القتل باسم الدين الحلقة الثالثـة

(1) استخدم أعداء الإسلام كل وسائل الإعلام المعروفة وقتئذ.. وهم الشعراء، الذين كانوا مؤرخين ونسَّابين وهجَّائين وحكماء وموجهين. وكان الشاعر مهيِّجًا لنار المعارك، ومراسلاً صحفيًّا في عصره. فعيَّروا الأنصار بأنهم خاضعون لرجل دخيل عليهم: وأنشدت عصماء بنت مروان من بني أمية بن زيد.. تسخر من مسلمي المدينة وتعيرهم بأسلوب غاية في التحقير.. لأنهم أطاعوا غريبًا عنهم، ويأملون من ورائه خيرًا.. كالجائع الذي ينتظر مرق اللحم. وتحرضهم على انتهاز فرصة لقتله والقضاء على آمال المسلمين.. فقلت:

بئست بني مالكٍ والنبيتِ

وعوف.. بئست بني الخزرجِ

.

أطعتم أتاويَّ من غيركم

فلا من مراد ولا مذحجِ

.

ترجُّونه بعد قتل الرؤوس

كما يُرتجى مرقُ المنضِجِ

.

ألا أنِفٌ يبتغي غِرة

فيقطع من أمل المرتجي

وكذلك قام الشاعر الخزرجي المعمر أبو عفك، من بني عوف، يحرض قومه ليثوروا على المسلمين فقال:

لقد عشتُ دهرًا وما أن أرى

من الناس دارا ولا مجمعا

ز

أبرَّ عهودا.. وأوفي لمن

يعاقد فيهم إذا ما دعا

ز

من أولاد قِيلة في جمعهم

يهدُّ الجبال ولم يخضعا

.

فصدَّعهُم راكب جاءهم

حلالٌ حرامٌ لشتى معا

.

فلو أن بالعز صدَّقتمُ

أو الملك تابعتم تُبَّعا

وتُبَّع هم ملوك الجزيرة ذوو الشهرة العريضة. ويتعجب أبو عفك من موقف الأنصار الذين سبق لهم مقاومة ملوك تبع ورفضوا الرضوخ لسلطانهم.. كيف قبلوا على أنفسهم سلطان هذا اللاجئ من مكة، يحرم ويحلل فيهم.

وبينما أخذ أبو عفك وعصماء على عاتقهما تعيير الأنصار وتهييجهم، سعى الشاعر اليهودي كعب بن الأشرف.. بعد أن اشتعل غضبه لنصر المسلمين يوم بدر، لتحريض قريش للثأر من النبي ، مثيرًا فيهم تلك العادة العربية المعروفة، فقال:

طحنت رحى بدر لمهلك أهله

ولمثل بدرٍ تستهلُّ وتدمعُ

.

قتلت سراة الناس حول حياضهم

لا تبعدوا.. إن الملوك تُصرعُ

ز

كم قد أصيب به من أبيض ماجِد

ذي بهجة يأوي إليه الضُيَّعُ

.

طلق اليدين إذا الكواكب أخلفتْ

حمَّال أثقال.. يسود ويَربُعُ

يريد أن أهل بدر قد طحنتهم رحى الحرب هناك، وهم يستحقون البكاء والعويل، فهم كرام الناس.. الذين يعينون من لا بيت له، وينفقون في أيام الشدة وامتناع المطر.. ولا غرابة في أن يموت الملوك. (سيرة رسول الله ، ابن هشام)

(2) الثأر تقليد عربي، وعادة اجتماعية أساسية في أهل الجزيرة العربية قبل الإسلام، ولذلك كلما قُتل أحد المشركين في معركة مع المسلمين.. أقسم أولياء دمه على الثأر لمقتله، ومطالبة المسلمين جميعًا بدمه. وهم بالطبع يتناسون أنهم هم الذين بدأوا الصدام.

(3) كانت رسالة النبي محدودة في منطقة صغيرة من الجزيرة العربية بسبب شعور العداء العام تجاهه، ولم يكن بوسع رسله أن يوصلوا الإسلام إلى كل أنحاء الجزيرة.

(4) دخل كثير من العرب في الإسلام، وكتموا إسلامهم خشية إثارة المصاعب.

(5) يتطلب الدخول في دين جديد قدرًا من الالتزام والشجاعة.. وإن تعرضت المنزلة الاجتماعية أو حياة المرء للخطر. وكان الدخول في الإسلام لا يعني مجرد الانضمام إلى مجتمع ديني جديد، لكنه كان يعني الدفاع المسلح عنه. ولما كان المسلمين يومئذ ضعفاء وغير مسلحين فالانضمام إليهم حينئذ يعد ضربًا من الإقدام على الانتحار.

