شهادات كتب بوذية على هجرة المسيح عليه السلام إلى الهند

هذا الكتاب القيّم لسيدنا الإمام المهدي يُعتبر عملاً متميزاً ومعلماً هاماً في مسيرته الدينية والعلمية والأدبية. فلقد سلّط الكتاب الضوء على حياة المسيح الناصري ووفاته بأسلوب بحثي علمي متفوق وبأدلة لا يمكن للقارئ اللبيب إلا التسليم بها. ولئن كان المؤلف قد تلقّى هذه الحقائق بوحيٍ من الله العليم الحكيم إلا أنه سلك في هذا الكتاب مسلكاً بحثياً علمّياً محضاً وقدَّم الأدلة الدامغة الشافية والوافية البيّنة من مصادر عديدة متيسّرة في متناول الجميع وبين أيديهم. ولقد جاء الكتاب في أربعة أبواب. الباب الأول يتناول الشواهد من الإنجيل على حقيقة حياة المسيح وأنه قد نجا من حادثة الصلب، وقام بالعديد من الأعمال بعد هذه الحادثة، وأنَّ عقيدة النصارى واليهود في قتله على الصليب عقيدةٌ باطلة ينقضها الإنجيل بنفسه. ثم تناول في الباب الثاني شواهد القرآن الكريم والحديث الشريف التي تؤكّد نجاته من الصليب وانتقاله إلى مكانٍ آخر، حيث آواه الله وأمَّنه بعد الظلم والعذاب، وتؤكّد قيامَه بالعمل الموكل إليه قبل أن يُتَوفّى عن سنٍّ متقدمة جاوزت المائة وعشرين عاماً. ثم بيَّن في الباب الثالث الشواهد التي وُجدت في كتب الطب والتي يتداولها العلماء منذ مئات السنين التي تذكر “مرهم عيسى” وتبيّن تركيبته وتذكر أنَّ الحواريين قد استخدموه في علاج جروح المسيح الناصري . وتناول في الباب الرابع الشواهد من كتب التاريخ القديم والحديث، فلقد أخرج من بطون الكتب ما يُذهل القارئ من فقراتٍ تتحدَّث عن رحلات المسيح وتؤكّد أنه قد وصل إلى الهند وأنه ألقى عصى التسيار فيها. ثم استنتج الدلائل على أنَّ القبر الموجود في سيرينغير، كشمير في حارة خان يار والمسمّى بضريح “يوز آصف” ما هو إلا قبر المسيح الناصري ، ولقد اقتبس سيدنا الإمام المهدي من كتاب العلماء والباحثين الغربيين ما اعتقدوا به من أنَّ المسيح قد انتقل إلى الهند وما وجدوه من تشابه كبير بين البوذية والمسيحية.

ولقد بيّن أنَّ هذا الكتاب ما هو إلا مواساة للمسلمين الذين ينتظرون مسيحاً سفّاكاً للدماء، ما زال حيّاً في السماء، يُكره الناس على الدخول في الإسلام بالسيف، فينقض تلك الفكرة الباطلة ويزيل الآثار السيئة التي تركتها على الحالة الخلقية للمسلمين. كذلك هو مواساة للنصارى بتبيان أنَّ الإله الحق منزّه عن الولادة والألم والضعف البشري. وها نحن نقدّم هذا الكتاب القيّم للقرّاء في حلقات آملين أن يحقّق الفائدة المرجوّة منه.

«التقوى»

*ملاحظة: الهوامش التي في آخرها (المؤلف) هي من سيدنا الإمام المهدي . أما التي كُتب في آخرها (المترجم) فهي من توضيح هيئة المترجمين.

ويتبيَّن من كتب البوذية أيضاً أنَّ “غوتم بوذا” تنبّأ بظهور بوذا آخر يأتي باسم “مَتِيّا”؛ وقد ورد هذا النبأ في كتاب لبوذا اسمه “لَجاوَتي سُتاتا” الذي أُشير إلى نصّه في الصفحة 142 من كتاب لِــــ Oldenberg ؛ ونصُّ ذلك النبأ هو: “إنَّ “مَتِيّا” سيكون إماماً للملايين، كما أنني اليوم إمامٌ للمئات”.

