علاقة القولِ السديد بالروحِ القدس
التاريخ: 1998-08-14

علاقة القولِ السديد بالروحِ القدس

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

الخليفة الرابع للمسيح الموعود (عليه السلام)

خطبة الجمعة ألقاها حضرة أمير المؤمنين الخليفة الرابع

 لسيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود ،

 بتاريخ 2 جُمادى الأولى 1420 هـــ الموافق 14 آب/أغسطس 1998م

في مسجد فضل بلندن.

نقلها إلى العربية: عبد المجيد عامر

«تنشر أسرة التقوى ترجمة هذه الخطبة على مسؤوليتها»

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم * الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْر الْمَغْضُوب عَلَيْهمْ وَلا الضَّالِّينَ (آمين)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيمًا (الأحزاب: 71-72)

لقد اقتبست لخطبة اليوم آيتين من سورتين مختلفتين وجعلتهما موضوع الخطبة اليوم. والآيتين الأُخريين اقتبستهما من سورة البقرة حيث يقول الله تعالى:

أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ * وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ (البقرة: 45 -46).

تُتلى الآيتان اللتان استهللتُ بهما خُطبتي بمناسبة النِكاح عادةً. حيث يقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا . ولقد سبقَ لي أن قُلت أكثر من مرة أنّ القول السديد هو أعلى وأسمى درجةً من القول الصادق. ففي بعض الأحيان يتسبَّب القول الصادق أيضًا في سوءِ الفَهم. أمّا المتعوِّد على القول السديد فيحاول قُصارى جُهده أن يكون قوله صادقًا ولا يُحدِث سوء الفَهم، وبالإضافة إلى ذلك يتبيَّن ما في قلبه بوضوحٍ تام. ثم يقول الله تعالى: يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ، لأنّ القول السديد له علاقةٌ قوية بإصلاح الأعمال. أي إنّ الله تعالى أوجبَ على نفسه إصلاح أعمالكم بسبب تمسُّككم بالقول السديد. فقد قال الله تعالى: يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ، أي لو تعوَّدتم على القولِ السديد لأصلحَ الله أعمالكم لا محالة. وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ، أي سَيغفر الله ما تقدَّم من ذنوبكم. وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ معناه الذي يطيع الله ورسوله سوف ينالُ فلاحًا كبيرًا. مما يعني أنّ هذه السلسلة سوف تظلُّ في اتِّساعٍ مستمر، ولا تزالون توفَّقون لطاعة الرسول . وبقدرِ ما تتقدَّمون في الطاعة بقدرِ ما تتقدَّمون في حسناتٍ لا نهاية لها، ولمـّا يُدرككم الموت تموتون في حالةِ فوزِ عظيم وتكونون قد نِلتم فوزًا كبيرًا.

وفي صدد هذه الآيات سأُقدِّم لكم أولاً حديثًا للنبيّ له علاقةٌ قويّة بها على ما أرى. هذا الحديث اقتبسته من مسند أحمد بن حنبل، فجاء فيه:

“عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ قَالَ: أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ فِي بَيْتِنَا وَأَنَا صَبِيٌّ. قَالَ: فَذَهَبْتُ أَخْرُجُ لِأَلْعَبَ. فَقَالَتْ أُمِّي: يا عَبْدَ الله تَعَالَ أُعْطِكَ.‏ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : وَمَا أَرَدْتِ أَنْ تُعْطِيهِ؟ قَالَتْ أُعْطِيهِ تَمْرًا‏.‏ قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : أَمَا إِنَّكِ لَوْ لَمْ تَفْعَلِي كُتِبَتْ عَلَيْكِ كِذْبَةٌ‏”‏ (مسند أحمد بن حنبل، ج3 ص 447، دار صادر، بيروت)

إذاً فإنّ القول السديد يجب أن يبدأ من البيوت. والحقيقة المؤلمة أنّ جميع الأطفال الذين يفسدون ويبتعدون شيئًا فشيئًا عن جادة الصواب، لا يُبالي آباؤهم منذ طفولتهم بالقول السديد عند التَّعامل معهم. لقد وجَّهتُ الأُمهات مِرارًا وأوجِّهُهنَّ الآن مرةً أخرى -كما أنّ الخطاب موجَّهٌ إلى الآباء أيضًا غيرَ أنّه يُخاطب الأمهات بالدرجة الأولى لكثرة تَعامُلِهنَّ مع الأطفال- إنّهنَّ كثيرًا ما يَعِدنَهم وعدًا كاذبًا للتخلُّص منهم. وعندما لا يَفِينَ بالوعد يُخالف فِعلهنَّ القول السديد. والإصلاح في هذه الحالة لا يمكن إطلاقًا بسبب فقدان القول السديد. وبما أنّ الله تعالى قد ربط وعد الإصلاح بالقول السديد فمن الواضح أنّه لا يمكن الإصلاح بدونه. إنّ هذين الأمرين -القول السديد والإصلاح- أمران مرتبطان ببعضهما، ولو لم يُوجد أحدهما لما وُجِدَ الآخر. وهذا أمرٌ ينساه كثيرٌ من الناس عند تربية أولادهم.

يجب أن تقولوا للأطفال قولاً سديدًا وبالتالي إنّهم أولاً وقبل كلِّ شيء سيحترمونكم أكثر، لأنّ الذي يكون صادق الوعد ومتعوِّدًا على القول السديد ينشأ له الاحترام في القلوب تلقائِيًّا دائِمًا. وهذا أمرٌ طبيعي لا يمكن إهماله بشكلٍ من الأشكال.

يجب عليكم أن تتقيّدوا بهذه العادة في بيوتكم، اهتمُّوا بالاختبار الداخلي، وسيظهر الله تعالى نفوسَكم على الدنيا ككيانٍ طاهرٍ ونقي، ثم تُقبل دعاويكم الكبيرة أيضًا. ولكن يجب ألا يكون هناك نفاق في طبيعة الإنسان لأنّ النِفاق يُهلك صاحبه.

