محاولات تشويه سمعة المسلمين علميا وتأريخيا

محاولات تشويه سمعة المسلمين علميا وتأريخيا

سامح مصطفى

كاتب وشاعر
  • كيف مارس أغلب المستشرقين اللصوصية بجحود فضل المسلمين على الحضارة الأوربية؟
  • لماذا يصر هؤلاء المستشرقين والمنخدعين بتزويرهم على تسمية الفتح الإسلامي بالغزو؟
  • كيف تعامل المسلمون الفاتحون مع أهل البلدان المفتوحة؟
  • لماذا يغيب الإنصاف حين يتحدث نفس المستشرقين عن اكتشاف الأسبان المسيحيين للأمريكتين؟ أهو غزو أم فتح؟!

__

تنويه: * التأريخ: بهمزة على الألف يُقصَد به عملية تدوين الوقائع التاريخية، وهذا ما نرمي إليه من خلال العنوان. (التقوى)

 

للعلم والتأريخ أخلاقيات أيضًا!

لا تقتصر مظلة منظومة الأخلاق الإنسانية على واقع المعاملات الاجتماعية وحسب، بل تمتد لتُظِلَّ سائر نواحي الحياة، ومنها أخلاقيات العلم والبحث العلمي في كافة المجالات، ومن تلك المجالات «التأريخ». تلك الأخلاقيات كانت فيما مضى تمارس بالسليقة بدءًا منذ اكتشاف الكتابة وحتى أفول شمس القرن الخامس عشر الميلادي، حين بدأ زمام حركة القدم والبحث العلمي ينفلت شيئًا فشيئًا من أيدي المسلمين ليقع في يد الغربيين مع بداية القرن السابع عشر الميلادي وخلال ما يسمى بعصر النهضة الأوروبية. وقلَّما عُهدت حوادث سرقة علمية بين الأقدمين، فالمسلمون مثلًا، والذين يُعزى إليهم الفضل في نقل التراث الإغريقي العلمي والفلسفي بأسره إلى أوروبا، كان بمقدورهم نسبة جل ذلك التراث، إن لم نقل كله، إلى أنفسهم، ولكنهم نقلوه بكل أمانة ناسبين إياه لأصحابه، وكأنهم تأثروا بتوجيه الله تعالى: ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ (1)، فنسبة العلم لأهله لا تقل أهمية عن نسبة الولد لأبيه. فقد تعامل العلماء العرب مع نصوص “بطليموس” بنظرة نقديّة، وأضافوا إليها وطوّروها. أما المنجزات الأوروبية في علم الفلك، فقامت على إنجازات علماء أمثال ابن الشاطر الدمشقي. وفي كتابه المعنون بـ “العلوم الإسلامية وقيام النهضة الأوروبية”، يعود الأكاديمي اللبناني «جورج صليبا» إلى أصول الترجمة والنقل، ليكشف علاقة النصوص العربية بفورة العلوم في القارة العجوز(2)، وليخلص في النهاية إلى أن عصر التقدم العلمي الغربي هو ثمرة الشجرة التي وضع المسلمون بذرتها أول مرة. ولكن مما يؤسف له أن ذلك التاريخ العلمي الطويل تعرض للطمس مرات ومرات، وجحد عوام اليوم فضل المسلمين الذي لا زال محل إكبار وإجلال كثير من المستشرقين المنصفين ومؤرخي العلم في أوروبا نفسها. وفي كتابها المعنون بـ “تاريخ النظم والحضارة الإسلامية” تعرب الدكتورة فتحية النبراوي عن دهشتها لهؤلاء الذين يتنكرون لدور الحضارة الإسلامية في النهضة الغربية الحديثة مشيرة إلى أنه من المؤسف أن بعض المسلمين من المدفوعين بمشاعر عصبية شعوبية يجارون هذا التيار الجاهل في الغرب ويزعمون أنه لم تكن هناك حضارة إسلامية أصلًا وأن المسلمين لم يسهموا في الحضارة الإنسانية المعاصرة رغم أن هناك أسماء عربية وإسلامية كثيرة ومعروفة ولا يستطيع الغربيون أنفسهم إنكار دورها في خدمة حضارتهم لكن للأسف لم تسلط الأضواء على تلك الأسماء(3).

