اغرسوا عظمة الله في قلوبكم

“لقد خاطبني الله عز وجل قائلاً: إن التقوى غرسةٌ ينبغي زرعها في الفؤاد، لأن الماء الذي تتغذى وتنمو به التقوى يَرْوي حديقةَ النفسِ بأجمعها. إنما التقوى جذرٌ إذا انعدم صار كل شيء بعده بلا طائل، وإذا سَلِمَ سلم كل شيء.

ماذا عسى أن يستفيد الإنسان من مجرد ثرثرة اللسان، فيدّعي بأنه يطلب الله ولكن لا يخطو نحوه بقدم الصدق؟ الحق.. والحق أقول: إنه لهالك من كان دينه مشوبًا ببعض شوائب الدنيا. وإن جهنّم لقريبة جدًا ممن لم تكن نيّاته كلها خالصة لله، بل كانت بعضها لله وبعضها للدنيا. فإن كانت نياتكم مشوبة بشوائب الدنيا ولو مثقال ذرة فإن عباداتكم كلها عَبَثٌ، ففي هذه الحالة لا تتبعون الله بل تتّبعون الشيطان. لا تتوقعوا أبدا، والحال هذه، أن ينصركم الله؛ بل ستصبحون في هذه الحالة ديدان الأرض، وتُهلَكون في أيّام معدودات كما تُهلَك الديدان وتُباد، فلا يكون الله معكم بل يرضى بهلاككم. ولكن إذا تخليتم عن أهواء النفس حقيقةً يتجلى الله فيكم ويكون معكم، وتتبارك الدار التي تسكنونها، وتتنَزّل رحمة الله على جدران بيوتكم، حتى تتقدّس المدينة التي يقطنها شخص مثلكم.

إن كانت حياتُكم ومماتكم، وكلُّ حركة من حركاتكم، ولِيْـنُكم وشدّتُكم، لوجه الله وحده، ولم تمتحنوا الله عند كل مصيبة ومرارة، ولم تقطعوا عنه صلتكم، بل سرتم إليه قُدُمًا، فالحق والحق أقول .. إنكم ستصبحون بذلك أمّة الله المختارة. إنكم بشر كمثلي، وإلهي هو إلهكم، فلا تُضيعوا قواكم القدسية. لو أنكم كنتم منيبين إلى الله حقًّا فإني أخبركم تبعًا لمشيئة الله.. أنكم ستصبحون أمّة الله المختارة. اغرسوا عظمة الله في قلوبكم، ولا تكتفوا بالإقرار بتوحيده باللسان فقط بل بالعمل أيضا، ليجلي الله عليكم لطفه وإحسانه بصورة عملية. اجتنِبوا البغض والضغينة، وعامِلوا بني البشر بالمواساة الصادقة. اسلكوا كل سبيل من سبل الخير، لأنكم لا تدرون بأي السبل تُقبَلون.

طوبى لكم! فإن ميدان التقرّب إلى الله قد خلا. كل أمة عاكفة على الدنيا، وأعرضَ العالم عما يرضى به الله. فالذين يريدون أن يقتحموا هذا الباب بكل قوة، فالفرصة سانحة لهم ليُبدوا قدراتهم في هذا المجال وينالوا بركات الله الخاصة.

لا تظنوا أن الله تعالى سوف يضيعكم، أنتم بَذْرةٌ بَذَرَها الله تعالى في الأرض بيده. يقول الله تعالى: إن هذه البَذْرة سوف تَنْمُو وتَزْدَهِرُ وتَتَفَرَّعُ في كل طرف، ولَسَوْف تصبح دَوْحَة عظيمةً. فطوبى لمن يؤمن بقول الله تعالى ولا يخاف الابتلاءاتِ العارضة، لأنه لابد من الابتلاءات أيضا لكي يختبركم الله مَن منكم صادق في ادعائه للبيعة ومن هو كاذب. والذي يَزِلّ بسبب الابتلاء لن يضر الله شيئا، والشقاوة سوف تُوصله إلى الجحيم، ولو لم يُوْلَد لَكان خيرًا لـه. ولكن الذين يصبرون إلى نِهايَة المَطافِ في حين تأتي عليهم زلازل المصائب وتَهُبُّ عليهم عواصِفُ الابتلاءات، وتَسْخَرُ منهم الأقوامُ وتستهزئ، وتُعاملُهم الدنيا بمنتهى الكراهية؛ فأولئك الذين سوف يفوزون في آخرِ الأمر، وتُفتَح عليهم أبوابُ البركاتِ على مِصْراعَيْها…