كان النبيُّ أكثرَ الناس سدادًا في القول. ولو كان الناس يبتعدون بسبب القول السديد لما بقيَ حول النبي أحدٌ أبدًا. أمّا معاملته مع الناس بالرحمة واللُّطف فذلك أمرٌ آخر، لاشكَّ أنّها أيضًا جذبتِ الناسَ إليه، ولكن يجب ألا يغضَّ الناسُ الطرفَ عن أنّ القول السديد يزيد صاحبه عزًّا واحترامًا. والذي يكون متعوِّدًا على القول السديد بصفة دائِمة فنُصحُه لا يتسبَّبُ في النُّفور، بل تزداد عاطفةُ الحُبِّ والاحترام نحوه في القلوب يومًا بعد يوم. فمن الظاهر الجليّ أنّ النبيّ سبقَ الأولين والآخرين في القول السديد وبالتالي نالَ احترامًا أكثر من غيره. الاحترام الذي حظيَ به من الصحابة رضي الله عنهم كان عميق الجذور، حتى إنّ الأعداء أيضًا كانوا يُقدِّرونَ ويُشِيدون بقوله السديد . تعرفون جيدًا الحادث المتعلِّق بأبي جهل حين ذهب النبيُّ وقال له قولاً سديدًا -رغم كونه عدوًّا لدودًا له – فكان للقول السديد وقعاً كبيرًا في قلبه.

فكلما سمع أحدٌ من غير المسلمين كلامه -وكان يعرف أنّ كلامه حقٌّ وصدق- ازداد حبًّا واحترامًا له بدلاً من النفور والكراهية.

جرِّبوا هذا الأمر في بيوتكم. وقولوا لأولادكم قولاً سديدًا، سوف ترون أنّ احترامكم في قلبوهم سوف يزداد يومًا بعد يوم، وإن لم تفعلوا ذلك، سوف يُفلت الأولاد من أيديكم. لم أرى لغاية اليوم أحدًا يكذب مع أولاده وهم يحترمونه رغم ذلك، أولاً يكسرون عصى طاعته من الناحية الدينيّة فورَ حصولهم على الاستقلال. بل كلّما تتاح لهم الفرصة عند بلوغهم سن الرُشد يخرجون من دائرة نفوذ الوالدين.

فقد ذكر النبيُّ ثلاثة أمور حول هذا الموضوع وهي علامات المنافقين. أحدها هو الأمرُ نفسه الذي أنا بصدد ذكره، فقال : “…وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ” (صحيح البخاري، كتاب الشهادات).

من واجبكم أنكم عندما تَعِدونَ الأولاد شيئًا يجب ألا تُخلِفوه. والذي يُخلف وعده مع الأولاد فلا بدَّ أن يُخلِفه مع غيرهم أيضًا، إذ ليس من الممكن أن يظلَّ الإنسانُ يُخلف الوعودَ مع أولاده الذين يُحبُّهم أكثر من غيرهم ويَفي بها مع الآخرين، هذا مستحيلٌ ومتناقض مع الفطرة الإنسانيّة. فالنبيُّ الأكرم قد ذكر هذا الأمر كعلامة المنافق. ولا أظنُّ أن أحدًا من العاقلين سوف يختار لنفسه طريق النفاق قصدًا. يبدو أنني نسيتُ إحضار الأوراق المتضمنة لما قاله سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود في هذا الصدد، لذا سوف أذكر أسوته في هذا الشأن من ذاكرتي. هناك أحداثٌ كثيرة وقعت في حياته لو رآها أحدٌ بنظرةٍ عابرة لقال: أيُّ نوعٍ من نبيّ الله هذا الذي ظلَّ يُشغل نفسه في هذه الأمور التافهة؟

في إحدى المرات كان جيبُ حضرته مملوءًا بالحصى. المشائخ والأشقياء الآخرين سوف يضحكون هنا وقد يقهقهُون ويقولون: أيُّ نبيّ الله هذا الذي يحمل الحصى في جيبه! ولكن واقع الأمر أنّه كان هناك طفل يلعب بالحصى ويَشغَب، فقال له سيدنا الإمام المهدي : أُترُك الحصى معي والْعَب في الخارج، وعندما تعود سأُعطيكَ إيّاها. فوضع حضرته تلك الحصى في جيبه حتى لا يضيع شيءٌ منها. وعندما عاد الطفل سلَّم له حضرته إيّاها.

يبدو الأمر بسيطًا وتافهًا جدًا في بادئ الأمر ولكن الحقيقة أن الأمور العظيمة تتولد من صغارها. إذا كان أحد يهتم بإيفاء وعده مع ولده لدرجةِ يحفظ له الحصى، فما باله بالنسبة إلى وعوده مع الآخرين؟ هناك براهينٌ كثيرة على صدق سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود ، ولكن يجب أن يكون في هذا البرهان وحده كفاية للعاقل. الذي يكون صادقَ الوعد إلى هذه الدرجة، إلى أيِّ مدى عسى أن يكون صادقًا في بيان الأنباء الإلهيّة وفي وعوده مع الناس؟ فينبغي أن تتأسُّوا بهذه الأُسوة ولا تَعِدوا أولادَكم وعودًا كاذبة.

كنت بفضل الله تعالى قد نصحت أفراد أُسرتي منذ البداية للاهتمام بهذا الأمر. تتعوَّد بعض الأمّهات على عدم الاهتمام به بعض الأحيان -لأنّ كثيرًا من الناس لا يعتبرون مثل هذا التصرُّف كذبًا تاركين الأمر على عواهِنه- حتى أنّ زوجتي -رحمها الله- أيضًا كانت تَعِد الأولادَ بصورةٍ عفويّة أنني سوف أُعطيك كذا وكذا، وعندما كنتُ أطَّلع على ذلك كنتُ دائمًا أُحضر ما وَعَدَتْهُم به. وكان ذلك أُسلوبًا للنصيحة. فبدلاً من أنْ أقولَ لها: إنّكِ قد كذبتِ أو أكونَ قاسيًا عليها كنتُ أُحضر ما تَعِد به كنصيحةٍ لها حتى يجد الأولادُ عند عودتهم ما وُعِدوا به. إذًا فهناك أساليب مختلفة للتربية، وليس من الضروري أن يكون القولُ الحق مُرًّا حتمًا بل هناك أساليب مختلفة لقول الحق.