وهنا ينبغي ألا يغيب عن البال أنَّ كلمة “مشيحا” بالعبرية هي التي لَفَظَها أهل اللغة “الباليّة” بلفظة “مَتِيّا”. ولا غرابة في ذلك لأنَّ الكلمة إذا انتقلت من لغة إلى أُخرى اعتراها شيءٌ من التغيُّر، كما نرى الكلمات الإنجليزية تخضع للتغيُّر عندما تنتقل إلى لغةٍ أخرى. وقد قدَّم البروفسور Max Muller أمثلة على هذه التغيُّرات في قائمة ضمَّت إلى المجلد 11 من كتاب The Sacred book of the East حيث يقول في الصفحة 318 منه إنَّ لفظ «Th» الذي نُطقه بالإنجليزية هو “تهـــ” تتحول في الفارسية والعربية إلى “ث”، أي لا تختلف كثيراً عن “ث” أو “س” عند القراءة. فنظراً إلى هذه التطوّرات يستطيع كل شخص أن يُدرك أن لفظة “مسيحا” انتقلت إلى اللغة “البالية” بصورة “مَتِيّا”.. أي أنَّ “مَتِيّا” الذي أخبر بوذا بظهوره هو المسيح الناصري في الواقع، لا غيره.

ومن أقوى القرائن على ذلك أنَّ بوذا قد تنبّأ أيضاً أنَّ الدين الذي أسَّسه لن يبقى على الأرض أكثر من خمسة قرون، وأنَّ تعاليمه ومبادئه عندما تتعرَّض للضعف والانهيار سوف يظهر “مَتِيّا” في هذه البلاد ويُقيم تلك التعاليم الأخلاقية في الدنيا مرةً أخرى.

ونجد أنَّ المسيح قد بُعث بعد بوذا بخمسة قرون، وكانت البوذية عندئذٍ قد تعرَّضت للضعف والانهيار كما تنبّأ بوذا بذلك وعندها هاجر المسيح إلى هذه البلاد، بعدما نجا من الصليب، فعرفه أتباعُ بوذا وعاملوه بكل تعظيم. ومما لاشكَّ فيه أنَّ تعليم المسيح قد أحيا من جديد تلك التعاليمَ الأخلاقية والطرق الروحانية التي أسَّسها بوذا. ويعترف المؤرِّخون المسيحيون بأنَّ التعاليم الأخلاقية الواردة في أماكن مختلفة من الإنجيل وبالأخصّ التي وردت في الخطبة الجبلية هي نفسُها التي كان بوذا قد روَّجها قبل المسيح بخمسة قرون؛ كما يُقرّون أيضاً أنَّ بوذا لم يكن معلّم التعاليم الأخلاقية فحسب، بل كان معلِّم الحقائق الكبرى الأخرى أيضاً، ويرون أنَّ تسمية بوذا بــــ “نور آسيا” تسميةٌ صحيحةٌ تماماً.

فالمسيح قد ظهر بعد بوذا بخمسة قرون كما كان الأخير قد تنبّأ بذلك، وكانت تعاليمه الأخلاقية هي تعاليم بوذا ذاتها، كما يعترف بذلك معظم علماء المسيحية. وهذا يؤكِّد أنَّ ظهوره كان مصبوغاً بصبغة بوذا.

وقد قال Oldenberg في كتابه نقلاً عن كتاب لبوذا “لَجاوَتي سُتاتا” أنَّ أتباع بوذا ما برحوا يُطَمْئِنون أنفسهم دوماً بأنهم سوف يُسعَدون بالنجاة في المستقبل حين يصبحون تلاميذ لِــــ “مَتِيّا”، أي أنّهم كانوا على يقين بأنَّ “مَتِيّا” سيظهَر فيهم، وأنّهم سينالون النجاة بواسطته؛ ذلك لأنَّ الكلمات التي بشَّرهم بها بوذا مجيء “مَتِيّا” كانت تدلُّ في صراحةٍ تامة على أنَّ تلاميذه سيلقَون “مَتِيّا”.

وهذا البيان من الكتاب المذكور يملأ القلوب باليقين بأنَّ الله قد أتاح لهداية هؤلاء الناس الوسائلَ من كلا الجهتين: فمن جهة، كان من الواجب على المسيح – بسبب اسمه “آسف” الذي يعني “الجامع لشمل الجماعة”، والذي هو مستمَّد من سِفر التكوين الإصحاح 3 العدد 10 * – أن يُهاجر إلى هذه البلاد التي جاء إليها اليهود واستوطنوها؛ ومن جهةٍ أخرى، كان لزاماً – بحسب نبأ بوذا – أن يلقى أتباعُه المسيحَ، ويستفيدوا منه. فإذا نظرنا إلى كلا الأمرين معاً أدركنا بصورةٍ قطعية أنَّ المسيح قد رحل إلى “تِبتْ” حتماً، كما أنَّ التعاليم والتقاليد المسيحية الكثيرة التي وجدت طريقها إلى الديانة البوذية في “تِبتْ” تؤكّد بنفسها على لقاء المسيح بهم. ثم إنَّ الانتظار المستمر الذي بقي فيه المتحمسون من أتباع بوذا للقاء المسيح – كما هو مسجَّل في الكتب البوذية – ليدلُّ دلالةً واضحة على أنَّ عقيدة الانتظار الشديدة هذه كانت مدعاةً لقدوم المسيح إلى “تِبتْ”. ولو أخذ أيُّ باحثٍ عادل هاتين الحقيقتين الهامتين في الاعتبار، لما احتاج إلى تجشُّم عناء البحث عن الكتب البوذية التي تُصرّح بأنَّ المسيح قد جاء إلى بلاد “تِبتْ” ذلك أنه لما كان الانتظار لظهور الموعود شديداً، بحسب نبأ بوذا، فلا بدَّ أن يكون ذلك النبأ قد جذب المسيحَ إلى “تِبتْ”. ولا يغيبنَّ عن الأنظار أنَّ المراد من اسم “مَتِيّا”، المتداول في الكتب البوذية بكثرة هو “المسيح” نفسه. ففي الصفحة رقم 14 من كتاب:

