في عالم التفسير

من تفسير حضرة مرزا بشير الدين محمود أحمد ، الخليفة الثاني لسيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود .

وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ * وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ * قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ * قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (هود: 78-81)

التفسير

من الأنظمة التي كانت سائدة في الأزمان الخالية أن كانت المدينة أو البلدة تستقل بسلطانها ومنعتها كأنها دولة قائمة بذاتها، ويحكمها أحد العظماء فيها. وكانت هذه المدن كثيرًا ما تحارب وتغير على بعضها البعض. وهذا مما حدا بمثل تلك المدن أن تحصن مواقعها وتبني حولها الأسوار الضخمة والبروج العالية.

ومدينتا (سُدُوم) و(عموره) اللتان تتعلقان بموضوع لوط كانتا من نوع المدن التي أشرنا إليها. وكان ملك أحدها يغير على ملك الأخرى. (سفر التكوين، الإصحاح 14، ودائرة المعارف اليهودية تحت لفظة سدوم).

وما دام الحال كذلك، فمن الطبيعي أن تنعدم المودة بين أهل البلدتين، بل تحل محلها العداوة، ويوجس أهل كل واحدة منها خيفة من أهل الأخرى، ويسيئوا الظن. ومن الطبيعي أيضًا أنه إذا دخل أحد من البلدتين إلى البلدة الأخرى، فإن أهل البلدة الأخيرة يخشون من أن يكون جاسوسًا يريد أن يغافلهم، أو يتآمر على فتح أبواب البلدة لبني قومه، أو يدلهم على مواطن ضعف التحصينات.

ومن ثم كان أهل كل من (سدوم) و(عمورة) لا يسمحون بدخول الأجانب أو الإقامة فيها ليلاً.

ولكن لوط كان رجلاً مضيافًا كريمًا شأنه شأن جميع الأنبياء، وكان يرعى الضيوف الغرباء ويعمل على راحتهم، خوفًا من أن ينهبهم الأشرار إذا باتوا خارج المدينة. ولذلك كان قومه يتضايقون منه وينهونه عن مخالطة الناس الغرباء. وقد أشار القرآن المجيد إلى ذلك في سورة الحجر: قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (الآية: 71). يفهم من ذلك أن قوم لوط كانوا غاضبين عليه لمخالفته لهم مرارًا وتكرارًا. كما يبدو أيضًا أنهم عقدوا العزم هذه المرة على أن لا يكتفوا بتنبيهه ولومه كما فعلوا في المرات السابقة، وإنما استقر رأيهم على وضع حد لهذا التصرف من جانب لوط ، ولذا كانوا فرحين. وإلى ذلك أشار الله تعالى: وجَاءَ أهْلُ المدينةِ يَستَبشِرون (الحجر: 68)

ويذهب بعض المفسرين إلى أن الضيفين كانا على صورة غلامين جميلين، وأن قوم لوط سارعوا إليه بنية خبيثة. ولكن نصوص القرآن المجيد لا تشير إلى مثل هذا المعنى لا من قريب ولا بعيد، بل على العكس نجد أن قوم لوط لاموه على مجيء هؤلاء الناس: قَالُوْا ألَم نَنْهَكَ عَنْ العَالَمِيْنَ (سورة الحجر). فكيف تكون نيتهم خبيثة ويقولون هذا القول؟ والحق أنه لو كان ما قاله المفسرون صحيحًا لكان الأجدر بقوم لوط ألا يوجهوا إليه أي لوم، بل يفرحوا لمقدم هذين الشابين الجميلين!!

وإن الآيتين 68 و69 من سورة الحجر: وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ * قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ تدلان على أن القوم فرحوا عندما علموا أنهم وجدوا حجة جديدة لكي يسيئوا إلى لوط فوق إساءتهم السابقة. وهذه الحجة هي حضور هذين الرجلين الغريبين. ولذلك قالوا للوط وهم في حالة فرح وشماتة: ألَم نَنْهَكَ عَنْ العَالَمِيْنَ . والظاهر من ذلك أن قصدهم هو إقامة الحجة عليه وتبرير ما في نيتهم من القضاء عليه، ولا شك أنها فرصة أرادوا انتهازها لكي ينفذوا ما يبغونه من سوء للوط .