إذا احتاج الإنسان إلى قول الصدق فلا بدَّ له أن يقوله حتى وإن وجده أحدٌ مُرًّا. ولكن إذا أحببتم ألا يترك هذا القول أثرًا مؤلمـًا، فهناك أساليب لذلك. ولقد جرَّبتُ مرارًا في حياتي وبفضل الله ما وعدتُ قطّ أولادي وعدًا لا أستطيع الوفاءَ به. وإنّني سعيدٌ بذلك، وأدعو الله تعالى أن يُقِيمَهُم أيضًا على هذه الحالة من بعدي أيضًا.

عليكم أن تدعوا أنتم أيضًا بهذا الدعاء لأولادكم. وحين تدعونَ يجب أن يَسبِق العملُ الدعاءَ. وإلا لكان ذلك نِفاقًا. يجب أن تخلقوا لأولادكم نوعًا من الألم في قلوبكم، ذلك الألم الذي شعرتُ به أنا في قلبي دائِمًا بفضل الله تعالى، وأعرف يقينًا أنّ الله تعالى لا يُضيِّع هذ الألم بل يجعله مُثمرًا أكثر من المتوقع. فجرِّبوا هذا الأمر في بيوتكم سوف ترونَ أنّها لتجربةٌ في منتهى السهولة.

لاشكَّ أنّ الإنسان يُحبُّ أولاده، لذا لا يصعب تنفيذ هذه الأمور بالنسبة لهم. ولكن يجب ألا تحاولوا التخلُّص من الأولاد عن طريق المراوغة. ولو حاولتم التخلُّص منهم هكذا لتخلَّصتم منهم إلى الأبد ثم لن تحظوا بمشاهدة حسناتهم أبدًا.

كما سبق لي أن قلتُ إنّ هناك أحداثًا كثيرة في حياة سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود بهذا الخصوص. ولقد روى حضرةُ المولوي عبد الكريم السيالكوتي إلى جانب غيره من صحابة المسيح الموعود كثيرًا منها. يتبيَّن من هذه الأحداث أنّ المسيح الموعود كلّما وعد بشيء -مهما كان الأمر بسيطًا- لم يُهمِله إطلاقًا. ففي إحدى المرات كان أحد الصحابة -ربما كان حضرة عبد الكريم السيالكوتي نفسه- نائِمًا، فلمّا استيقظ وجدَ سيدَنا الأمامَ المهدي مُستلقيًا على الأرض. فقام حضرةُ عبد الكريم مذعورًا حين وجد حضرتَه مستلقيًا على الأرض. فقال له المسيح الموعود : “لا تقلق، لا تقلق أنا أحرُسكَ من شَغبِ أولادي. كنت قد أخرَجتُ الأولادَ من هنا وقلت لهم: إيَّاكم أن تعودوا، وإلا سوف تجدونني هنا. والآن إنّهم لا يُزعجونكم ظنًّا منهم أنني موجودٌ هنا. ولو أنّ أحدَهم أطلَّ برأسه هنا ولم يجدني لصارَ قولي لهم كذبًا، ولترك ذلك تأثيرًا سيئًا على تربيتهم، لفسَدَ عليك نومك من ناحية ولفَسَدت تربيتهم من ناحيةٍ ثانية.

لقد كان حضرته يهتمُّ بالقول الصادق والسديد بهذه الدِّقة حتى لو أمعنتم النظر فيما حولكم لما وجدتم شخصًا غيره يكترث بأقواله بهذه الدرجة. هذا هو الشخص الذي يقول عنه البعض إنّه كاذب، والحقيقة إنّ ذلك يدلُّ على شقاوتهم. عندما سيموتون سوف يعاملهم الله كما يشاء، ولكن الإنسان العاقل الذي يريد أن يختبر صِدقَ أحدٍ بنظرةٍ عميقة، يجب أن يختبره في الأمور البسيطة العادية بدلاً من كبارها لأنّ الناس يكذبون عادةً في كبار الأمور، ويحسبُ الإنسان أنني سوف أنالُ العِزَّ والاحترام في الدنيا نتيجةً لهذه الكذبات. أما تحاشي الكذب في البيوت في الأمور البسيطة العادية في الحياة فيُشكِّل اختبارًا حقيقيًّا. ولن تجدوا قطّ شخصًا فازَ في هذا الاختبار بدرجةٍ أعلى مما فازَ به سيدنا المسيح الموعود .

يجب عليكم أن تتقيّدوا بهذه العادة في بيوتكم، اهتمُّوا بالاختبار الداخلي، وسيظهر الله تعالى نفوسَكم على الدنيا ككيانٍ طاهرٍ ونقي، ثم تُقبل دعاويكم الكبيرة أيضًا. ولكن يجب ألا يكون هناك نفاق في طبيعة الإنسان لأنّ النِفاق يُهلك صاحبه.

فلو اختُصِرَتِ الخُطبة بسبب بعض رؤوس الأقلام التي نسيتُ إحضارها، فلا ضيرَ في ذلك لأنّ الأمور التي أنوي ذكرها -في صدد كلمات أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ من هذه الآيات- إنّها هامة جدًا وكثيرة.

