حكمة وصية المتوفى في الإسلام
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (181)

شرح الكلمات:

خيرا –قالوا: ترك خيرا أي مالا. وقال بعض العلماء: لا يقال للمال خير حتى يكون كثيرا ومن مكان طريق طيب (المفردات).

التفسير:

لقد أمر الله هنا بالوصية للوالدين والأقربين. وهنا ينشأ سؤال: ما هي هذه الوصية التي أمرنا بها، مع أن أحكام الوراثة قد نزلت في سورة النساء بالتفصيل؟ وبعد نزولها تكون أي وصية للورثة الأقارب بلا معنى.

يقول البعض في هذا الصدد أنه ما دامت أحكام الوراثة قد نزلت في آيات أخرى من القرآن الكريم.. فهذه الآية منسوخة ولا مجال للعمل بها.

ولكننا نرى أنه ليست هناك آية منسوخة في القرآن الكريم. إن عقيدة النسخ في الآيات القرآنية ظهرت نتيجة لقلة التدبر.. عندما لم يستطع المفسرون فهم الآية قالوا بنسخها، وهكذا اعتبروا مئات الآيات القرآنية منسوخة، ولو أنهم أيقنوا أن كل لفظ وكل حرف من القرآن المجيد قابل للعمل.. لتَدَبَّروا في هذه الآيات الصعبة، وإذا لم يستطيعوا حلها وفهم معانيها أنابوا إلى الله مبتهلين أن يعينهم على فهم حقيقة كلامه عز وجل. ولو فعلوا ذلك لهداهم الله إلى الصواب، ولرأوا حلاّ لها. ولكنهم لسوء الحظ اختاروا طريقا سهلا.. فاعتبروا كل آية لا يفهمون معناها منسوخة، وهذا ما فعلوا بهذه الآية أيضا.

لو نظرنا إلى هذه الآية على ضوء المعنى الذي نورده لها لتبين أن الأمر بالوصية حكيم للغاية، ولا داعي لاعتبار الآية منسوخة. الحق أن كلمة الوصية هنا جاءت بمعنى التأكيد العام؛ وأكبر دليل على ذلك أن الله ذكر هنا الوالدين والأقربين ولم يذكر الأولاد.. مع أن ذكر الأولاد كان ضروريا لما للإنسان من علاقة قلبية بهم. وهذا يعني أن الموضوع هنا لا يتناول الميراث وتوزيعه بين الورثة، بل أمرا آخر. إن سياق الآية يبين أن الأمر هنا يتعلق بالحرب أو ما يشبهها من أحوال. فقبل ثلاث آيات ذكر الحرب (الصابرين في البأساء والضراء وحين البأس) (الآية178). ثم بعد آيتنا هذه أمر بالقتال (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم) (الآية191). وبما أن المشتركين في الحرب هم عموما من الشباب الذين لا يكون لهم أولاد أو يكونون صغارا.. لذلك أمر بالوصية في حق الوالدين والأقربين دون ذكر الأولاد، وقال إنه إذا اقترب موت أحد أو كان بصدد الذهاب إلى مكان يتعرض فيه لخطر الموت.. وكان ذا مال كثير.. فَلْيُوصِ وليؤكد على أهله بتوزيع إرثه بين الورثة حسب الشرع.. حتى لا يحدث أي نزاع أو خصومة بينهم فيما بعد. ويكون التأكيد موجها إلى أقاربه مباشرة بدلا من غيرهم. وإذا أراد أن يتصدق بجزء من ماله فعليه أن يذكر هذا أيضا ويؤكده في وصيته.

وأرى أنه لو اتبع المسلمون هذا التعليم وعملوا به لم تستمر فيهم أبدا تلك التقاليد والعادات المعارضة للقسمة الشرعية للتركة. يمكن ألا تكون مثل هذه التقاليد والعادات موجودة في بلد تطبَّق فيه الشريعة الإسلامية تماما، ولكن تكون الحاجة ماسة إلى أن يوصي ويؤكد الإنسان الوصية في حق والديه والأقربين كي تُقسم تركته بينهم بالمعروف.. في تلك البلاد التي تسير بحسب التقاليد والعادات غير الإسلامية.. وإلا حُرم المستحقون وأخَذ الأموال من لا يستحقها.

والسؤال الآن: ما هو المعروف في قوله تعالى (بالمعروف)؟

والجواب: أولا: إن الأحكام الشرعية للميراث هي المعروف، فيجب أن يوصي المورث ويؤكد العمل بها. وثانيا: هناك حقوق خارجة عن دائرة أحكام الوراثة، لم تذكر تحتها، ولكنها مستحبة على صعيد الدين والأخلاق، وقد تركت الشريعة الباب مفتوحا ليوصي المتوفَّى حتى بثلث المال لأهل هذه الحقوق. فمثلا يمكن أن يقف بعض أمواله إذا شاء للإنفاق على الفقراء ويوصي بذلك أهله.