(6) اشتغل المسلمون بأمر الدفاع عن أنفسهم وقتًا طويلاً بحيث كان نصيب الدعوة إلى الإسلام قليلاً جدًا.

لو صحت هذه المقدمة لكان في توقف الأعمال العدائية ضد المسلمين تعزيز فوري قوي لنشر الإسلام، وهذا هو عَينُ ما حدث بعد أن تم فتح مكة في يناير عام 630م. ويعتبر المستشرقون وأعداء الإسلام أن ذلك اليوم هو نقطة التحول في تاريخ الإسلام. ولو صح قولهم لصح القول بأن السيف قد لعب دورًا كبيرًا في نشر الإسلام، ولكن التاريخ يحكي قصة أخرى. قد توقفت المعارك الحربية بين المسلمين وبين المشركين بصلح الحديبية في مارس 628م. وكانت شروط الصلح مجحفة في نظر المسلمين، حتى إن عمر بن الخطاب لم يملك نفسه فأتى رسول الله وسأله: ألسنا على الحق؟ فعلام نُعطى الدنيَّة (أي الذل) في ديننا؟ ولكن هذه الهدنة أتاحت للنبي مزيدًا من الوقت لنشر الإسلام. ويمكن إدراك ما بلغه من نجاح في الدعوة إلى الإسلام.. إذا عرفنا أن أكبر قوة عسكرية للمسلمين كانت ثلاثة آلاف رجل، وذلك عندما حوصرت المدينة يوم الخندق. ويوم سار النبي لفتح مكة كان معه عشرة آلاف رجل.. بفارق يبلغ سبعة آلاف رجل.. دخلوا الإسلام أثناء فترة الهدنة. دخل الإسلام رجال من أمثال عمرو بن العاص وخالد بن الوليد رضي الله عنهما.

أصابت الحيرة الشديدة مونتجومري واط لمرأى نجاح الإسلام في هذا الاختراق السلمي فقال: “السبب الأول من بين أسباب نجاح محمد.. هو جاذبية الإسلام، وتناسبه كنظام ديني واجتماعي مع الحاجات الدينية والاجتماعية لدى العرب.”

ويضيف (واط)، وكأنما يوجه كلامه لمولانا المودودي: “لو لم يكن محمد قادرًا على الاحتفاظ بنفوذه وتدعيمه بين المسلمين.. بتأثير ما في الإسلام من مثل عُليا على فكرهم، ولو لم يكن بإمكانه اجتذاب عناصر جديدة للدخول في الإسلام.. ما كان لصلح الحديبية أن يفيده بشيء. ولا بد لأي مؤرخ غير منحاز للفكر المادي.. من الاعتراف بأن إيمان محمد ويقينه في رسالة الإسلام كنظام ديني وسياسي، وإخلاصه الذي لم يفتر نحو المهمة التي اعتقد أن الله كلفه بها.. لهي من العوامل ذات الأهمية القصوى.. كانت تلك الحملة.. (أي حملة الحديبية)، والصلح الذي تم فيها، بداية مرحلة جديدة دافعة.. في صالح رسالة محمد.”

من المحزن أن مثل هذا المستشرق يعزو نجاح النبي إلى (سلطان المثل العليا في الإسلام).. ثم إذا بزعم إسلامي.. من رتبة مولانا المودودي.. يصر على أن (سلطان السيف) بعد موقعة حنين هو الذي حشد الآلاف من المتمردين العرب وساقهم إلى الدخول في الإسلام! لو كانت تلك هي النفوس التي طهرها حد السيف، لكانت هي أول من ثار على الإسلام وتمرد بعد وفاة النبي . وفي هذا ما يرد على حجة مولانا المودودي ويفندها تمامًا.. ولكنه لا يفسر السبب في تمرد القبائل الأخرى.

