الصيام وجادة الاعتدال
أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (185)

التفسير:

يتبين بكل وضوح من قوله تعالى (أياما معدودات) و (فعدّة من أيام أُخَر) أن الصيام الذي أُمِرنا به ليس صيام تطوع، وإنما هو الصيام المفروض الواجب. لذلك قال إنه إذا كان أحدكم مريضا أو مسافرا فعليه أن يكمل عدة أيام الصيام المقررة بصوم أيام أخرى على أية حال، ولا يمكن أن يقول إنني كنت مريضًا أو مسافرًا في رمضان.. فلماذا أصوم بعد رمضان؟ فيخطئ الذين يرون أن قوله تعالى (كتب عليكم الصيام) لا يتناول ذكر صيام رمضان المبارك وإنما يذكر الصيام التطوعي. فأولا يتبين من قوله تعالى (أياما معدودات) أنه لم يتناول إلا ذكر صيام حدّد له الشرع أياما معينة، وثانيا يتبين من قوله تعالى (عدة من أيام أخر) أن هذا الصيام في أيام معينة في شهر معين، وإلا فلا معنى لقوله تعالى (عدة من أيام أخر).

ثم ينصح الله بأن من يكون مريضا أو على سفر فلا يصُمْ في مرضه أو سفره، بل يسد هذا الفراغ في أيام أخرى.

لقد رأيت بالتجربة أن هناك إفراطا وتفريطا عند المسلمين بصدد الصيام. فهناك بعض المثقفين الذين لا يؤمنون ببركات رمضان، ويتركون الصوم بدون مرض أو عذر شرعي. وعلى النقيض.. هناك من المسلمين من يحصرون الإسلام في الصيام، ويتوقعون من كل شخص، وإن كان مريضًا أو ضعيفًا أو شيخًا هرمًا فانيًا أو طفلاً صغيرًا أو سيدة حاملاً أو مرضعة أن يصوم في كل حال، وإن زاده الصوم مرضًا أو أضر بصحته. كلا الفريقين واقع إما في الإفراط أو التفريط. إن الإسلام لا يريد أبدا أن يُبعد الإنسان عن طريق نجاحه وفلاحه. لو كانت الشريعة غرامة لاضطر كل شخص لتحملها، سواء قدر عليها أم لم يقدر كغرامات الحكومات. إذا فرضت الحكومة على شخص غرامة فلا تنظر الى مقدرته أو عدم مقدرته على أدائها، وإنما تطالبه بأدائها وإن اضطر إلى بيع داره أو إلى الجوع والدَّيْن. ولكن يتجلى من القرآن أن الأحكام الإسلامية ليست غُرما، وإنما هي لفائدة الإنسان ولمنفعته، وينال بالعمل بها راحة وتنفتح أمامه طرق رقيه. إن الأديان التي تعتبر الشريعة غرامة لا بد لأتباعها من العمل بأوامرها مهما حدث، ولكن الدين الذي لا يستهدف إلا منفعة الإنسان، فإنه-عند العمل بأحكامه –يُقارَن بين ما ينفع ويضر، ويُختار ما نفْعه أكثر. ولذلك فإن الإسلام قيَّد كل أحكامه ببعض الشروط، وإذا توافرت في أحد عمل بها، وإن لم تتوافر تركها وهو معذور. ولم يضع الإسلام هذه الشروط في العبادات البدنية فقط، بل في العبادات المالية أيضا مثل الزكاة، وفيما يهدف إلى التضحية من أجل الشعب، وإلى الاتحاد والتواصل مثل الحج. فالحج مشروط بتوافر المال والصحة والأمن؛ والزكاة مشروطة بتوافر مقدار معين من المال يزيد على حاجاته ويبقى عنده لسنة؛ والصلاة مشروطة بالصحة، فيصلي المرء جالسا إذا لم يستطع القيام، أو مستلقيا إذا لم يستطع الجلوس.