Tibet , Tartary and Mongolia by H. T. Prinsep

ورد في صدد “بوذا مَتِيّا”، الذي هو المسيح في الواقع، أنَّ الأحوال التي رآها المبشِّرون المسيحيون الأوائل بأعينهم في “تِبتْ” والأحداث التي سمعوها بآذانهم، قد جعلتهم يستيقنون بأنَّ آثار المسيحية موجودة في الكتب القديمة لعلماء البوذية “لامات”.

ثم ذكر في الصفحة نفسها أنّه مما لاشكَّ فيه أنَّ أولئك القسِّيسين الأوائل كانوا يرون أنَّ دعوة المسيحية قد بلغت هذه البلاد في حياة الحواريين.

ثم جاء في الصفحة 171 من الكتاب نفسه: مما لاشكَّ فيه أنَّ الانتظار الشديد لظهور مخلِّصٍ عظيمٍ كان سائداً في الناس عندئذٍ، الأمر الذي قد ذكره تاسيتوس Tacitus قائلاً: لم يكن اليهود وحدهم مصدراً لهذا الانتظار، بل إنَّ البوذية نفسها قد أسَّست عقيدة الانتظار.. أي أنَّ البوذية تنبّأت بمجيء “مَتِيّا” إلى تلك البلاد.

ثم كتب المؤلّف على ذلك الملحوظةَ التالية: لقد ورد في الكتابَين “بتاكتيان” (Pitakattayan) و “أتهاكتها” (Attha-katha) نبأٌ واضحٌ عن ظهور بوذا آخر بعد غوتم أو “ساكهي مني” بألف سنة، إذ يُصرّح فيه غوتم إنه (أي غوتم نفسه) هو بوذا الخامس والعشرون، وأنَّ “بَجْوا مَتِيّا” لآتٍ فيما بعد”.

أي سيأتي بعدي في هذه البلاد مَنْ يكون اسمه “مَتِيّا” ويكون أبيض اللون.

ثم يمضي ذلك المؤلّف الإنجليزي فيكتب: “إنَّ اسم “مَتِيّا” يُشبه “المسيحَ” شبهاً مذهلاً”.

إذاً فإنَّ “بوذا غوتم” قد صرَّح في نبوءته هذه أنَّ المسيح سيأتي إلى بلاده وقومه وأتباعه، ولهذا السبب ما برح أتباعُ بوذا ينتظرون مجيء المسيح إلى بلادهم.

ولقد أطلق بوذا في نبوءته على المسيح القادم اسمَ “بَجْوا مَتِيّا”، لأنَّ “بَجْوا” باللغة السنسكريتية تعني “الأبيض”؛ وبما أنَّ المسيح كان من بلاد الشام، لذلك كان هو “بَجْوا” أي أبيض اللون.

علماً أنَّ البلاد التي أدلى فيها بوذا بهذا النبأ هي بلاد “مجده” التي فيها مدينة “راجه جريها”، وأهلها سُمر اللون، وكان “بوذا غوتم” بنفسه أسمر اللون؛ ولذلك فقد أخبر أتباعَه بميِّزتين واضحتين لـــ “بوذا القادم” إحداهما سيكون “بَجْوا” أي أبيض اللون، والثانية أنّه سيكون “مَتِيّا”.. أي السائح الذي يأتي من خارج هذه البلاد. فظلُّوا على الدوام منتظرين لهاتين الصفتين المميِّزتين إلى أن رأوا المسيح .

