ذكر بعض الأنصار.. شكراً لنعمة الله الغفار

ما زلتُ مذ أُمِرتُ من حضرة الرب، وأُحييت من الحي ذي العجب، أَحِنّ إلى عيان أنصار الدين، ولا حنينَ العطشان إلى الماء المعين. وكنت أصرخ في ليلي ونهاري، وأقول يا ربّ من أنصاري؟ يا رب من أنصاري؟ إني فرد مهين.

فلما تواتر رفع يد الدعوات، وامتلأ منه جوّ السماوات، أجيب تضرعي، وفارت رحمة رب العالمين. فأعطاني ربي صديقا صدوقا، هو عين أعواني، وخالصة خُلصاني، وسلالة أحبائي[1] في الدين المتين. اسمه كصفاته النورانية نور الدين. هو بَهيرَوي مولدًا، وقُرَشي فاروقي نسبًا، من سادة الإسلام ومن ذرية النجيبين الطيبين. فوصلتُ بوصوله إلى الجَذْل المفروق، واستبشرت به كاستبشار السيد ( ) بالفاروق، ولقد أُنسيتُ أحزاني، مذ جاءني ولقّاني، ووجدته في سبل نصرة الدين من السابقين. وما نفعني مال أحدٍ كماله الذي آتاه لوجه الله، ويؤتي من سنين. قد سبق الأقران في البراعة والتبرع والجدوى، ومع ذلك حلمه أرسخ من رَضوى. نبَذ العُلَقَ لله تعالى، وجعل كل اهتشاشه في كلام رب العالمين. رأيت البذلَ شِـرْعتَه، والعلم نُجْعتَه، والحلم سيرته، والتوكل قوته، وما رأيت مثله عالمًا في العالمين، ولا في خُلقِ مِمْلاقٍ من المنعِمين، ولا في الله ولله من المنفقين. وما رأيت عبقريًا مثله مذ كنت من المبصرين.

ولما جاءني ولاقاني ووقع نظري عليه، رأيته آيةً من آيات ربي، وأيقنت أنه دُعائي الذي كنت أداوم عليه، وأُشْرِبَ حسّي ونبّأني حَدَسي أنه من عباد الله المنتخبين. وكنت أكره مدح الناس وحمدهم وبثَّ شمائلهم، خوفًا من أنه يضر أنفسهم، ولكنني أرى أنه من الذين انكسرت جذباتهم النفسية، وأزيلت شهواتهم الطبعية، وكان من الآمنين.

ومن آيات كماله أنه لما رأى جروح الإسلام، ووجده كالغريب المستهام، أو كشجر أُزعجَ من المقام، أشعرَ همًّا، وانكدر عيشه غمًّا، وقام لنصرة الدين كالمضطرين. وصنف كتبًا احتوت على إفادة المعاني الوافرة، وانطوت على الدقائق المتكاثرة، ولم يسمع مثلها في كتب الأولين. عباراتها مع رعاية الإيجاز مملوّة من الفصاحة، وألفاظها في نهاية الرشاقة والملاحة، تسقي شرابًا طهورًا للناظرين. ومثل كتبه كحرير يضمَّخ بعبير، ثم يُلَفّ فيه من درر ويواقيتَ ومسك كثير، ثم يُرتَن فيه العنبر ويجعل كله كالعجين.

ولا شك أنها جامعة ما تفرق في غيرها من الفوائد، فاقت ما عداها لكثرة ما حواها من الشوارد والزوائد، ولجذب القلوب بحبال الأدلة والبراهين. طوبى لمن حصّلها وعرفها وقرأها بإمعان النظر.. فلا يجد مثلها من معين. ومن أراد حلَّ غوامض التنـزيل، واستعلامَ أسرار كتاب الرب الجليل، فعليه بالاشتغال بهذه الكتب وبالعكوف عليها، فإنها كافلة بما يبغيه الطالب الذهين. يُصبي القلوب أَريجُ ريحانها، والثمرات مستكثرة في أغصانها، ولا شك أنها جنة قُطوفها دانية، لا يُسمَع فيها لاغية، نُزُلٌ للطيّبين. منها: “فصل الخطاب لقضايا أهل الكتاب”، ومنها: “تصديق البراهين”. تناسَقَ فيها جزيل المعاني مع متانة الألفاظ ولطافة المباني، حتى صارت أسوة حسنة للمؤلفين، ويتمنى المتكلمون أن ينسجوا على منوالها، وترنمت بالثناء عليها ألسنة النِحْريرين. جواهرها تفوق جواهر النحور، ودررها فاقت درر البحور، وإنها أحسم دليل على كمالاته، وأقطع برهان على ريّـا نفحاته، وستعلمون نبأها بعد حين.

