وأي موت هو أكبر من موت الحجاب؟

وأيّ عمًى أشدّ أذًى من عدم رؤية وجه الله الوهاب؟

أتظنّون أن الإسلام مرادٌ من قصصٍ معدودة، وليست فيه آيات مشهودة؟ أأعرض عنّا ربّنا بعد وفاة سيّدنا خير البريّة؟ فأيُّ شيءٍ يدلّ على صدق هذه الملّة؟ أنسي الله وعد الإنعام الذي ذكره في سورة الفاتحة.. أعني جعْل هذه الأمّة كأنبياء الأمم السابقة؟ ألسنا بخير الأمم في القرآن؟ فأيُّ شيءٍ جَعَلَنا شرَّ الأمم على خلاف الفرقان؟ أيجوّز العقل أن نجاهد حقّ الجهاد لمعرفة الله ثم لا نوافي دروبها، ونموت لنسيم الرحمة ثم لا نُرزَق هبوبها؟ أهذا حَدُّ كمال هذه الأُمّة، وقد وافت شمس عمر الدُّنيا غروبها؟ فاعلموا أنّ هذا الخيال كما هو باطل عند الفطنة التامّة، كذلك هو باطل نظرًا على الصُّحف المقدّسة.

وأيّ موتٍ هو أكبر من موت الحجاب؟ وأيّ عمًى أشدّ أذًى من عدم رؤية وجه الله الوهاب؟ ولو كانت هذه الأُمّة كالأبكم والأصمّ، لمات العشّاق من هذا الهمّ، الذين يُذيبون وجودهم لوصال المحبوب، وما كانت مُنْيتهم في الدنيا إلا وصول هذا المطلوب، فمع ذلك كيف يتركهم حِبّهم في لظى الاضطرار، وفي نار الانتظار؟ ولو كان كذلك لكان هذا القوم أشقى الأقوام، لا تُسفر صباحهم، ولا تُسمع صياحهم، ويموتون في بكاء وأنين. كلا.. بل الله أرحم الراحمين. وإنه ما خلق جوعًا إلا خلق معه طعامًا للجوعان، وما خلق غليلاً إلا خلق معه ماءً للعطشان، وكذلك جرت سنّته لطُلباء العرفان. وإني عاينتها فكيف أنكرها بعد المعاينة، وجرّبتها فكيف أشكّ فيها بعد التجربة.

ولا بدّ لنا أَنْ ندعو الناس إلى ما وجدناه على وجه البصيرة. فوجب على كلّ من يؤمن بالله الوحيد، ولا يأنف من كلمة التوحيد، أن لا يقنع بِالأَطْمار، ويطلب السابغات من حلل الدين، ويرغب في تكميل الدثار والشعار، ويقرع باب الكريم بكمال الصدق والاضطرار. وإنه جوّاد لا يَسْأم من سؤال الناس، وإنّ خزائنه خارجة من الحدّ والقياس. فمن زاد سؤالاً زاد نوالاً. فمِن حُسن الإيمان أن لا ييأس العبد من عطائه، ولا يحسب بابه مسدودًا على أحبّائه. وإنّكم أيّها الناس تحتاجون إلى نعم الله وآلائه، فمن الشقوة أن تردّوا نعمه بعد إعطائه. وأيّ جوعانٍ أشقى من جائع أشرف على الموت، وإذا عُرض عليه طعام لذيذ ورغيف لطيف ردّه وما أخذه وما نظر إليه، وهو فَلُّ الجوعِ وطريده، ومع ذلك لا يريده!

فاعلموا أيها الإخوان، رحمكم الله الرحمن.. إني جئتكم بطعام من السماء، وقد حقّق الله لكم آمالكم على رأس هذه المائة، وكنتم تطلبونها بالدعاء، ففتح عليكم أبواب الآلاء، فهل أنتم تقبلون؟ وأعلم أنكم لن ترضوا عني حتى أتّبع عقائدكم، وكيف أترك وحي ربي وأتّبع أهواءكم، وهو القاهر فوق عباده وإليه ترجعون.

