لمن تجوز شفاعة المصطفى صلى الله عليه وسلم
التاريخ: 1999-02-26

لمن تجوز شفاعة المصطفى صلى الله عليه وسلم

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

الخليفة الرابع للمسيح الموعود (عليه السلام)

خطبة الجمعة ألقاها حضرة أمير المؤمنين الخليفة الرابع

 لسيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود

 بتاريخ 9 ذي القعدة 1419 هـــ الموافق 26 فبراير/ شباط 1999م 

في مسجد فضل بلندن.

نقلها إلى العربية: عبد المجيد عامر

«تنشر أسرة التقوى ترجمة هذه الخطبة على مسؤوليتها»

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (آمين)

اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (البقرة: 256)

لانزال في صدد شرح هذه الآية الكريمة، وجزءٌ منها يتعلَّق بحشرات الأرض والذي كنت ذكرته في الخطبة الماضية وكنت قد تحدَّثت عن دودة القزّ. أما الآن فأريد أن أذكر النحلة في السياق نفسه، لأنّ كليهما من حشرات الأرض. لقد أوضحتُ أنّ الله له كل ما في الأرض وما في السماء، وهو خالقُ كل شيء ومالك كل شيء، سواءً ما كان على سطح الأرض أو في الجو أو في البحر. منه يستمِدُّ كل شيء الحياةَ. وعلى وجوده يعتمد لبقائه. هذا الموضوع قد شرحتُه من قبل. ولكن -نظرًا إلى دودة القزّ والنحل- ما معنى الجزء المركزي للآية وهو:

يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء ؟

سوف أتحدَّث حول هذا الجزء أولاً ثم أتطرَّق إلى موضوع الشفاعة.

واقع الأمر أنّ النحل أيضًا -مثل دودة القز تمامًا- لقد بدأتْ بصنع العسل عندما لم يُوجد للإنسان أثرٌ أبدًا، إذ لم يكن له عندئذٍ أي وجود نهائيًّا. ويتبيّن من الآيات القرآنيّة الأخرى أنّه (العسل) كان شفاء للناس. أي إنّ السبب وراء بداية تركيبه بأمر من الله ووحيه هو لأنّه كان من المقدر له أن يكون شفاءً للناس. فلو تأملتم في

يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ

آخذين هذه النقطة في الحسبان لَعلِمتم أنّ الإنسان والمخلوقات الأخرى لا تعرف عن ماضيها ولا مستقبلها شيئًا، إلاّ بِمَا شَاءَ ، أي إلا بقدر ما أراد الله أن يكشف لهم.

والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: ما الهدف من وراء خلق دودة القزّ أو الحرير إذا لم يكن لأحدٍ أن يلبس الحرير في حين لم تكن الحيوانات تستعمل الحرير قبل خلق الإنسان، كذلك لم تستعمله أيضًا الدودة التي كانت تصنعه. بل كانت الدودة تغزل كما تغزل النساء ثم كانت تنقض غزلَها وتطير. فما الهدف من كل ذلك؟ هذا الهدف تجلّى عندما خُلِقَ الإنسان. وكانت هناك حكمة وراء العسل أيضًا بيَّنها الله تعالى بالكلمات الواضحة لأنّ منزلة النحل والوحي النازل عليها أسمى كثيرًا من منزلة دودة القزّ، لذا فقد شرح الله تعالى هذا الجزء بكل تفصيل ليُدرك الناس مدى اهتمامه جل جلاله بهم أنه حين كانت النحل تصنع العسل كانت تستخدم جزءًا ضئيلاً جدًا لنفسها والباقي تأكله دِبَبَةُ الفلاة ولكن لم يكن للإنسان حينها أي وجود، غيرَ أنه كان يُصنع له.

إذًا فهذا هو مدى علم الإنسان. يقول الله تعالى:

وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء :

أي أنّهم لا يعلمون إلا بقدر ما يكشف الله تعالى لهم. وفي هذا الصدد يجب أن تأخذوا بعين الاعتبار أمرًا أنّ الشفاء الذي يوجد في عسلٍ يصنعه النحل -علمًا أنّ هناك حشرات أخرى أيضًا تصنع العسل- لم يتمكَّن الإنسان بعد من الإحاطة به أيضًا. هناك أبحاثٌ مضنية سارية للاطلاع على الشفاء الذي يتم بدهن الجسم بالعسل، والشفاء الحاصل باستخدامه الداخلي؟ ويبذل العلماء مجهودات مستميتة جيلاً بعد جيل في هذا السبيل حتى كرَّس بعضُهم حياتهم للبحث في هذا الموضوع فقط ولكنهم لم يحيطوا به علمًا.

أغلبُ ظنّي أنّه سبق لي أن ذكرت النحل وقلت إنّه ليس بوسعهم إطلاقًا أن يتمكَّنوا من التحقيق المقنع في العسل والإحاطة به علمًا. لأنّ العسل يختلف من بلدٍ إلى آخر من ناحية الخواص واللون والرائحة، لأنّه يُستمَدُّ من نباتات مختلفة وفي فصولٍ مختلفة. فالخواص التي توجد في أزهارٍ يُستمَدُّ منها العصير تختصُّ بأرضٍ تنبت فيها تلك الأزهار. كما أنّ لها علاقة مع الفصول التي تُزهر أو تُثمر فيها تلك الأشجار. ولو فكَّر الإنسانُ في الأماكن وأنواع الأزهار التي تجني منها النحلُ العسلَ طوال السنة، ثم فكَّرَ في أنواع العسل التي تصنعها لما قدر على الإحاطة بهذه الأمور الدقيقة المنتشرة في أنحاء المعمورة.

إذًا فهذا هو المفهوم الأساسي للآية أنَّ الإنسان لا يستطيع أن يحيط بالعلم شيئًا. إنّه يتوهَّم فقط أنّه قد أصبح عالِمًا كبيرًا. والحق أنّ الله وحده يحيط بالعلم ثم يهبه للإنسان حين يشاء. ولو لم يكن الله ليهبه إيّاه لما كان للإنسان أن يحصل عليه أبدًا. لذا كان لابدَّ من أن يَهبَ الله تعالى للإنسان علمًا عن النحلة ودودة القزّ وإلا لذهب خلقهما سُدىً. بل كان من مقتضى خلق الله تعالى نفسه أن يوهب العلمُ إلى حدٍّ ما للعباد المساكين. وإنْ لم تُعلِّم يا ربِّ! فأنَّى للعِباد أن يتعلَّموا أساليب استخدامهما.