قد شمر المؤلف الفاضل فيها لتفسير نكات القرآن عن ساق الجِدِّ والعناية، واعتنى في تحقيقه باتفاق الرواية والدراية، فواهًا لهممه العالية، وأفكاره الوقّادة المَرضية، فهو فخر المسلمين. ولـه ملكة عجيبة في استخراج دقائق القرآن، وبثّ كنوز حقائق الفرقان، ولا شك أنه ينوَّر من أنوار مشكاة النبوة، ويأخذ نورًا من نور النبي بمناسبة شأن الفتوة، وطهارة الطين. امرؤ عجيب، وفتى غريب، تتفجر أنهار أنوار الأسرار بلمحة من لمحاته، وتتدفق مناهل الأفكار برَشْحةٍ من رشحاته، وهذا فضل الله يهب لمن يشاء وهو خير الواهبين.

لا ريب في أنه نخبة المتكلمين، وزبدة المؤلفين. يشرب الناس من عُباب زُلاله، ويُشترى كشرابٍ طَهورٍ قواريرُ مقاله، هو فخر البَرَرة والخِيَرة وفخر المؤمنين. في قلبه أنوار ساطعة من اللطائف والدقائق، والمعارف والحقائق، والأسرار وأسرار الأسرار ولمعات الروحانيين. إذا تكلم بكلماته النظيفة الطيبة، وملفوظاته البديعة المرتجلة المبتكرة، فكأنه يصبي القلوب والأرواح بالأغاني اللطيفة، والمزامير الداوودية الذفيفة، ويجيء بخارق مبين. يخرج الحكمة من فمه عند سرد الحديث وسَوق الكلام، كأنها عُبُب مندفقة متوالية متصاعدة إلى أفواه السامعين.

وإني قد أطلقتُ أَجْرَدَ فكري إلى كمالاته، فوجدته وحيدَ الدهر في علومه وأعماله وبرّه وصدقاته، وأنه لَوْذَعِيٌّ أَلْمَـعِيّ، نخبة البررة، وزبدة الخيرة. أعطي لـه السخاء والمال، وعُلّقت به الآمال، فهو سيد خَدَمِ الدين، وإني عليه من الغابطين. ينـزل أهل الآمال بساحته، ويستنـزلون الراحة من راحته، فلا يَلوي عِذارَه عمن ازداره، وأمَّ دارَه، وينفَح بعُرْفه من وافاه من المملِقين.

وهو يجد للُقياني بكمال ميل الجنان، كوَجْدِ المثري بالعِقْيان، يأتي من بلاد نازحة على أقدام المحبة واليقين. فتى طيب القلب، يحبّنا ونحبّه، يسعى إلينا بجهد طاقة، ولو وجد فواقَ ناقة. انثال الله عليه من جوائز المجازاة، ووصائل الصلات، وأيد ببقائه الإسلام والمسلمين. لـه بقلبي عُلَقٌ عجيبة، وقلبه نَفوح غريبة. يختار في حبّي أنواع الملامة والتعنيف، ومفارقة المألف والأليف. ويتسنّى لـه هجر الوطن لسماع كلامي، ويدَعُ التذكر للمعاهد لحبّ مقامي، ويتبعني في كل أمري كما يتبع حركة النبض حركة التنفس، وأراه في رضائي كالفانين.

إذا سئل أعطى ولم يتباطأ، وإذا دعي إلى خطّة فهو أول الملبين. قلبه سليم، وخلقه عظيم. كرمه كغزارة السحب، وصحبته يُصلح قلوب المتقشفين. ووَثْبُه على أعداء الدين وثبة شبلٍ مثار، قد أمطر الأحجار على كفار، ونقّر عن مسائل الويديين ونقّب، ونزل في بقعة النَّوكى وعاقبَ، فجعل سافل أرضهم عاليَها، وثقّف كتبه تثقيف العوالي لإفضاح المكذبين. فأخزى الله الويديين على يده، فكأن وجوههم أُسِفّتْ رمادا، وأُشربت سوادًا، وصاروا كالميتين. ثم أرادوا الكرة، ولكن كيف يحيا الأموات بعد موتهم، فرجعوا كالمخفِقين. ولو كان لهم نصيب من الحياء لما عادوا، ولكن صار الوقاحـة كالتحجيل في حِلْية هذا الجيل، فهم يصولون كمذبوحين.

والفاضل النبيل الموصوف من أحب أحبائي، وهو من الذين بايعوني وأخلصوا معي نية العقد، وأعطوني صفقة العهد، على أن لا يؤثروا شيئًا على الله الأحد، فوجدته من الذين يراعون عهودهم ويخافون رب العالمين. وهو في هذا الزمن الذي تتطاير فيه الشرور، كالماء المعين الذي ينـزل من السماء، ومن المغتنمين. ما آنستُ في قلب أحد محبةَ القرآن كما أرى قلبه مملوًّا بمودّة الفرقان. شغفه الفرقان حُبّا، وفي ميسمه يبرُق حبُّ آيات مبين. يُقذَف في قلبه أنوار من الله الرحمن، فيرى بها ما كان بعيدًا محتجبًا من دقائق القرآن، ويَغبِطني أكثر مآثره، وهذا رزق من الله، يرزق عباده كيف يشاء وهو خير الرازقين.