في الزمن القديم، كان الانتقال عسيرا، ولم تكن ثمة طرق للمواصلات، وكانت سلامة المسافرين غير مكفولة. لم يكن ممكنًا أن يأتي كل عربي إلى النبي ليتلقى الإسلام على يديه، كما لم يكن ممكنًا أن ينتقل الرسول بنفسه إلى كل مناطق الجزيرة العربية. وكان من عادة العرب أن يبعثوا وفدا من القبيلة إلى المدينة للقاء النبي ، ثم يعود الوفد لتبليغ رسالة الإسلام. في هذا اللقاء مع النبي    كانت تجري مباحثات ومساجلات. وكان ما يقرره ويقبل به أعضاء الوفد أو شيوخ القبيلة هو ما يقبل به سائر أفراد القبيلة. ولذلك دخل الإسلام عدد كبير.. لم تكن عندهم الفرصة للأخذ المباشر عن النبي وتلقي التعاليم منه شخصيًا، بل ولم يجدوا فرصة لقضاء فترة من الزمن مع صحابته. والدين تجربة شخصية، يتعلمه الإنسان بالتأسي وبث الروح.. وذلك ما لم يُتَحْ لمن دخلوا في الإسلام حديثًا. ومما ضاعف البلوى موت النبي مباشرة بعد إسلامهم. ولقد أظلم الأفق العربي أشد الظلام لرحيل النبي .

وبوسعنا أن نأخذ العبرة من هذه الفترة التاريخية. فعندما يرفض القوم نبيهم، ويحاولون أن يطفئوا نور الله الذي جاءهم.. متوسلين إلى ذلك بالعنف والعدوان.. فإنهم ولا ريب يلقون عقابا قاسيا. من مظاهر هذا العقاب أنهم يكتشفون نور الإيمان عندما يقترب مصدر النور من الرحيل، أو يتعرفون على إمامهم بعد وفاته بزمن طويل.. وعندئذ يتحسرون على ما فاتهم وما حرموا منه. ما أشده من عقاب أن يضطهد الناس نبيهم في حياته.. ثم يعرفوه ويقبلوه بعد مماته!!

أما وقد انضم مولانا المودودي إلى صفوف أشد خصوم الإسلام عداوة.. عندما دافع عن دور السيف في انتشار الإسلام.. كان علينا أن نُرجع النظر إلى سيرة النبي لنرى أية مراحل الإسلام تلك أكره فيها الناس على قبول الإسلام..

قد يبدو أن تقسيم البعثة النبوية إلى مرحلتين: مكية ومدنية أمرٌ منطقيٌ ولكنه في حقيقته مغالاة في تبسيط الأمور بما يشوِّه الواقع. لقد نجا النبي والمهاجرون من تعذيب أهل مكة واضطهادهم، ولكن صراع البقاء لم يتوقف. الأقرب لمنطق الواقع أن تقسم البعثة النبوية إلى ثلاثة مراحل:

المرحلة الأولى: ما قبل الهجرة في مكة.

المرحلة الثانية: ما بعد الهجرة حتى عهد الحديبية، وهي أيضًا فترة معاناة واضطهاد.

المرحلة الثالثة: حتى فتح مكة.

ومع أن الحرب الدفاعية مباحة للمسلمين إلا أنهم ما كانوا ندا للمشركين. كانوا يقطنون بلدة واحدة.. هي المدينة، ومع ذلك لم تكن لهم فيها السيادة المطلقة.. بل كانت لثلاث قبائل من اليهود، بالإضافة إلى من بقي على وثنيتهم من الأوس والخزرج. عدد المسلمين الذين خرجوا للقاء المشركين يوم بدر يمثل الحجم الفعلي للمسلمين وقوتهم الحقيقية وقتئذ. فهي إذن فترة تعد امتدادًا للعهد المكي وكفاحه الشاق المرير. وتبدأ المرحلة الثالثة بفتح مكة، مرحلة سلام.. إذ لم يعد المشركون يهاجمون المسلمين، وإن وقعت مناوشات محدودة مع اليهود وبعض القبائل العربية التي نقضت عهودها مع المسلمين.

استمرت مرحلة الاضطهاد الأولى ثلاثة عشر عامًا.. لا مجال فيها للقول بإدخال الناس في الإسلام عنوة.. ولا يسع المستشرقون إلا التسليم بذلك. وواقع الأمر أن المسلمين دخلوا في الإسلام برغم الاضطهاد المكي. وهؤلاء هم الذين سُمّوا بالمهاجرين. والحقائق التاريخية تقول بأنه لم يدخل في الإسلام أحد من المهاجرين على غير رغبته أبدًا.

