حالتا القبض والبسط والإنفاق في سبيل الله

 

مَّنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ۚ وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (سورة البقرة) (246)

شرح الكلمات:

يُقرض – أقرضه: قطع له قطعة: أعطاه قرضاً (الأقرب). القرض: القطع؛ وهو ما أسلفه الإنسان من إحسان أو إساءة. وليس من الضروري أن يكون مالاً. يقول الشاعر أمية:

كلُّ امرئيٍ سوف يُجزى قرضَه حسناً

أو سيئاً ومديناً مثلما دانا

والقرض كل أمرٍ يَتجازى به من الناس. وقَرَضته: جازيته. تقول العرب: لك عندي قرضٌ حسنٌ وقرضٌ سيء. وأصل القرض ما يُعطيه الرجل و يفعله ليُجازى عليه. والله لا يستقرض من عوز ولكنه يبلو عباده.

قال لبيد:

وإذا جُوزِيتَ قرضاً فاجْزِهِ

إنما يَجزي الفتى ليس الجَمَلْ

كذلك قالوا: القرض في قوله مَّنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا اسم وليس بمصدر، ولو كان مصدراً لكان إقراضاً، ولكن القرض هنا كل ما يُلتمس عليه الجزاء. وقال الأخفش: يُقرض الله: يفعل فعلاً حسناً في اتباع أمر الله وطاعته. والعرب تقول لكل من فعل خيراً: لقد أحسنت قرضي. يقولون: ولقد أقرضتني قرضاً حسناً أي أدَّيتَ إليَّ خيراً (اللسان).

فتعني الآية مايلي: أولاً: من ذا الذي يُطيع الله في أوامره طاعةً يرجو عليها الجزاء. ثانياً: من ذا الذي يُعطي جزءاً من ماله في سبيل الله تعالى. فكأنَّ المعنى المشترك هو من ذا الذي يُطيع وينفق في سبيله.

أضعافاً – الضعف: أن يُعطي بنفس المقدار أو مرتين. وقالوا إنَّ هذه الزيادة على أقل تقدير. أما الحد الأقصى من الزيادة فل يُحدّ (الأقرب).

التفسير

تعني الآية: من ذا الذي يُقرض الله أحسن ماله ليُنمِّيه الله لصالح المقرض ويزيده له باستمرار. لقد حثَّ الله هنا المؤمنين بأسلوبٍ لطيف على الإنفاق في سبيله، وقال: إننا لا نُطالبكم بإنفاق جميع ما تملكون من مال، وإَّنما بإنفاق جزءٍ منه. ثم نطالبكم بإنفاقه لنزيده، فإذا أنفقتم ديناراً نردّه لكم عشرة. فما أسهله من سبيل للحصول على رضوان الله وحبّه وقُربه!

ويجب عند الإنفاق في سبيل الله مُراعاة ثلاث أمور:

  1. أن يُنفق دون أي انقباض في قلبه، بل ببشاشةٍ وطيب نفس.
  2. إذا أنفق على أحدٍ فلا يُمنُّ ولا يُثقل عليه عبئاً لا يليق، بل يقول في نفسه أنَّ الله وفّقني بفضله ورحمته لفعل هذا الخير.
  3. أن يُنفق أفضل ماله.

هذه الأمور الثلاثة تنبسط من الآيات التالية: قال تعالى عن المنافقين: لَا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (التوبة: 54)، وقال: الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى (البقرة: 263)، وقال: لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ (آل عمران: 93).

فقوله تعالى: مَّنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يعني: هل منكم أحدٌ يُنفق أحسن جزءٍ من ماله في سبيلي، وبدون أن يُمنَّ على أحدٍ بعد الإنفاق ويجرح مشاعره بأي طريق؟ إنَّ الذين يفعلون ذلك سوف يُجازيهم الله عليه أحسن الجزاء، والعمل الواحد منهم يجلب عليهم آلافاً من البركات.

وقوله مَّنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا أسلوبُ استفهامٍ أُريدَ به التحريض والترغيب، والمراد: هل هناك أحدٌ يُنفق في سبيل الله ليزيد الله مالهُ ويردّهُ إليه.

وتعني الآية أيضاً: أقرِضوا عبادي قرضاً حسناً. أي أحسِنوا إليهم وأعينوا الفقراء منهم، لأنَّ أحداً لا يُعطي الله أبداً إنّما يُعطي عباده. وإعطاء العباد يُسمّى إعطاء لله كما ورد في الحديث: قال النبي :