غزوٌ أم فتح؟!

يقولون أنك لا يمكنك حجب الشمس بغربال، وبدورنا سنقوم في هذا المقال بتطبيق تلك المقولة على سائر المعرفة التاريخية مما يحاول البعض إخفاءها والتعتيم عليها غير أن الواقع ينبئ بحقيقتها أبلغ إنباء، من تلك المعارف التاريخية وصف انتشار الدين الإسلامي الحنيف في رقعة واسعة من الأرض شملت ثلثي العالم القديم تقريبا، فما أن بدأت المؤلفات التاريخية تُسطر بأيدي المستشرقين حتى أخذنا نسمع بمصطلحات معاكسة، فالفتح الإسلامي لكثير من البلدان يسميه المستشرقون المتعصبون غزوا واحتلالًا، على الرغم من أن الإسلام لم يمس بسوء الهوية الأصلية لأهل البلاد التي فتحها، بل أثراها وأضاف إليها، حتى أثمرت تلك الهوية الجديدة المتولدة أنبغ العقول التي يعترف العالم بنبوغها..

مما يؤسف له أن ذلك التاريخ العلمي الطويل تعرض للطمس مرات ومرات، وجحد عوام اليوم فضل المسلمين الذي لا زال محل إكبار وإجلال كثير من المستشرقين المنصفين ومؤرخي العلم في أوروبا نفسها

بينما في المقابل نجد أنفسنا مدفوعين إلى عقد مقارنة بين واقع الشعوب التي دخلها المسلمون فاتحين والشعوب التي دخلها الأوروبيون، لقد اختفت ثقافة أكثر تلك الشعوب واندثرت لغاتها وطابعها الحضاري والمعماري، وإذا أخذنا بوجهة النظر الأوروبية القائلة بأن العالم عمره مليوني سنة، فإن هذا يثير سؤالاً مفاده كيف عاشت تلك الشعوب طوال المليوني عام الماضية والتي تشمل فترة ازدهار المسلمين، ثم لم تلبث أن اندثرت هكذا فجأة بمجرد أن استولت القوى الأوروبية على أراضيها؟! لقد ذهب الأوروبيون إلى أستراليا، وإلى أفريقيا، والواقع أنهم أينما ذهبوا أخذ عدد السكان الأصليين في التضاؤل(4).

ولا غضاضة في أن يروج كلٌّ لبضاعته، شريطة أن يسلك السبيل الحسن. وقد كانت أرض أفريقيا، على سبيل المثال، معرضًا روَّج فيه أتباع شتى الأديان لأديانهم منذ وقت بعيد، فقامت البعثات التنصيرية بهذا الدور خدمة لأهداف استعمارية واضحة، حتى أن الزعيم الأفريقي «جومو كينياتا» مؤسس كينيا الحديثة، ينسب إليه البعض مقولة تعبر أبلغ تعبير عن ذلك الواقع، جاء فيها: «حين وطأت أقدام المبشرين أرضنا، كانوا يحملون في أيديهم الكتاب المقدس، ونحن كنا نملك الأرض، مرت سنوات، علمونا خلالها كيف نصلي بأعين مغمضة، وعندما فتحنا أعيننا، كنا نحمل الكتاب المقدس، بينما استولوا هم على الأرض».. ولكننا حين ننظر إلى الواقع الأفريقي بأعين إسلامية نرى العكس تمامًا، فقد تقبَّل الأفارقة منذ قرون القيم الإسلامية وتصبغوا بها، وفي المقابل، لم يمح الإسلام الهوية الأفريقية، بل حافظ عليها وأظهر أجمل ما فيها، فبينما دأب المنصرون على محو الطابع والهوية الأفريقية، منح الإسلام أفريقيا طابعها الخاص، تمامًا كما فعل في كل البلدان المفتوحة، فعرفنا سلطنات إسلامية ذات نمط أفريقي فريد في تمبكتو، وفي نيجيريا، وفي زنجبار، وفي كينيا، وفي تنزانيا، وغيرها(5).