وفي مرحلة الاضطهاد الثانية استبسل المسلمون في المقاومة المسلحة. وقد يدور بخلد ناقد أن أحدًا أُرغم على قبول الإسلام خلال هذه المرحلة الدفاعية.. ولكن أحداث هذه المرحلة موثقة بتفاصيلها الكاملة. كان معظم مسلمي المدينة من قبيلتي الأوس والخزرج العربيتين، وهم القوم الذين دعوا النبي للقدوم إليهم في المدينة عندما التقوا به عند العقبة. قال لهم يومئذ:

“.. أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ نِسَاءَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ، قَالَ: فَأَخَذَ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ: نَعَمْ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَنَمْنَعَنَّكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أُزُرَنَا فَبَايِعْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَنَحْنُ أَهْلُ الْحُرُوبِ وَأَهْلُ الْحَلْقَةِ وَرِثْنَاهَا كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ..”.

هؤلاء هم القوم الذين قطعوا الطريق الطويل الشاق من يثرب إلى مكة ليضعوا سيوفهم تحت أمر النبي ليدافعوا عنه ويحموه.. ومن ثم سمُّوا الأنصار.

ودخل الإسلام بعد ذلك بضعة أفراد من يهود المدينة وعدد قليل من الأعراب حولها.. ولم يسلم أحد منهم تحت تهديد السلاح أو نتيجة قتال. وكان انتشار الإسلام لا يتوقف في مكة كلما ازداد الاضطهاد عنفًا، واستمر العرب يدخلون في الإسلام.. وحتى الآن لم يكن للإكراه دور في هذا الصدد.

وقد يكون إكراه الأسرى على الدخول في الإسلام احتمالا واردا.. ولكن قبل بحث أمر هؤلاء، يجدر بنا توضيح فهم خاطئ لمدلول كلمات معينة. إن كلمة (غزوة) أو (سرية) لم تكن تعني حربًا.. بل ولم تكن تشير إلى صدام مسلح، ولكنها تعني (بعثة)، أو بلغة عصرنا (دورية). ويدخل تحت هذا المسمى من ينطلق من الرجال للكشف، والارتياد، والعسس، ومطاردة اللصوص، وحملات الإنقاذ، والمبعوثين للسفارة، بل وانبعاث صحابي واحد في مهمة بغرض الدعوة يقع في نطاق هذه الأسماء. وعلى سبيل المثال، كانت أول غزوة قادها النبي تسمى (غزوة الأبواء).. حيث مدفن السيدة آمنة بنت وهب أم النبي . خرج النبي في ستين من المهاجرين، ومكث هناك بضعة أيام حيث وادَعَه زعيم قبيلة بني ضُمْرَة. وبعدها خرج ليلحق بسارق إبل يُدعى (كرز الفهري).. وكما أشار (واط): “كانت محاولة لمعاقبة قاطع طريق من نواحي المنطقة سطا على مراعي المدينة..”. وكانت هذه السرية كما يقول (واط): “.. تبيِّن الأخطار التي كان عليه، أي النبي، أن يتوقاها بصفة مستمرة..”.

كان عدد هذه الغزوات أو السرايا حوالي خمسين حملة منذ هجرة النبي إلى يوم الحديبية.. تصاعد ثلاث منها إلى حد الحرب الكاملة، وهي بدر، وأُحد، والأحزاب وفي مصادمة مع بني المصطلق أسر المسلمون مائة منهم، وأطلق سراحهم جميعًا دون فدية. وفي الغزوات الصغيرة وقع بين الحين والآخر أسير أو اثنان، وكان يفك أسرهم دون شرط. وفي موقعة بدر أسر المسلمون اثنين وسبعين مقاتلا.. أعدم منهم اثنان عقابا على جرائمهما السابقة، وأطلق سراح الباقين بعد دفع الفدية.. والتي كانت في بعض الحالات تتحدد بتعليم عشرة من أطفال المدينة القراءة والكتابة.

بدأت المرحلة الثالثة من عهد الحديبية وانتهت بفتح مكة، ووقعت أثناءها ثماني وعشرون حملة، لم يكن فيها أسرى إلا في ثلاث مواقع. أرسل النبي دحية بن خليفة الكلبي مبعوثا إلى قيصر الروم.. وفي طريق عودته عدا عليه الهُنيد بن عوص وآخرون من بني جُرْهُم، وسلبوا منه هدايا القيصر إلى النبي . فأرسل إليه سرية بقيادة زيد بن حارثة لتأديب الهنيد وحلفائه، ووقع في أيديهم بعض الأسرى، وأطلق النبي سراحهم بعد اعتذارهم.

