في ذكر أهل الجرائد والأخبار

لعلك تقول بعد ذلك أن أهل الجرائد والأخبار يستحقون أن يصلحوا مفاسد البلدان والديار. فأقول رحمك الله أنه خطأ في الأفكار. أتبرأ من هؤلاء أمراض النفوس وساوس القسوس. نعم لا شك أن هذه الصناعات تفيد قومنا لو رعوها حق المراعاة، وتكون كهاد إلى مجاهل، وتقود إلى مناهل، وتكون كناصر للدينيات. وإن الجرائد مرآة ترى الغائب كالمشهود والغابر كالموجود، وتكون الوصلة إلى بعض الخفايا، بل قد تعين على فصل القضايا، وترى الأمور القريبة والبعيدة كتقابل المرايا، وتهيئ كل عبرة لأولي الألباب، وتخبر عن طرق النجاة والتباب، وتنبئكم كل يوم كيف تتغير الأيام، وكيف تقوى المجامع، وتغور المنابع العظام، وكيف تخلو المرابط، ويهوي الأمراء من إمرتهم بعدما أودعت سر الغنى أسرتهم. وتخبر من أخبار المحاربين الغالبين منهم والمنهزمين والفائزين منهم والخائبين.

ولولا الأخبار لانقطعت الآثار، وجهل الدول، وما علم الأبرار والأخيار، وتقطعت سلسلة تلاحق الأفكار وتكميل الأنظار، ولضاعت كثير من آراء، وتجارب أهل عقل ودهاء، وما بقي سبيل إلى تعرف أهل السياسات، ومعرفة أهل العقول والاجتهادات. ولولا التاريخ لصار الناس كالأنعام، ولضيعوا سلسلة الأيام والأعوام. وقد سلمت ضرورته مذ سلت السيوف من أجفانها، وبرئ الأقلام لجولانها، ولا نقدر على موازنة الأولين والآخرين إلا بإمداد المؤرخين. وهو الذي يحمل آثار بنات المجد، ويشيع أذكار أرباب الجد، وهو زينة للدين وسنة الله في كتبه والفرقان المبين. والدين الذي لم يحصله تحت أسره، ولم يصاحبه في قصره، فليس هو إلا كبيت بني في موضع يخاف عليه من صدمات السيل، وربما يذهب السيل بمتاعه، ويغادره كغبار سنابك الخيل. ومن فقد عصا التاريخ يمشي كقزل، ولا تتحرك رجله من غير أن تتخاذل. فينهب ذلك البين من صول الجهل وسيله، ومن تبوأه يتلف درراً جمعها في ذيله. وربما ينسيه الشيطان ما هو كعمود الملة، ويغادر بيته أنقى من الراحة. فيكون مآل هذا الدين أنه يرمى بالكساد، ويتلطخ بأنواع الفساد. والدين الذي يؤيد بصحف التاريخ والجرائد وضبط الأخبار لا تعفى آثاره، بل يؤتي كعذيق أكله كل حين من أنواع الثمار، ويخرج كل وقت من معادن الصدق سبائك الفضة والنضار، وأخبار تسكن القلوب عند مساورة الهموم والكرب، وتقص قصص المصابين على القلب المكتئب، وتشدد الهمم لاقتحام في الأمور العظام، وتشجع القلوب المزؤودة بنموذج الفتيان الكرام. فإن نموذج الفتيان والشجعان يقوي القلوب ويزيد جرأة الجنان. فوجب شكر الذين يعثرون على سوانح زمن مضى أو على سوانح أهل الزمان، ويخبرون عن ضعف الإسلام وقوة أهل الصلبان. وكم من جهالة مست قومنا من قلة التوجه إلى التواريخ وأخبار الأزمنة والديار. وعرض عليهم النصارى بعض القصص محرفين مبدلين كما هو عادة الأشرار. وأهلكوهم وبلغوا أمرهم إلى البوار والتبار، وطمعوا في إيمانهم، بل جذبوا فوجاً منهم إلى صلبانهم. وهذا أمر يزيد بلبال العاقلين، ويهيج الأسف على عمل المفسدين.