يقول سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود في شرح الآية أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ :

“الحقيقة أنّه من الأهميّة بمكان أن يكون هناك انسجامًا كاملاً في قول الإنسان وفعله، وإلا فلا أهميّةَ له. لذلك يقول الله تعالى في القرآن الكريم أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ أي إنّكم تأمُرون الآخرين بِالبِرِّ ولا تُطالبون أنفسكم بالقيام به بل تنسونها” (جريدة الحَكَم” ج9، رقم14، ص2، بتاريخ 10/5/1905م)

والجديرُ بالذكر هنا -ومنه أبدأُ الحديث- أنّ الترجمة الأُرديّة التي قام بها سيدنا المصلح الموعود لهذه الآية في تأليفه “التفسير الصغير”، قال فيها إنّ الجزء الأول من الآية

أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ

يتعلَّق باليهود والأُمم السابقة. وقال إنَّ المراد مِن “الكتاب” هنا هو التوراة والكتب المقدَّسة السابقة. وسبب ذلك هو حُسنُ ظنِّه أنّه كيف يمكن أن يُخاطب الله تعالى أُمّة محمد بقوله

أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ؟

واقع الأمر أنّ اليهود هم الذين كانوا يفعلون ذلك. فبناءً عليه ذهبَ فِكْرُ حضرة المصلح الموعود هذا المذهب.

الآية التالية تتوجَّه بالخطاب الواضح إلى الأمّة الإسلاميّة لأنّه ما كان الله لِيأمُرَ الأُمم السابقة ثم يقول لهم:

وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ .

فإذا كانت الآية تتناول ذِكرَ الأُمم السابقة، فما كان من الممكن أن يُقال لهم مباشرة بعد الإشارة إلى فسادِهم أن استعينوا بالصبر والصلاة أيَّتُها الأمم الخالية. لذا أرى أن المعنِيِّين بالأمر هنا هم غِلمان محمد .

ليس المراد من أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ إنّكم فعلاً تقومون بذلك. بل المراد هو أنّكم كُلِّفتم بهذه المهمَّة وأُخرِجتم لإصلاح الأُمم ولِنَهيِهِم عن المنكرات، فهل سوف تتصرَّفون على عكسِ ما كُلِّفتم به؟ فالسؤال الذي يشكِّله حرف ” أ ” مفاده أنّه هل سوف تتصرَّفون بحيث تأمُرون الناس بالبِرِّ وتَنسونَ أنفسكم؟ لا يجوز لكم أن تفعلوا ذلك أبدًا. وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ، أي أنّكم قومٌ تتلون “الكتاب”، أي أنتم تقرؤون القرآنَ الكريم، فلا يُتوقّع منكم ذلك إطلاقًا. أَفَلاَ تَعْقِلُونَ أي: ألا تستخدمون عقولكم؟ فهذا هو السؤال المحتمَل الذي كان من الضروري دَحضُه، والآية التالية تَفي بالغرض نفسه.

المهمة التي كُلِّفتم بها -إصلاح الناس، أمرُهُم بالمعروف وتثبيتُ أنفسكم على المعروف- لا يمكن إنجازها إلا بفضلٍ من الله تعالى. لذا من الضروري جدًا أن اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ . من معاني الصلاة الدُعاء، ومعناها أيضًا الصلاة التي نُصليِّها كلّ يوم. فكلمة “الصلاة” تضمُّ كِلا المعنيين. وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ : لا بدَّ أن تواظبوا على الصلاة وادعوا الله تعالى فيها ألا تكونوا ذوو طرفين أبدًا، ولا تُعَّدُوا منافقين عند الله تعالى. واستعينوا بالله عن طريق الصبر والدعاء في الحياة العاديّة.

وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ أي أنّ هذا الأمر صعبٌ على الناس. كذلك الاستعانة بالله في الموعظة للصبر أيضًا أمرٌ صعبٌ. فإذا كان الأمر الذي تستعينون للقيام به صعبًا فكيف توفَّقون لإنجازه؟ الحق أنّ العون الذي تطلبونه يضمُّ دعاءً أن يوفِّقنا الله تعالى لطلب هذا العون أيضًا. ولكن هناك شرطٌ لا بُدَّ منه، وهو أنّ هذا الأمر يكون ثقيلاً إلا على الذين هم متواضعون جدًا، الذين انعدمت أنانيَّتهم، والذين يفرشون نفوسهم تواضعًا، فلن يكون الأمر ثقيل الوطأةِ عليهم. لن يكون ثقيلاً عليهم لأنّ الجالس على الأرض لا بدَّ أن يتسوَّل، وإلا فما الحيلة عنده. إنّكم ترونَ معظم المتسوِّلين جالسين على الأرض، لأنّ الجلوس على الأرض علامة التواضع كما يُثبت وجود الحاجة أيضًا. والجالس على الأرض لا بدَّ أن يمدَّ يده. إذا فالذي يوفِّقه الله تعالى للتواضع فلا يصعب الأمر عليه. فمن الواجب عليه أن يستعين بالله تعالى، والله سوف يُسهِّل له هذه السُبل نظرًا إلى تواضعه، مهما كانت استعانته لأمورٍ صعبةِ المنال.

يقول سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود :

“الحقيقة أنّه من الأهميّة بمكان أن يكون هناك انسجامًا كاملاً في قول الإنسان وفعله، وإلا فلا أهميّةَ لأيّ شيء. لذلك يقول الله تعالى في القرآن الكريم: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ “.

هناك معنىً للآية لا يُذكر عادةً مع أنّه يتلاءم مع قواعد اللغة العربيّة تمامًا، وهو: أنّه لا شكَّ أنّ المراد من تَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ هو أنفسُكم أنتم قبل كل شيء، ولكن بالإضافة إلى ذلك يُراد بها الأهل والأولادُ أيضًا، وهذا المعنى ليس مُطابقًا لأصول اللغة العربيّة فقط بل له أهميّة كبيرة. فالمراد هو انّكم سوف تخرجون لإصلاح الدنيا، ولكن إن لم تُصلِحوا أنفسَكم ولم تُصلِحوا أولادَكم الذين في بيوتكم، وهم مُهَيَّؤون لكم لتصلِحوهم، فبأيِّ وجهٍ تخرجون أمام الدنيا؟ فظنُّكم أنّ الدنيا رغم ذلك سوف تسمع قولكم، وأنّها سوف تتأثَّر به ظنٌّ باطلٌ تمامًا. فهذا هو المعنى الثاني لكلمة “أنفُسِكم”، أي أنّكم تنسون أهلكم وأولادكم من هذه الناحية. وهذا هو المعنى الذي أُبيِّنُه باستمرار وأُوجِّه إليه أنظاركم بشكل خاص.