هذا ويجب على كل بوذي أن يعتقد أنَّ “بَجْوا مَتِيّا” كان قد ظهر في بلادهم بعد “بوذا غوتم” بخمسة قرون.* وليس من المستغرب أن يوجد في بعض الكتب البوذية ما يدعم هذه العقيدة، ويؤكِّد مجيء المسيح إلى بلادهم وبالتالي تحقُّقَ النبأ المذكور بهذا الشكل. ولو افترضنا جدلاً أنَّ شهادةً كهذه لا توجد في الكتب البوذية، فمع ذلك لا يسع أحداً من البوذيين على هذا النبأ أن يُنكر مجيء “مَتِيّا” – الذي اسمه الآخر هو المسيح – إلى بلادهم، لأنَّ بوذا نفسه قد وعد تلاميذه بناءً على وحي الله تعالى بمجيء “بَجْوا مَتِيّا” إلى بلادهم. وإنَّ بُطلان هذا النبأ يُبطل الديانة البوذية أيضاً، إذ إنَّ هذه النبوة التي كان “غوتم بوذا” قد حدَّد موعد ظهورها، والتي صرَّح بها مراراً أمام تلاميذه، لو لم تكن قد تحقّقت طبقَ موعدها المحدَّد لاشتبه صدقُه على أتباعه، ولسجَّلت الكتبُ عدم تحققها.

هذا، وقد وجدنا برهاناً آخر على تحقّق هذا النبأ، وهو أنه قد اكتُشِفتْ في بلاد “تِبتْ” كتبٌ ترجع إلى القرن السابع الميلادي، وقد وردت فيها كلمةُ “مشيح” – أعني اسم عيسى – هكذا: “مِي شِي هُو”. اُنظر كتاب:

A record of the Buddhist Religion by I-Tsing, translated by J. Takakusu, Clarendon Press, Oxford P. 169, 223

مع العلم أنَّ مؤلّف هذا الكتاب القديم الذي يوجد فيه اسم “مِي شِي هُو” رحالةٌ بوذيٌّ من الصين. وأما J. Takakusu الذي قام بترجمة الكتاب مؤخّراً فهو من اليابان. وقد سجّل الأخير في ملحق له على الكتاب الأصلي وبالهامش أنَّ اسم “مِي شِي هُو” (أي مسيح) مسجَّل في كتابٍ قديم يرجع إلى القرن السابع الميلادي على وجه التقريب.

إذن فهذا الكتاب يتضمَّن لفظ “مشيح” الذي يؤدّي بنا إلى اليقين بأنَّ هذا اللفظ ليس بأجنبيّ بالنسبة إلى البوذيين، بل هو مأخوذ من نبأٍ أدلى به بوذا عن الشخص الموعود الذي سمَّوه “مشيح” حيناً، و”بَجْوا مَتِيّا” أحياناً أخرى.

ومن جملة الشهادات التي وجدناها في الكتب البوذية أنه قد ورد في الصفحة 45 من كتاب Buddhism by Sir Monier-Williams أنَّ التلميذ السادس لبوذا كان اسمه “يَسا”.

ويبدو أنَّ لفظ “يَسا” مختصرٌ من لفظ “يسوع”. وبما أنَّ المسيح وُلد بعد بوذا بخمسة قرون أي في القرن السادس بعده، فقد سُمِّي بالتلميذ السادس.

علماً أنَّ البروفسور Max Muller قد ذكر هذا الرأيَ في الصفحة 517 من مجلته Nineteenth Century  في عدد أكتوبر 1894م، وأيّده قائلاً: لقد قدَّم مؤلفون مرموقون مراراً النظرية القائلة بتأثير المبادئ البوذية في المسيح. وأضاف أيضاً: ما زالت الجهود تُبذل إلى اليوم لحل هذا اللغز أي للعثورِ على سببٍ تاريخي حقيقي أدَّى إلى وصول المبادئ البوذية إلى فلسطين في حياة المسيح.

ولا شكَّ أنَّ تصريحه هذا تصديق للكتب البوذية التي ورد فيها أنَّ “يَسا” كان تلميذاً لبوذا؛ لأنَّ كبار المسيحيين من أمثال البروفسور Max Muller قد اعترفوا بأنَّ المسيح متأثّر بمبادئ البوذيّة بدون شك، أو بتعبيرٍ آخر يعترفون بكون المسيح تلميذاً لبوذا.

ولكننا نرى أنَّ مثل هذه الكلمات إهانةٌ للمسيح وانتقاصٌ من شأنه ، ونعتقد أنَّ ما ذكرتْهُ الكتبُ البوذيّة من أنَّ يسوع كان مريداً أو تلميذاً لبوذا، إنّما هو راجعٌ إلى عادةٍ متأصِّلة لدى علماء البوذيّة، حيث كانوا يحسبون الأنبياء والأولياء المتأخّرين – زمناً – تلامذةً للمتقدِّمين.

هذا، وبما أنَّ هناك تشابهاً كبيراً بين تعاليم بوذا وتعاليم المسيح، كما سبق ذكره، وبما أنَّ بوذا أقدم من المسيح عصراً، فإنَّ الظنَّ بوجود صلة المتبوع والتابع بين بوذا والمسيح كان أمراً وارداً، وإن كان يمثّل إساءةً إلى المسيح. غير أننا لا نرضى بأسلوب البحث الذي يتّبعه علماء أوربا؛ إذ يحرصون على إيجاد دليل على أنَّ البوذية قد وصلت إلى فلسطين في حياة المسيح!

