عينة من دأب اهل الباطل
  • إن دأب الكافرين عبر الزمن التكبر والإساءة للمسلمين
  • على المؤمن أن يسعى دائماً ولا يتوانى في الدعاء حتى يتحقق وعد الله
  • أما الكافرين فسيحيط بهم العذاب، يحاصرهم، ويلاحقهم
  • السلام يأتي من الله أما الهلاك ينبع منهم ومكان إقامتهم
  • إنهم ينكرون نعم الله وصفاته
__
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (الآية: 14)

شرح الكلمات:

لَتعودُنَّ: عاد إلى كذا وله: صارَ إليه ورجعَ؛ وقيلَ: ارتدّ إليه بعدما كان أعرض عنه. والعربُ تقول: عاد عليّ من فلانٍ مكروهٌ أي صارَ منه إليّ (الأقرب)

مِلَّتِنا: المِلّةُ: الشَريعةُ أو الدينُ، وقيلَ: المِلَّةُ والطريقةُ سواءٌ، وهي اسمٌ مِن أمليتُ الكتابَ، ثم نُقلتْ إلى أصول الشرائع باعتبار أنها يُمليها النبيّ، وقد تُطلَقُ على الباطل كـ “الكُفرُ ملّةٌ واحدة”، ولا تُضافُ إلى الله ولا إلى آحاد الأمّة (الأقرب)

التفسـير:

إن الكفار يجادلون أنبياء الله وجماعاتهم سخطاً على ادعائهم بالانتصار، ولكنهم يتمنَّوْنَ في قرارة أنفسهم: يا ليت هؤلاء يبدون بعض المرونة واللِّين في موقفهم حتى لا تُمس كرامتنا فننضم إلى صفوفهم. وقد حدث ذلك في زمن النبي أيضاً، إذ جاء الكفار إلى عمه أبي طالب وقالوا له: لو أن محمداً أبدى بعضَ الرفق واللِّين نحو آلهتنا فلا يذكرها بسوء، لتركنا معارضته وتصالحنا معه. ولكن النبي ردّ على عرضهم بكل صراحة وقال: “والله، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يُظهره الله أو أهلك فيه، ما تركتُه” (السيرة لابن هشام).

وبعد سماع ردّه هذا شنّ الكفار على ذاته الشريفة وعلى أصحابه الكرام الحملةَ الشرسة التي أدت إلى الهجرة.

والحق أن كل نبي يواجه مثل هذه الأحداث. ولقد تمت الإشارة إلى مثل هذه الأماني والتهديدات من الكفار في الآية السابقة أيضاً، ولذلك ردّ عليهم الأنبياء مرة بعد أخرى بقولهم: لا ضيرَ، فاصنعوا ما شئتم، فإنّا متوكلون على ربنا، ومستعدون للصمود أمام اضطهادكم وتعذيبكم. فأدرك الكفار بذلك أن هؤلاء الرسل لايتهاونون أبداً في تبليغ رسالاتهم، ولا يبدون مرونة في موقفهم، فهدّدوهم بما هدّد به المكيّون نبيَّنا الكريم حين خيَّروه: إمَّا أن ينضم إلى دينهم الوثني أو يُطرَد من أرضهم. ولم يكن الطرد عندهم مجرد نفي وإبعاد وإنما هو تهديد بالقتل أيضاً. والواقع أن قولهم هذا يعني إعلانهم عن قطع أي علاقة مع الأنبياء، وكأنهم يقولون لهم: ما دمتم لا ترضَون بتصالح مُرضٍ معقول فمن المحال أن نعيش معاً. والبلد بلدنا، ونحن الأكثرية، فإذا كنتم لا ترضَون بقرارنا هذا، فلا حقّ لكم في العيش في أرضنا.

هذا هو دأب أهل الباطل في كل زمن. فإنهم يتباهون بما عندهم من قوة ومنعة، معلنين:  يجب على الفريق الآخر إما أن يقتنع بما نرضى به من عقائد أو يخرجوا من بلدنا. وهكذا تماماً يفعل معنا نحن المسلمين الأحمديين قطاعٌ من المسلمين…

هذا هو دأب أهل الباطل في كل زمن. فإنهم يتباهون بما عندهم من قوة ومنعة، معلنين:  يجب على الفريق الآخر إما أن يقتنع بما نرضى به من عقائد أو يخرجوا من بلدنا. وهكذا تماماً يفعل معنا نحن المسلمين الأحمديين قطاعٌ من المسلمين، بحيث  يؤذوننا ويعذبوننا ويهددوننا صراحةً قائلين: إما أن تتوبوا عن الأحمدية أو تخرجوا من بلدنا.

