكون نبيًّا أو وليًّا مقرَّبًا لدى الله تعالى. ولا يمكن أن يجترئ على قتل نفس بغير نفس حتى المؤمنُ العادي، فهل يرتكبه وليٌّ مقرّب أو نبيٌّ عظيم الشأن.

يقول البعض لإثبات جواز قتل الغلام أنه لو عاش لكان قتّالاً وسفّاكًا. ولكنا نقول: إنه من الظلم العظيم ومما ينافي الشرعَ تمامًا أن يعاقَبُ شخص على جنايةٍٍ لم يرتكبها بحجة أن الله تعالى كان يعلم أنه سيرتكبها في المستقبل؟ لو كان مثل هذا العقاب جائزًا فلماذا لا يعاقب الله تعالى عباده قبل ارتكابهم الجرائم لمجرد علمه أنهم سيرتكبونها؟ إن القانون الأساسي في الشرع هو أن لا يعاقَب أحدٌ على إثم قبل ارتكابه، وإن جميع الشرائع على اختلافها متفقة على هذا الأصل.

وقد قال البعض إن ذلك الغلام كان يقتل بالفعل خفيةً ولكن لم يظهر على أمره أحد (زاد المسير لابن الجوزي). ولكنه قولٌ سخيفٌ، إذ لو كان الأمر كذلك لذكره القرآن المجيد ليعلَم الناس ويطمئنوا بأن قتل الغلام لم يكن بلا سبب.

والحادث الأخير في هذا السفر هو إقامة الجدار، وهو أيضًا لا يمكن أن يؤخذ على ظاهره، إذ لا يُعقَل أن نبيًّا جليلاً كريمًا كموسى يلوم رفيقه على إقامة جدار اليتيمين لأن أهل القرية أبوا أن يضيّفوهما، وبخاصة أنه لم يكن لليتيمين البريئين دخلٌ في هذا، بل كان الذنب ذنب أهل القرية. ثم إنه بعيدٌ عن مروءة ونبل موسى أن يعترض على رفيقه لعدم اتخاذه أجرًا على إقامة جدار اليتيمين.

إذًا فأحداث هذا السفر تشهد بنفسها على أنه لم يكن سفرًا بالجسد المادي، بل كان كشفًا من الكشوف.

التاسع: إن هذه الواقعة بمجملها تؤكد أنها كانت كشفًا، لأن الأمور الثلاثة – الصادرة من عبد الله هذا الذي اتّبعه موسى – إذا حُملت على ظاهرها فهي ليست من الأهمية بحيث يسافر من أجل تعلُّمِها مؤمن عادي بَلْهَ أن يُرسل الله تعالى موسى ليتعلّمها. هل راح موسى ليتعلم كيف تُخرَق السفن، ويُقتَل الناس، وتقام الجدران المتهدّمة، وهل يؤخذ الأجر على إقامة الجدار أم لا؟ كلا، لن يسافر لتعلُّم مثل هذه الأمور حتى بدوي جاهل. إذًا فليس في هذه الأمور ما يجيز العقل اعتباره أمرًا ماديًّا هامًّا حتى يسافر من أجله نبيٌّ جليل الشأن كموسى الذي كان من أولي العزم من الرسل عليهم السلام.

العاشر: روى الماوردي أن الذي ذهب موسى للقائه كان مَلَكَا (ابن كثير). وهذا يعني أنه لا بد من اعتبار هذه الواقعة كشفًا، إذ لا يُعقل أن يتكبد موسى عناء السفر المادي لزيارة ملاك قادر على أن يأتي إلى موسى في لمح البصر.

الحادي عشر: ورد في الحديث أن النبي قال: «وَدِدْنا أن موسى كان صبَر حتى يقصّ الله علينا مِن خبرهما» (البخاري: كتاب التفسير، باب قوله تعالى وإذ قال موسى لفتاه). فإذا حُملت هذه الأمور على ظاهرها فلا أجد أنا في نفسي أدنى رغبة في معرفة هذه التوافه، كما لا أتصور أن أيّ عاقل سيتمنى ذلك؛ فكيف برسول الله الذي شأنه أسمى من إدراك البشر؟ فثبت أن هذه الأمور كانت أنباءً تتعلق بزمن نبينا وتجلّتْ على موسى على صورة كشف. وبما أنها تشتمل على الغيب وتنبئ عن أحوال الأمة المحمدية لذلك تمنى رسول الله أن يظل موسى صامتًا حتى تنكشف أمور أخرى أيضًا. فثبت من كل هذه الأدلة أن هذا الحادث كان كشفًا من الكشوف.

مما لا شك فيه أن هذا الحادث غير مذكور في العهد القديم، بيد أن كتب الروايات اليهودية تشير إليه. كما يتضح من المصادر الإسلامية أن مثل هذه الروايات كانت شائعةً بين اليهود في أوائل الإسلام، وإلا من أين أخذها المسلمون؟

غير أن الروايات اليهودية لا يمكن أن تؤثر على بحثنا، ولسنا مكلفين بقبولها ما لم يصدّقها القرآن والعقل والمشاهدة، بل إن قبولها من دون هذه الشروط لا يخلو من المزالق.  (يُتبع)

Share via
تابعونا على الفايس بوك