كذلك اشترط الإسلام لصيام رمضان أن لا يكون الإنسان مريضا.. سواء كان قد أصيب بالمرض فعلا، أو يتهدده المرض إن صام. كما في حالة الحامل والمرضع، أو الشيخ الفاني الذي تدهورت قواه، أو الطفل الصغير الذي في طور النمو.. فعلى كل هؤلاء ألا يصوموا. إن صوم المسافر أو المريض لغوٌ كصوم الحائض، من ذا الذي لا يعرف أن الحائض إذا صامت فليس فيه أي حسنة، بل هو جهل وغباء. كذلك صوم المريض أو المسافر ليس حسنة. كذلك ليس من البر أن يصوم شيخ هرم اضمحلت قواه ويحول الصوم دون قيامه بأشغال الحياة الأخرى. كذلك ليس من الحسنة صوم طفل تنمو قواه، ويدخر جسمه من الطاقة والقوة ذخيرة تكفيه لخمسين أو ستين سنة قادمة في حياته. ولكن القادر على الصوم بمعنى الكلمة.. إذا لم يصم فهو آثم.

ولنعلم أن الشريعة الإسلامية قد منعت الصغار الذين هم في سن صغير جدا من أن يصوموا، ولكن إذا أوشكوا على البلوغ وجب تدريبهم على بعض الصيام. إن سيدنا المهدي والمسيح الموعود عليه السلام قد سمح لي بالصوم –فيما أذكر –عندما كنتُ في الثانية أو الثالثة عشرة من عمري. ولكن بعض الحمقى يُكرهون صغارهم على الصوم وهم في السادسة أو السابعة من عمرهم. ويظنون أن هذا عمل صالح. هذا ليس عمل ثواب وإنما ظلم. هذا السن سن نموهم. نعم عندما يوشكون على سن البلوغ والصوم يجب تدريبهم على الصيام. ولو نظرنا إلى إذْن وسُنة سيدنا المهدي.. فالسّن المناسب لذلك هو الثاني أو الثالث عشر. فيجب أن يصوموا عندئذ بضعة أيام في كل رمضان.. إلى أن يبلغوا الثامنة عشرة –وهو سن البلوغ عندي. أتذكر أن سيدنا المهدي سمح لي بالصوم ليوم واحد في أول مرة. في هذا السن يكون عند الصغار شوق للصيام. ويريدون أن يصوموا أكثر من يوم، ولكن من واجب الآباء أن يمنعوهم من ذلك. ثم يأتي سن يجب فيه على الآباء أن يشجعوهم على صيام بضعة أيام، ويراقبوهم حتى لا يتجاوزوا الحد. وكذلك يجب على الآخرين أن لا يعترضوا على الصغار ويقولوا لماذا لا يصومون؟ فهذا الصغير لو صام في هذا السن الباكر لم يقدر على الصوم عندما يكبر. ثم إن بعض الأطفال ضعيفو البنية والخلقة. ولقد رأيت بعض الأطفال يأتون مع آبائهم لزيارتي، ويخبرني الأب أن الطفل في الخامسة عشرة مثلا من عمره.. مع أنه يبدو ابن سبع سنوات. أرى أن مثل هذا الطفل لا يبلغ سن الصيام إلا قريبا من الحادي والعشرين. وعلى النقيض يكون هناك بعض الأطفال الأقوياء الذين يبدون في الثامنة عشرة من عمرهم بينما في الحقيقة هم في الخامسة عشرة. ولو أن هؤلاء أخذوا بظاهر كلماتي، وقالوا إن سن الصوم هو الثامنة عشرة، فإنهم لا يظلمونني، ولكن أنفسهم يظلمون. وكذلك لو أن أحدا عاب صغيرا لم يصم صوما كاملا.. فلا يظلم إلا نفسه.

