رسالة قرآنية خالدة لأهل الكتاب
  • هل نرى في التاريخ نماذج توكد نقض أهل الكتاب للعهود مع المسلمين؟
  • بماذا نفسر عدم تعاون أهل الكتاب السابقين مع المسلمين في نشر التوحيد؟

___

فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (الكهف 75)

 شرح الكلمات:

نُكْرًا: النُّكْرُ؛ المنكَرُ؛ الأمرُ الشديد؛ القبيحُ (الأقرب).

زكيّة: فعيل مِن زكا الشيءُ يزكو: نما. وزكا الرجلُ: صلُح وتنعَّمَ وكان في خِصْب. وفسر البيضاوي قوله تعالى «غلامًا زكيًّا» أي طاهرًا من الذنوب ناميًا على الخير (الأقرب).

التفسير:

كان أستاذي الكريم المولوي نور الدين يلفِت النظر في هذا المقام إلى لفظ «انطلَقا» ويقول: كان جبريل يقول لرسول الله في إسرائه مرة بعد أخرى: «انطلِقْ انطلِقْ» (الخصائص الكبرى مجلد 1 ص 154-155)، كذلك نجد أن كلمة «انطلَقا» قد تكررت هنا كثيرًا، مما يدل على أن إسراء موسى كان روحانيًّا.

أما قولـه تعالى حتى إذا لقيَا غلامًا فقتَله قال أَقَتَلتَ نفسًا زكيةً بغير نفس لقد جئتَ شيئًا نُكْرًا فكان أستاذي المكرم يقول إن منظر قتل الغلام هذا يمثل إشارةً وردًّا على الاعتراضات التي كان من المقدر أن تثيرها أمةُ موسى ضد رسول الله حين أمَر بقتل كعب بن الأشرف.

وعندي أن قتل الغلام هنا يناظر المنظرَ الثاني الذي رآه رسول الله في إسرائه شكلاً ومضمونًا. لقد رأى رسول الله في إسرائه أن رجلاً يناديه من ورائه ولكنه لم يجبه؛ ثم عُرض عليه كأس الخمر، ولكنه أبى أن يشربها. وقد عبر جبريل الرجلَ بالشيطان، وعبّر كأسَ الخمر بالغواية التي هي من عمل الشيطان. وكان المنظر الثاني في إسراء موسى أنه رأى غلامًا قتَله العبدُ الصالح أي الجمالُ المحمدي. وإذا رجعنا إلى كتب تعبير الرؤيا وجدناها تقول إن رؤية الشاب في المنام تدل – فيما تدل – على الحركة والقوة وغلبة الجهل (تعطير الأنام). والحق أن هذه الأمور الثلاثة – أي القوة والرغبة في اللهو والجهل الشديد بالعلم الروحاني – إذا اجتمعت في شخص اتبع خطوات الشيطان.

وكان في منظر قتلِ الغلام واعتراضِ موسى على قتله إشارةٌ إلى التعليم الإسلامي الثاني الذي يحرّم الخمر وينهى عن اللغو واللهو، والذي يعترض عليه أتباع السلسلة الموسوية، وخاصة النصارى منهم – وقد ذكرتُ سابقًا أن فتى موسى هو المسيح، وأن أمة موسى الموجودة عند مجمع البحرين هي أتباع المسيح، وإن كان اليهود يندرجون فيها ولكن بدرجة أقلَّ – لقد أخبر الله تعالى بذلك أن هؤلاء سيعترضون على الإسلام بأنه يقتل الشباب أي يحرم الإنسان من التمتع بملذات الحياة، ويرون أن هذا ظلم عظيم، معتبرين أن الله تعالى قد منحه هذه القوى لكي يتلذذ بها، لا أن يهدرها ويهلكها.

وبالفعل تجدون المسيحيين يكرهون الإسلام عمومًا لأنه منعهم عن الإتيان بمثل هذه الأعمال الشيطانية ويظنون أن الإسلام قد قتل الشباب جراء هذا التعليم.

قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (76)

التفسير:

هذه الآية أيضًا تدل على أن هذه الواقعة كانت كشفًا لأن قتل أحدٍ في حالة اليقظة من دون سببٍ حرامٌ قطعاً.

قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (الكهف 77)

التفسير:

أي لا تؤاخذني هذه المرة أيضًا، ولا تقطع صلتك معي، ولا تصاحبني إن سألتك عن شيء بعدها.

وكان فيه أيضًا رسالة إلى أن اليهود والنصارى سينقضون المعاهدات التي ستتم بينهم وبين المسلمين مرة بعد أخرى، وتغلب عليهم عداوة الإسلام التي تمكنت من قلوبهم.

فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (الكهف 78)

التفسير:

اعلم أن أهل القرية يعني القوم، لأن الأقوام تُرى في المنام على صورة القرى. وأما الضيافة فتأويلها التعاون حيث ورد أن الضيافة في المنام اجتماع على خير (تعطير الأنام: كلمة الضيافة). فتأويل قوله تعالى استطعَما أهلَها هو أنهما التمسا من أولئك القوم أن يعاونوهما، ولكنهم رفضوا طلبهما.

أما قولـه تعالى فوجدَا فيها جِدارًا يريد أن ينقضَّ   فقد ورد عن الجدار: «من رأَى حيطانَ بناءٍ قائمةً محتاجةً إلى مَرَمّةٍ فإنه رجل عالم أو إمام ذهبتْ دولتُه. فإن رأى أقوامًا يرمّمونها فالمراد أن أموره سيتم إصلاحها» (تعطير الأنام: كلمة الحائط، الهامش). وإذا رأى أنه لم يُرمَّمْ فمعناه دمارُ عمله. وورد في كتاب التعبير للإمام ابن سيرين أن إصلاح الفساد في حصة من الجدار تأويلُه تعيينُ والٍ جديد مكانَ الوالي الأول.

فيعني هذا المنظر كله – نظرًا لهذه التأويلات – أن موسى وعبدًا من عباد الله الذي صاحَبَه في السفر سيلتمسان التعاون من قوم، ولكنهم سيأبون التعاون معهما. ثم سيشاهدان أنَّ عمل رجل صالح كاد أن يفسد، فيسكت موسى ولكن صاحبه – عليهما السلام – سيُصلح ما فسد من عمل ذلك الرجل الصالح. فيقول موسى لذلك العبد: كان الأولى بك أن تتخذ عليه أجرًا، فيغضب صاحبُه من قوله هذا ويفارقه. أو المراد أنه سيُستخدَم على هؤلاء القوم والٍ آخرُ.

كان أستاذي المكرم حضرة المولوي نور الدين يقول في تفسير هذه الآية: لعل الغلامين اليتيمين هنا قبيلتا الأوس والخزرج المحرومتان من التقدم والازدهار منذ زمن بعيد، فذهب الله تعالى برسوله إلى المدينة، وفتح لهاتين القبيلتين سبل التقدم؛ أو المراد منهما أولاد إسماعيل وإسحاق عليهما السلام، حيث كان أمرهما مهددًا بالفساد، فقام موسى بحماية حق الواحد منهما، بينما حفِظ رسول الله حق الآخر.

وعندي أن الجزء الأول من هذا المنظر يدل على أن المراد من القرية هنا عالَمُ اليهودية والنصرانية، حيث رفض التعاونَ حين دُعي إليه. أما الجدار فالمراد منه قِدِّيسو اليهود والنصارى، والمراد من قرب انقضاض هذا الجدار زوالُ أثر هؤلاء القديسين. والمراد من إصلاح الجدار تمكين تعليمهم مرة أخرى وتعييُن والٍ أو حاكمٍ جديد بينهم.