وخرج بشير بن سعد على رأس حملة ناجحة ضد قبيلة غطفان الذين تحالفوا مع يهود المدينة ومشركي مكة، وأخذ المسلمون بعض الأسرى، لم يرد تفصيل عنهم في الأخبار. وأيضًا خرجت حملة لتأديب بني كلاب. كان جماعة من عُرينة يعيشون مع بني كلاب قد جاءوا إلى المدينة فأصابهم الوباء. وأرسلهم النبي إلى مرعى له خارج المدينة حتى ينالوا طيب الطعام ويشربوا كفايتهم من اللبن. لما استعادوا صحتهم.. إذا بهم يغتالون الراعي ويسلبون خمسة عشر من الإبل. فأرسل النبي خلفهم سرية لحقت بهم وعاقبتهم، وربما أخذت منهم بعض الأسرى.

وهكذا يكشف البحث بشيء من التفصيل، أنه منذ الهجرة وحتى فتح مكة أسير واحد على الإسلام. وما من قرينة واحدة تشير إلى أن (حد السيف قد طهّر دنس نفوسهم)، بل أُخلي سبيلهم ليعودوا إلى وثنيتهم أحرارًا!!!

وهاك أبو سفيان زعيم أعداء الإسلام، والذي أسلم عشية دخول النبي إلى مكة، وقف يراقب على مقربة من مكة كتائبَ المسلمين، ومعه العباس بن عبد المطلب عم النبي . يقدم (مارتن لنجز) Martin Lings وصفًا حيًا لما شاهده أبو سفيان فيقول: “أخذت كتائب المسلمين تمر كتيبة إثر كتيبة، وأبو سفيان يسأل: من هؤلاء؟ ثم يبدي تعجبه.. إما لأن القبيلة بعيدة عن نفوذ قريش، أو لأنها كانت حتى عهد قريب تعادي النبي .. كما هو الحال مع عشيرة بني أشجع من غطفان.. الذين كان يحمل لواءهم نُعيم.. صديق سابق لأبي سفيان وسهيل بن عمرو. وقال أبو سفيان: هذان الحيان من بين كل أحياء العرب!! كانوا أشد خصوم محمد. فأجابه العباس: لقد أدخل الله الإسلام في قلوبهم. كل ذلك من فضل الله..”

فهل كان السيف هو الذي حوَّل قلوبهم إلى الإسلام؟

وعندما دخل النبي مكة ومعه عشرة آلاف مسلم.. هل انتقم لثلاثة عشر عاما من التعذيب والاضطهاد؟ نعم، إن فكرة تسديد الحساب القديم قد تجول في رؤوس البعض. فهذا سعد بن عبادة الأنصاري.. عندما يقع بصره على أبي سفيان يقول: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحلُّ الحُرمة؛ اليوم يخزي الله قريشًا! ورفع أبو سفيان الأمر إلى النبي الكريم فيقول: اليوم يوم المرحمة، اليوم يعز الله قريشا. وصدر الإعلان النبوي بالعفو العام.. صدر في كلمات يوسف التي أوردها القرآن.. وقال الذي أُرسل رحمة للعالمين: “أقول لكم كما قال أخي يوسف: “لا تثريب عليكم اليوم، يغفر الله لكم، وهو أرحم الراحمين!”.

واشنطن إرفنج Washington Irving، وهو باحث غير مهتم بالتعاطف مع الإسلام.. وصف دخول النبي مكة فقال:

“كانت أشعة الشمس قد بدأت تضيء جوانب مكة عندما دخل محمد أبواب بلده. دخلها بجلال الفاتح.. ولكن في رداء الحاج وتواضعه، وظل يردد آيات من القرآن.. قال بأنها نزلت عليه في المدينة.. تبشره بهذا الفتح. لقد انتصر محمد بروح المتدين المتحمس، وليس بزهو الجندي المقاتل.” (واشنطن إرفنج، محمد وخلفاؤه، نيويورك، بتمانز سنز، 1868، ج 1، ص 253).

زعماء مكة الذين لم يدخروا وسعا في معارضته.. لم يفوزوا بعفوه فحسب، بل كما يقرر (واط)، لم يستكرهوا على اعتناق الإسلام.. فقد ظل كثير منهم.. وغيرهم ولا شك.. على وثنيتهم إلى بعد (جزية) على الأقل”. يشير إلى قوله تعالى:

..لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ..

و(جزية) موضع أُرسلت إليه الغنائم بعد موقعة حنين).

ويتفق ماكسيم روبنسون Maxim Robinson  مع (واط) ويقول:

“لم يشعر أحد بأنه مضطر يومئذ لدخول الإسلام” (م. روبنسون، محمد، ص 262).