أما الكلمات:

وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ

الواردة بعد ذلك فقد شرحتُها من قبل وقلتُ إنّ المراد منها أنّ علم الله تعالى محيطٌ بالكون بأسره، وليس هناك جزءٌ من الكون يخرج عن نطاق علمه جل جلاله.

والحق أنّ الله وحده يحيط بالعلم ثم يهبه للإنسان حين يشاء. ولو لم يكن الله ليهبه إيّاه لما كان للإنسان أن يحصل عليه أبدًا. لذا كان لابدَّ من أن يَهبَ الله تعالى للإنسان علمًا عن النحلة ودودة القزّ وإلا لذهب خلقهما سُدىً. بل كان من مقتضى خلق الله تعالى نفسه أن يوهب العلمُ إلى حدٍّ ما للعباد المساكين. وإنْ لم تُعلِّم يا ربِّ! فأنَّى للعِباد أن يتعلَّموا أساليب استخدامهما.

والآن أبدأ بموضوع الشفاعة. ما هي الشفاعة أصلاً؟ ففي هذا الصدد هناك بضعُ آياتٍ أخرى أَودُّ تقديمها إليكم وهي مأخوذةٌ من سورة “طه” وتزيد الموضوع شرحًا إلى حدٍّ ما، كذلك هناك بعض الشرح للموضوع في الدعاء الذي نقرؤه عند سماعنا للآذان وبعده. الجزء المركزي لهذا الدعاء يتعلَّق بالشفاعة. لذا أولاً وقبل كل شيء أقدِّم إليكم تلك الآيات وأُقدِّم معانيها. فقد قال الله تعالى:

يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا * وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا * وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا * وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا (طه: 110-113)

قوله تعالى:

“يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً”

يعني أنَّ هذا يومٌ لن تنفع فيه الشفاعة إلا شخصًا يأذن له اللهُ تعالى للشفاعة في حقّه ويرضى بالكلام في حقّه. ومعنى “رضيَ له قولاً”: أيضًا: أنه لن تنفع أية شفاعة أو هذا يومٌ لن تنفع فيه الشفاعة. إنّ كلمة “الشفاعة” ذات معانٍ واسعة، منها أنّه لن ينفع أي نوع من الشفاعة مهما تعدَّدت أنواعها، إلا لمن أذن الرحمن أنه سوف يقبلها في حقّه. ومعناه أيضًا: أنّه سوف يقبل الشفاعة من الذي سمحَ له بذلك مسبقًا أنّني سوفَ أقبل الشفاعة منك.

وبيَّن في قوله تعالى وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً : ممن سوف يَقبل الشفاعة؟ سوف يقبلها من الذين يعجبه قولهم. رغم أنّ اسم النبيّ لم يُذكر بصراحة في هذا الشأن، ولكن القول الذي كان يُعجب الله تعالى أكثر من غيره من الأنبياء هو قول محمدٍ رسول الله . لا شكَّ أنّ موضوع شفاعة الأنبياء الآخرين أيضًا ثابتٌ من القرآن الكريم ولكن فيما يتعلَّق بالرِضا بالقول فلم يخرج من فَمِ نبيٍّ من الأنبياء قولٌ رضيَ به اللهُ تعالى بقدرِ ما رضيَ بقول النبيّ الأكرم .

بعدها وردت في الآيات المذكورة آنفًا كلمات مثلما وردت في آية الكرسي وهي: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا .

“يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ”: أي يُصدر الله تعالى هذا القرار بناءً على عِلمه الخاص. فإنّه يعلم ما يظهره الناس وما هو خلفهم. ويمكن أن يكون المعنى أيضًا علاوةً على المعنى المتداول: إنّه يعلم ما يرونه أمام أعينهم وما هو مخفيٌّ عليهم. فبعد الاطّلاع على كلّ هذه الأشياء لابدَّ أن يكون قرار الله تعالى صائِبًا. وهو الذي أعلم بمن هو أهلٌ للشفاعة. وهو وحده أعلم بالذين يجب أن تُقبل الشفاعة في حقّهم. وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا : أي لا يستطيعون أن يُحيطوا بهذه الأمور علمًا.

ثم قال: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ، وهو الحيُّ القيُّوم الذي ورد ذكره في آية الكرسي مبدئيًّا. ولقد أُعيد بيان هاتين الصفتين هنا، فثبت بذلك أنّ لهذه الآيات علاقةٌ قويّة بمضمون آية الكرسي. يتبيَّن هذا الموضوع من الآية الأولى أيضًا من الآيات الآنفة الذكر، غيرَ أنّه قد تَمَّ ربطه هنا بكلمات “الحيّ القَيُّوم” ربطًا وثيقًا. والمراد من وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ : أنّ الوجوه سوف تخضع للحيّ القيُّوم.

ثم يقول الله تعالى: وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا ، الظلم هو الشرك بالدرجة الأولى. وقد بيَّن النبيّ هذا المعنى بكلّ وضوح أنّ شفاعتي لا يمكن أن تكون في حقِّ مشركٍ. لن تُقبل تلك الشفاعة في حقِّ مشركٍ بشكلٍ من الأشكال. لذا فالآيات التي قُرِئَت أمامكم لها علاقةٌ قويّة بمضمون آية الكرسي ولاسيَّما بالجزء الذي يتعلّق بالشفاعة.

والآن سوف أقدِّم لكم في هذا الصدد بعض الأحاديث التي أشرتُ إليها بالإيجاز. فقد ورد في صحيح البُخاري:

” عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ قَالَ: كُلُّ نَبِيٍّ سَأَلَ سُؤَالاً -أَوْ قَالَ: لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوةٌ قَد دَعَا بِهَا- فَاسْتُجِيبَ، فَجَعَلْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ”. (البخاري، كتاب الدعوات)

من المعلوم أن دعوات الأنبياء تُستجاب بشكلٍ عام ولكن تكون لكلّ نبي دعوةً تفوق غيرها. إنَّ الله تعالى يسمح لكلّ نبيٍّ بدعوة معينة تفوقُ جميعَ أدعيتِه. فيقول النبيّ “لكل نبيّ دعوة دعا بها فاستُجيب، فجعلت دعوتي شفاعةً لأمتي يوم القيامة”. وهذه مِنَّةٌ عظيمة لرسول الله على أمته.