وهناك معنىً آخر بيَّنه سيدُنا الإمام المهدي وهو: «يقول الله تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ ، معناه أنّه ينبغي ألا يظلَّ الإنسان متوجِّهًا إلى عيوب غيره متناسيًا نفسه».

فمن الضروري أنْ تَمكُثُوا في صُحبةِ شخصٍ مُزَكٍّ للنفوس. والله تعالى قد خلق مُزَكِّيًا لهذا الغرض. والقرآن الكريم يُقدِّم هذا المزَكِّيَ في شخص سيدنا محمد . النبيّ ليس موجودًا بيننا اليوم، فكيف يكون مُزكِّيًا؟ وكيف نستطيع أن نكون في صحبته ؟ ولو كنا في صُحبته لبدأت عملية التَزكية تلقائيًّا.

وهذا المعنى الجميل لم يخطر ببالِ أيِّ مفسِّرٍ غيره حسب معلوماتي. إنّ الأمرَ بالمعروف يبدو واضحًا جليًّا للجميع، ولكن الاستدلال منه أنّه يجب ألا يظلَّ باحثًا عن عيوب غيره، هذه هي النقطة السكيولوجيّة العميقة التي استوعبها سيدُنا الإمام المهدي ، ويجب عليكم أيضًا أن تفهموها جيدًا.

ثم يقول حضرته :

“ينبغي ألا يظلَّ الإنسان متوجِّهًا إلى عيوب غيره… بل يجب أن ينتبه إلى عيوبه لأنّه بنفسه لا يتقيّد بهذه الأمور وفي نهاية المطاف يصبح مصداقًا لـ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ “.

وإن لم ينتبه الإنسان إلى عيوبِ نفسه فأنَّى له أن يأمرها بالمعروف. هذا هو الأمر الأساسي أنّ البحث عن عيوبِ النفس يُشكِّل جزءًا لا يتجزأ من هذه الآية. ليس لأحدٍ أن يأمرُ نَفسَه بالمعروف ما لم يعرف المنكرات التي هو واقعٌ فيها. وكيف يمكن الأمر بالمعروف ما لم يتمّ الاطِّلاع على المنكرات؟ الأمرُ بالمعروف يعني درءَ المنكرات. فالحسنات لن تبدأ في الصدور إلا بعد زوال السيِّئات. وكذلك قال سيدُنا الإمام المهدي : مَن يَشرع في البحث عن سيّئات نفسه يمتنع عن البحث عن سيئات الآخرين. هذه نقطةٌ سيكولوجيّة عظيمة وجدها الناس بأنفسهم -ليس من خلال شرح الآيات القرآنيّة بل اطّلعوا عليها بأنفسهم- واستفادوا منها ففي هذا الصدد قد قرأتُ فيما سبق أيضًا بيتًا لــ بهادر شاه ظفر* ما معناه:

  ظللنا نبحثُ في سيّئاتِ الآخرين ما

 لم نطَّلع على حالةِ أنفسنا

   وعندما وقعتْ النظرةُ على سيّئاتنا لم

يَعُدْ أحدٌ سيّئًا في أعيننا

كم قولهُ عميق ومنسجم مع الفطرة الإنسانيّة، إذ قال: عندما اطّلعنا على عيوبنا بدتْ لنا نفسنا قذرةً وسيّئة، ثم لم نعد قادرين على البحث عن عيوب الآخرين. هذه هي النقطة التي بيَّنها سيدُنا المسيح الموعود يربطها بهذه الآية فقال: لأنّه بنفسه لا يتقيّد بهذه الأمور وفي نهاية المطاف يصبح مصداقًا لـــ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ . يقول حضرته :

“نُصحُ الآخرين بالإخلاص والمحبَّة صعبٌ للغاية. لأنّ النُصح أيضًا في بعض الأحيان يكون مَشُوبًا بالبُغْضِ والاستكبَارِ المخفِيِّينِ”.

لا شكَّ أنّ نُصحَ الآخرين بالإخلاص والمحبَّة أمرٌ صعبٌ جدًا. وإنّما يمكن تقديم النُصح بالإخلاص والمحبّة إذا نبذَ الإنسانُ الاستكبارَ المخفِّيَ في القلب. وهذا الاستكبار المخفِّي لا يُمكن أن يُشاهده الإنسان إلا بالبحث عن سيِّئاته الشخصيّة، فهذه سلسلةٌ تتقدَّم بصورةٍ متسلسلة. فيجب على الإنسان الاهتمامُ بعيوب نفسه والبحث عنها على الدوام، وبالتالي لن يكون النُصح مَشُوبًا بشيءٍ من الضغينة والبُغض. وعندما لا تكون هناك شائِبةٌ من البُغضِ لن يكون نُصحُكم ناجمًا إلا من أواصِرِ التعاطُف، وهذا ما يريده الله تعالى من الأمة المسلمة.