ومن سخرية القدر أن بعض الكتّاب الهندوس يوجهون هذا التهديد نفسَه إلى مسلمي الهند. فيتّحد هؤلاء الجهلة ليوسعوا شُقة الخلافات بين مختلف الطوائف بدون مبرر، إذ يُقحمون الدين في السياسة عبثاً.

واعلم أنه تعالى لم يقل هنا (لَنُهلِكنّهم) بل قال: لنُهلِكنّ الظَّالمين ،  وفي هذا إشارة إلى أنه كان المقدر لبعضهم أن يؤمنوا فينجوا من الهلاك، لذلك قال إننا سوف نهلك منهم فقط من يبقى مصرّاً على ظلمه.

كما أشار الله بقوله لنُهلكنّ الظالمين إلى أن الكفار بادعائهم بأن البلد بلدهم وسوف يُخرجون منها من لا يرضى بقرارهم.. قد صاروا بأنفسهم ظالمين في الواقع، لأن  الأرض لله وليست ملكاً لهم، فلا بدّ أن نهلك هؤلاء الظالمين وفق قرارهم هم.

أما قوله تعالى أو لتَعودُنّ في مِلَّتِنا فيمكن تفسيره كالآتي:

أولاً: إن كل نبي يكون منذ الصغر محمياً معصوماً بعناية الله عن الشرك ولا يكون من مِلة المشركين، فالمراد من قولهم هو: ليس أمامك أي خيار سوى أن تنضم إلى مِلتنا وتصير مشركاً مثلنا. ذلك إذا اعتبرنا العودة بمعنى الصيرورة.

ثانياً: لما كان قول الكفار هذا موجهاً إلى أتباع النبي أيضاً، وكانوا قبل إيمانهم به من ضمن المشركين فلذا قال لهم الكفار: لا مناص لكم من الرجوع إلى مِلتنا ومِلتكم السابقة. ذلك إذا أخذنا العودة بمعنى الرجوع.

على المؤمن ألاّ يتكاسلَ في السعي ولا يتوانى في الدعاء ظنّاً منه أن الله تعالى ما دام قد وعدني بهذا فلا بدّ من أن يتحقق، بل عليه أن يشد أزره أكثر للدعاء والعمل والتدبير لما وُعد به، كيلا يؤدي تقصيره إلى الإساءة لما وعد الله تعالى.

ثالثاً: لا شك أن النبي يكون منذ الصغر بريئاً من العقائد الفاسدة والأعمال الوثنية، ولكنه يُعتبر عُرفاً من الملة المشركة كونه قد وُلد بينهم، ولذلك خاطبوه وأتباعه: لا بدّ لكم من العودة إلى ملتنا التي كنتم فيها من قبل.

وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (الآية: 15)

شرح الكلمـات:

مقامي: المقامُ: الإقامةُ وموضِعُها وزمانها؛ المنزلةُ (الأقرب)

وعيدِ: (أصلُهُ: وعيدي). قالوا في الخيرِ: وعدَه وعداً وعِدَةً، وفي الشرّ: وعدَه وعيداً. والخُلفُ في الوعدِ عند العرب كذبٌ وفي الوعيدِ كرمٌ. والوعيدُ: التهديدُ (الأقرب)

التفسـير:

هنا تساؤل: لماذا استخدم الله تعالى في هذه الآية والتي قبلها صيغ الجمع للمتكلم، مع أن الذي يُهلك الكفار أو يُبقي ويُسكن أهل الحق في الأرض هو ربّ واحد؟ الجواب: هذا أسلوب للتعبير عن عظيم قدرة الله وسلطانه وجبروته، إذ إن الجماعة تكون أكثر قوة وقدرة من فرد واحد. وقد اتبع الله هذا الأسلوب دائماً عندما قصد لفت الأنظار إلى جبروته وكبريائه، أما إذا أراد إظهار غناه فإنه اسخدم لنفسه صيغة المفرد.