يا من  يملكون السمع .. أَنصِتوا! ماذا يريد الله منكم؟ إنما يريد أن تكونوا لـه وحده. لا تشركوا به أحدا.. لا في السماء.. ولا في الأرض. إن إلهنا هو ذلك الإله الذي هو حيٌّ الآن أيضًا كما كان حيًّا من قبل، ويتكلم الآن أيضا كما كان يتكلم من قبل، ويسمع الآن أيضا كما كان يسمع من قبل. إنه لظَنٌّ باطل أنه عز وجل يسمع الآن ولكنه لم يعد يتكلم. كلا، بل إنه يسمع ويتكلم أيضًا. إن صفاته كلها أزلية أبدية، لم تتعطل منها صفة قط، ولن تتعطل أبدًا. إنه ذلك الأحد الذي لا شريكَ له ولا ولدَ ولا صاحبة. وإنه ذلك الفريد الذي لا كفوَ لـه، والذي ليس كمثله أحد متفرد في صفاته، والذي ليس له ندّ. ولا شريك له في صفاته، ولا تتعطل قوة من قواه. إنه قريب على بُعده، وبعيد على قربه، وإنه يمكن أن يُظهر نفسه لأهل الكشف على سبيل التمثل، إلا أنه لا جسمَ لـه ولا شكلَ. وإنه فوق الجميع، ولكن لا يمكن القول إن أحدًا تحته؛ وإنه على العرش، ولكن لا يمكن القول إنه ليس على الأرض. هو مجمع الصفات الكاملة كلها، ومظهر المحامد الحقة كلها، ومنبع المحاسن كلها، وجامع للقوى كلها، ومبدأ للفيوض كلها، ومرجع الأشياء كلها، ومالك لكل ملك، ومتصف بكل كمالٍ، ومنـزه عن كل عيب وضعف، ومخصوص بأن يعبده وحده أهلُ الأرض والسماء، ولا شيء مستحيل لديه. إن جميع الأرواح وما فيها من القوى، وجميع الذرات وما فيها من القوى من خلقه هو، ولا شيء يظهر بدونه. إنه يجلّي نفسَه بنفسه عن طريق قواه وقدراته وآياته، ولا نصل إليه إلا عن طريق ذاته. ويتجلى دائمًا على الأبرار بوجوده ويريهم قدراته، وبها يُعرَف هو وبها تُعرف سبيله التي فيها رضاه.

إنه يرى ولكن بدون عيون جسمية، ويسمع ولكن بدون آذان عنصرية، ويتكلم ولكن بدون لسان مادي. هكذا فإن من أعماله الإيجاد من لا شيء، كما تشاهدون أنه يخلق في مشهد الحلم عالـمًا آخر بدون أية مادة ويُري في حيّز الوجود كلَّ من كان قد فنى وصار معدومًا. وعلى هذه الشاكلة تكون كل قدراته. والأحمق من يكفر بقدراته، والأعمى من لم يطلع على عميق قواه. إنه يفعل كل شيء ويقدر عليه إلا ما يخالف شأنه أو ما يتنافى مع وعوده. هو الواحد في ذاته وصفاته وأفعاله وقدراته. لقد سُدّت أبواب الوصول إليه إلا بابٌ فَتَحَه القرآن المجيد، ولم تعد هناك حاجة لاتّباع جميع الرسالات والكتب السماوية السابقة، لأن النبوّة المحمدية احتوتها جميعًا. فالأبواب كلها مُغلقة إلا بابها. إنها مشتملة على كل الحقائق الموصلة إلى الله تعالى. لن تأتي حقيقة جديدة بعدها، كما ليست من حقيقة سابقة إلا ووُجِدت فيها. لذلك قد خُتمت عليها كلّ نبوّة، وهكذا كان ينبغي أن يكون، لأن لكل بداية نهايةً.”

(معرب من كتاب الوصية، الخزائن الروحانية ج 20 –  ص 307 – 311)

Share via
تابعونا على الفايس بوك