وأما قول موسى لو شئتَ لاتخذتَ عليه أجرًا ، ففيه إشارة إلى أن قومه سيزداد طمعُه التجاري، فلا يأتون بعمل إلا من منظور المنفعة المادية، وسيصعب عليهم جدًّا القيام بعمل خالصًا لوجه الله. وهذا ما نشاهده اليوم بأم أعيننا حيث إن المسيحيين – الذين هم آخر حلقة للسلسلة الموسوية – لا يخلو تعليمهم من الأغراض المادية، ولا تكون مواساتهم إلا للمكاسب الدنيوية، حتى إن تبشيرهم أيضًا لا يخلو من الأهداف السياسية والمكاسب المادية. ويكاد ينعدم فيهم العمل الخالص لوجه الله تعالى، الذي لا تشوبه فكرة الكسب المادي.

وأما رفض أهل الكتاب التعاونَ فمثاله في حياة موسى أنه خرج بقومه من مصر واعدًا إياهم بأن الله تعالى سيؤتيهم ملك كنعان، وبعد أن حاربوا وهزموا عديدًا من الأقوام الصغيرة، أمرهم بالهجوم على أهل كنعان، ولكنهم لم يستجيبوا لـه. يسجل القرآن الكريم هذا الأمر ويخبر أنهم: قالوا يا موسى إنا لن ندخُلَها أبدًا ما داموا فيها فاذهَبْ أنت وربُّك فقاتِلا إنا ههنا قاعدون (المائدة: 25)..

أي حين قال موسى لقومه: إنه قد آن الأوان أن تهاجموا عدوكم، فتنـزعوا منهم الأرض الموعودة لكم، رَدّ عليه قومه وقالوا: هذا الوعد منك أو من ربك؟ لماذا نـزهق نحن أرواحنا عبثًا في سبيل تحقيقه؟ فاذهب أنت وربك فقاتِلا‍‍‍‍، أما نحن فلن نحرك ساكنًا، ولن ندخل الأرض إلا بعد أن تقوما بفتحها!

يتضح من هذا جليًّا أنه في الوقت الذي كاد أن يوفيهم الله وعده أبى قوم موسى التعاون معه بعذر باطل ناسين أن من سنته تعالى أنه يوفي بعض وعوده بواسطة عباده، ومن واجب العباد أن يتعاونوا مع أنبيائهم لتحقيق مثل هذه الوعود الإلهية.

أما عدم تعاونهم مع رسول الله فمثاله ما ذكره القرآن الكريم في قوله تعالى: قُلْ يا أهلَ الكتاب تعالَوا إلى كلمةٍ سواءٍ بيننا وبينكم ألّا نعبدَ إلا اللهَ ولا نشركَ به شيئًا ولا يتخذَ بعضُنا بعضًا أربابًا من دون الله فإن تَولَّوا فقُولوا اشهَدوا بأنا مسلمون (آل عمران: 65)..

أي يا محمد قُلْ لأهل الكتاب، سواء كانوا هودًا أو نصارى، أن يتركوا العناد ويتعاونوا مع المسلمين في أمر واحد ألا وهو نشر التوحيد، فلا يعبدوا إلا الله، ولا يشركوا به من حيث العقيدة شيئًا، ولا ينحازوا إلى أحد ظلمًا، بل يعملوا في العالم بالعدل والإنصاف كما يريد الله تعالى. وكأنه أُمر هنا أن يلتمس منهم التعاون من أجل توطيد التصالح مع العباد وكذلك مع الله تعالى. ثم ينصح الله تعالى المسلمين: قولوا لليهود والنصارى، إن رفضوا هذا الالتماس العادل، ولم يرضوا بالتعاون في هذا العمل المشترَك، إذا كنتم لا تلبّون دعوة التعاون فهذا شأنكم، أما نحن فنتعاون معه امتثالاً لأمر الله تعالى.

والحق أننا إذا أمعنا النظر وجدنا أن قوم المسيح لم يتعاونوا أيضًا معه حيث فرّوا جميعًا وخذلوه لدى واقعة الصلب.

 

Share via
تابعونا على الفايس بوك