لقد قال بعض الصوفية: إنه تعالى يأتي بصيغ الجمع عند الحديث عن الأمور التي ينجزها بواسطة الملائكة، ويستخدم صيغ المفرد عند الحديث عما ينجزه بخالص أمره.

عندما هدّد الكفار أهلَ الإيمان بطردهم من أرضهم وملكهم، ردّ الله على تهديدهم هذا: سوف نهلكهم لنُسكنَ رسلَنا والمؤمنين في أراضيهم وأملاكهم.

ثم قال: ذلك لِمَن خافَ مَقامي وخافَ وعيدِ .. أي أن وعد النجاح والغلبة إنّما يتحقق في حق من يهاب عظمتي ويخاف إنذاري. وكأن إنجاز الوعد الإلهي في حق جماعة الأنبياء مشروط بشرطين: بأن تبقى عظمة الله مستولية على قلوبهم دائماً، وأن لا يبرحوا خائفين حذِرين مما حذّرهم الله منه. وهذا يؤكد خطأ الذين ينتظرون تحقق الوعود الإلهية في صالحهم بمجرد كونهم أفراداً من أمة النبي.

وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيد  (الآية: 16)

شرح الكلمـات:

استفتَحوا: استَفتحَ البابَ: فتَحه. استَفتحَ الشيءَ بكذا: ابتدأه به. استفتحَ فلانٌ: طلبَ الفتحَ واستنصرَ، ومنه: إنْ تستفتِحوا فقد جاءكم الفتح أي إنْ طلبتم الظَّفَر. وكذا: هو يستفتحُ عليَّ بفلان (الأقرب)

خابَ: خابَ يخيبُ خيْبةً: لم يَظفر بما طلبَ؛ كفَر؛ انقطعَ أملُه. خابَ سَعيُه: لم ينجح (الأقرب)

جبّار: الجبّارُ: من صِفات الله تعالى أي الذي يُصلح ما فسد ويسُدُّ حاجات المحتاجين بكثرة. والجبارُ: كلُّ عاتٍ متمرّد؛ الذي يقتلُ على الغضب (الأقرب)

عنيد: عَنَد عن الطريقِ والقصدِ: مالَ وعدَل. والعنيدُ: المخالفُ للحق الذي يردُّه وهو يعرفه (الأقرب)

التفسـير:

اعلم أن ضمير الغائب في كلمة (استفتحوا) يمكن أن يكون عائداً على المؤمنين أو على الكفار أيضا، ذلك بحسب قواعد اللغة العربية وبحسب السياق أيضا. فما دام الكفار قد هدّدوا المؤمنين بالطرد من أرضهم كان لا بدّ من أن يدعوَ الأنبياءُ ربهم أن يحميهم من شرور الكفار ويكتب لهم النصر والغلبة عليهم.

ولو سأل سائل: لقد سبق أن وعد الله المؤمنين بالفتح في قوله: ولنُسكِننَّكم الأرضَ من بعدِهم ، فما الداعي لأن يبتهلوا إليه للغلبة؟ فالجواب: إن الله تعالى عندما يَعِد المؤمنَ بشيء فعليه أن يزداد دعاءً وابتهالاً لتحقُّقه، لأنه إذا حُرم من تلك النعمة رغم الوعد الإلهي فهذا دليل على تقصير فادح منه وعلى شقائه الشديد.