من ذا الذي لا يعرف أن الحائض إذا صامت فليس فيه أي حسنة، بل هو جهل وغباء. كذلك صوم المريض أو المسافر ليس حسنة. كذلك ليس من البر أن يصوم شيخ هرم اضمحلت قواه ويحول الصوم دون قيامه بأشغال الحياة الأخرى. كذلك ليس من الحسنة صوم طفل تنمو قواه، ويدخر جسمه من الطاقة والقوة ذخيرة تكفيه لخمسين أو ستين سنة قادمة في حياته.

على الإنسان أن يكون حذرا في هذه الأمور، فينتهي حيث ينهاه الشرع ويعمل بما يأمر به الشرع. ولكن المسلمين في هذه الأيام قد تركوا جادة الاعتدال، فبعضهم لا يصوم إطلاقا، والبعض الآخر يواظب على الصوم لدرجة أنه يرى الصوم ضروريا حتى في السفر والمرض. وبعضهم يتشدد فيه، فيجبرن الصغار على الصوم، ولو أرادوا الإفطار قبل الغروب فلا يسمح لهم بذلك. وهناك أحداث عديدة صام فيها الصغار في سن السابعة أو الثامنة، وراقبهم آباؤهم حتى لا يفطروا، فماتوا من شدة الجوع. ولا شك أن من واجب الآباء أن يولدوا في قلوب الصغار أدبا واحتراما للصيام، ويخبروهم أنهم إذا لم يستطيعوا إكمال الصوم فعليهم ألا يصوموا. ولكنهم إذا صاموا وراقبهم آباؤهم حتى لا يفطروا وإن أوشكوا على الموت.. فهذا ظلم شنيع ومخالفة صريحة لتعاليم الإسلام.

وعلى جانب آخر هناك فئة لا تؤمن بضرورة الصيام وخاصة المثقفين منهم. أتذكر جيدا أنني في زمن سيدنا المهدي قرأت في الجرائد أن شخصا من تركيا أو مصر يزور الهند، ويقول في خطاباته أن الرسول لو كان في هذا الزمن لغيّر شكل الصيام، فلنغيّر معالم الصوم الآن.. لأن الزمن قد تغير. وكان يقترح ألا يأكل الصائم الخبز. ولكن يُسمح له بأكل الكعك والبسكويت وغيره!

فهناك إذن طبقة من المسلمين مالت إلى الإفراط، وطبقة أخرى مالت إلى التفريط.. مع أن الإسلام دين الوسط. فإذا كان يسمح للمسافر والمريض بألا يصوما في السفر أو المرض.. فإنه يفرض على المسلم البالغ الصحيح أن يصوم شهر رمضان، ويقضي هذه الأيام المباركة في عبادة الله وتسبيحه وتحميده وتلاوة القرآن الكريم والأدعية والذكر ليحظى بقرب الله تعالى. على أية حال، فإن الشرع الإسلامي قد أكد على الصيام أيما تأكيد، وكما أنه لا يجوز التشدد في الصيام كذلك لا تجوز الاستهانة به. إذن، فعلينا ألا نتشدد فنـزهق الأرواح والنفوس، كما يجب ألاّ نتهاون فيه بما يُعتبر هتكا للصيام وتنصُّلا من أداء الواجب بمختلف الأعذار.