ومما يؤسفني أنّه ما دامت الكتب البوذية القديمة التي ذكرت المسيح وصفاته فلِمَ يختارون طريقاً ملتوياً، فيبحثون عبثاً عن آثار البوذيّة في فلسطين، بدلاً من أن يبحثوا عن آثار أقدام المسيح المباركة في جبال نيبال وتِبتْ وكشمير؟

غير أنني أعلم يقيناً بأنَّ الكشف عن مثل هذه الحقيقة الكبرى المغطّاة تحت ألوف الحجب المظلمة لم يكن بوسعهم، بل كان ذلك بيد الإله الحق الذي رأى من السماء أنَّ عبادةَ المخلوق قد طغت على وجه الأرض، وأنَّ عبادة الصليب وعقيدة الفداء الإنساني الموهوم قد أبعدت عشرات الملايين عن الإله الحق؛ فثارت غيرته عز وجل، فبعث عبداً من عِباده وأعطاه اسم المسيح الناصري، ليُحطِّم العقائد الصليبية. فظهر ذلك العبد بصفة المسيح الموعود حسب الوعد الذي سبق منذ القديم، فحانت آنئذٍ ساعةُ كسر الصليب كما تُكسَر الخشبة قطعتين، أي الساعة التي تُبطل العقائد الصليبية وتكشف زيفها بكل جلاء. فالآن قد فتحت السماء طُرقَ كسر الصليب كلَّها، لينهضَ كلَّ باحثٍ عن الحقيقة ويتحرَّاها.

إنَّ عقيدة صعود المسيح إلى السماء بالجسد كانت خطأً بدون شك، غير أنها كانت تتضمَّن سرَّاً هاماً، ألا وهو أنَّ حقيقة أحداث حياة المسيح كانت قد اندرست واختفت عن الأنظار اختفاءَ الجثّة التي يأكلها تراب القبر، ولكنها كانت موجودةً في السماء وكأنّها إنسانٌ متجسّد، وكان لا مناص من أن تنزل تلك الحقيقة ثانيةً في الزمن الأخير؛ فها قد نزلت اليوم كإنسان *hيث يقول في الصفحة 318 منه إنَّ لفظ َت إلى المجلد 11 من كتاب  الكلمات الإنجليزية تخضع للتغيُّر عندما تنتقل إلى لغةٍ أخرى. متجسّد، فكسرت الصليبَ، وبانكساره قد حُطِّمت أيضاً الخصالُ القبيحة كما يُقطع الخنزير بالسيف إرباً، أعني خِصال الكذبِ وعبادةِ غير الله وما إلى ذلك مما شبَّهه نبيُّنا بالخنزير في حديث الصليب. علماً أنَّ ذلك الحديث لا يعني أنَّ المسيح الموعود سيقتل الكفار ويكسر الصلبان في الظاهر، بل المراد من كسر الصليب هو أنَّ إله السماوات والأرض سيكشف في ذلك الزمن حقيقةً محجوبة ينهدم بظهورها الصرحُ الصليبي كله دفعة واحدة. كما أنَّ قتل الخنزير لا يعني قتل الخنازير ولا الناس، بل المراد به القضاء على العادات الخنزيرية كالإصرار على الكذب وعَرضِه على الناس بالتكرار، إذ ليس الكذب إلا نوعاً من أكل النجاسة. فكما أنَّ الخنزير الميت لا يمكنه أكل النجاسة، فكذلك سيَأتي زمن بل وقد أتى حين يُمنَع أصحاب هذه العادات الخبيثة من أكل هذه الأرجاس.

لقد أخطأ المشائخ في إدراك حقيقة هذا النبأ الوارد في أحاديث النبي ، إذ ليس المعنى الحقيقي لكسر الصليب وقتل الخنزير إلا ما قد صرَّحنا به آنفاً. ألم يرِد في الحديث النبوي أيضاً أنَّ الحروب الدينية ستنقطع في عهد المسيح الموعود، وستتجلّى من السماء حقائق نيّرة تُميِّز الحق من الباطل جليّاً. فلا تظنُّوا أنني قد جئت لرفع السيف، كلا، بل قد أُرسلتُ لأرُدّ كلَّ السيوف إلى أغمادها. لقد تصارعت الدنيا طويلاً في الظلمات؛ وحمل كثير من أهلها السلاحَ على ناصحيهم الصادقين، وآذَوا قلوبَ أصدقائهم المؤاسين، وجرحوا مشاعر محبّيهم! ولكن قد حان الآن أن يتبدَّد الظلام؛ وقد أَدبرَ الليلُ وأسفرَ الصبح، فَبُورِكَ مَن لا يحرم نفسه اليوم.