الإسلام وصيانة الهوية المغلوبة

حين دخل المسلمون أراضي الفرس شرقًا والروم شمالًا وغرًبا، كان هذا ردًّا على عدوان مسبق مارسه الفرس والروم على المسلمين بشكل ما، وحتى بعد انتصار المسلمين فإنهم لم يشبعوا الرغبة في الانتقام من المنهزمين، بدليل أن الإسلام حافظ على هوية البلاد المفتوحة، نعم، أضاف إليها الثقافة الإسلامية، ولم يُلغ ثقافتها الأصلية، فترى البلدان المفتوحة تميزت في ظل الإسلام بنمطها الخاص في العمارة والثياب والأطعمة واللغة، فلم يقمع المسلمون حضارة الشعوب الأخرى، بل كان بالنسبة لها انفتاحا على الحضارات الأخرى.. على الجانب الآخر، لننظر مثلًا إلى التوسع الغربي في القرن الخامس عشر فيما يدعى باكتشاف الأمريكتين، لننظر، ماذا أبقى المحتلون الإسبان من لغة وحضارة السكان الأصليين؟! لم يبقوا شيئًا، وحتى اللغة الأصلية اندثرت وأصبح ثمة أمريكا اللاتينية، هذا فقط غيض من فيض نماذج التاريخ المتعددة. لهذا نميل إلى وصف الانتصارات الإسلامية عبر التاريخ بالفتوحات، ولو وافقنا، جدلًا، من يريد تسمية الفتح الإسلامي للأراضي التي دخلها كشمال أفريقيا مثلًا، ودعوناه بالغزو العربي، لكان الوجود العربي بهذه المنطقة مثل الوجود الأوروبي بالأمريكيتين، وعلى الرغم مما بين الوجودين من بون شاسع، إذ الوجود الأوربي في العالم الجديد قائم على أساس إبادة أصحاب الأرض الأصليين، إلا أنه  قلما يجرؤ أحد على نعت دخول أساطيل إسبانيا والبرتغال وبريطانيا لأمريكا الشمالية والجنوبية بالغزو الأوروبي، بل بلغ الأمر من التضليل أوجه حتى سمي ذلك الاجتياح في بداية الأمر استعمارا، مع أنه ترافق وخراب عام وسلب خيرات ومقدرات شعوب أهل البلاد الأصليين، ناهيك عن ابتلائهم بالإبادة الجماعية.

من يكتب التاريخ؟!

التاريخ عادة يكتبه المنتصر، فحين تيسر لجيوش المسلمين دخول الأراضي الشاسعة التي كانت بالأمس ضمن حدود أعظم امبراطوريتين (الفرس والروم)، فإن حروبهم التي أفضت إلى النصر المبين سُميت فتوحات، هكذا سماها من انتصروا فيها، لكن المستشرقين والمتأثرين بهم الآن يدعونها احتلالًا وغزوًا، زاعمين بهذا أنهم يسمون الأشياء بمسمياتها، فأية وجهة نظر علينا أن نرجح؟! ولماذا؟!

التوسع الإسلامي على حساب إمبراطوريتي الفرس والروم القديمتين كان أمرًا فرضه الواقع آنذاك، في عصر إن لم تحتل بنفسك أرض جارك لاحتل جارك نفسه أرضك، كان هذا المنطق هو المنطق الدولي السائد صراحة في ذلك الوقت، إن جاز تسميته منطقًا أصلًا، حتى أشرق نور الإسلام فتغيرت قواعد «اللامنطق» تلك، لم يُقدِم المسلمون على فتح أراضي الآخرين من منطلق الاستضعاف، بدليل أنهم واجهوا منفردين أول ما واجهوا أعظم الإمبراطوريات وأعتاها، الأمر أشبه ما يكون بمواجهة بين دويلة صغيرة ضعيفة وقوتين عظميين في ذات اللحظة. يبدو الأمر غير منطقي بمقاييس عصرنا بل كل عصر، ولكن هذا ما حدث فعلا، في حين أنه كان في متناول يد المسلمين في ذلك الوقت أراض كثيرة أكثر ثروات وأضعف جندًا، فقد كانت مملكة أكسيوم (الحبشة) على بعد رمية سهم، فلماذا لم يتوسعوا على حسابها إذن؟!