لو كان هناك أدنى تلميح في مصادرنا الأساسية من الحديث والسيرة.. وإلى وجود قهر وإكراه على الدخول في الإسلام.. لهلل له نقاد الإسلام؛ ولملأوا الأرض زمرا وطبلا!

قارن الآن بين رأي إرفنج، وواط، وروبنسون.. وبين رأي مولانا المودودي في نفس الموضوع حيث يقول: “فلما فشلت كل وسائل الإقناع، استل النبي سيفه.. السيف الذي أماط الشر والأذى، وطهر النجس والدرن من النفوس..”

الحمد لله..! سيبقى فتح مكة مكتوبًا بحروف من نور على صفحات التاريخ إلى آخر الزمن، وسيبقى معلنًا براءة النبي الكريم، ورحمة الله للعالمين.. من تهمة الغصب والإكراه.. التي يلصقها به مولانا المودودي بإصرار. إنها لمأساة تحزن قلب كل مسلم.. أن يصحح مستشرق غير مسلم كبوة مولانا المودودي.. يقول ستانلي لين بول Stanley Lane Poole:

“كان يوم النصر الأعظم لمحمد على أعدائه.. هو أيضًا يوم انتصاره الأعظم على نفسه. لقد غفر لقريش عن طيب خاطر.. كل سنوات المحن والإيذاء القاسي الذي أنزلوه به.. ومنح أهل مكة جميعًا عفوًا شاملاً.” (ستانلي لين بول، مختارات من القرآن والحديث، لاهور، سند سجر أكاديمي، ص 28).

وتبدأ الحقبة الأخيرة من بعثة النبي بفتح مكة، وتنتهي بلحاقه الرفيقَ الأعلى. وقعت خلالها حملات، لم يحدث في ثلاث منها قتال أو أسر. وفي الأربع غزوات الأخرى أخذ المسلمون ستة آلاف أسير. ماذا حدث لهؤلاء الأسرى؟ لو سرنا مع فكر المودودي لساقنا إلى أنها فرصة سانحة (ليطهر السيف النجس والدرن من نفوسهم..) ولأُدخلوا في الإسلام. ولكن التاريخ الصحيح يحكي قصة مخالفة تمامًا:

في موقعة حنين أخذ المسلمون ستة آلاف أسير.. وكان النبي قد قضى طفولته في بني سعد بن بكر، وكان من بين الأسرى امرأة عجوز تخطت الكهولة.. فاعترضت على معاملة آسريها قائلة: تعلموا، والله إني لأخت صاحبكم. فأحضروها إلى النبي .. فتعرف عليها وبسط لها رداءه فأجلسها عليه.. وبدمعه الغالي يتحدر من عينيه سألها عن أمه في الرضاعة.. السيدة حليمة. ولم تصدر منه كلمة لوم واحدة، ولم يعتب على القبيلة التي نسيت أنه تربّى فيها.. قبل أن تخرج لحربه.. وبدلا من ذلك قال لهم: “ما كان لي ولبني عبد المطلب (أي من الأسرى والمال) فهو لكم”. ووعدهم أن يتشفع لهم عند المسلمين. وما أن سمع المسلمون، المهاجرين والأنصار، مقالة النبي حتى قالوا: “ما كان لنا فهو لرسول الله”. وهكذا تحرر ستة آلاف أسير.. ولا دخْلَ للسيف في إسلامهم! وأهدى النبي لأخته الشيماء بنت الحارث عددا من الإبل والضأن. وألح الحارث بن أبي شمر.. عم الشيماء على أن القبيلة بأجمعها أقارب للنبي من الرضاعة. وأرسلوا إلى مالك بن عوف زعيم القبيلة فجاء النبي مسلما، وأعطاه النبي مائة من الإبل، وجعله رئيسًا لجماعة المسلمين المتزايدة في هوزان. وفاز كثير غيره بالعطايا.

وعلى أثر غزوة عيينة بن حصن الفزاري.. وصل إلى المدينة اثنان وستون أسيرًا منهم، وجاء وفد من بن تميم وكلموا النبي في أمرهم فأطلقهم جميعًا.

وفي غزوة إلى (فلس).. مركز لعبادة الأصنام.. سمع عدي بن حاتم الطائي زعيم بن طيء بالخبر ففر، ولكن أخته كانت بين السبايا. وفي المدينة ألقت بنفسها على قدمي النبي تلتمس الرحمة.. قائلة إن أباها كان يطلق العاني، ويُقري الضيف، ويطعم الجائع، ويعزي المكروب، ولم يَرُدَّ عن بابه أحد يطلب المعونة.. أنا ابنة حاتم. فترفق النبي الكريم بها، وأمر بتسريحها قائلاً: كان أبوها يحب مكارم الأخلاق، والله أيضًا يحبها. وحملها على بعير وكساها، وأعطاها نفقة، وأخرجها مع قومها حتى لحقت بأخيها في الشام. لقد أكرم النبي فيها ذكرى أبيها الشاعر الكبير، الذي تفتخر العرب جميعا بكرمه وحسن ضيافته. وثبَّته النبي على زعامة قبيلته طيء.