ولقوله تعالى (الوصية للوالدين والأقربين) معنى آخر هو أن الورثة إذا كانوا كفارًا فليوص بحسن معاملتهم وإعطائهم شيئًا من ماله، لأن والديه وأقاربه في حالة كفرهم لا يمكن أن يرثوا شيئا بحسب الشرع لأنهم سينفقون هذا المال في محاربة الإسلام. فإذا وجدهم يستحقون المعونة، وأن إعطاءهم بعض المال فيه مصلحة وخير.. فليوص بإعطاء نصيب معين من الإرث لمن يراه منهم. أما إذا رأى أنهم سوف يستخدمون هذا المال في محاربة الإسلام فلا يوص لهم بشيء.

والمعنى الثالث لقوله تعالى (الوصية للوالدين والأقربين) أنه يمكن للمورِّث أن يوصي بشيء من إرثه لأحفاده وأبناء إخوته.. وهكذا يقوم بإعانتهم بدون أي مخالفة لأحكام الشرع. لأنه بحسب قانون الوراثة الإسلامي إذا كان للمورث ابن مات في حياته تاركًا وراءه أولادًا فإنهم لا يرثون من تركة الجد المورِّث شيئا. في هذه الحالة يمكن أن يوصي الجد-في حدود ثلث ماله-لحفدته وحفيداته هؤلاء.

ولو أنهم أيقنوا أن كل لفظ وكل حرف من القرآن المجيد قابل للعمل.. لتَدَبَّروا في هذه الآيات الصعبة، وإذا لم يستطيعوا حلها وفهم معانيها أنابوا إلى الله مبتهلين أن يعينهم على فهم حقيقة كلامه عز وجل. ولو فعلوا ذلك لهداهم الله إلى الصواب، ولرأوا حلاّ لها. ولكنهم لسوء الحظ اختاروا طريقا سهلا.. فاعتبروا كل آية لا يفهمون معناها منسوخة، وهذا ما فعلوا بهذه الآية أيضا.

أما البلاد غير الإسلامية، التي لها قوانين محلية للإرث فهي على قسمين: بعضها تأخذ بوصية المتوفَّى مثل روسيا، وبعضها لا تأخذ بها، وإنما تعمل بقوانين شرعتها الحكومة. فالبلاد التي تقبل بوصية المتوفَّى يمكن أن تنفع فيها هذه الوصية.. حيث يمكن للأقارب الورثة المحرومين من الإرث بسبب القوانين المحلية أن ينالوا نصيبهم بحسب الأحكام الشرعية نتيجة لهذه الوصية، وهكذا تحيا التعاليم الإسلامية في بلاد ليس فيها حكومات إسلامية، ولكن أهلها يرون العمل بوصية المتوفَّى ضرورية. أما البلاد التي لا يمكن فيها تقسيم الإرث طبقا للشريعة الإسلامية.. فإنه وإن لم يستطع الورثة الحقيقيون الحصول على نصيبهم من الإرث إلا أن المسلمين نتيجة لإعلانهم هذه الوصية سوف يتجنبون هذا الإثم المترتب على مخالفة أحكام الشرع، ويقع الذنب على من يخالفون هذه الوصية من رجال الحكومة.

إلا أن هذه الوصية لا تعني أن يعطي المورث أحدا من الورثة أكثر مما عيَّنت له الشريعة الإسلامية من الإرث. فقد نهى الرسول عن ذلك نهيا شديدا وقال: (إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث) (الترمذي، أبواب الوصايا).

إذن فليست هذه الآية منسوخة، وليست بلا ضرورة وبدون داع. فكثير من الأحيان يختصم الورثة على تقسيم الإرث بعد وفاة المورث، وأحيانا يطالب بعض الأقارب غير الورثة قائلين إن المتوفَّى وعدنا بكذا وكذا، فأمر الله أن يدلي المورث بهذه الوصية حتى يسد أبواب النزاع والخصومة بين أهله.. ولا يدعي أحد أو يطالب بشيء، ويجب أن تكون هذه الوصية أمام أقاربه.

وباستخدام كلمة (خيرًا) للمال أشار الله إلى أن ما يكسب بطرق شرعية هو المال الحقيقي، فعليكم أن تكسبوه دائما بطريق الحلال، وتسعوا لجمع الحلال. أما المال الذي يُكتسب بطرق غير شرعية فلا يكون خيرا. وإنما يصبح شرا.

وكذلك نصح بقوله (إن ترك خيرا) بأن الإنسان يترك كل ماله لمن خلفه، ويرحل من هذه الدنيا صفر اليدين، وإذن فلماذا يكسب الحرام، فيأكله الآخرون، ويدخل هو بسببه جهنم، فلا تكسبوا المال من حرام لتتركوه بعدكم، بل عليكم أن تكسبوا من حلال، وإلا فالمال الحرام ليس بمال لكم.. فكيف توصون به؟!