ومن الشهادات التي وجدناها في الكتب البوذية ما ورد في الصفحة 419 من كتاب Buddhism by Oldenberg – نقلاً عن كتاب “مهاواجا” (Mahavagga) الفصل  الأول الصفحة 54 – بأنّه كان ثمةَ خليفةٌ من خلفاء بوذا باسم “راحوله”،وأنه كان تلميذاً له جدَّ مخلصٍ، بل كان بمثابة ابنٍ له.

وهنا نُعلن بكلِّ تحدٍّ أنَّ لفظ “راحوله” هذا المذكور في الكتب البوذية إنّما هو صورة مبدَّلة من “روح الله” الذي هو أحد أسماء عيسى .

وأما القصة القائلة بأنَّ “راحوله” كان ابناً لبوذا الذي فارقه وهو طفلٌ رضيع وهرب إلى بلادٍ أخرى إلى غير رجعة، هاجراً زوجته وهي نائمة دون أن يُخبرها بأمره أو يودِّعها قبل السفر، فهي قصةٌ سخيفةٌ تافهة ومُخالفةٌ لأخلاق بوذا، إذ لا يمكن أن يُعتبر صالحاً حقيقياً مَن بلغ من القسوة وغلظة القلب هذا المبلغ، حيث لم يرحم زوجته المسكينة، وغادرها وهي نائمة مستخفياً كاللصوص، دون أن يُواسيها، متناسياً الحقوقَ الزوجيّة تماماً، إذ لم يطلّقها ولم يستأذنها في هذا السفر اللانهائي، وآذى قلبها جداً بغيابه المفاجئ، ولم يُرسل إليها أية رسالة حتى شبَّ ابنُه الرضيع الذي لم يُشفق عليه أيضاً.

أَجَلْ! من المستحيل أن يكون صادقاً مَن لم يُراعِ مطلقاً تعاليمَه الأخلاقية التي كان يُلقِّنها تلاميذَه. لا يُمكن أن يقبل ضميرنا هذه القصّة مثلما لا نُصدِّق ما ورد في الأناجيل من أنَّ المسيح لم يكترث لمجيء أمّه عنده مرّةً ولا لندائها إيّاه، بل تكلَّم معها بكلماتٍ نابية تنال من كرامتها! إننا وإن كنا نجد هنا أيضاً مشابهةً أخرى بين القصّتين من حيث المعاملة القاسية التي لقيتها الزوجة والأم، إلا أننا لا نقبل أن تُعزى إلى المسيح أو إلى بوذا مثلُ هذه القصص المنحطّة عن الأخلاق العادية أيضاً. إذا كان بوذا لا يُحبُّ زوجته، فهل يُعقل أن يكون من الغلظة والقسوة بحيث لم تأخذه الرأفةُ حتى بتلك المرأة العاجزة الضعيفة، ولا بذلك الطفل الرضيع؟ هذا التصرُّف فظيع لدرجة أننا نتألم اليوم أيضاً بسماع هذه القصّة رغم مرور أحقاب طويلة على اختلاقها. إذ كفى بالمرء سوء أن لا يُبالي بحقوق زوجته، اللهم إلا أن تصبح ناشزةً متمرِّدةً عليه، مارقةً من الدين غيرَ ناصحة وعدوةً مؤذية. إذن فلا نرضى أبداً بأن تُنسب إلى بوذا مثل هذه الأعمال المشينة التي تُعارض مواعِظَه هو.

إنَّ هذه القرينة لتدلُّ على أنَّ هذه القصة مزوَّرة؛ وأنَّ المراد الحقيقي بـــ “راحوله” هو عيسى الذي يسمّى “روح الله”. ولفظ “روح الله” بالعبرية يُشبه “راحوله” إلى حدٍّ كبير؛ وقد اعتُبر “راحوله” (أي روح الله) تلميذاً لبوذا للسبب الذي ذكرناه آنفاً.. أعني بما أنَّ المسيح أتى، بعد بوذا، بتعليمٍ مماثل للتعليم البوذي، فقد اعتبر البوذيون مرشدهم مصدراً حقيقاً لهذه التعاليم المسيحية أيضاً، ظانّين أنَّ المسيح تلميذٌ لبوذا. كما ليس من المستغرب أيضاً أن يكون بوذا نفسه قد عدَّ المسيحَ ابناً له بناءً على وحي الله تعالى.

ومن أكبر القرائن على أنَّ “راحوله” هو السيد المسيح أنَّه قد ورد في الكتاب نفسه أنَّ فصل الرضيع “راحوله” عن أمّه تمَّ بوساطة امرأةٍ مؤمنة ببوذا اسمها “مجداليانا”.