قد جعله الله من الذين ذوي الأيدي والأبصار، وأودع كلامه من حلاوة وطلاوة لا يوجد في غيره من الأسفار. ولفطرته مناسبة تامة بكلام الرب الجليل، وكم من خزائن فيه أُودعتْ لهذا الفتى النبيل. وهذا فضل الله لا منازع له في أرزاقه، فمن عباده رجال ما أعطي لهم بُلالة، ورجال آخرون أعطي لهم غَمْر، وما هم به من المتعللين. ولعمري إنه امرؤُ مواطنَ عظيمة، صدَق فيه قول من قال: “لكل علم رجال، ولكل ميدان أبطال”، وصدَق فيه قول قائل: “إن في الزوايا خبايا، وفي الرجال بقايا”. عافاه الله ورعاه، وأطال عمره في طاعته ورضاه، وجعله من المقبولين.

إني أرى الحكمة قد فاضت على شفتيه، وأنوار السماء قد نزلت لديه، وأرى تواتر نزولها عليه كالمتضيفين. كلما توجه إلى تأويل كتاب الله بجمع الأفكار، فتح ينابيع الأسرار، وفجر عيون اللطائف، وأظهر بدائع المعارف، التي كانت تحت الأستار، ودقّق ذرات الدقائق، ووصل إلى عروق الحقائق، وأتى بنور مبين. يمدّ العقلاءُ أعناقهم في وقت تقاريره متسلمين لإعجاز كلامه وعجائب تأثيره. يُري الحق كسبيكة الذهب، ويُزيح شبهاتِ المخالفين.

إن الوقت كان وقت صراصر الفلسفة، بل فسُد وخبُث، وملمَلَ كلَّ حدثٍ ما حدَث، وكان العلماء معروق العظم صفر الرايحة من دولة العلوم الروحانية، وجواهر الأسرار الرحمانية، فقام هذا الفتى وسقط على أعداء الرسول كسقوط الشهب على الشياطين. فهو كحدقة العيون في العلماء، وفي فَلك الحكمة كالشمس البيضاء. لا يخاف إلا الله، ولا يرضى بالآراء السطحية، التي منبَتها النَّجْد غيرُ خَوْر، بل يبلغ فهمه إلى أسرار دقيقة المآخذ المخفية في أرض غَوْر. فللّه درّه، وعلى الله أجره. قد أعاد الله إليه دولة منهوبة، وهو من الموفقين. والحمد لله الذي وهب لنا هذا الحِبّ في حينه ووقته وأيام ضرورته، فنسأل الله تعالى أن يبارك في عمره وصحته وثروته، ويعطينا أوقاتا مستجابة للأدعية لـه ولعشيرته، ويشهد فراستي أن هذه الاستجابة[2] أمر محقوق لا مظنون، ونحن في كل يوم من الآملين. والله إنّي أرى في كلامه شأنا جديدًا، وأراه في كشف أسرار التنـزيل وفهم منطوقه ومفهومه من السابقين. وإني أرى علمه وحلمه كالجبلين المتناوحين.. ما أدري أيهما فاق الآخر، إنما هو بستان من بساتين الدين المتين. رب أنزل عليه بركات من السماء، واحفظه من شرور الأعداء، وكن معه حيثما كان، وارحم عليه في الدنيا والآخرة، وأنت أرحم الراحمين. آمين ثم آمين.

والحمد لله أولا وآخرا، وظاهرًا وباطنًا، هو وليي في الدنيا والآخرة. أنطقني روحه، وحركتني يده، فكتبت مكتوبي هذا بفضله وإيمائه وإلقائه، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وهو القادر في السماء والأرضين.