 

فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (182)

التفسير:

يقول الله تعالى إنه إذا قام أحد بوصية، وحاول غيره تغييرها، فالإثم في عنق من يغيرها. وهذا التغيير يتم بطريقتين: الأولى: أن يملي الموصي وصيته بكلمات فيكتبها الكاتب –بنية شر-بكلمات أخرى تعكس المراد، فكأنه يقوم بتغيير الوصية أمام الموصي أثناء كتابتها. أما الطريقة الثانية فهي أن يغيرها بعد وفاة الموصي، أي لا يعمل بحسب ما أوصى به، بل يخالف وصيته عند تنفيذها. وفي كلتا الحالتين يكون وبال هذا الإثم على من يغيرها. وفي قوله (إثمه) ذكر السبب مكان المسبَّب.. إذ ليس المراد الإثم وإنما وبال الإثم.

تبين هذه الكلمات أنها إشارة إلى بعض أحكام القرآن، وهذا الحكم هو حكم الوراثة، وإلا فما معنى قوله تعالى (إنما إثمه على الذين يبدلونه).. وليس إثمه على الموصي، لأن تفاصيل الوصية إذا كانت معارضة للشرع.. فلماذا يكون الإثم على من يبدلها؟ إنما يكون المبدل آثما فقط إذا كان يخالف حكما شرعيا. فهذه المخالفة هي أن يكون المتوفى قد أوصى بأمواله بحسب الأحكام الشرعية، ولكن الورثة لم يعملوا بوصيته، وعندئذ لا يكون الإثم على الموصي وإنما الورثة الذين يغيرون الوصية هم الآثمون.

 

فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (183)

شرح الكلمات:

جنفا –جنَفَ في الوصية: مالَ وجارَ (الأقرب).

التفسير:

قال الله هنا إنه لو عرف أحد أن في وصية الموصي عيبًا أو فسادًا يثير الفتنة، وجمع الورثة وأصلح بينهم فلا إثم عليه. يجب ألا يُظن أنه ما دام قد وصّى بتوزيع أمواله بحسب الشريعة فكيف يمكن احتمال أن يلحق ضرر بالورثة الحقيقيين؟ ذلك لأنهم لو عملوا بوصيته ووزّعوا الأموال بحسب الشريعة فأيضا هناك احتمال للضرر. مثلا يوصي بالثلث من ماله لغير الورثة الأصليين مع أنهم كثيرون، فلا يبقى لهم إلا قليل من المال. وعندئذ لو قام أحد بالإصلاح بين الموصي وبين ورثته المتضررين، أو بالإصلاح بين الموصى لهم وبين الورثة المتضررين ويرضيهم بأداء الحقوق لأصحابها رغم وصية الموصي.. فلا إثم في ذلك، بل عليه أن يقوم بهذا حتى لا تكون فتنة.

وهناك صورة أخرى هي أن يكون الموصي عند إملاء الوصية يلحق الضرر بفريق من هؤلاء، ويدرك الكاتب أن بينه وبين هذا الفريق خصومة أدت إلى هذا التصرف الضار.. فعليه أن ينصح الموصي حتى لا يفعل ذلك، ويقوم بالإصلاح بينه وبين ورثته المتضررين.. وإذا فعل ذلك فلا اعتراض على عمله.

فهذه المخالفة هي أن يكون المتوفى قد أوصى بأمواله بحسب الأحكام الشرعية، ولكن الورثة لم يعملوا بوصيته، وعندئذ لا يكون الإثم على الموصي وإنما الورثة الذين يغيرون الوصية هم الآثمون.

وقوله تعالى (فلا إثم عليه) لا يعني أبدا أن الإصلاح المذكور غير محبب إلى الله، وأنه حسنة لا خطر على صاحبها من الإثم. كلاّ، إن جملة (فلا إثم عليه) لم تستخدم لبيان أن هذه الفعلة حسنة سلبية، وإنما قال ذلك لأنه وضح في الآية السابقة صراحة أن (من بدَّله بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه)، أي الآثم عند الله هو من يبدل الوصية. فكان هناك خطر أن يخشى أصحاب الطبائع الحذرة التدخلَ في قضية الوصية، ويتجنبوا الخوض فيها وإن كان بها فساد، فلا يقوموا بتعديلها وإصلاح ما بين الفريقين.. خوفا من أن يجلبوا بذلك سخط الله عليهم. ودفعا لمثل هذه المخاوف قال الله هنا إنه إذا كان في الوصية فساد أو خطأ فإزالته منها ليس إثما وإنما هو عمل حسن تثابون عليه وتكونون أهلا لفضل الله تعالى.

وبقوله تعالى (إن الله غفور رحيم) طمأن وبشَّر الموصي أنه إذا أصلح خطأه في وصيته فإن الله الغفور سوف يغفر له. وبقوله (رحيم) أشار إلى أن من يتدخل ويسعى لإزالة النقص والفساد في الوصية فإن الله سوف يرحمه ويجعله موردا لأفضاله.

Share via
تابعونا على الفايس بوك