وإني أُعطيتُ آياتٍ وبركات، وأنواع النصرة وتأييدات، وإن الكاذبين لا يُفتح لهم هذا الباب، ولو لم يبق منهم بالمجاهدة إلا الأعصاب. أتظنّون أن الله يحبّ خوّانًا أثيمًا؟ وإني جئتُ لنصرتكم من جنابه، كأسد يطلع من غابه، ويصول كاشرا عن أنيابه، فأرُوني رجلا من القسيسين والملحدين والمشركين، من يبارزني في هذا المضمار، ويناضلني بآيات الله القهّار. ووالله إنّ كلّهم صيدي، وسدَّ الله عليهم طريق الفرار، لا يؤويهم أجمة، ولا بحر من البحار، ونحن نفري الأرض مسارعين إليهم ونبريها بسرعة كالمنتهبين، وإنّا إن شاء الله نصل إليهم فاتحين فائزين *.

وإنّهم ما كانوا ليغلبوكم، ولكن ذهبتم إلى الفلاة من الحُماة، وإلى الموامي مِن حِمى الحامي، وأنفدتم زاد العلوم، وصرتم كالبائس المحروم، وجعلتم أنفسكم كشيخ مفنّد لا رأي له ولا عقل، أو كبهيمة لا تدري إلا البقل. لا تقبلون سلاحًا نزل من السماء من حضرة الكبرياء، أما أسلحة الدُّنيا فليست بشيءٍ بمقابلة هؤلاء الأعداء. فالآن مَسكنكم فلاةٌ عوراء، ودَشْتٌ ليس هنالك الماء. وإنكم تتركون متعمّدين عيونا جاريةً تروي العطشان، وتختارون موامي ولا تخافون الغيلان، وقد ذابت الهاجرة الأبدان. ما لكم لا تَأْوون إلى هذا الظل الرحب الذي ينجيكم من الحرور، ويهديكم إلى ماءٍ عذبٍ، ويبعدكم عن حُفر القبور؟

وإن أكبر الدلايل على صدق من ادّعى الرسالة، هو وجود زمانٍ كمَّل الضلالة. وإن كنتم في شك من أمري فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين. ألم يكفِكم أنه جعل لنا فرقانًا بعد ما باهل العدا، وقالوا إنّ لنا الغلبة من الحضرة، فأهلك الله من هلك عن البيّنة، ومكرتم ومكر الله، والله خير الماكرين.

وترون كيف تخيّم الأعداء حولكم، وكيف نزل عليكم البلاء، وتذللتم لهم من ضعف أنفسكم وجذبتْكم إليهم الأهواء، وقد نحتوا حيلاً حيّرت البصائر والأبصار، فما لكم لا ترون إعصارًا أجاحت الأشجار؟ إنهم قوم يريدون لكم ارتدادا وضلالاً، ولا يألونكم خبالاً. وقد غلبوا أهلَ الأرض وجعلوهم كالغلمان والإماء، وكادوا أن يرموا سهامهم إلى السماء. ووالله لا قِبل لكم بهم، وإنْ أنتم عندهم إلا كالهباء. فقولوا أأَغْضَبُ عليكم أو لا أغضب؟ لم تنامون في هذا الأوان؟ أرضِيتم بالحياة الدنيا من الآخرة، فاثّاقلتم إلى الأرض كالسكران؟ وأيّ شيءٍ أنامكم، وقد صرتم غرض الخُسران؟ وأيّ طاقةٍ بقيتْ لكم يا فتيان؟ ووالله ما بقي إلا ربّنا المنّان. فلا أدري ما صنعتم وما تصنعون بالأسباب. وكيف ينصركم عقلكم الذي ليس إلا كالذباب؟ وأيّ زينة تُظهرون بهذه الثياب؟

Share via
تابعونا على الفايس بوك