«يقول اللَّهَ عزَّ وجلَّ يقولُ يَومَ القِيامَةِ: يا ابْنَ آدَمَ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي. قالَ: يا رَبِّ، كيفَ أعُودُكَ وأَنْتَ رَبُّ العالَمِينَ؟ قالَ: أما عَلِمْتَ أنَّ عَبْدِي فُلانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ؟ أما عَلِمْتَ أنَّكَ لو عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ؟ يا ابْنَ آدَمَ، اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي. قالَ: يا رَبِّ، وكيفَ أُطْعِمُكَ وأَنْتَ رَبُّ العالَمِينَ؟ قالَ: اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلانٌ فَلَمْ تُطْعِمْهُ. أما عَلِمْتَ أنَّكَ لو أطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذلكَ عِندِي؟ يا ابْنَ آدَمَ، اسْتَسْقَيْتُكَ فَلَمْ تَسْقِنِي. قالَ: يا رَبِّ كيفَ أسْقِيكَ وأَنْتَ رَبُّ العالَمِينَ؟ قالَ: اسْتَسْقاكَ عَبْدِي فُلانٌ فَلَمْ تَسْقِهِ. أما عَلِمتَ أنَّكَ لو سَقَيْتَهُ لوجَدْتَ ذلكَ عِندِي؟» (مسلم، البِّر).

اعترض المسيحيون على هذا الحديث النبويّ مع أنَّ إنجيلهم ذكر نفس كلمات الحديث، فقد ورد فيه: « ثُمَّ يَقُولُ الْمَلِكُ لِلَّذِينَ عَنْ يَمِينِهِ: تَعَالَوْا يَا مُبَارَكِي أَبِي، رِثُوا الْمَلَكُوتَ الْمُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ. لأَنِّي جُعْتُ فَأَطْعَمْتُمُونِي، عَطِشْتُ فَسَقَيْتُمُونِي، كُنْتُ غَرِيبًا فَآوَيْتُمُونِي، عُرْيَانًا فَكَسَوْتُمُونِي، مَرِيضًا فَزُرْتُمُونِي، مَحْبُوسًا فَأَتَيْتُمْ إِلَيَّ. فَيُجِيبُهُ الأَبْرَارُ حِينَئِذٍ قَائِلِينَ: يَا رَبُّ، مَتَى رَأَيْنَاكَ جَائِعًا فَأَطْعَمْنَاكَ، أَوْ عَطْشَانًا فَسَقَيْنَاكَ. وَمَتَى رَأَيْنَاكَ غَرِيبًا فَآوَيْنَاكَ، أَوْ عُرْيَانًا فَكَسَوْنَاكَ، وَمَتَى رَأَيْنَاكَ مَرِيضًا أَوْ مَحْبُوسًا فَأَتَيْنَا إِلَيْكَ؟ فَيُجِيبُ الْمَلِكُ وَيَقوُل لَهُمْ: الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ، بِمَا أَنَّكُمْ فَعَلْتُمُوهُ بِأَحَدِ إِخْوَتِي هؤُلاَءِ الأَصَاغِرِ فَبِي فَعَلْتُمْ» (متّى 25: 35 – 40).

تُبيّن هذه الفقرة الإنجيلية أنَّ إعطاء العباد يُعتبر إعطاء لله تعالى، وكأنَّ العبارة هنا هي: (من ذا الذي يُقرض عباد الله قرضاً حسناً؟). ولما كان الحديث عن القتال في سبيل الله في قوله وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ .. لذلك يعني قوله مَّنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا أنّه في أيام الحرب سوف تلحق أضرارٌ مادية ببعض الناس فعليكم بإسداء المعروف كقرضٍ حسنٍ إليهم لإصلاح أحوالهم. وهذا القرض سيُعتبر قرضاً لله تعالى. وتذكَّروا أنَّ الله تعالى زيد المال، ولو كان مقدار حبة، ويُضاعفه أضعافاً كثيرة بحيث لا تتصَّورونه. انظروا إلى ابراهيم كيف أنّه ضحّى بابنٍ واحدٍ في سبيل الله فوعده الله بذُرّيةٍ لا تُعَدُّ كتراب الأرض لكثرتها (تكوين 13). كذلك رضي اسماعيل بالبقاء في وادٍ غير ذي زرعٍ لوجه الله تعالى، فنال جزاء على ذلك أن وُلِد من ذرّيته سيد الأولين والآخرين سيدنا محمد المصطفى . فالله تعالى يُوصي ألا تظنُّوا بأن تضحياتكم في سبيل الله تضيع. كلا، وإنّما يُجازيكم الله عليها جزاء يفوق تصوُّركم تقديركم.

لقد اعترض البعض على قوله فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ، وقالوا: الأصح أن يُقال ضِعافاً بدلاً من أضعافاً. وقد ردَّ بعضهم على ذلك وقال بأنَّ أَضْعَافًا تُشير إلى تعدّد أنواع هذا الجزاء. لو استُخدمت كلمة “ضِعاف” لأفادت الكثرة فقط، ولكن “أضعاف” تعني الزيادة وتعدّد أنواعها (التفسير المظهري).