قد رأيت أن بعض الناس لا يصومون بحجة أن الصوم يسبب لهم ضعفا، وبعضهم يقولون لو صاموا يصابون بالإسهال.. مع أن هذه الأعذار لا تكفي للإعفاء من الصوم. ما لم يُصب الإنسان بالإسهال بسبب الصيام يجب أن يصوم، وعندما يصاب بالإسهال يتوقف عن الصوم. وحجة الضعف أيضا ليست مقبولة، وإنما يمكن أن يترك الإنسان الصوم بسبب ضعف يوافق عليه الطبيب ويُعفى به من الصوم. وإلا فإن بعض الناس ضعفاء على الدوام، فهل يمتنعون عن الصوم أبدا؟ كنت في الثالثة من عمري عندما أُصبت بالسعال الديكي، ومنذ ذلك الوقت لا تزال صحتي متأثرة. ولو كان مثل هذا الضعف يجيز ترك الصوم لم تكن أمامي فرصة لصوم يوم واحد طيلة حياتي. إن الضعف الذي يتخذونه مبررا لترك الصيام ما فُرض الصيام إلا لتدريبهم على تحمل نفس هذا الضعف. فمثلهم كمثل الذي يقول إن القرآن يقول: إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وأنا لا أصلي لأن الصلاة سوف تضطرني لترك الفحشاء والمنكر! الغاية والهدف من الصيام هو أن يتدرب الإنسان على تحمل الشدائد ويتعوّد على التغلب والضعف.. وإلا لكان لكل امرئ أن يمتنع عن الصوم قائلا: لا يمكن أن أصوم لأني أصاب بشدة الجوع والعطش. هل يتوقع الصائم أن الملائكة سوف تملأ بطنه طوال اليوم بالشّواء؟ كلا، بل كلما يصوم يضطر لتحمل شدة الجوع والعطش ويصاب بشيء من الضعف؟ مما لا شك فيه أن للصوم حِكما أخرى منها أن الصائم يلتفت بصيامه إلى إعانة الفقراء والجياع، ولكن لا يصوم الإنسان كي يتعرض للمشقة والضعف، وإنما يصوم ليتعوّد على تحمل هذه المشقة والضعف. فليس من الجائز أن يترك الإنسان الصوم خوفا من الضعف، إلا أن يكون قد بلغ سن الشيخوخة، أو أن الطبيب يعتبر ضعفه مرضًا.

إلا أن القرار بضعف أحد لا يؤخذ بظاهر صحته وبادي حاله. فبعض الناس يبدون أصحاء في الظاهر ويمشون كالأصحاء، ولكنهم في الحقيقة مرضى، ولا يجوز أن يصوموا.. خاصة أولئك الذين هم مصابون بمرض القلب، ويعرضهم الجوع والعطش لخطر كبير. فمعرفة ضعف الإنسان لا يتوقف على مظهره، وإنما يجب أن يُترك لرأي الطبيب. وللأسف أن كثيرا من الأطباء في بلادنا لا يؤدون واجبهم بأمانة.. لو حيّاهم أحد وانحنى لهم لكتبوا له من الوصفات ما شاء. ومثل هذه الشهادة لا اعتبار لها ولا قيمة. ولكن إذا أشار الطبيب بالفعل أن الصوم ضار بصحة أحد فلا يُنظر إلى ظاهر صحته، بل لا يجوز الصوم له. وهذه هي الفتوى التي أصدرها سيدنا المهدي عليه السلام.. إذ قال: “إن الذي يصوم في شهر الصيام في مرضه أو سفره فإنه يخالف حكمًا صريحًا لله تعالى. لقد نهى الله صراحة عن أن يصوم المريض أو المسافر، بل عليهما أن يصوما بعد الشفاء أو بعد انتهاء السفر. يجب العمل بما أمر به الله. فالنجاة متوقفة على فضل الله، وليس من الممكن أن ينال أحد النجاة بقوة أعماله. إن الله تعالى لم يصرّح عما إذا كان المرض بسيطا أو شديدا، أو إذا كان السفر قصيرًا أو طويلاً.. بل الحكم عام ويجب العمل به. فإذا صام المريض والمسافر فلا بد أن يفتى ضدهما بمخالفة الأمر الإلهي “. (الفتاوى لسيدنا المهدي. ص132).

قوله تعالى (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين). لقد عانى المفسرون صعوبة كبيرة في تفسير هذه الجملة. وفسروها بعدة أوجه.. وكانت هذه الصعوبة بسبب اختلافهم في تعيين مرجع الضمير ’ه‘ في كلمة يطيقونه.