ألا تُلاحِظون أنَّ “مجداليانا” هذه ليست إلا صورة متغيّرة لِكلمة “مجداليني” أو “المجدلية”، وهي امرأةٌ معروفة من أتباع تكرّر ذكرها في الإنجيل.

إنَّ جميع هذه الشهادات التي أجملناها هنا تؤدّي بكلّ إنسان منصف إلى الاعتراف بأنَّ عيسى كان قد جاء إلى هذه البلاد دونما شك. وبغضِّ النظر عن جميع هذه الشواهد البيّنة، فإنَّ أنواع التشابه الوثيق بين المسيحية والبوذية من حيث التعاليم والتقاليد، وخاصّةً في منطقة “تِبتْ”، لأمرٌ لا يمكن أن يمرّ به العاقل الحصيفُ مرَّ الكرام. إنَّ هذا التشابه مذهل بحيث يجعل معظم الباحثين المسيحين يعتقدون بأنَّ البوذية هي “مسيحية الشرق”، وأما المسيحية فيمكن أن تسمَّى “بوذيّة الغرب”! أليس عجيباً أنه كما قال المسيح إنه النور وطريق الهدى، كذلك قال بوذا أيضاً! وكما ورد في الأناجيل من أسماء المسيح أنه “المنجّي”، كذلك وصف بوذا نفسه بالمنجّي (راجع كتاب “للتا وسترا”). وكما جاء في الإنجيل أنَّ ولادة المسيح كانت من غير أب، كذلك ورد في سيرة بوذا أنه قد وُلِد في الحقيقة من غير أب، وإن كان له أبٌ ينتسب إليه مثلما كان المسيح يُنسب إلى يوسف. وورد أيضاً أنَّ نجماً ظهر عند ولادة بوذا. وأما قصة سليمان التي أمَرَ فيها بقطع الطفل إلى قسمين لكي تنال كلٌّ من المرأتين نصيبها منه، فهي أيضاً موجودةٌ في “جاتكا” * لبوذا. الأمر الذي يؤكّد بالإضافة إلى هجرة المسيح إلى هذه البلاد، أنَّ اليهود الذين هاجروا إليها قبله، كانوا على علاقةٍ وثيقة بالبوذيين.

وكذلك نجد أيضاً أنَّ نظرية تكوين العالم التي وردت في الكتب البوذية تُشبه إلى حدٍّ كبير تلك التي وردت في التوراة. وكما يتبيّن من التوراة أنَّ للرجال على النساء درجةً وفضيلة، فكذلك الرجل الكاهن أفضل من المرأة الكاهنة في الديانة البوذية.

وكان بوذا يعتقد بالتناسخ، ولكن تناسخه لا يُخالف تعاليم الإنجيل، إذا التناسخ عنده على ثلاثة أقسام:

أوّلاً: أنَّ عزيمة الإنسان على المزيد من الأعمال تقتضي جسماً آخر له بعد الموت.

ثانياً: هو ما يعتقد أهلُ “تِبتْ” بوجوده في زعمائهم الدينين “لامات”، وهو أنَّ جزءاً من روح بوذا أو زعيمٍ بوذي آخر يحلّ في “لاماتهم”.. أي أنَّ قوّته وطبيعته وخوّاصه الروحية تنتقل إلى “لاما” الحالي، وروحه تؤثّر فيه.

ثالثاً: أنَّ الإنسان لا يزال يمرّ في حياته الدنيا بأنواع الولادة إلى أن يصبح إنساناً حقيقيّاً حسب خواصّه الذاتيّة، حيث ينعدم وجوده الأوّل ويكتسب وجوداً ثانياً بحسب أعمال وجوده الأوّل. فقد يأتي عليه زمانٌ وكأنه يكون فيه ثوراً، ثم يزداد طمعاً وشرَّاً فيتحوّل إلى كلب. ولكن هذه التطوّرات والتغيُّرات كلها تحدث في هذه الحياة الدنيا، ولذلك فإنَّ هذه العقيدة لا تُعارض تعاليم الإنجيل.

