ما لكم لا ترجون وقاراً لسيد السيدين؟

ألا تقرؤون في أحاديث المصطفى.. سلّم الله عليه وصلّى.. أن المسيح يكون أحدًا من أمته، ويتبع جميع أحكام ملّته، ويصلّي مع المصلّين. وقد ملئ القرآن من آياتٍ تشهد كلها على أن المسيح ابن مريم قد تُوفِّي، ولحق بإخوانه إبراهيم وموسى، وأخبر بوفاته رسول الله وهو أصدق الـمخبرين. ألا تقرؤون في القرآن:   يا عيسى إني متوفيك ،[1] فلمّا توفيتني ؟[2] ألا تقرؤون: ما محمّد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ؟[3] ألا تقرؤون في صحيح الإمام البخاري: متوفيك: مُميتك؟ فما بقي بعد هذه الشهادات محل شك للمشككين. وبأيّ حديث تؤمنون بعد آيات رب العالمين؟ ألا ترون أنه قال في علامات المسيح وفي بيان وقت ظهوره إنه يكسر الصليب، ويقتل الخنـزير؟ فاعلموا أنّه أشار إلى أنه يأتي في وقت يُعبَد الصليب فيه، ويؤكل الخنـزير بكثرة، ويكون لعبدة الصليب غلبة في الأرضين. فيأتي ويكسر غلبتهم، ويدقّ صليبهم، ويهدم عماراتِهم، ويخرّب مرتفعاتهم بالحجج والبراهين.

أيها الناس! اذكروا شأن المصطفى.. عليه سلام رب السماوات العلى.. واقرؤوا كتب المتنصّرين، وانظروا صولتهم على عرض سيد الورى، فلا تُطرُوا ابن مريم، ولا تعينوا النصارى يا وُلْدَ المسلمين. ألرسولنا الموت والحياة لعيسى؟ تلك إذًا قسمة ضيزى! ما لكم لا ترجون وقارًا لسيّد السيّدين؟ أتجادلونني بأحاديث ورد فيها أن المسيح سينـزل، وتنسون أحاديث أخرى، وتأخذون شقا وتتركون شقا آخر، وتذرون طريق المحققين؟ ولا يغرّنكم اسم “ابن مريم” في أقوال خير الورى، إن هو إلا فتنة من الله ليعلم المصيبين منكم وليعلم المخطين، وليجزي الله الصابرين الظانين بأنفسهم ظن الخير، ويجعل الرجس على المعتدين. وقد خلت سننه كمثل هذا، فليتفتش من كان من المتفتّشين.

لقد كان في إيليا وقصة نزوله نظيرٌ شافٍ للطالبين. فاقرؤوا الإنجيل وتدبّروا في آياته بنظرٍ عميقٍ أمين. إذ قالت اليهود: يا عيسى.. كيف تزعم أنّك أنت المسيح.. وقد وجب أن يأتي إيليا قبله كما ورد في صحف النبيّين؟ قال: قد جاءكم إيليا فلم تعرفوه، وأشار إلى يحيى وقال: هذا هو إيليا إن كنتم موقنين. قالوا: إنك أنت مُفتر.. أتنحتُ معنى منكرًا؟ ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين. قال: يا قوم.. ما افتريتُ على الله، لكنكم لا تفهمون أسرار كتب المرسلين.

تلك قضيةٌ قضاها عيسى نبي الله، وفي ذلك عبرة للمسلمين. ما كان نزول بشرٍ من السماء من سنن الله، وإن كان فأتوا بنظير من قرون خالية إن كنتم من المهتدين. وما كان فينا من واقع إلا خلا لـه نظير من قبل، وإليه أشار الله وهو أصدق الصادقين ولن تجد لسنة الله تبديلا [4]. وقد مضت سنة الأوّلين. خصمان تخالفا في رأيهما.. فأحدهما متمسك بنظير مثله، والآخر لا نظير عنده أصلا.. فأي الخصيمَين أقرب إلى الصدق؟ انظروا بأعين المنـصفين.

يا أيها الناس، التُّقى التُّقى.. النُّهى النُّهى.. ولا تتبعوا أهواء فيج أعوج، واذكروا ما قال المصطفى. لقد جئتكم حكمًا عدلا للقضايا وجب فصلها، فاقبلوا شهادتي، إني أوتيت علمًا ما لم تؤتوه وما يؤتى. وإن كنتم في شك من أمري فتعالوا ليفتح الله بيننا وبينكم، وهو الرب الأقدر الأقوى. إنه مع الصادقين.. يسمع ويرى. وبشرني في وقتي هذا، وقال: يا عيسى سأُريك آياتي الكبرى. فأيّ نهج الفصل أهدى من هذا إن كنتم تطلبون الهُدى؟ وقد جئت حين سجَى الدجى، وغابت الحق من الوَجى، وكانت تلك الأيّام أيّام الوباء. قد هلكت فيه أمم كثيرة، وكان الإسلام نِضْوَ سُرًى، ما كان لـه من موئل ومأوى، كخابط ليلةٍ ليلاءَ، وكان الطالبون كذي مجاعة جَوِي الحشا، مشتمل على الطَّوى. فأوحى إليَّ ربّي ما أوحى. فنهضتُ ملبّيا للنداء، فأنبأني ربّي مما سيأتي وما مضى. وصافاني ونجّاني من كل هم وبلاء، وبشرني بغلبتي على كل من خالف وأبى. وأوحى إليّ بأنني غالبٌ على كل خصيم أعمى. وقال: إني مهين من أراد إهانتك، وأحسنَ إلي بآلاء لا تعد ولا تحصى. وقال: إني معك حيثما كنتَ، وإنّي ناصرك، وإنّي بُدُّك اللازم وعَضُدُك الأقوى. وأمرني أن أدعو الخلق إلى الفرقان ودين خير الورى، الذي سن التبليغ وحث على الجهد وحمل الأذى. لستُ بنبيّ، ولكن محدَّث الله وكليم الله لأجدد دين المصطفى. وقد بعثني على رأس المائة، وعلّمني من لدنه علوم الهدى. وإن كنتم تشكون في أمري، وتحسبون أنكم على حق في مخالفتي، وتظنون قربتكم أعظم من قربتي، فها أنا قائم في موطن المقابلة لرؤية آيات صدقكم وإراءة برهاني على الاصطفاء. وأعزم عليكم بالله الذي هو خالق الأرض والسماء، أن لا تمهلوني طرفة عين، وجاهدوا لهزيمتي حق جهادكم، واستفتحوا لأنفسكم من الله الأعلى. وحرام عليكم أن تتقاعسوا وتستأخروا ولا تبرزوا في مكان سُوى. واجتمعوا عليّ كلكم وارمُوا كل سهام من قوس واحد، فستعلمون من هلك ومن حفظه الله تعالى وأبقى. وإن تقبلوني فالله يبارككم، ويجعلكم مثمرين مباركين آمنين، ويردّ إليكم أيّامكم الأولى، وتسكنون في أمان الله، ويتوب إليكم ربكم ويرضى، وكل سوء يتحوّل عنكم ويتناهى.

(مرآة كمالات الإسلام)

 

[1] سورة آل عمران:56.

[2] سورة المائدة:118.

[3] سورة آل عمران:145.

[4] سورة الأحزاب: 63

Share via
تابعونا على الفايس بوك