فبعضهم أرجعه إلى الصوم. وبعضهم أرجعه إلى (فدية طعام مسكين) منهم الشاه وليّ الله الدهلوي (كتاب الفوز الكبير، تحت هذه الآية). لكن يرِد على هذا القول اعتراض بأنه إضمار قبل الذِّكر.. أي أن الضمير ذُكر قبل الاسم؛ مع أن الواجب ورود الاسم أولاً ثم ضميره. وقد ردّ الشاه ولي الله أن “فدية” مقدّم نحوا.. أي مبتدأ، لذلك ذُكر ضميره قبل ذِكره.

والاعتراض الثاني على ما ذهب إليه الشاه الدهلوي أن كلمة (فدية) مؤنثة والضمير للمذكر؟ فرد عليه بأن الفدية بدلٌ من طعام والطعام مذكر، ولذلك يمكن أن يرجع الضمير إلى فدية مذكرا. والمعنى عنده أن الذين يقدرون على أداء الفدية عليهم أن يؤدوها في صورة طعام مسكين. ويرى أن في هذا إشارة إلى صدقة الفطر التي يجب أداؤها قبل صلاة العيد حتى تُوزع على الفقراء، فيشتركوا في أفراح العيد.

والمعنى الثاني الذي ذكره المفسرون أن على المؤمنين القادرين على الصوم أن يصوموا وأن يقدموا فدية طعام مسكين أيضًا (القرطبي). ولكن ليس بثابت من سنة النبي ولا من أحاديثه أن على المسلم أن يصوم يؤدي الفدية أيضا، ولذلك لا يمكن أن يُقبل هذا المعنى. وكذلك من الناحية المنطقية هذا المعنى غير مقبول.. لأن الفدية تكون على من لم يصُم. أما الذي واظب على الصوم فأي فدية عليه؟ نعم إذا فكر أحد أن الله قد منَّ عليه بتوفيقه لهذه العبادة فصام وأطعم مسكينا فهذا يزيده ثوابا، ولكن هذه حسنة زائدة لم يُلزم بها القرآن.

والمعنى الثالث الذي ذكره المفسرون هو أن هناك محذوفا قبل الفعل يطيقونه تقديره “لا” والضمير في هذه الحالة يرجع إلى الصوم (البحر المحيط). والمعنى أن على الذين لا يقدرون على الصوم أن يُطعموا مسكينا فدية لذلك. ودليلهم على حذف “لا” هنا قوله تعالى (يبين الله لكم أن تضلوا) (النساء، 177).. والمعنى: أن لا تضلوا. هذا وإن كان بالإمكان هنا تقدير محذوف هو “مخافة” والمعنى: يبين الله لكم مخافة أن تضلوا.

والمعنى الرابع هو قولهم إن كلمة أطاق في العربية تعني أن يقوم أحد بعمل ما بجهد جهيد ومشقة بالغة، أي لا يقدر على القيام به إلا بإرهاق نفسه إرهاقا شديدا (البحر المحيط). فالمعنى عندهم أن الذين يصومون بمشقة بالغة وتضمحل قواهم البدنية حتى يغشى عليهم أحيانا من شدة الضعف، مثل العجوز الفاني أو المريض بقلبه أو ضعيف الأعصاب أو الحامل والمرضع. هؤلاء الذين لا يَبدون مرضى في الظاهر ولكنهم إذا صاموا مرضوا.. فمسموح لهم أن يعطوا طعام مسكين كفدية بدلا من أن يصوموا.

ويؤيد هذا المعنى قراءة ذكرها العلامة القرطبي وهي (يُطَوَّقونه).. أي الذين يصومون ببالغ الشدة والصعوبة. والذين تتدهور صحتهم بالصوم تدهورا مخيفا.. فيجوز لهم ألا يصوموا، ولكن عليهم إطعام مسكين فدية (القرطبي).