والسبب هو أنّ مالك يوم الدين سوف يحكم يوم القيامة في جميع القضايا ولن يكون هناك حُكمٌ بعد هذا الحُكم. فترونَ أنّ النبيّ لم يَحفظ حقَّه هذا للنِعَم الدنيويّة، لاشكَّ أنه قام بالأدعية للنِعَم الدنيويّة واستُجيب أيضًا. ولقد ذكر سيدنا المسيح الموعود هذا الأمر أيضًا في الشفاعة، بمعنى أنّ دعاءه لأحد يحمل في الحقيقة صبغة الشفاعة له في هذه الدنيا. ولقد شاهدنا مشاهِد عظيمةً لتحقُّقِها، غير أنّ تلك الشفاعة الخالصة التي يقول عنها النبي : إنني جعلتُها لأمتي يوم القيامة إنّها لشفاعةُ المغفرة. ولكن مَنْ هم الذين سوف تُقبل في حقِّهم. ومن هم الذين لن تُقبل في حقِّهم؟ هذا موضوعٌ قد تمَّ شرحه في أحاديث أخرى.

فقد جاء في صحيح البخاري:

“حَدَّثَنَا جَابِرُ بِنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الأَنْبِيَاءِ قَبْلِي، نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا. وَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ فَلْيُصَلِّ. وَأُحِلَّتْ لِيَ الغَنَائِمُ. وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً. وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ”. (البخاري، كتاب الصلاة)

أي أنَّ رُعبَ النبيّ كان منتشرًا بحيث كانت الأقوام البعيدة أيضًا تخاف الخوض في أيّ نشاطٍ عدوانيّ ضده، ومن جرَّاء ذلك سادَ الأمنُ والوئام ببركة سيّدنا رسول الله ، ليس في الجزيرة العربية فحسب بل بلغت رسالة الأمن والسلام إلى ما حولها أيضًا. ونالت هذه الرسالة قبولاً من جرَّاء رعبه وإلا كان من شأن أقوامٍ كثيرة القيام بالغزو من فورهم ولكنّهم ظلّوا خائِفين، إذ كان هناك نوعٌ من الرُعب جعله الله تعالى يستولي على قلوبهم.

إنّ مسيرة شهر كانت تُقدَّر بست مائة ميل في ذلك الزمن على وجه التقريب فيمكن القول من هذا المنطلق: إنّ رُعبه كان منتشرًا إلى ست مائة ميل حوله. والأمر لا يقتصر على الزمن الماضي فحسب، بل بقدر ما تقصر فترة المسافة ويصبح السفر سريعًا بقدر ما ينتشر الرعبُ بشدّةٍ أكثر. وليس من المستبعد أن يكون رعب النبيّ قد استولى على الأقوام في الزمن الحالي أيضًا بحيث يكون قد أحاطَ بالأرض كلها لأنّه ليس ثمّةَ مسافةٍ في هذه الأيام لا تُقطعُ في شهر. وواقع الأمر أن شكلاً آخر لهذا الرعب يبدو واضحًا لنا اليوم أيضًا، وهو أنّهم يخافون جميعًا من غلبة الإسلام ويبذلون قُصارى جهودهم ليحولوا دون غلبته. إنّهم يقومون بجميع هذه المجهودات لأنّ خوف هذه الغلبة مستولٍ على قلوبهم. وتبدو محاولاتهم هذه ناجحةً أيضًا إلى حدٍّ ما في الوقت الحالي، ولكن الله تعالى سوف يُخيِّبها كلّها في نهاية المطاف ولن تقوم لها قائمة. وهذا نبأٌ تتضمَّنه سورة “طه” التي قدَّمت إليكم بعض الآيات منها تأييدًا لهذا الموضوع. سوف تُخيَّبُ آمالهم في نهاية المطاف وتُمحى محاولاتهم، ورعبُ رسول الله الحقيقي سوف يُحيط بالعالَم بأسره. هذا النبأ موجودٌ فيها، فلو قرأتموها بتأمُّلٍ لا بدَّ أن تروه.

والأمر الآخر الذي ذكره النبيّ عن نفسه على وجه الخصوص هو: “جُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا” ليس المراد من كون الأرض طهورًا أنّ كل بقعة منها وإن كانت فيها النجاسة أيضًا طاهرة. بل المراد هو أنّه من الممكن أن تُصلَّى الصلاةُ في كل مكان كان طاهرًا. وكل موضعٍ نجسٍ أيضًا يُطهِّره الله تعالى بعمل الطبيعة، بمعنى أنّ التُراب أيضًا يملك صفة التطهير، فالتراب أيضًا يُطهِّر. لذا أُمِرنا باستخدام التراب عند التَّيمُّم. فقال النبيّ : إنّ الأرض كلها جُعلت لي طاهرةً نقيّة. وهذه ميّزةٌ لن تجدوها في أمّةٍ من الأُمم حيث تكون الأرض كلها قد جُعِلت طهورًا لعبادتهم.

من المعلوم أن دعوات الأنبياء تُستجاب بشكلٍ عام ولكن تكون لكلّ نبي دعوةً تفوق غيرها. إنَّ الله تعالى يسمح لكلّ نبيٍّ بدعوة معينة تفوقُ جميعَ أدعيتِه. فيقول النبيّ “لكل نبيّ دعوة دعا بها فاستُجيب، فجعلت دعوتي شفاعةً لأمتي يوم القيامة”. وهذه مِنَّةٌ عظيمة لرسول الله على أمته.

فقال رسول الله في شرح هذا الموضوع: “وَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ فَلْيُصَلِّ”: أي إذا حانْت الصلاة فَليُصلِّ حيثما كان. والمراد هو أنّه لا حاجة له أن يبحث عن المعابد والمساجد، بل حيثما حانت الصلاة في السفر، فليُصلِّ هنالك. وهذه رحمةٌ مِنَ الله أُعطِيها النبيُّ خاصةً. وبما أنّه كان رحمةً للعالَمين فكان من الضروري أن يُزوَّدَ بهذه الرحمةِ أيضًا.