وضرورة الدعاء طلباً لأمرٍ ما رغم وَعْد الله تعالى بإنجازه ظاهرٌ بيّن بدليل قول المؤمنين في القرآن الكريم: ربنا وآتنا ما وَعَدتنا على رسُلِك (آل عمران: 195). فعلى المؤمن ألاّ يتكاسلَ في السعي ولا يتوانى في الدعاء ظنّاً منه أن الله تعالى ما دام قد وعدني بهذا فلا بدّ من أن يتحقق، بل عليه أن يشد أزره أكثر للدعاء والعمل والتدبير لما وُعد به، كيلا يؤدي تقصيره إلى الإساءة لما وعد الله تعالى. والحق أن الأنبياء ما زالوا يبتهلون إلى الله تعالى ويتخذون شتّى التدابير لإنجاز ما وُعدوا به، وليس في هذا أي دليل على ضعف الإيمان فيهم وإنما هو دليل على قوتهم الإيمانية واستسلامهم لله كلّية. لقد وُعد النبي الكريم بفتح مكة  قبل أن يهاجر منها، في قوله تعالى: إنّ الذي فرضَ عليك القرآنَ لرادُّك إلى مَعَادٍ (القصص: 86)، إلاّ أنه لم يزل متوسلاً إلى ربه أن يكون فتحها وتطهيرها على يده، متخذاً شتّى الوسائل والتدابير حتى إنه خاضَ من أجل ذلك  حوالي عشرين معركةً. فلو كانت مسألة اتخاذ التدابير لأمرٍ قد وعَدَ الله به مسألةً غير جائزة لجلس النبي عاطلاً دون أن يحرّك ساكناً في سبيل فتح مكة، ولكنه فعل النقيض، ممَّا يؤكّد أن هذا ظنُّ الجهلة الذين ليس لهم نصيب في فهم حقائق الدين.

أما إذا أرجعنا ضمير الغائب في واستفتحوا إلى الكفار، فالمراد من الآية أن الكفار لا يزالون يتمنون الغلبة والانتصار ويتخذون لذلك شتّى الوسائل والحيل، ولكن هؤلاء الحمقى لا يعتبرون بأمثلة الماضي، حيث خاب أعداء الرسل في كل مرة، بل يحلمون بالغلبة على من اصطفاه الله واختاره.

مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ   (الآية 17)

شرح الكلمـات:

مِن ورائه: الوراءُ أكثرُ ما يكون ذلك في المواقيت من الأيام والليالي، لأن الوقت يأتي بعد مضيّ الإنسان فيكون وراءه، وإن أدركه الإنسانُ كان قُدّامه. فهو وراء الإنسان على تقدير لُحوقه بالإنسان، وهو بين يدي الإنسان على تقدير لُحوق الإنسان به، فلذلك جاز الوجهان. وتكون بمعنى سِوى نحو: ومَن ابتغى وراءَ ذلك أي سوى ذلك (الأقرب)

صديد: الصديدُ: ماءُ الجرحِ الرقيقُ المختلطُ بالدم قبل أن تغلظ المِدّة. وقيل: هو القيحُ المختلط بالدم. وقيلَ: الحميمُ أُغلِي حتى خَثَر (الأقرب)

التفسـير:

المراد من قوله تعالى مِن ورائه جهنّم أن هذا الشخص مضطر لمواجهتها لأنها تحاصره وتلاحقه.

أما قوله تعالى ويُسقى مِن ماء صَديد فقد يُراد بالصديد هنا الماء المغلي فعلاً. وكما أن الناس يتداوون في الدنيا بالماء المغلي فقد يكون في جهنم أيضاً ما يشابه الماء المغلي يُعالَجون به من أسقامهم الروحانية.

وقد يكون هذا مجازاً، والمراد أنهم رغم تيسُّر الوسائل لن يقدروا على استغلالها، مثل الماء المغلي الذي لا يستطيع الظمآن شربه لإطفاء ظمئه، مع أنه ماء دون شك .

أما إذا كان صديد بمعنى القيح فالمراد أن معاصيهم كانت نتيجة شهواتهم الدّنِية الفاسدة التي هي بمثابة القيح المتكون في جروحهم الباطنية، لأنها نِتاجٌ لفساد القلب، ونفس هذه الأهواء الفاسدة سوف تتمثل لهم في الآخرة قيحاً يتجرعونه ولا يكادون يُسيغونه.

والقيح يشير أيضاً إلى علاجهم، إذ نجد أن أفضل طرق العلاج في هذه الأيام هي: “فيكسين” و “سبيرم” و “بيكتروفيج”، حيث يصنعون الدواء من جراثيم المرض نفسه، فقد تكون الآية إشارة إلى العلاج بالمثل، والمراد أن العُصاة سوف يعالجون من أمراضهم الروحانية بعلاج متكون من مادة أُخذت من شرورهم وآثامهم.