إنّ النبي لم يُقدِّم النُصح إلا بعاطِفةِ مؤاساةِ البشر. البُغضُ والاستكبار المخفِيِّينِ اللذينِ ذكرهما سيدُنا المسيح الموعود يمكن مشاهدتهما في الحياة اليوميّة. الذين يتحدَّثون مع الصغار بقسوة ويمنعونهم بقسوة، لو فتَّشوا قلوبهم لوجدوا أنّ تصرُّفهم هذا يكون مَشُوبًا بنوعٍ من الاستكبار. إنّهم يَرونَ أولادَهم أذلَّاء وبلا حولٍ أمامَهم ويظنُّون أنّ لنا عليهم غلبةً وقدرةً. فبسبب هذا الاستكبار يجِدُ القول المــُـــــــرُّ طريقَه إلى أسلوب نصيحتهم فتذهب نصيحتهم سُدىً. لذا يجب أن تقرؤوا نصائِحَ سيدنا المسيح الموعود بدقةٍ وإمعان، ويجب أن تتعلَّموا تنفيذها بدقة أيضًا. والنتيجة الحتميّة التي توصَّل إليها سيدُنا المسيح الموعود هي: “لو كانوا ينصحون بالحُبِّ الخالص لما ذكرهم الله تعالى تحت هذه الآية. السعيدُ هو الذي ينتبه إلى عيوبِ نفسه أولاً. وإنّما يطَّلع عليها الإنسان حين يبقى في اختبارٍ مُستمر.” (الملفوظات، الخزائن الروحانيّة، ج 6، ص 369) يبدو من كلمات “اختبارٍ مُستمر” انّ الموضوع في منتهى الصعوبة. يقول حضرته: “… يبقى في اختبارٍ مُستمر”، أي أنّ كلّ ما يتفوَّه به الإنسان أو يفكِّر به صباحًا أو مساءً يجب أن يختبره أيضًا. وهذه هي المشكلة التي أُمِرنا من أجلها أنْ وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ . وإن لم تستعينوا بالله تعالى بالصبر والعبادة والأدعية ليلَ نهارَ فالأمر الذي تُدعونَ إليه في منتهى الصعوبة.

يقول سيدُنا المسيح الموعود :

“اعلموا أنّ الإصلاح يلزمه الصبر. والشرط الثاني هو أنّ تزكية الأخلاق والنفس لا تتمُّ ما لم يُقِم الإنسان في صُحبةِ مُزَكٍّ للنفوس”. (الملفوظات، الخزائن الروحانيّة، ج 1، ص 459، 460، الطبعة الجديدة)

كلّما يدعو سيدُنا المسيح الموعود إلى مواقف صعبة، يقدِّم لها دائِمًا حلولاً سهلة أيضًا دون استثناء. كذلك يُقدِّم حلاً سهلاً للمشاكل المتعلِّقة بتلك الحلول السهلة حتى أنّ البداية التي كانت تبدو صعبةً جدًا يجعل حضرتُه نهايَتَها سهلةً لكي يهونَ العمل بها على كلِّ صغيرٍ وكبير في الجماعة.

والآن اسمعوا جيدًا أنّه كيف جعَلها سهلةً؟ يقول حضرته: إنّ تزكيةَ الأخلاق والنفس أمرٌ صعبٌ. اختبروا أنفسكم كل يوم، وكيف تقومون بذلك إن لم تبقوا متوجِّهين إلى هذه الأمور في كلِّ حين؟ فمن الضروري أنْ تَمكُثُوا في صُحبةِ شخصٍ مُزَكٍّ للنفوس. والله تعالى قد خلق مُزَكِّيًا لهذا الغرض. والقرآن الكريم يُقدِّم هذا المزَكِّيَ في شخص سيدنا محمد . النبيّ ليس موجودًا بيننا اليوم، فكيف يكون مُزكِّيًا؟ وكيف نستطيع أن نكون في صحبته ؟ ولو كنا في صُحبته لبدأت عملية التَزكية تلقائيًّا. إن المسيح الموعود يُقدِّمُ معنىً آخر وهو: أنّ الذين استطاعوا أن يُزَكُّوا أنفسهم إلى حدٍّ ما من خلال صحبته أو مستفيدين بنصائِحه بالنظر إلى أعماله الحسنة، فكونوا إن استطعتم مع هؤلاء الذين تمكَّنوا من تزكيةِ نفوسهم بفضلِ بركةِ النبي ، فهؤلاء الحائِزونَ على التزكية سوف يتمكنون بفضل الله تعالى من تزكيتكم، والأمور التي تبدو صعبةً سوف تسهل رويدًا رويدًا. القضية التي أطرحُها الآن هي قضيةُ صُحبةِ سيدِنا رسول الله المباشرة. وهذا يمكن حسب رأيي، وهو الحلُّ الأمثل لجميع تلك القضايا المستعصية التي سبق ذكرها.

يجب أن تكونوا في صُحبة النبي عن طريق ذكره كلَّ حينٍ وآنٍ. عندما تُصلُّونَ على سيدنا محمد ، وتتصوَّرون إحسانه، فهذا أيضًا نوعٌ من الصُحبة. وحين تنامون -وأنتم في هذا الحال- فلسوف تتلاشى الأفكارُ السيّئة تلقائيًّا. إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ، لن تحتاجوا إلى جهدٍ كبير لطرده. ليس من الممكن بشكلٍ من الأشكال أن تكون هناك صُحبةٌ تُصوِّر النبي ثم تجدُ الأفكارُ السيّئة طريقها إليها. من المستحيل أن يتماشى هذان الأمران مع بعض.

إذاً فما أسهل الحصول على صُحبةِ رسول الله !! وهذه الصُحبة يمكن الحصول عليها بذكرِ المِنن التي أسدَاها النبيُّ إلينا والتي لا تُعدُّ ولا تُحصى. إنّه قدَّم مواعِظَ قيِّمة في أبسط أمور الحياة من شأنها أنْ تُغيِّر مجرى حياة الإنسان تمامًا. يُصاب كثيرٌ من الناس بأمراض الأسنان، على سبيل المثال، بحيث لا يقدرُ الأطباء المعاصِرون أيضًا على عِلاجها الناجع. والأسنان التي تتعرَّضُ للتسوّس مرةً لا عِلاج لها. ولكن النبيّ كان متعوِّدًا على تسويِكِ أسنانه قبلَ كلِّ صلاة وهذا ما نصحَ به أيضًا. فإذا تعوَّد أحدٌ على السِواك خمس مرّات يوميًّا، الأمر الذي تحاولون أنْ يتعوَّد به الأطفال أيضًا، كيف يمكن أن تتسوَّس أسنانهم في أيِّ مرحلةٍ من مراحل الحياة؟