وهناك جزءٌ ثالث من الحديث لم أفهمه، إلا أنني سوف أقرؤه لا محالة لأنّه واردٌ في جميع كتب الحديث الموثوق بها، لذا فعدم قراءته يكون خيانة. غير أنّ المعنى الذي يُفهم منه ظاهريًّا يستحيل أن يكون هو المراد. والسبب هو أنّ القرآن إذا أصدر قرارًا عن أمرٍ بصورة قاطعة لا يمكن أن يقوم في وجهه حديث أو جزءٌ منه. ولو أنّ أحدًا زعم ذلك ممكنًا لارتكب إهانة في حقِّ رسول الله لأنّه من المستحيل تمامًا أن يجعل النبيّ كلامه يقوم في وجه كلام الله تعالى. ولكن هذا الجزء الذي سوف أقرؤه الآن يمثِّل مُعضلةً بالنسبة لي. ولقد بذلتُ جهد المستطاع بحثًا عن حلّها. قرأت الكتاب المقدَّس بإمعان وقرأت الآيات القرآنيّة أيضًا المتعلّقة بالموضوع ولكنني لم أفهم المعنى المراد منه. يبدو أنّه يحتوي على عقدةٍ ما يحلُّها الله حين يشاء. نحن لا نستطيع أن نُحيط بعلمِه كما قال:

وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء ،

سوف يكشف الله تعالى حين يشاء، لأنّه إذا كان الكلام كلام النبيّ فلا بدَّ أن يكون موافِقًا للقرآن تمام الموافقة.

المشكلة تكمن في قوله “أُحِلَّتْ لِيَ الغَنَائِمُ” أي أنّها ما أُحِلَّت لنبيٍّ من قبل. والآن نتوجَّه إلى الآيات القرآنيّة حيث وُعِدَ سيدنا موسى ما معناه: أُدخلوا بلدةً معيّنة سوف يكون لكم كلّ ما فيها، مِنْ فُومها وعَدَسِها وجميع نِعَمِها، بما فيها من الأنعام وغيرها. ثم يقول الله تعالى بكل وضوح عن سيدنا داود وسليمان عليهما السلام إنّه كلّما حصل لهما الفتح والغلبة في منطقةٍ من المناطق وقعت كافة أموالها وأنعامها وثرواتها تحت تصرُّفهما. وبسببها فحسب بلغت كنوزهما القوميّة درجةً لا أظنُّ أنّ قومًا من الأقوام قد بلغها في الدنيا في وقتٍ من الأوقات، كما لم يبلغ عظمةً مثلها نبي ولا غيره حتى تفيض كنوزه إلى هذه الدرجة. فلو لم تكن تلك الغنائم قد أُحِلَّت فكيف كان سيدنا داود وسليمان عليهما السلام يجمعانها؟ ولماذا كانا يأكلان لحم الأنعام -ويشربان من ألبانها- والتي كانا يقبضانها بعد الغزو والتي تُسمَّى بالغنائم؟

المشكلة هي أنّ القرآن الكريم يقول عن الغنائم بصورة قاطعة: إنّها كانت قد أُحِلَّت للأنبياء السابقين أيضًا، ثم يسرد تفاصيلها أيضًا. فكيف يمكن للنبيّ الأكرم أن يُخالف الآيات القرآنيّة الواضحة تمام الوضوح، فيقولَ إنَّ الغنائمَ ما أُحِلَّت لهم وإنّما أُحِلَّت لي ولأمتي فحسب.

وللبحث عن حلٍّ لهذه المشكلة كتبتُ إلى علماء الجماعة في المركز (بربوة) ليُفكِّروا فيه، ولكن كل ّجُهودي في هذا الصدد ذهبت أدراجَ الرياح، وأنا أعترف بذلك. يبدو أنّ للحديث مفهومًا آخر، أو من الممكن أيضًا أنّ النبي لم يستعمل كلمة “الغنائم” بل يكون قد قال كلمةً أخرى مشابهة لها. فإّذا كان النبي قد استعمل كلمة “الأغانم” (جمع الغنم: أي الأنعام) على سبيل المثال -وهناك تشابهٌ نوعًا ما بين كلمة “الغنائم” و”الأغنام”- فمن المعلوم أنّ جميع أنواع الأنعام ما كانت قد أُحِلَّتْ على الأُمم السابقة بل فُرِضت عليهم بعض الشروط في هذا الصدد، كما ما أُحِلَّت عليهم بعض أجزائها المعيّنة، الشحوم التي على ظهورها على سبيل المثال1. إذًا لابدَّ من القبول أنّ الراوي ذكر كلمة “الغنائم”، بينما كان النبيّ قد قال: “الأغانم”. ثم تَمَّ الخلطُ بين كلمة “الغنائم” و”الأغانم”، وبسبب ذلك فقد أعاد الرواة كلهم الخطأَ نفسه، ولكن ليس هذا إلا التقدير والتخمين منا وأمرٌ قياسي فقط، لا أهميّة له أكثر من ذلك. فالتحقيق في هذا الخصوص يجب أن يكون بالبحث عن الشواهد المبيِّنة لواقع الأمر وللأسباب التي أدَّت إلى حدوث مثل هذا الخطأ. على أيّة حال هذا الجزء من الحديث يستدعي مزيدًا من التحقيق2. أما الأمور الأخرى فيمكن القول عنها بالبتِّ والجزم إنّها لم تُوهب لنبيٍّ من الأنبياء السابقين. يقول رسول الله بعد ذلك: “كَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً”. لاحِظوا كيف يثبت هذا بصورةٍ قاطعة، والقرآن كلّه يشهد على ذلك، كذلك أوامر القرآن الكريم المتعلِّقة بالناس كافةً أيضًا تشهد على الأمر نفسه.

وكما يُقال فإنّ السحر يثبت مصداقيته قهرًا 3. فالأمور الأربعة المذكورة أعلاه كلّها من القطعيَّة والثبوت بحيث يمكن القول عنها باليقين الكامل وحلفًا بالله إنّها ما أُعطِيَتْ لأحدٍ إلا إلى رسول الله .

والأمر الأهم الذي بيَّنه النبيُّ علاوةً على كل هذه الأمور هو الشفاعة، فقال “أُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ” ما المراد من الشفاعة؟ لقد تحدَّثتُ قليلاً حول هذا الموضوع قبل ذلك، والآن سوف أذكر بعض الأمور الأخرى. وعلى هذا الموضوع سوف تنتهي سلسلة خطبتي الحالية، غير أنّ مضامين آية الكرسي لن تنتهي أبدًا.

هناك حديث آخر مأخوذ من سنن الدارمي جاء فيه:

“عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ نَبِيٌّ قَبْلِي، بُعِثْتُ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ، وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ، وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ شَهْرًا يُرْعَبُ مِنِّي الْعَدُوُّ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَقِيلَ لِي سَلْ تُعْطَهْ. فَاخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي وَهِيَ نَائِلَةٌ مِنْكُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ لَمْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ شَيْئًا”. (سُنن الدارمي، كتاب النداء للصلاة)

ففي هذا الحديث بيَّنَ النبيُّ أمرًا لم يرد في الحديث السابق بكلمات واضحة، وهو: أنني بُعِثتُ إلى الناس كافة، إلى الأحمر والأسود، أي لكلِّ قومٍ وطائفة أي جُعلتُ نِعمةً للعالَمين.