رب، كتبت هذا المكتوب بقوتك وحولك ونفحات إلهامك، فالحمد لك يا رب العالمين. أنت محسني ومنعمي، وناصري وملهمي، ونور عيني، وسرور قلبي، وقوة إقدامي. أموت وأنا شاكر نعمائك بحالي وقالي وكلامي. يشكرك عظامي في قبري، وعَجاجي في جَدَثي، وروحي في السماء. غلبت نعمتك على شكري، واستغرقت في نعمائك عيني وأذني وجناني ورأسي وجوارحي وظاهري وباطني، وأنت لي حصن حصين. أعوذ بك من آفات الأرض والسماء، ومن كل حاسد صوّاغٍ باللسان، وروّاغٍ من الحق العِيان، ومن كل لسانٍ سليط، وغيظٍ مستشيط، ومن كل ظلمة وظلام، ومن كل من يكون من المسيرة إليك من المانعين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

(مرآة كمالات الإسلام)

[1] حاشية: ومن الأحباء في الله منشي زين الدين محمد إبراهيم بمبئ، والمولوي غلام إمام منيبوري، وحبي في الله المولوي غلام حسن بشاوري، ومحيي الدين الشريف تونتي كورن، والسردار محمد ولايت خان المدراسي، وحبي في الله السيد النجيب المولوي محمد أحسن، وحبي في الله المولوي عبدالكريم السيالكوتي- سلمه الله – الذي أيدني وأَمدّني في ترجمة مكتوبي هذا وهو من المحبين المخلصين، وهو في هذه الأيام عندي. كان لِهوى ملاقاتي واستحسان مقاماتي أرغبَ في الاغتراب واستعذب السفر الذي هو قطعة من العذاب، فجزاه الله وثبّتـه على سبيل الصـدق والصواب، ورحمه وهو خير الراحمين. ومنهم ميرزا خدا بخش وهو في هذه الأيام عندي. شاب صالح مخلص، شرح الله صدره لحبي، وأترع ذيله من ثمرات الإخلاص، وثبته مع الثابتين. ومنهم حبي في الله الحكيم فضل الدين البهيروي، وحبي في الله الشيخ رحمة الله الـﮕـجراتي، وحبي في الله السيد أمير علي شاه، والسيد حامد شاه. وحبي في الله المنشي غلام القادر المعروف بالفصيح السيالكوتي. وحبي في الله النواب محمد علي خان رئيس مالير كوتله، وحبي في الله السيد محمد تفضل حسين أتاوي، وحبي في الله السيد الهادي، وحبي في الله محمد خان، والمنشي محمد أرورا، والمنشي ظفر أحمد كفورتلوي، وحبي في الله المولوي محمد مردان علي، والمولوي محمد مظهر علي حيدرآبادي، وحبي في الله المولوي برهان الدين الجهلمي، وحبي في الله مير ناصر نواب الدهلوي، وحبي في الله القاضي ضياء الدين قاضيكوتي، وحبي في الله المولوي السيد محمد عسكري خان، وحبي في الله القاضي غلام المرتضى، وحبي في الله عبد الحكيم خان، وحبي في الله رشيد الدين خان، وحبي في الله السيد خصلت علي شاه، وحبي في الله المنشي رستم علي، وحبي المنشي عبد الله السنوري، والميرزا محمد يوسف بيـﮓ السامانوي، والمنشي محمد حسين المراد آبادي، والقاضي خواجة علي اللدهيانوي. هؤلاء من أحبائي. منهم من قصصنا ومنهم من لم نقصص، وكلهم من المخلصين.

[2] حاشية: اعلم أن استجابة الدعاء سر من أسرار حكمة ربانية خصص بها حزب الروحانيين. وقد جرت عادة الله أنه يسخر عالم المواليد وتأثيرات أجرام السماء وقلوب الناس عند دعوات أوليائه المقربين. فربما يستحيل الهواء الرديّ من عقد هممهم إلى صالحة طيبة، والصالحة إلى فاسدة وبائيّة، والقلوب القاسية إلى طبائع لينة متحننة، والمتحننةُ إلى قاسية غليظة، بإذن المتصرف في السماء والأرضين. وإذا اشتدت حاجة ولي الله إلى ظهور شيء معدوم، ويتوجه لظهوره باستغراق تام، فيحدث هذا الشيء بعقد همته، وكذلك إذا توجه الولي لإعدام الموجود فإذا هو من المعدومين. وذلك أصل الخـوارق لا تحسها حاسة حكماء الظاهر، ولا يذوق طعمها عقول الفلسفيين. وإن للأولياء حواسا آخر تتنـزل من تلقاء الحق. فإذا رزقوا من تلك الحواس فيتحلون بحلل مبتكرة، ويسمعون أغنية جديدة، ما سمعت أذن نظيرها في العالمين. يصفى عقولهم بكمال الصفاء، ويؤتون علم ذرائع الاستنبـاط والاجتهاد. يُعجِب العقولَ دقة غموضها، ويكفر بها كل غبي غير ذهين. وكان الله معهم في كل حالهم، وكانت يده على مهماتهم وأفعالهم. إذا غلقوا بابًا في الأرض فتغلق في السماء، وإذا فتحوا فتفتح في الأفلاك. دارت السماوات بدورة عزيمتهم، وقلب الأمور بتقلب هممهم، ويري الله خلقه عزتهم ووجاهتهم ليرغّب المتفطنين إليهم والسعيدين. منه.

Share via
تابعونا على الفايس بوك