بعد أن استعرض ماكسيم روبنسون آراء المستشرقين المتضاربة حول شخصية النبي قال:

“لقد صوره كل واحد منهم بحسب هواه وفكره وخياله..”.

وتصدق هذه الملاحظة تمامًا على مولانا المودودي (المسلم) أكثر منها على مستشرق (غير مسلم). إن غرام مولانا المودودي بالسلطة السياسية قد تغذى في طفولته على ذكريات أمجاد حيدر آباد التي لم يبق منها إلا بعض المظاهر، وتقّوَّى بصراعاته السياسية في شبابه المبكر.. عندما كان من المعجبين بالمهاتما غاندي. وبعد ذلك عارض الطائفتين الهندوسيتين المتحالفتين في حركة (شدّي). لقد سيطر كل ذلك على تفكيره حتى إنه عندما ألف كتابه عن سيرة النبي .. وهو رحمة الله للعالمين.. فصوَّره على أنه جاء ليسوس العالم، ويصلح من حاله.. ولكن بحد السيف!!

الفصل الرابع

أنبياء وفُرسان: دراسة مقارنة

فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (الغاشية: 22-23)

“إنها (أي الجماعة الإسلامية) ليست تنظيمًا للتبشير، أو جماعة من الوعاظ.. وإنما هي منظمة من فرسان الله..” (أبو الأعلى المودودي، حقيقة الجهاد، لاهور، شركة تاج، 1964، ص58)

تفحصنا في الفصل السابق.. الصورة التي رسمها المستشرقون في القرن التاسع عشر لنبي الإسلام . فألفيناها صورة لرجل مقاتل، متعصب، اندفع على صهوة جواده من الجزيرة العربية، شاهرًا سيفه في يده، وممسكًا بالقرآن في يده الأخرى.. مُخيِّرًا ضحاياه بين أمرين. ولكن المستشرقين المعاصرين خففوا من قبح هذه الصورة التي روج لها ادوارد جيبون Edward Gibbon. سقوط الإمبراطورية البريطانية، ج5، لندن، 1909، ص 332). بل اعترف العالم اليهودي المشهور برنارد لويس Bernard Lewis، بدعابته الإنجليزية المأثورة عنه، أن “هذه الصورة مزورة، بل ومستحيلة، إلا إذا كان بوسعنا أن نتخيل سباقا بين حملة السيوف.. كلهم من العُسْر. والعرف عند المسلمين أن يستعملوا اليد اليسرى في الأعمال القذرة، وما من مسلم يحترم نفسه يرفع المصحف بيده اليسرى!” (ب. لويس، اليهود في الإسلام، ط. جامعة برنستن، برلين، 1983، ص 3).

ولكن هناك مسلم، يحترم نفسه، هو مولانا المودودي، ويقبض على سيفه بيده اليمنى، بغض النظر عن عدم موافقة ذلك لتعاليم القرآن المجيد وسنة النبي الكريم ! يدعي أن يتحدث بإعجاب عن سيده، ولا يرى فيه إلا الجمال، ولا تشاهد عينه فيه إلا كل جميل. ولكن كيف يمكن له أن يرى في سيده من النقائص.. ما يرفضه حتى خصوم الإسلام المعاصرين؟ هناك ثلاث إجابات على هذا السؤال:

(1) إما أن ادعاء مولانا بكونه مريدا وفيا للنبي ادعاء باطل. وعلى ضوء ما كتبه مولانا في (الجهاد في الإسلام) وأعماله الأخرى.. فليس ببعيد أن يعتقد القارئ بأن الكاتب لا علاقة له من قريب أو من بعيد بتعاليم النبي الكريم ، وأن دعوى ولائه ووفائه كاذبة.. وهذه تهمة خطيرة. ولما كنت من جماعة تُتَّهم زورا بأنها لا تُجِلَّ النبي (معاذ الله).. فأنا آخر من يتهم مولانا المودودي في ولائه لسيدنا وإمامنا محمد .