ترون أنَّ التفسير الذي قمتُ به لكلمة “الظلم” انطلاقًا من آيات سورة “طه”، يحظى بتأييدٍ من النبي أيضًا، لذا فبعض الناس الذين يزعمون أنّهم يمكن أن يقضوا حياتهم متورطين في أنواع الشرك ثم يتَّكِلون على الشفاعة ويظلّون يردِّدون كلمة الشفاعة، أقول: يمكن أن يكون اعتقادهم هذا مبنيًّا على الكفَّارة ولكن لا علاقة له بالشفاعة. لهم أن يبحثوا عن عِلاجهم في فكرةٍ خاطئة يعتنقها المسيحيّون عن الكَفَّارة، أي ارتَكِبوا مِنَ المعاصي ما تشاؤون فسوف يُنقذكم كونُ المسيح كفَّارةً لكم. هذا الاعتقاد الخاطئ والواهي قد نُسِبَ إلى المسيح وافتراه المسيحيّون الذين جاؤوا فيما بعد وليس له علاقة بالمسيح ، لا من قريب ولا من بعيد.

فإذا كان مسلم كهذا يريد أن يتنصَّر فلا نملك له إلا الدعاء له، ولكن ما دام هو يرتكب الشِرك بصورةً واضحة ويظنُّ أنّه سوف يكسب لنفسه تأييد النبيّ في ذلك -والعياذ بالله- في حين أنّه وينسب إليه أسوأ أنواع الخيانة كذبًا وزورًا، وهو يعلم ما يفعل، فليعلم أنّه لا يمكن بشكلٍ من الأشكال أن يقول رسول الله شيئًا في حقِّ من يرتكب اسوأ أنواع الخيانة أي الشِرك، لأنّ الله تعالى قد قال له : وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا . وكذلك لأنّ النبي قد صرَّح بنفسه عن هذه الشفاعة:

“وَهِيَ نَائِلَةٌ مِنْكُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ لَمْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ شَيْئًا”

لم يقل النبيّ : لا يشرك بالله، لأنّه لا يكاد يكون هناك مسلمٌ ولا واحد يشرك بالله بصورةٍ واضحة مع سلامة قواه الذهنيّة والعقليّة. ولكن لو زِيْدَ الموضوع شرحًا وقيل: “لم يشرك بالله شيئًا” لشمل الكلامُ جميعَ هؤلاء الذين يجعلون الناسَ شركاء في صفةٍ من صفات الله تعالى كما جُعِلَ النبي أيضًا. فمن منتهى الظلم أنّ عددًا كبيرًا يبلغ الملايين يعتبر النبي شريكًا لله تعالى في علم الغيب وكأنّه يعلم الغيب مثل علم الله تعالى. ويُطرون رسولَ الله بحيث يستدِلُّونَ من كونه نورًا أنّه ليس له جسد. والحق أنّ الله لا يُرى مُتجسِّدًا اللهم إلا إذا كان ذلك في حالة الكشف، أما رسول الله فقد رآه الكفار والمؤمنون على السواء كصاحب الجسد المادي. أما هؤلاء المشركون فيقولون إنّ رسول الله كان شريكًا في بعض صفات الله تعالى التي لا يجوز وجودها إلا في ذات الله تعالى وهي أسمى من أن تتواجد في الخلق.

لاحِظوا إذًا الحيطةَ التي كان رسول الله يأخذها في الاعتبار عند انتقائِه الكلمات، إذ كان يختار الكلمات بحذر يزيلُ كلَّ شُبهة، فقال ما معناه: إنّ شفاعتي سوف تنفع شخصًا لم يُشرِك بالله أحدًا ولم يُشرِك به شيئًا في صفةٍ من صفاته جل جلاله.

والآن أُقدِّم إليكم حديثًا آخر وهو مأخوذ من صحيح مسلم، بَاب اسْتِحْبَابِ الْقَوْلِ مِثْلِ قَوْلِ الْمُؤَذِّنِ لِمَنْ سَمِعَهُ ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ ثُمَّ يَسْأَلُ اللهَ لَهُ الوَسِيلَةَ.

ليس المراد من ” يَسْأَلُ اللهَ لَهُ الوَسِيلَةَ” أنّه بسبب دعاء الداعي ينالُ النبيّ منصب “الوسيلة”. وإنّما المراد ان ينتفع هذا الداعي من كون النبيّ وسيلةً. ولو لم يكن النبي وسيلةً ماذا عسى أن يكون وضع ذلك الشخص؟، لذا يجب أن تدعو كثيرًا أن يجعل اللهُ النبيَّ الأكرمَ وسيلةً كما وعد، وإلا ماذا عسى أن يكون وضع عِبادٍ مثلكم. فهذا هو المراد منه أنّه إن لم يكن النبيُّ وسيلةً فماذا عسى أن يفعله العباد المساكين.

فقد جاء في الحديث:

“عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ يَقُولُ: إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ، ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا. ثُمَّ سَلُوا اللهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللهِ. وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ. فَمَنْ سَأَلَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ”.

ليس المراد من “صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا” أنّ الله تعالى سوف يُصلِّي عليه عشرًا فقط بالعدِّ والحساب، بل المقصود هو الإشارة إلى كثرتها. فالمراد من العشرة هو أنّ الله تعالى سوف يُعطيه كثيرًا جدًا. إذا صلَّ هو على النبي مرة واحدة فالله تعالى سوف يُنزل عليه بركات كثيرةً جدًا. لذا حيثما توجد كلمات كهذه يُوضَّحُ الأمرُ بكلمات مختلفة مثل: عشرة مرات أو مائة مرة أو سبعين مرة أو مئات المرات.

ومن الممكن أيضًا أن تكون الحِكمة وراء ذلك أنّ الله تعالى ينظر إلى قلب الـمُصلِّي وكيفيَّته عند الدعاء والصلاة على النبيّ تصعد من قلبه بكثرةً لا تُعَدُّ ولا تُحصى، أي بشدةٍ يستحيل إحاطتها لكان إنزال البركات من الله تعالى على نفس المنوال. ولو كان يقرأ الدعاء بالأدب والاحترام حسب الحديث النبويّ الشريف -وإن كانت الكلمات تخرج من شفتيه فحسب- لكان جزاؤه عشر مرات على أقل تقدير من جرَّاء إخلاص نيَّته. فقد يكون المراد من “عشرًا”: عشر مرات على أقل تقدير.