ثم قال وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ .. أي كما حلّت المصيبة بإخوانكم فيمكن أيضاً أن تحُلَّ بكم، فأيام العُسر واليُسر تتغيّر وتتبدّل، فمن واجبكم الأول أن تُقدِّموا يد المعونة إليهم.

وفي قوله وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ شرح للجملة السابقة، حيث بيّن ماذا يعني أخذ الله القرض من عباده. فذكر أنَّ من سُنّة الله أنّه يأخذ من عباده أموالهم، ثم يزيدها ويحقّق لهم الازدهار. وما لم يُضحِّ العبد في سبيل الله تعالى لا يُنزل عليه الفضل الخاص من الله والمشار إليه في قوله وَيَبْسُطُ باليُسر. وما دام العسر واليُسر بيد الله فكل من يُطيع أوامره قدَّر له البسط، والذي يعصي قدَّر عليه القبض، أي يُعذّبه.

كذلك يعني قوله وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ أنَّ الإنسان يطرأ عليه حالان: حال القبض وحال البسط. جاء صحابي إلى النبي وقال: يا رسول الله، أصبحتُ مُنافقاً. فقال النبي: أنت مؤمن، فلماذا تقول ذلك؟ قال: يا رسول الله، عندما أكون في مجلسك يُخيَّل إليَّ أنني أرى النار والجنة أمامي، تستولي عليَّ خشية الله. ولكن عندما أرجع إلى البيت لا أبقى في هذه الحال. فقال النبي: هذا هو الإيمان. لو بقي الإنسان على حالٍ واحد لمات. (ورد في ابن ماجه أبواب الزهد حديث قريب المعنى سبق الإشارة إليه)

فهناك حالتان روحيّتان: القبض والبسط؟ ولو بقي الإنسان في حالةٍ واحدة منها باستمرار فإنه يموت عقليا ويُجنّ. هذا هو الفارق بين المجانين والعقلاء. المجنون تستولي عليه حالةٌ واحدة باستمرار، أما العاقل فيأتي عليه حالٌ من القبض والبسط. إنَّ المجنون يظل في أفكار واحدة، ولكن أفكار العاقل تتغيّر ولا تبقى في حيّزٍ واحد. لقد جعل الله للإنسان حالين لازمين هما القبض والبسط. أحياناً تتولّد فيه موجةٌ من البسط فيستعدُّ لتضحية بكل ما يملك في سيل الله والدين، وأحياناً يجلس ويُجري الحسابات ليرى كم يُنفق وكم يُبقي. وهذه هي حالة القبض. أما إذا استعدَّ للإنفاق من كل ما يملك وكان بذلك في فرحةٍ غامرة فهذه حالة البسط. يوصي الله بالإنفاق في الحالتين: القبض والبسط؛ لأنَّ العُسر مؤقت واليسر أيضاً مؤقت.

كان من الممكن أن يُقال: إذا كان مالي عند الله يزداد، فما الفائدة بالنسبة لي. فأضاف وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ .. أي إنما بيتكم الحقيقي هو عندنا، وكل ما تُقدِّمونه إلينا نزيده، وعندما تأتون إلى الله تجدون هذا المال قد ازداد عنده زيادةً كبيرة، وسوف تحصلون عليه. ويشبه هذا رجلاً يعمل في الخارج، ويُرسل مُرتّبه إلى زوجته، فتحفظه وتجمعه له. ولكن الله تعالى لا يجمع المال فقط، وإنّما يُنمِّيه ويزيده. فبقوله وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ بيّن أنّكم سوف ترجعون إلى الله في يومٍ من الأيام حيث تنتظركم حياةٌ أبدية، فلا تضرّوا هذه الحياة الأبدية لمنافع مؤقتة، وساهموا في الخير ما استطعتم.

انظروا إلى بلاغة القرآن الكريم كيف راعى الترتيب في ذكر الأنفس والأموال بطريقةٍ رائعة. ففي وقت الحرب تكون الحاجة الأولى إلى النفس، فالمطلوب من الجنود ان يُضحّوا بأنفسهم من أجل الدين والقوم، ولذلك كر هذا الأمر أولاً فطالب المؤمنين بنفوسهم في الآية السالفة: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وتُراعي الحكومة أن تكون خزائنها مليئة، لنَّ القوم عندما يخرجون إلى ساحة القتال تُلقى أعباءٌ ثقيلة غير عادية على خزانة الدولة بسبب النفقات الحربية، ولا بدّ من سدّ هذا الفراغ، وإلا لا يستطيع المحاربون الاستمرار في القتال لمدةٍ طويلة ولذلك ذكر الله التضحيات المالية في المكان الثاني. وهكذا أعطى الله تضحيات النفوس والأموال أهمية أساسية فيما يتعلّق بالرقي القومي والديني، كما راعى الترتيب الطبيعي في هذا لبيان أنَّ تضحيات النفوس لها المقام الأعلى ثم تضحيات المال.

Share via
تابعونا على الفايس بوك