ولقد سبق أن أوضحنا أنَّ بوذا كان يؤمن بوجود الشيطان والنار والجنة والملائكة والقيامة. وأما اتهامه بالإلحاد وعدم الإيمان بالله تعالى، فهو افتراءٌ محض؛ وإنّما كان يُنكر “ويدانت” * ولم يؤمن بالآلهة المتجسِّدة التي اتُّخذت في الديانة الهندوسية؛ وكان يطعن في الفيدا طعنناً شديداً، إذ لم يُسلّم بصحة الفيدا الحالي، بل اعتبره كتاباً محرَّفاً ومبدَّلاً. كما أنّه شجب ولادته حين كان هندوسيّاً تابعاً للفيدا. وقد أشار إلى هذا الأمر بلغة الرموز والتلميحات قائلاً: لقد ظللتُ قرداً لمدة من الزمان، كما بقيتُ فيلاً إلى فترة، ثم تحوَّلتُ إلى غزال فكلب أيضاً. وصرتُ ثُعباناً أربع مرات، وأصبحت عصفوراً وضفدعة. وكنت سمكة مرّتين وأسداً عشر مرات، وديكاً أربع مرات. وصرتُ خنزيراً مرّتين وأرنباً مرّة، وحين كنتُ أرنباً كنتُ أُعلّم القِرَدةَ وبنا آوى وكلابَ الماء. ثم يُضيف: لقد أصبحتُ عفريتاً مرة، وصرتُ امرأةً في إحدى المرّات، كما تحوّلتُ إلى شيطان راقص. ويَقصد بهذه الإشارات جميعِها حياتَه السابقة التي كانت حافلةً بالجبن والتخنُّث والرجس والسبُعيّة والهمجية والترف والنَّهَم والأوهام.

ويبدو أنه يُلمِّح بهذه الإشارات إلى الزمن الذي كان فيه تابعاً للفيدا، لأنه بعد أن رفض الفيدا ما أشار قط إلى أنه ما زال به شيء من تلك الحياة النجسة، بل ادَّعى بعد ذلك دعاوى كبرى حتى قال إنه قد صار مظهراً لله وفار بِـــــ “نروانا”. *

كما قال بوذا أيضاً: إنَّ الإنسان عندما يرحل من الدنيا بأعمال أهل النار، فإنّه يُلقى في النار، حيث تجرّه زبانيةُ جهنَّم إلى مَلكها الذي اسمه “يـَــــــــمـــَّه”، يُسأل ذلك الجهنَّمي: أما لقيتَ الرُسُلَ الخمسة التي أُرسِلتْ لتحذيرك، وهي: الطفولة والشيخوخة والأمراض وعقاب الدنيا على الجرائم الذي هو دليلٌ على العقاب في الآخرة، ثم جُثثُ الموتى التي تدلُّ على زوال هذه الدنيا. فيُجيب المجرم: سيّدي، لم أفكِّر مطلقاً في هذه الأمور بسبب غبائي. فعندئذٍ يسحبه حرسُ النار إلى ساحة العذاب، ويشدُّونه بسلاسل حديدية حامية محمرَّة احمرارَ النار.

وكذلك يقول بوذا: إنَّ لجهنّم طبقاتٍ عديدة يدخلها طوائف مختلفة من أهل النار.

إذاً فإنَّ هذه التعاليم كلها لتُنادي بصوتٍ عالٍ بأنَّ البوذيّة قد استفادت من فيوض صحبة المسيح بشكلٍ ما.

وبما أننا لا نريد إطالة الكلام، نُنهي هذا الفصل هنا قائلين: إنَّ الكتب البوذية بذاتها قد سجّلت النبوءة عن مجيء المسيح إلى هذه البلاد، الأمر الذي لا يسع أحداً إنكاره. كما نجد أنَّ الكتب البوذية المؤلَّفة في عهد المسيح تتضمَّن التعاليم والأمثال الأخلاقية الإنجيلية. فإذا جمعنا هذين الأمرين لم يبقَ من شكٍّ في أنَّ المسيح قد جاء إلى هذه البلاد.

ونشكر الله على أنَّ الشهادة التي كنا نبحث عنها في الكتب البوذية، قد ظفرنا بها كاملة.

(يُتبع)

* نخبة من أبناء الجماعة* إنَّ أقرب عبارة وردت بهذا المعنى هي في التكوين 49: 10. (المترجم)* أما الروايات التي تذكر ظهوره بعد بوذا بألف سنة أو خمسة آلاف سنة فهي غير صحيحة. (المؤلف)

* تعني كلمة “جاتكا” في المصطلح: القصص والأحداث التي حكاها بوذا حول المراحل المختلفة التي مرَّ بها خلال ولادته الروحانية. (المترجم).

* “ويدانت” كلمة سنسكريتية مركبة من كلمتين: “ويدا” (المعلم) و”انت” (القمة)، وهكذا تعني حرفياً “قمة العلم”، وتعني اصطلاحاً تلك الفلسفة التي يُقدِّمها “الفيدا” (كتابُ الهندوس) عن الله . (المترجم)

* المراد من “نروانا” في المصطلح الهندوسي والبوذي هو حالة من السعادة البالغة التي يحظى بها الإنسان عندما تتحرَّر روحه من كل أنواع المعاناة وتتفانى في الروح الأسمى أي الله سبحانه وتعالى. (المترجم)

Share via
تابعونا على الفايس بوك