أو المراد أن نجاساتهم وأدرانهم نفسها سوف توضع أمامهم فيكرهونها وينفرون من التطلع إليها فيما بعد، وهذا كما يفعل الأطباء النفسيون في العصر الحديث لمعالجة المجرمين كي يُبعدوا المجرمين عن الاندفاع والتقرب نحو الإجرام .

يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيـغُهُ وَيَأْتِـيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (الآية: 18)

شرح الكلمـات:

يتجرّعه: تجرّعَ الماءَ: ابتلعه شيئاً بعد شيء، ومنه في القرآن يُسقى من ماءٍ صديد يتجرّعه أي يتكلّـفُ جَرعَـه. وتجرّعَ الغيظَ: كـظمَه (الأقرب)

يُسيغُه: ساغَ الشرابُ في الحلق: هَنَأَ وسلِسَ وسهُلَ مَدخلُه. وأساغَ الطعامَ إساغةً: سهّلَ مَدخله في الحلق وساغ له دخولُه فيه (الأقرب)

غليظ: الغليظُ: ذو الغلاظة؛ خِلافُ الليِّنِ والسلِس. وأمرٌ غليظٌ: شديدٌ صعبٌ. وعذابٌ غليظٌ: شديدُ الألم (الأقرب)

التفسـير:

أما قوله تعالى ويأتيه الموتُ مِن كلّ مكان ، فكما أن المؤمنين سيتلقون السلام في الجنة من كل باب، (الرعد: 24-25) كذلك سيواجه الكفار الموت من كل طرف ..  بمعنى أن أنواع الآثام التي وقعوا فيها سوف تتمثل لهم في أشباح الموت.

ولكنه تعالى قد وضّح أيضاً أنهم لن يموتوا بذلك، لأن العذاب يستهدف إصلاحهم، ولذلك سوف يتلقون في آخر المطاف السلامَ الذي قد خُلقو من أجله، ولن يموتوا إلاّ الموتة الأولى التي سبق أن ذاقوها في الدنيا.

هناك أمر لطيف يجب ملاحظته هنا، فقد استخدم كلمة (باب) في وصف الجنة، حيث قال والملائكة يدخلون عليهم مِن كلّ باب.. سلام عليكم (الرعد: 24-25)، بينما استخدم كلمة (مكان) في وصف الجحيم. ذلك أن السلام يأتي من الخارج أي من عند الله وبفضله، وأما الهلاك فيترتب على أعمال الإنسان نفسه. ولذلك قال إن السلام سوف ينزل على أهل الجنة من كل باب، وإن الهلاك سوف ينبع من كل شبر من مكان إقامتهم.

أما قوله تعالى ومن ورائه عذاب غليظ فقد يكون المراد منه أنهم سوف يُلقَون في أنواع العذاب الأخرى، كالحِرمان من قرب الله تعالى، والندامة، والحسرة وغيرها. وقد يعني أن عذابهم لن يزول بسرعة، بل سيلازمهم لزمن طويل.

مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (الآية: 19)

شرح الكلمـات:

عاصفٍ: عَصَفَ الزَّرعَ يعصُفُ عَصفاً: جزَّه قبل أن يُدرِك. عَصَفت الريحُ تعصِف عَصفاً وعصوفاً: اشتدّت فهي عاصفٌ وعاصفةٌ. عَصَف فلانٌ عيالَه: كَسَبَ لهم. وعصَفت الحربُ بالقوم: ذهبتْ بهم وأهلكتهم. وعصَفَ الدهرُ بهم إذا أبادهم. وعَصَفت الناقةُ براكبها: أسرعت السيرَ به. وعَصَفَ الشيءُ: مال. عَصَف الرجلُ: أسرعَ. العاصِفُ: المائلُ من كل شيء. ويومٌ عاصف أي تعصِفُ فيه الريح، وهو فاعلٌ بمعنى مفعول فيه مثل قولهم: ليلٌ نائم، وجمعُ العاصف العواصف (الأقرب)

التفسـير:

قوله تعالى الذين كفروا بربّهم لا يعني أن القوم كانوا مُنكرين وجودَ البارئ تعالى، وإنما المراد أنهم كفروا بنعم ربهم أو أنكروا وجود هذه القوى والصفات في الله تعالى.