ثم مع هذه الفضائل مآل أكثر أهل الجرائد في زمننا إلى الرذائل، وجمعوا في أنفسهم عيوباً سلفت جميع ما هو من حسن الشمايل. ما بقي فيهم ديانو ولا صدق وأمانة. يسيل من أقلامهم سيل الأكاذيب، ويسفكون دم الحق عند الترغيب والترهيب. يحمدون لأغراض ويسبون لأغراض، وجعلوا أهواءهم قبلتهم في كل توجه وإعراض وازدراء وإغماض. يتقاعسون من مبارز، ويصولون على إحراض. يكذبون كثيراً، وقلما يصدقون، وفي كل واد يهيمون. ليس فيهم من غير خلابة العارضة والهذر عند المعارضة. لا يقدرون على عذوبة الإيراد من غير كذب وهزل وترك الاقتصاد، ولا يمسون نفائس الكلمات إلا بمزج الأباطيل والجهلات. يبغون نزهة سوادهم بالهزليات، ويستميلونهم بالمضحكات والمبكيات. ويريدون اختلاب القلوب، ولو كان داعياً إلى الذنوب. ويقولون كلما يقولون رياء واستمالة للأعوان، لينهل ندى أهل الثراء والثروة عليهم، وليرجعوا بالهيل والهيلمان، وليتسنوا قيمتهم، ويستغزروا ديمتهم. ولذلك يرقبون ناديهم ونداهم، وإن خيبوا فيلعنون مغداهم. وكثير منهم يعيشون كالدهريين والطبيعيين، وينظرون الدين كالمستنكفين، بل أعينهم في غطاء عند رؤية جمال الملة، وقلوبهم في عيافة عند هذه الجلوة. لا يرون الكذب سبة، ويجعلون لبنةً قبة. ولن يتركوا سدى، وإن مع اليوم غدا. وأرى أن أبخرة الكبر سدت أنفاسهم، وهدمت أساسهم. وترى أكثرهم كصدف بلا در، وكسنبلة من غير بُر. يقومون لتحقير الشرفاء لأدنى مخالفة في الآراء، وتجد فيهم من اتخذ سيرته الجفاء، وإلى من أحسن إليه أساء. وإذا رأى في مصيبة الجار فآذى وجفا وجار، وما رحم وما أجار. فكيف ينصر الدين قوم رضوا بهذه الخصائل، وكيف يتوقع فيهم خير بتلك الرذائل، إلا الذين صلحوا ومالوا إلى الصالحات، فيرجى أن يأتي عليهم يوم يجعلهم من حفدة الدين ومن الناصرين بالصدق والثبات.

في ذكر الفلاسفة والمنطقيين

لعلك تقول بعد ذلك أن الفلاسفة والمنطقيين يقدرون على أن يصلحوا مفاسد هذا الزمان، فإنهم يتكلمون بالحجة والبرهان، ويصلون إلى نتيجة صحيحة بعد ترتيب المقدمات، ولا يبقى الإشكال بعد شهادة الإشكال في المعضلات. فنقول أن هذه العلوم مفيدة بزعمك من غير شك في بعض الأوقات، وتثبت خيانة من خان ومان، وتنجي من الشبهات. ومن تعلمها يصير بيانه موجهاً وحلو المذاقة، ويتراءى يراعه مليح السياقة. وإن أهلها يزيد رعباً على الكافرين، ويطلع على خيانة المفسدين، وبها يزين الإنسان روايته، ويستشف كل أمر، وينقذ درايته، ويبكت بالحجة كل من يعوي، ويشوّق الآذان إلى ما يروى كدرر فرائد، ولا يكابد فيها شدائد، ولا يخاف عند النطق رعب مانع، ولا يأتي بني غير يانع، ويقتحم سبل الاعتياص، ويسعى لارتياد المناص. وربما يفكر ويعكف نفسه للاصطلاء، لينجي نفوساً من جهد البلاء. هذا قولك وقول من يشابه قلبه قلبك، ولكن الحق أن هؤلاء من الفلاسفة والحكماء وأهل العقل والدهاء لا يقدرون على دفع هذا البلاء، بل هم كبلاء عظيم لأبناء الإسلام والطلباء. وكلما زقوا صبيان المسلمين، فهو ليس إلا كالسموم، وأخرجوهم من رياح طيبة وتركوهم في السموم، بئسما علّموا وبئسما تعلّموا.

Share via
تابعونا على الفايس بوك