ثم يقول رسول الله : “سَلُوا اللهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللهِ…” وبما أنّ النبيّ كان قد اختبأَ الشفاعة ليوم القيامة، لذا يقول إنّ تجلِّي الوسيلة الذي سوف يتجلَّى في نفسي ستشاهدونه على حقيقته في الجنّة فحسب، لأنّكم سوف تُوهبون الجنّات لكوني وسيلة، فماذا عسى أن تُجرِّبوا إيفاء هذا الوعد أكثر من أن تروا في الجنّة أنواعًا من النِّعَم التي تجدونها في الجنَّات إنّما أُعطيتم إيَّاها بوسيلة محمدٍ .

فكلمة “الوسيلة” هنا تشمل معنى الشفاعة أيضًا وهو الأَولَى. وثانيًا: الأعمال الحسنة كلّها وُفِّقتُم للقيام بها بوسيلة النبيِّ . إنّ أوامر الله تعالى كلّها وجميع النواحي المذكورة في القرآن الكريم قد أُعطِيتم إيَّاها بوسيلته أيضًا، وإلا فلا.

ثم يقول النبيُّ : “فَمَنْ سَأَلَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ”. هذا الجزء من الحديث يبدو مُتناقضًا بعض الشيء مع حديثٍ آخر سبق ذكره. حيث فُرِضَ الشرط وقيل: “لَمْ يُشْرِكْ بِاللهِ شَيْئًا”. أما الحديث الذي نحن بصدده فقد ذُكرت فيه الشفاعة ذكرًا عابرًا. الحقيقة أنّ ذلك الشرط يكمن في كلمة “الوسيلة”. ولقد شرح سيدنا الإمام المهديّ هذا الموضوع في تفسيرٍ قام به لهذه الآيات. يُصبح النبي وسيلةً حين يكون جسرًا يُوصِل الخلق إلى الله جل جلاله. ويقول سيدنا الإمام المهدي في موضوع الشَفع (أي جمعُ الشيئين) الذي تحتوي عليه كلمة “الشفاعة”: إنَّ النبي من ناحية كان بشرًا بحيث لم يكن في نصيب أي نبيٍّ آخر أن يكون بشرًا مثله. فمن هذه الناحية كان شريكًا مع نوع البشر في كافة مقتضيات البشريّة.

ومن ناحية ثانية صار النبيّ لله تعالى بحيث جعل جميع صفات الله تنعكس في شخصه، إذ مَحَى وجوده لدرجة انّ الناظر إليه يجد أنّه لا يتراءى في ذاته وصفاته وكلامه إلا الله .

فمن هذه الناحية هو وسيلةٌ للوصل بين الله والبشر. فالمراد من الحديث هو أنّ الذي أدرك مفهوم الوسيلة سيصبح مثلي (النبي الأكرم ) وعندئذٍ سوف أكون وسيلة له. لاشكَّ انّه لا يمكن لأحدٍ أن يكون مثلي غيرَ أنّه يستطيع أن يحاول ذلك. فهذا هو المراد مِنْ: “فَمَنْ سَأَلَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ”.

فإذا كان أحدٌ يعتقد بكونه وسيلةً ويدعو الله جل جلاله أيضًا أنْ اجعلْ محمدًا وسيلةً يا ربِّ، ولكن تكون حالته العمليّة تدحض كون النبيّ وسيلة بكل ما في الكلمة من معانٍ، ولا يكون على أيّة صلة بالنبي فكيف يُقيمُ النبيُّ صِلةَ مثل هذا الشخص بالله تعالى؟ لو كان هناك شيء يتصلُّ من طرف لأصبح اتصاله بشيءٍ آخر في طرفٍ ثانٍ وسيلة الاتصال بين شيئين. هذا المبدأ نراه ساريَ المفعول في الحياة العاديّة. لا بدَّ أن يعرفه الإنسان في الأمور العلميّة وفي الأمور العاديّة. إنّكم عندما تربطون شيئًا بغيره من طرف يجب أن تربطوه من طرفٍ آخر أيضًا حتى يكون وسيلة وربطًا بين الشيئين.

والذي يعتبر النبيّ وسيلةً بهذا المعنى حلَّتْ له الشفاعة. والمراد هو أنني (أي النبيّ الأكرم ) سوف أشفع لمثل هذا الشخص دون غيره. والذي يُصبح وسيلةً بهذا المعنى لابُدَّ أنّه يكون نزيهًا من الشِرك، فلا تعارُضَ بين هذين الحديثين، بل يوضِّح رسول الله جانبين اثنين لموضوع واحد، إذ يشرح جانبًا مرة ويشرح جانبًا آخر مرةً أخرى. هذا يشير إلى قوله تعالى: وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ : أي ليشهد الناس جميعًا أنّه نِعْمَ ما تَعلَّمْتَ من الله تعالى ونِعْمَ ما بيَّنتَ ما تَعلَّمْتَ!!

يقول سيدنا المسيح في موضوع الشفاعة: إنّ للشفاعة جانبًا يتعلَّق بالدعاء -وسبق أن ذكرته- يقول: “لا يمكن الشفاعة إلا بإذن الله. ومعنى الشفاعة حسب القرآن الكريم هو أن يدعو الإنسان لأخيه حتى تتحقَّق بُغيته أو تزولَ مشكلته. فالقرآنُ الكريم يأمر أنّ الذي يكون خاضعًا لله تعالى أكثر يجب أن يدعو لأخيه الضعيف حتى ينالَ هو الآخر أيضًا المنزلةَ نفسها. هذه هي حقيقة الشفاعة”. (نسيم الدعوة، الخزائن الروحانيّة، ج19، ص463)

لذا فالذي يودُّ أن يجعل نفسه مؤهَّلاً لشفاعة النبيّ الأكرم ولو إلى حدٍّ ما يجب عليه أن يعطف على إخوته مثلما عطف النبيُّ بالبركات كلها على البشر. والوسيلة المثلى لهذا العطف هو الدعاء فتذكَّروا جميع إخوانكم المحتاجين والمنكوبين عن طريق الدعاء. وهذه بداية الشفاعة. ولو لم تفعلوا ذلك لما أدركتم موضوع الشفاعة نهائيًّا. إنّ ما ورد في القرآن الكريم في هذا الصدد ليس كَفَّارةً إطلاقًا بل هو تحريضٌ على الأعمال الصالحة، الأمر الذي يساهم في ازدياد الحسنات. سوف اترك التفاصيل جانبًا لأنني أودُّ أن أُنهي هذا الموضوع هنا خلال بضع دقائق مقبلة.