واقعُ الأمر أنّه لو لم يتعوَّد الإنسان على ذلك بسبب تقصيراته لتضرَّرت أسنانه. هناك أمراضٌ أخرى ليس لها علاقةٌ بعادةِ السِواك بل هي أمراضٌ داخليّة، والنبيُّ لا يذكر تلك الأمراض بل يقول إنّ الأسنان التي وهَبَكم الله تعالى -وبالشكلِ الذي وهبَكَم إيَّاها- يتحتَّم عليكم أن تُحافِظوا عليها. وصاحِب الأسنان الجيّدة إذا تمسَّك بهذه العادة (عادة السِواك) خمس مرّات يوميًّا لن تتسوَّس أسنانه أبدًا. فالذين يأتون للقائي يكون فيهم المتزوجون حديثًا ولهم أسنانٌ جميلة، تبدو كالآلي حين يضحكون، فَأنصحهم دائِمًا وأقول أنّ الله تعالى قد وهَبكم هذه النِعمة إلى جانب نِعمةٍ أخرى أيضًا. الدنيا تُعرِض عن هذه النِعمة ولكن يجب ألا تُعرِضوا أنتم، وتلك النِّعمة العُظمى هي في شخص سيدنا محمد رسول الله . يمكنكم أن تحافظوا على هذه النِّعمة الظاهريّة بواسطة تلك النعمة العُظمى. إنّه يقول: تسوَّكوا خمس مراتٍ يوميًّا -وتوجد في هذه الأيام أنواعٌ عدة من معاجين الأسنان بدلاً من السِواك- فلو استخدمتموها خمس مرات يوميًا لبقيت الأسنان نظيفة طوال الحياة. وظنُّ الناس أنّ الأسنان لابدَّ أن تسقط مع مرور العمر ظنٌّ خاطئٌ. الحقيقة أنّ الأسنان الجيدة التي يُحافظ عليها تبقى قويّة أيضًا مع مرور العمر لأنّ قوّة الأسنان تتعلَّق بقوّة اللثة. ولو نظفّتموها خمس مرّات يوميًّا لما استطاعت الجراثيم أن تتسبّب في ضعفها، فتبقى سليمة. فهذه هي الصُحبة التي أنا بصدد ذكرها. بالرغم من أنّ المثال الذي قدّمته كان بسيطًا فالغرض منه أن يرسخ في الأذهان تصوُّر كون الرسول نِعمةً عظمى على أساس أنه منبع للنصائح المتعلِّقة بالحياة اليوميّة.

نظافة الجسم، الابتعاد عن جميع السيّئات.. فكل من مثل هذه النصائح يمثِّل نعمةً عظيمة، وإنّها ضرورية جدًا لصحة الجسم. فقد بيّن النبي من خلال نصائحه: متى يجب التوقف عن الطعام، وفي أي حالةٍ يجب ألا يتكلَّف الإنسان. كما بيَّن النبي أنّه يجب ألا يكون الطعام حلالاً فحسب بل يجب أن يكون طيِّبًا أيضًا. كلّما اشتبه عليكم أمرُ كونِ الطعام طيِّبًا، فارموا به بعيدًا أو سخِّنوه مرة أخرى حتى تضمَّحلَّ أسباب الخطر. لقد قدَّمتُ إليكم بضعةً من الأمور البسيطة غيرَ أنّها من الكثرة بحيث لا تعدُّ ولا تُحصى.

إنني دائمًا أتصوَّر إحسان رسول الله من خلال أمورٍ بسيطة، واستغرب أنّه كم نحن -غلمان سيدنا محمد – مَدينون له حتى لا نستطيع أن نرفع رؤوسنا طوال الحياة. الصحابة رضوان الله عليهم الذين كانوا يَغضُّون أبصارهم أمامه وكانوا يرونه بالأدب، يجب أن تعرفوا عنهم أنّهم لم يخفضوا أصواتهم فحسب أمام النبي بل كانوا يغضُّون أبصارهم أيضًا. ولكن عندما أنا أُلقي الخطبة أرى أن معظم الناس يحدِّقون إليّ لحبهم لي، غيرَ أنّ هذا الأسلوب لم يكن رائِجًا في زمن النبي . كان أصحاب النبي يحبونه أكثر بكثير مما تحبونني أنتم، ولكن مع ذلك كانوا يخفضون أصواتهم ويغضُّون أبصارهم لدرجة حين سُئِل أحدٌ من أصحاب النبي عن شمائله بعد وفاته ، أجهشَ بالبكاء وقال ما معناه: كان وجهه من الجمال بحيث لم تكن النظرة لتقع عليه. ومن ناحيةٍ أخرى ما كان لي أن أنظُرَ إليه مراعاةً لمقتضى الحبِّ والعشق. فلا أستطيع أن أَصِفَ ملامح وجهه الكريم .

فأساليب الأدب هذه قد تعلّمناها كلها من النبيّ . ولو تفكَّرتم فيها لزدتم إكرامًا للنبيّ الأكرم إلى الأبد نتيجة مِننه بتعليمنا هذه الآداب، ولزادت عظمته غي قلوبكم باستمرار، ولرأيتم أنفسَكم مدينين له دائمًا. هذه هي الصُحبة التي ذكرها القرآن الكريم. إنّ هذا المـــُزَكِّي قد خُلِق لكم، فكونوا في صحبته. فلو تيسَّرت لكم هذه الصُحبة لسهُلت جميع المشاكل المتعلِّقة بالأوامر والنواهي التي سبق ذكرها ولتحرَّرتم من جميع أنواع المصاعب.

إنّ الروح القُدس اسمٌ لمــــَلَكٍ أيضًا كما يقال، ولكن الرُوح القُدس التي يتحدَّث عنها المسيح الموعود هي تصورُّ النبيّ الطاهرُ الذي سُمِّيَ بالروح القدُسُ في مصطلح القرآن الكريم.