هناك كثير من الناس الذين يؤمنون بالله تعالى، ولكنهم لا يوقنون بتصرفه وسلطانه على شؤون هذا الكون، ومثالهم في هذه الأيام العلمانيون عندنا، الذين أَثَّرت فيهم الثقافة الغربية سلبياً، فربما لا يوجد بين المائة منهم شخص واحد يؤمن بأن الله هو المتصرف المدبّر لهذا الكون، وإن كان هؤلاء يؤمنون بوجود الله تعالى. ولذلك تجدهم يعملون لأنفسهم، أو لكسب الصيت من أهل الدنيا، لا ابتغاءً لمرضاة الله أو خوفاً من عقابه. وعن هؤلاء وأمثالهم يقول الله جلّ شأنه: إن أعمالهم لا تنفعهم  منفعة روحانية، بل إنها عديمة الجدوى من المنظور الروحاني، شأنها شأن الرماد الذي تهب عليه الرياح والعواصف، ولا تُبقي للرماد من أثر، كذلك سوف يبطل الله أعمالهم في الآخرة. ذلك أن ما يقوم به المرء من أجل الدنيا فقط يجب أن ينحصر نفعه فيها فحسب. ولا ظلم ولا إجحاف في ذلك، لأن الجزاء الحقيقي لأي عمل إنما هو ذلك الذي يترتب عليه وفق النواميس الطبيعية، ويستوي في هذا الجزاء المؤمنُ والكافر. فمثلاً من تَفَقّدَ الفقراءَ وساعدهم نال الجزاء في الدنيا؛ إذ يشكرونه ويقدمون له خدماتهم بشتّى الطرق، بل ويَفدونه  بالأرواح أحياناً. ومن كان صادق الحديث يثق به الناس، فينتفع بثقتهم بشتّى الصور. إذن فما دام المرء ينال الجزاء الطبيعي على عمله في الدنيا فلا يبقى له أي حق على الله أن يجزيه عليه في الآخرة أيضاً.

فقد استخدم كلمة (باب) في وصف الجنة، حيث قال والملائكة يدخلون عليهم مِن كلّ باب.. سلام عليكم (الرعد: 24-25)، بينما استخدم كلمة (مكان) في وصف الجحيم. ذلك أن السلام يأتي من الخارج أي من عند الله وبفضله، وأما الهلاك فيترتب على أعمال الإنسان نفسه.

ولكن الذي يعمل الخير ابتغاءَ مرضاة الله فكأنه يقوم بعملين: عمل ظاهري وعمل آخر باطني هو الإخلاص والطاعة لله تعالى، ولذلك يستحق عليه جزاءً مزدوجاً، أي النتيجة الطبيعية لعمله، إلى جانب جزاء إضافي آخر عند الله، وهو ما يسمى بالثواب في الآخرة. والبديهي أن هذا الجزاء الإضافي لا يستحقه إلا الذي يكون عمله الظاهري مصحوباً بعمل باطني هو الرغبة في الحصول على رضى الرّب. أما غيره فليس له من الجزاء إلاّ ما ناله في الدنيا.

وهناك معنىً آخر للآية وهو أن الجهود التي يبذلها أعداء الحق ضدّ دين الله تعالى سوف تبوء بالفشل، لأن الله تعالى هو المسبب للأسباب وخالقها، فكيف يدع مكائدهم تنجح ضدّ دينه .

غير أنه يجب أن نتذكر أن الله تعالى قد يهيئ لأعداء دينه أيضاً فُرصاً للفرحة الكاذبة إذ يحققون أحياناً انتصاراتٍ مؤقتةً عابرة، ذلك لكي يتجلى الله بقدرته وجلاله بعد ذلك على صورة أكثر وضوحاً، ولكي يُتيح لأصحاب الطبائع السليمة فرصة التوبة والإيمان.

وأما قوله تعالى ذلك هو الضّلال البعيد فالمراد منه أنه ليس هناك هلاك أشدّ بشاعةً وأكبر مقتاً من أن تضيع جهود المرء كلية دون أي نتائج مُرضية، بل تنقلب عليه مساعيه وبالاً وعذاباً.

Share via
تابعونا على الفايس بوك