فيقول سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود :

“إنَّ زوال المصيبة أو قلّة المعصية والذنوب من جرَّاء دعاء الإنسان والتفاته، كل هذا يندرج تحت الشفاعة. الالتفات يؤثِّرُ في الجميع، وإن كان المأمور لا يتذكَّر حتى أسماء المنتمين إليه وعناوينهم”. (جريدة “الحَكَم” مجلد6، عدد 11، بتاريخ 24 مارس 1902، ص6)

يقول حضرته :

“كيف تَحثُّ الشفاعة على الأعمال الحسنة؟ جوابه يوجد في القرآن الكريم حيث يثبت أنّها لا تحمل في طيَّاتها صبغة الكَفَّارة التي يعتقد بها المسيحيّون -لأنه لم يتم الحصرُ عليها- الأمر الذي يُسفر عن التكاسل والفتور”. (جريدة “الحَكَم” مجلد7، عدد 9، بتاريخ 10 مارس 1903، ص2)

وحين قال عن الشفاعة بأنها سوف تُقبل من محمد قال أيضًا: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ هذا الموضوع سبق لي أن شرحته كثيرًا أنّ قربَ محمد المذكور في كلمة فَإِنِّي قَرِيبٌ هو قرب الله تعالى في الحقيقة.

والذي حظِيَ بهذا القُرب وجبت شفاعة رسول الله أيضًا في حقِّه. والفوز بهذا القرب يفرض على الإنسان أن يُحقِّق هذا القرب في صفاته ويُنشئ علاقته بأعماله الطاهرة، الأمر الذي هو النقطة المركزيّة والأساسيّة للشفاعة. والمراد الأول من شفاعة محمدٍ هو هذه النقطة المركزيّة المتعلِّقة بالقيامة كما ذكرتُ. والمراد الثاني منها هو ما بيَّنه سيدنا المسيح الموعود – من منطلق المعنى الواسع للشفاعة، حيث أثبت بالأدلة كونَ متصلاً بالله تعالى في هذه الدنيا اتصالاً بحيث لا يحسب الناسُ أننا قد وُعِدنا عن الشفاعة وعودًا معسولةً فقط، بل يُشاهِدون بأُمِّ أعينهم نماذجَ استجابة دعواتِ النبيِّ بوضوحٍ لدرجةٍ لم يحظَ بهذا النوع من استجابةِ الدعوات نبيٌّ من الأنبياء غيره قط. ويَعتبِر سيدنا المسيح الموعود -بمقتضى العدل- الأنبياءَ الآخرين أيضًا شركاء في هذا الأمر، إذ أنّ البلايا قد أُزيلت بسبب أدعيتهم أيضًا، ونزلت البركات البيِّنة من السماء بدعواتهم أيضًا، ولكن عندما تتمُّ مقارنتها مع أدعيةِ سيدنا محمد المصطفى فلا تبقى لها أهميّة تُذكر.

لاحِظوا إذًا الحيطةَ التي كان رسول الله يأخذها في الاعتبار عند انتقائِه الكلمات، إذ كان يختار الكلمات بحذر يزيلُ كلَّ شُبهة، فقال ما معناه: إنّ شفاعتي سوف تنفع شخصًا لم يُشرِك بالله أحدًا ولم يُشرِك به شيئًا في صفةٍ من صفاته جل جلاله.

والآن سوف أقرأُ عليكم النصّ الأصلي لسيدنا المسيح الموعود حيث يقول حضرته: «لا يمكن أنْ يكونَ أحدٌ شفيعَ الآخرةِ إلا الذي يكونُ قد أرى نموذجًا للشفاعةِ في الدنيا أيضًا».

فكان من المفروض لسيدنا محمد أن يُري نموذجًا للشفاعة في الدنيا أيضًا حتى لا يأخذها الناس مأخذ الوعود الفارغة فحسب فيظنوا أنهم يوعدون وعودًا معسولة فقط.

يقول حضرته : “فعندما نُلقي نظرةً على سيدنا موسى انطلاقًا من هذا المعيار يتبيَّن أنّه أيضًا شفيع، إذ أزالَ مِرارًا بدُعائِه العذابَ النازلَ. (وهذا ما يشهد به القرآن) والتوراة تشهد بذلك. وكذلك عندما نُلقي النظرة على سيدنا محمد يتأكَّد كونه شفيعًا كأجلى البديهيَّات”.؟ ونرى نماذج استجابة دعوات النبيّ بأُمِّ أعُيننا في هذه الدنيا. يقول حضرته : “كان من تأثير شفاعته وحدها أنّه جعل الصحابةَ المساكين يجلسون على العَرش”

والذي يستطيع أن يجعل أحدًا في الدنيا يجلس على العرش ويُهيَّأ له الكرسيَّ بدعائه، هل يبقى من شكٍّ في استجابة دعائه يوم القيامة؟ الأمر الذي وعده الله تعالى إيَّاه. ثم يقول حضرته :

“وكان من تأثير شفاعته وحدها أنّ هؤلاء -رغم نشوئِهم في الوثنيَّة والشرك- أصبحوا موحِّدين لدرجةٍ لم يسبق لهم نظير في زمنٍ من الأزمنة”.

أي النبيّ الأكرم هو الذي جعلهم مؤهَّلينَ لتلقِّي الشفاعة. فلو لم يجعلهم موحِّدين كيف كان من الممكن له أن يُصبح شفيعًا. فجعلهم موحِّدين في هذه الدنيا -وكيف يمكن أن تشكُّوا الآن في شفاعته يوم القيامة؟- إذ جعلكم أولئك الذين لا بدَّ وأن تُقبل الشفاعةُ في حقِّهم، أي جعلكم من الموحِّدين، وهكذا وفَّى بالوعد في هذه الدنيا. ثم يقول حضرته :

“كذلك من تأثير شفاعته وحدها أن مُتَّبعيه لا يزالون يتلقُّون وحيًا صادقًا من الله تعالى إلى الآن”.