وعندي أن “أطاق يطيق” من باب الإفْعال، ومن خصائص هذا الباب سلب المعنى العادي وإعطاء المعنى المضاد. فيعني قوله تعالى (الذين يطيقونه).. الذين سُلبت قوتهم وضاعت ولا يطيقون الصوم.. فلهم ألا يصوموا، ولكن ما داموا يتركون الصوم بمحض الاجتهاد الذي فيه احتمال الخطأ، وليس بمرض ظاهري وإنما بناء على خوف متوقع، لذلك عليهم أن يُكفِّروا عن هذا الخطأ الاجتهادي بتقديم طعام كفدية إن استطاعوا ذلك.

وهناك معنى آخر فتحه الله عليّ.. ذلك أن الضمير في (يطيقونه) يعود على الصوم، والمراد أن الذين مرضهم شديد وسفرهم شاق.. عليهم (عدة من أيام آخر).. فيكملون ما فاتهم من صيام في أيام أخر، ولكن المصابين بمرض عادي بسيط أو الذين خرجوا لسفر غير شاق غير صائمين فعليهم أن يقدموا طعام مسكين فدية.. ذلك لأنه من المحتمل أن يكونوا مخطئين في ترك الصوم، ويظنون أنهم مرضى ولكنهم عند الله ليسوا في مرض يعفيهم من الصوم، أو يظنون أنهم على سفر ولكنهم ليسوا عند الله في سفر. وما دام قرارهم معرّضا لاحتمال خطأ في كل حال.. فيجب على هؤلاء إذا كانوا قادرين على الصوم أن يكملوا عدة أيام الصيام الفائتة في أيام أخر.. ذلك فضلا عن أن يطمعوا مسكينا حتى يكون كفارة لخطأ محتمل من جانبهم.

أما إذا كان الضمير في (يطيقونه) راجعا إلى (فدية طعام مسكين) كما قال الشاه ولي الله الدهلوي.. فليس المراد من الفدية صدقة الفطر، وإنما يكون قوله تعالى (فدية طعام مسكين) متعلقا بقوله تعالى (فمن كان منكم مريضا أو على سفر) والمعنى: وإن كان قد رُخص للمريض والمسافر بالصيام في أيام أخرى.. ولكن مَنْ كان في سعة وقادرا على إطعام شخص فليطعم مسكينا فدية لتركه الصوم أياما من رمضان. أما إذا لم يكن عنده القدرة على إطعام مسكين فلا معنى ولا مجال لأداء فدية لصيام رمضان. وإذا كان المانع مؤقتا وزال فيما بعد فلا بد أن يصوم، فالفدية لا تُسقط عنه الصوم الفائت، وإنما هي فدية لأنه لم يستطع –بسبب عذر شرعي –أن يشترك في العبادة مع سائر المسلمين في هذه الأيام المباركة. فالأعذار على نوعين: عذر مؤقت وعذر دائم، ويجب أداء الفدية بشرط القدرة عليه سواء كان العذر مؤقتا أو دائما. أما إذا زال العذر ولو بعد سنة أو سنتين أو ثلاث سنوات فعليه أن يصوم أيضا، وإن أدى الفدية.. اللهم إلا إذا كان عذر المرض مؤقتا من قبل.. وكان ينوي الصوم عندما يسترد صحته غدا أو بعد غد.. ولكن صحته تدهورت أكثر. وهذا هو مذهب الإمام المهدي والمسيح الموعود إذ كان يؤدي الفدية دائما للأيام الفائتة في رمضان وبعد ذلك يصوم أيضا؛ وهذا ما كان ينصح به الآخرين (الملفوظات شرح الكلمات: 3 ص 563).