يقول سيدنا المسيح الموعود بأنّه ما لم يبقَ الإنسان في صحبة شخصٍ مُزَكٍّ للنفوس لا يمكن إنجاز الأمور التي أدعو إليها. يقول حضرته: “الباب الأول الذي يُفتتح، إنما يُفتتح إثرَ زوال القذارة” وكيف تزول القذارة؟ هذا الموضوع أيضًا ممتعٌ جدًا وزاده سيدُنا الإمام المهدي شرحًا إذ قال: “الأشياء القذرة التي تكون لها نسبةً تبقى في الداخل”

أي إنّ قلب الإنسان يبقى مليئًا بالقذارة لأنّها تكون لها نسبةً معه نوعًا ما. ثم يقول حضرته:

“ولكن حين تيسَّرتْ الصُحبة الترياقِيَّة تبدأ القذارة الداخلية تزول شيئًا فشيئًا”. لأنّ الصحبة الصالحة عندما تستقر في القلب تهرب القذارة تلقائيًّا. ليس المراد بأنّه يكنس قلبَكم وكأنه يقوم لكم بهذا العمل التافه أيضًا. هذه نقطةٌ عميقةٌ جدًا. فلو نشأ في القلب حبُّ شخصٍ عظيم، ثم استقرَّ هناك لهربتْ القذارة كنتيجةٍ تلقائيّة لذلك ولا حاجة لطرده. فقد بيَّن القرآن الكريم النقطة نفسها حين قال:

جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا

وأحد المعاني العظيمة للآية هو: جاء الحق، أي جاء محمد رسول الله ، وزُهِقَ الباطل، فهربَ الباطل فورَ مجيء الحق. إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ، أي ليس لهذا الشقي إلا أن يفرَّ ويهرب. ولا يستطيع الباطل أن يستقر حيث سبق أن استقرَّ سيدُنا محمد رسول الله . فهذه هي الصحبة الصالحة التي يذكرها سيدُنا الإمام المهدي ، إذ يقول: “… تبدأ القذارة الداخلية تزول شيئًا فشيئًا. لأنّه لا يمكن إنشاء العلاقة بِروحِ القُدس في مُصطلح القرآن، ما لم يكن هنا نسبة. ولا نستطيع القول متى ستتم هذه العلاقة”. إنّ الروح القُدس اسمٌ لمــــَلَكٍ أيضًا كما يقال، ولكن الرُوح القُدس التي يتحدَّث عنها المسيح الموعود هي تصورُّ النبيّ الطاهرُ الذي سُمِّيَ بالروح القدُسُ في مصطلح القرآن الكريم. ولكن النقطة النهائيّة التي بيّنها حضرته هي أن يصير الإنسان بمثابة التراب في تواضعه. هناك مثلٌ فارسي يقول ما معناه: “كُنْ تُرابًا قبلَ أن تصيرَ تُرابًا”

أي يجب أن تكونوا مثل التراب تواضعًا قبل تكونوا تُرابًا مُكرَهين، هذا هو المعنى الحرفيّ للمثل. أي أنّكم سوف تصيرون تُرابًا يومًا ما لا محالة فلم لا تُصبحون مثل التراب تواضعًا قبل ذلك الحين.

يقول حضرته :

“يجب أن يجعل الإنسان نفسه ترابًا في هذا السبيل، ويسير في هذا السبيل بكامل الصبر والاستقامة. والله تعالى لن يضيّع جهده الصادق، ولسوف يَهَبه النور والضياء اللذين كان يبحث عنهما. إنني أستغرِب، لماذا يتجاسر الإنسانُ وهو يعرف أنّ الله موجود؟”.

فلكل هذه الأمور علاقةٌ قوية مع حقيقة الإيمان بالله لا محالة. بقدر ما تتجلّى هذه الحقيقة عميقًا في قلوبكم بقدر ما تُوهبون روحَ القُدُس أيضًا الذي هو النبيُّ الأكرم .

يقول حضرته في كتابه “سفينة نوح”:

“استعينوا بالصبرِ والصلاة. ما هي الصلاة؟ هي الدُعاء الذي يُدعى بالتسبيح والحمد والاستغفار والصلاة على النبي . فعندما تُصلُّون ينبغي ألا تتقيّدوا في أدعيتكم بالكلمات العربيّة فحسب مثل الناس الغافلين، لأنّ صلاتهم واستغفارهم كلّها تقاليد بحتةٌ لا تُحالِفها الحقيقة والمغزى. الأوامر التي كلَّف بها الله الناسَ مثل أَقِيمُواْ الصَّلاَةَ أو: وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ ، فلو نفَّذها الإنسان إلى مدّة لتحوَّلت هذه الأوامر من صِبغةٍ شرعيّة إلى صبغةٍ كونيّة، ثم لا يستطيع الإنسان أن يُخالفها.”

فمن معاني كلمة “الكون”، عالَمُ الوجود أو الدنيا الواسعة. وكذلك تعني: الفطرة والجِبلَّة. فيقول حضرته : لو قمتم بعملٍ معيّن إلى مدةٍ طويلة لأصبح جزءًا لا يتجزَّأ من جِبِلَّتِكم. ثم لن يكون في وسعكم أن تنبذوه. فلتحويله إلى الجِبِلَّة، لا بدَّ لكم من الحصول على حقيقةِ الإيمان العميقةِ، كما قلتُ آنفًا. وبسبب الإيمان الكامل بالله تعالى سوف ينزل على قلبكم ذلك النور الذي سمَّاه القرآن الكريم بـ “محمد رسول الله”. وزوال كافة الظلمات وزهوقها بسبب هذا النور أمرٌ طبعيٌّ وحقيقةٌ واقعيّةٌ. ولو بقيتم معه (مع هذا النور) لأصبح هو جِبِلَّتَكم، ولصار فطرتكم الثانية، بل فطرتكم الأولى. ومِن ثَمَّ فكل فطرةٍ غيرها سوف تبدو لكم فطرةً ثانوية. وفَّقنا الله تعالى لذلك لأنّه بدونها لا يمكن تحقُّق المقتضيات العظيمة المنوطة بهم.

* هو إمبراطور مغولي وشاعر ذائِع الصيت في شبه القارة الهنديّة.

عُرِّبت هذه الخطبة من النص الذي نشرته جريدة الفضل العالميّة (الناطقة بالأرديّة) بتاريخ 22 إلى 28 جُمادى الآخرة الموافق 2- 8 أكتوبر 1998م

Share via
تابعونا على الفايس بوك