لا يتحدَّث حضرته عن الأزمنة الخالية بل يُقدِّم نفسه ويقول: إنّها لشفاعةُ رسول الله التي تتجلَّى من خلالي أنا في عصر الدهريّة هذا. وفيما يتعلَّق بالاتباع فلا تنطبق هذه الكلمة في الزمن الراهن على أحدٍ من متَّبعيه أكثَرَ مما تنطبق على سيدنا الإمام المهدي .

وكما أنّ حضرته أثناء ذكر سيدنا محمد رسول الله أوردَ ذكرَ سيدنا موسى أيضًا الذي كان أدنى منزلةً نسبيًا أو كان أدنى درجة من ناحية التقرُّب إلى الله تعالى، كذلك إلى جانب ذكره نفسَهُ أورد ذكر الصُلحاء الأسلاف أيضًا الذين جاؤوا في الأمة المحمديَّة من زمن النبي إلى يومنا إلى هذا، إذ قال: إنّ مُتَّبعيه لا يزالون يتلقُّون وحيًا صادقًا من اله تعالى إلى الآن. أي لم يأتِ زمان ٌحين لم يطَّلِع الناس بصورةٍ شخصية على هذا المعنى لشفاعة سيدنا محمد التي بفضلها يتواجد الملهَمُون من الله تعالى والمتضرِّعون للناس والمزِيلونَ لكروبِهم ويتلقُّون بشاراتٍ من الله تعالى. فهل يحقُّ للناس في أي قرنٍ من القرون أن يشكُّوا في شفاعة رسول الله ؟ فكم عسى أن تكون أسمى وأعلى منزلة ذلك النبي الذي وصل خُدَّامُه المتواضعون والمفتخرون بترابٍ وطئتهُ أقدامه إلى منزلةٍ سبق ذكرها. يقول حضرته : “ولكن أنَّى وأين تتحقَّق كل هذه الأمور في المسيح ابن مريم”

بما أنّ هذه الجملة لحضرته جاءت ردًّا على كفَّارة المسيح المزعومة لذا يقول حضرته : إذا قارنتم كَفَّارة المسيح مع الشفاعة لن تبقى الكَفَّارة شيئًا يُذكر. إنّ الاعتقاد بالكفَّارة قد شجَّع الناس على الذنوب وانتشرت الفاحشة كثيرًا لدرجةٍ أصبح فيها المؤمنون بألوهيّة المسيح والمعتنقون بكَفَّارته -رغم كون هذه الحقيقة مؤلمة جدًا- مصدرًا لانتشار كل نوع من الفحشاء في الوقت الحالي.

لا شكَّ أنّ الآخرين أيضًا بارزوهم وتقدَّموا كثيرًا في هذا السباق ولم يقصِّروا في الفحشاءِ شيئًا، إلا أنّ فضل كون المصدر للفحشاء يعود إلى المسيحيّة الفاسدة.

فافهموا موضوع الشفاعة هذا جيدًا، وبفهمه حاوِلوا جعْلَ أنفُسِكم جديرين لشفاعة سيدنا محمد المصطفى . فعندئذٍ لا تصلُحُ عقباكم فحسب -كما قلتُ- بل سوف تصلُحُ دنياكم أيضًا، وفَّقنا الله لذلك.

الهوامش التوضيحيّة:

1: هكذا ورد في الخطبة ولكن يبدو أنّ هذا سهوٌ لأنّ ما ورد في القرآن الكريم هو العكس. فقد جاء في القرآن الكريم:

وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا … (الأنعام: 147) (من المترجم)

2: في الخطبة التالية ذكر سيدنا أمير المؤمنين أيَّده الله بنصره العزيز أنَّ هذه المعضِلة قد حُلَّت إذ إنَّ السيد عبد الرشيد القُرشي من النرويج بعث إليه شرحًا مُقنعًا للحديث. فقال حضرته ما تعريبه: لقد كتب إليَّ علماء الجماعة وقدَّموا تأويلاتٍ مختلفة، ولكن الـتأويل الأحسن والأفضل الذي أُعجِبتُ به أكثر من غيره واطمأنَّ إليه القلب هو ما أرسله أخونا عبد الرشيد القُرشي من النرويج، وهو ينسجمُ تمامًا مع مضمون بقيّة كلمات الحديث. إنّ مضمون الحديث كلّه وروحه هو أنّ العالَم كلّه يستفيد من بركة النبيّ الأكرم ، كما تستفيد منها الأمة المحمديّة في العالَم بأسره. إذ يمكن أن يُشيَّد المسجدُ في أيّ مكان. كما يمكن القيام بالصلاة في أيّ مكان، هذا يعني أنّ الحديث هنا يدور حول صفته نبيًّا عالميًا. لذا فلابدَّ أنّ الكلام عن الغنائم أيضًا يحيط بموضوع الغنائم على المستوى العالَميّ. الحقيقة أنّه لم يكن هناك نبيٌّ من الأنبياء -قبل رسول الله – وُعِدَ بالغنائم من العالم كلّه، وما كانت قد أُحِلَّت بهذا الشكل لأيِّ واحدٍ منهم. ومن المعلوم أنّ سيدنا داود كان قد بُعِثَ إلى قومٍ معيّن، كما كان حضرة سليمان أيضًا قد بُعِثَ إلى قومٍ معيّن. فكان مسموحًا لهما من عند الله تعالى أن يستفيدا من الغنائم التي كانت تتيسَّر لهم نتيجةً للجهاد في تلك المناطق المعيّنة، ولم تكن هناك أيّ إمكانيّة لحصولهما على الغنائم حيثما شاءا من العالم خارج مناطقهما المعيّنة.

فالنبيُّ كان فريدًا من هذه الناحية وسيبقى منفردًا للأبد. وهذا الأمر البسيط -أو العقدة البسيطة كما يُقال- لم يفهمه إلا السيد عبد الرشيد القُرشي من النرويج، فقال: إنّ الكلام بهذا المعنى ينسجم مع مضمون الحديث كلّه. وواقع الأمر أنّه كلّما سُمح للمسلمين بالجهاد في أيّ منطقةٍ من العالم بعد النبيّ -وفق شروط الجهاد طبعًا- كانت الغنائم حيثما كانت على وجه الأرض قد أُحِلَّت له بحسب هذا الحديث النبويّ . ندعو الله تعالى أن يَجزيَ السيدَ عبد الرشيد القُرشي خيرًا لمساعدته لنا في حلِّ مسألةٍ هامة. (من المترجم)

3: مثل شعبي في القارّة الهنديّة. (من المترجم)

Share via
تابعونا على الفايس بوك