حين دخل المسلمون أراضي الفرس شرقًا والروم شمالًا وغرًبا، كان هذا ردًّا على عدوان مسبق مارسه الفرس والروم على المسلمين بشكل ما، وحتى بعد انتصار المسلمين فإنهم لم يشبعوا الرغبة في الانتقام من المنهزمين، بدليل أن الإسلام حافظ على هوية البلاد المفتوحة، نعم، أضاف إليها الثقافة الإسلامية، ولم يُلغ ثقافتها الأصلية

الاستعمار المُقَنَّع وجنة الدجال

لا شك أن الاستعمار بمظهره العسكري التقليدي القديم قد ولى إلى حيث لا رجعة، لا سيما بعد أن نالت كافة دول العالم الثالث استقلالها بشكل ما، بغض النظر عن أنها نالت في أغلبها استقلالًا مشوهًا ما زال يجلب عليها كل يوم من المصائب أكثر مما يعطيها من المنافع، فعلى أية حال، ولَّت الهيمنة العسكرية إلى غير رجعة، ولكن أيمكننا القول بأن الاستعمار انتهى قطعا 100%؟! خلف ستار الدوافع الإنسانية، تُفرض الإمبريالية بحذق على البلدان الضعيفة بحيث يصبح من الصعب التمييز بين بلد حرّ وبلد مستعبد. فتبرر القوى الغربية ارتباطها ببلدان أضعف بأنها تسعى إلى مساعدتها. فلا تستطيع تلك البلدان التعرف على الدوافع الخفية وراء النوايا النبيلة في الظاهر، فترى خطأً نار الدجال على أنها جنة تُقدّم لها. عندها، تصبح البلدان تابعة للقوى الغربية دون أن تدرك ما حدث، وتجد أن ليس لديها مجال لممارسة سيادتها.

قال حضرة مرزا طاهر أحمد، خليفة المسيح الرابع (رحمه الله): “ظاهريًّا، لا يلاحظ العالم أي رغبة من جانب الدول المتقدمة في ممارسة أي تأثير على الدول النامية، لكنها في الواقع تملي بقوة السياسات الخارجية الأساسية والمهمة على الدول الصغيرة. وتدرك عندئذ الدول الصغيرة أن سياساتها الخارجية ليست مستقلة. فما يحدث عَمليًّا هو أن الدول الأقوى تصوغ السياسة الخارجية للدول الصغيرة بحيث تضع لها بعض الخطوط. وإذا أقامت هذه الدول الصغيرة اتصالات مع الدول الأخرى أو أجرت تغييرات على سياستها فلا اعتراض طالما بقيت داخل تلك “الحدود”، ولكن بمجرد أن تغامر بعبور تلك الخطوط، تجد الدول المتقدمة ذريعة للتدخل في سياساتها. وبالتالي، لا يُسمح لهم باتباع أي سياسة مستقلة”. ويتم ممارسة هذا الخداع في المقام الأول عبر وسائل الإعلام. وتُستخدم الحملات الدعائية لتجميل صورة القوى الغربية في أعين شعوب العالم. وهكذا فإن الجهود الإمبريالية التي يبذلها الدجال، ويأجوج ومأجوج، تُصوَّر أمامنا مراراً وتكرارًا على أنها جهود إنسانية كبيرة. غير أن الدافع الأساسي وراء ذلك هو الإمبريالية.” (6)

الهوامش:

1.(الأحزاب: 6)

2.جريدة الأخبار اللبنانية، الجمعة 26 آب 2011 العدد 1497

3.تحقيق صحفي بعنوان «لماذا ينكر الغرب فضل الحضارة الإسلامية؟»، جريدة البيان الإماراتية، بتاريخ 2 نوفمبر 2005

4. مرزا بشير الدين محمود أحمد، «عرض غير عادي للأخلاق من قبل المسلمين أثناء حكمهم»، خطاب بتاريخ 31 أكتوبر 1945 في قاديان، الهند، الترجمة الانكليزية للخطاب

5. افتتاحية مجلة التقوى لشهر أغسطس 2017 بعنوان «أفرِيقيا.. قلب العالم ينبِض من جديد»

6.مقال بعنوان “الدجال ويأجوج ومأجوج” منشور في مجلة شروق شمس المسلمين

Share via
تابعونا على الفايس بوك