وكلمة (الذين) في قوله (وعلى الذين يطيقونه) يمكن أن تكون بدلا من الفئتين: إما من المذكورين في قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام)، أو المذكورين في قوله تعالى (فمن كان منكم مريضا أو على سفر). ولو اعتبرناها بدلا من (الذين آمنوا) فالمعنى: أن الذين يُعانون صعوبة بالغة في الصيام لضعفهم ويقعون بسببه في مشقة شديدة، عليهم ألا يصوموا، بل يعطوا فدية طعام مسكين. وإذا اعتبرناها بدلا من (فمن كان منكم مريضا أو على سفر) فالمراد أن المرضى والمسافرين الذين يقدرون على أداء الفدية عليهم أن يؤدوها إلى جانب الصيام في أيام أخرى. فمن الأمراض والأسفار ما يكون ترك الطعام فيه اجتهادا مشتبها. وقد ورد في الأحاديث أن بعض المشتبهات تندرج تحت المحارم.. لأن الذي يصل إلى حد المشتبهات يتدرج إلى المحارم أيضا (البخاري، البيوع).

مما لا شك فيه أن للصوم حِكما أخرى منها أن الصائم يلتفت بصيامه إلى إعانة الفقراء والجياع، ولكن لا يصوم الإنسان كي يتعرض للمشقة والضعف، وإنما يصوم ليتعوّد على تحمل هذه المشقة والضعف. فليس من الجائز أن يترك الإنسان الصوم خوفا من الضعف، إلا أن يكون قد بلغ سن الشيخوخة، أو أن الطبيب يعتبر ضعفه مرضًا.

فإذا كان سفرهم أو مرضهم من الأمور المشتبهة المشكوك فيها، فعليهم أن يؤدوا الفدية، ويستفيدوا من هذه الرخصة، فلا يصوموا في أيام رمضان وإنما يصومون الأيام الفائتة في فرصة أخرى.

قوله تعالى (فمن تطوع خيرا فهو خير له) أي أن الذي يعمل الحسنات ببشاشة وشوق، ولو تكلّفًا في بادئ الأمر ومع شعور بثقل على نفسه، فسوف يرى أن هذه الحسنة تأتي له بنتائج جيدة. فالتطوع في اللغة العربية يعني أن يُثقل الإنسان على نفسه ويتكلف الطاعة (المفردات). فالله ينبه هنا إلى أن الإنسان إذا لم يقدر على العمل الحسن بانشراح الصدر.. فعلى الأقل يُكره نفسه عليه ويُظهر بشاشة في وجهة ولو تكلّفا، ولو فعل ذلك فتح الله له طرق الخير والبركة، أي أنه يرتقي في الحسنات حتى يصل إلى مقام يصبح فيه فعل الخير غذاء لروحه، ويسهل عليه تلبية النداء إلى أعمال الخير بمثل ما يسهل على المؤمنين الكمَّل.

إلا أن هناك معنى آخر للتطوع وهو أن يتبرع المرء بعمل ما لم يُلزم به. صرح بذلك الإمام الراغب في كتابه الشهير(المفردات). وبناء على هذا فالمعنى أن الذي يقوم بأعمال الخير نافلة فهذا خير له. لقد أُمرنا بالصوم في شهر رمضان وإطعام مسكين كفدية.. ولو زاد أحد على ذلك احتسابا لله فله ذلك.. يمكنه أن يطعم مسكينين بدلا من مسكين واحد كفدية، أو يصوم رمضان وأيضا يطعم مسكينا ثوابًا واحتسابًا، أو يصوم أياما أخرى علاوة على صوم رمضان، فكل هذه أعمال يثاب صاحبها، ويمكن لأي مؤمن أن يشترك فيها قدر المستطاع لينال بها رضوان الله.

وقوله تعالى (وأنْ تصوموا خير لكم).. يفسره البعض: لو صُمتم فهو خير لكم. ولكن هذا المعنى غير صحيح، وإلا لقيل (وإنْ تصوموا) بدلا من (وأنْ تصوموا) وإنما المعنى الصحيح: لو أدركتم وعرفتم فإن الصيام خير لكم. أي أننا مهَّدنا لأمر ذي بركات وخير كثير.. فمن واجبكم أن تصغوا إليه وتعملوا به.

Share via
تابعونا على الفايس بوك