ثم يقول الله تعالى في وصف قوم لوط: وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ ، ويُستنتج من ذلك أن لوط قد تعرض من قبل للإساءة، فخشي على ضيفيه من أن يلحقهما أذى من قومه.. الأمر الذي ينطوي على إهانة له. فلكي يتفادى هذا الموقف العصيب، ولكي لا يرى القوم يطردون ضيفه قال: هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ .

ومن المعلوم أن لوط كان له بنتان متزوجتان في المدينة (أي مدينة سدوم لوط)، ولذلك ذكَّر قومه بابنتيه اللتين تعيشان في كنفهم. وكأنه يقول إن التصرف الأطهر والأشرف للقوم أن يكفوا أذاهم عن الضيفين ويطمئنوا إلى أنه لا خطر من وجودهما.. إذ بمقدورهم أن يعاقبوه في بناته بقتلهم أو تعذبيهم إذا حدث من الضيفين ما يعرض المدينة للخطر. أي أنه يمكن اعتبار البنتين كرهينة.

هذا، وليس أسخف من القول من أن لوط قدم ابنتيه لهؤلاء الأشرار لكي يطفئوا بهما شهواتهم الدنيئة. إذ أن مثل هذا الفعل لا يقدم عليه أحد الناس، فما بالكم بنبي مفروض فيه أن يكون أعظم الناس حرصًا على الشرف والأخلاق السامية. ولكن يبدو أن الخطأ الذي وقع فيه بعض المفسرين يرجع إلى متابعتهم لما تضمنته التوراة من أقوال خاطئة.

وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن لوط قدم ابنتيه للقوم على أساس تزويجهما، ولكن التوراة تقول بأن البنتين كانتا متزوجتين فعلاً. وحتى على فرض أنهما لم تكونا قد تزوجتا بعد، فإن مثل هذا العرض من جانب لوط لا يعتبر عرضًا معقولاً ولا يحل الموقف المعقد، لأن الزواج يعني إرضاء رجلين فقط، يتم تزويجهما من البنتين. ومن ثم فإن مثل هذا العرض من جانب لوط لن يرضي جميع الناس، وإنما يرضي رجلين فقط.

ومن جهة أخرى فإن قول لوط أو اقتراحه بتزويج ابنتيه لا يتناسق مع التهمة الموجهة إليه. فالقوم يقولون له: ألم ننهك عن الاتصال بالغرباء؟ فيرد لوط : يا قوم تزوجوا بناتي!!

فأين العلاقة من سؤال القوم وجواب لوط . فمما تقدم يتضح أن ما ذهب إليه بعض المفسرين من أن لوط عرض بناته عن القوم للزواج لا يعد تفسيرًا يطمئن إليه العقل، إذ أنه يتعارض وسياق القصة كما وردت في القرآن المجيد.

هناك تفسير آخر يبدو معقولاً، وهو أن القوم هرعوا إلى بيت لوط وهم يحملون نية شهوانية خبيثة نحو الضيفين. فقال لهم لوط: هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ولم يقصد من لفظة بناتي بناته على وجه الحقيقية، وإنما يقصد بناته على وجه المجاز. ذلك أن النبي كما نعلم يُعد بمثابة الأب بالنسبة للقوم الذين يُبعثُ فيهم. ومن ثم يُفهم أن لوط يعني بقوله: (بناتي) بنات المدينة باعتباره الأب الروحي لهن. وعلى ذلك الوجه فإن لوط قد قصد بقوله: هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ منعهم من تلك المعصية القبيحة التي لا تتفق والسنة الطبيعية.

ولكن القوم أصروا على نيتهم السيئة وقالوا: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ . وهذه الآية، إذا أردنا أن نتفهم معناها بما يتفق والتفسير الأول الذي يتلخص في أن لوط قد ذكر القوم بصلة النسب بينه وبينهم، وأنه بالتالي يمكن أن تكون بناته كرهينة أو ضمان لما دافع به عن ضيفيه.. فإنه حسب هذا التفسير يكون معنى قول القوم: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ أنهم لا يقبلون ذلك الضمان. وهذا يتفق وما نعلمه من التاريخ من أن الناس في الأيام الغابرة كانوا إذا أخذوا ضمانًا أو رهينة فإنهم كانوا يأخذون الرجال ولا يأخذون النساء (راجع دائرة المعارف البريطانية)، إذ المرأة لم تكن ذات قيمة.

(ترجمة وتلخيص: الأستاذ محمد بسيوني رحمه الله)

Share via
تابعونا على الفايس بوك