(2) أو أن إدراك مولانا بالقيم قد اضطرب.. حتى تعذر التمييز بين الخير والشر، كالمصاب بعمى الألوان لا يستطيع التفريق بين الأخضر والأحمر..

(3) أو أن مولانا مصاب بهاجس، وتتسلط عليه رغبة ملحة في السلطة والقوة السياسية. وقد عرَّفوا الهاجس بأنه فكرة دائمة متواترة، غالبًا ما تتلوَّن بمسحة انفعالية قوية.. تدفع المرء إلى النزوع نحو سلوك معين بصفة متكررة. وهي حالة ذهنية مرضية. (جيمس دريفر، قاموس السيكولوجي، 1964، ص 191).

وعند بيير جانيت Pierre Janet:

“يكون المصاب بهاجس موسوسًا، متيقظ الضمير، يعاني من الإحساس بالتفاهة”. راجع ودزوورث وشِيهان، مدرسة علم النفس المعاصر، نيويورك، رونالد بريس، 1964، ص 253).

ولخَّص إلتون مايو Elton Mayo نتائج جانيت وتشخيصاته للمصابين بالهاجس:

“أنهم متخصصون في بذل الجهد الشاق للتفكر في أمور واضحة. يدققون تدقيقًا مبالغا فيه في الأمور التافهة بدلا من الأمور الهامة التي يحسون بأنهم غير أهل لها.” (إ. مايو، ملاحظات على سيكولوجيا ب. جانيت، المرجع السابق).

وكما رأينا من قبل، فإن ذكريات مولانا في سن الطفولة، وتجربته في سن المراهقة.. ساقته إلى منبع واحد يتحكم في سلوكه: السلطة السياسية.

يقول كيرت لِيوِن Kurt Lewin: أنه إذا أريد فهم سلوك الفرد، فلا بد من الرجوع إلى بيئته عبر فترة زمنية طويلة، وإلى لحظته الحالية. أي أن مجال اهتمام ليون هو الفترة الحياتية التي تشمل الفرد وبيئته النفسية.

وفصَّل ودزوورث وشيهان Woods worth & Sheehan نظرية ليوِن فقالا:

“البيئة السيكولوجية (أو السلوكية) هي بالطبع المحيط كما يعيه ويفهمه المرء، ولكنها فوق ذلك.. المحيط كما ينتمي إلى حاجات الفرد الحالية ومتطلباته الظاهرية. فبعض الأهداف التي وعاها لم تعد ذات أهمية له في الوقت الحالي، لذلك تبقى في خلفية محيطه السيكولوجي. وهناك أهداف أخرى ذات تكافؤ موجب أو سالب: موجب إذا كانت تبشر بالوفاء بحاجاته الحالية، وسالب إذا هددته بضرر ما. فالأهداف ذات التكافؤ الموجب تجتذبه، أما سلبية التكافؤ فتنفِّره” (ودزورث وشيهان، المرجع السابق، ص 241).

وعلم النفس (سيكولوجي) ليس من العلوم الكاملة.. بل لا يزال يتطور، ولكن (هاجس) مولانا المودودي يبدو متفقا تماما مع النظرية السيكولوجية التي بحثناها آنفًا.. ولا يعني ذلك أننا قد لا نجد تفسيرا آخر لسلوكه إلا مشكلة الهاجس. وأيًّا ما كان التفسير، فإن الهاجس ولا شك.. هو الذي يغشى رؤيا مولانا.

إنه يتعثر، ويزل أحيانا في مزالق عبرها من قبله أعداء الله. وهذا الهاجس هو ما جعله يؤيد عقوبة القتل لمن يبدل دينه، تلك العقوبة التي كانت دائما وأبدا.. مطلوبة لمعاقبة الأنبياء وأتبعهم لأنهم بدلوا دينهم التقليدي. إنه نفس الهاجس الذي يدفعه إلى وضع السيف في يد النبي ، فيضع نفسه بذلك في صف أعداء الإسلام، الذين ما برحوا يرسمون لحضرته صورة ملطخة بالدماء. ولما كان الإقناع والإكراه على طرفي نقيض.. تخيَّر مولانا السيف أداة للإصلاح، واستبعد الإقناع منهجا للدعوة؛ ذلك لأن الإقناع مهمة شاقة.. وجد أو أحس في نفسه أنه غير قادر عليها. إنها تتطلب تضحية ومعاناة طويلة في مواجهة المعارضين.. كما أوضحتها سيرة النبي في مكة. نبذها مولانا لأنها هدف سلبي التكافؤ. وبدا له أن القهر عن طريق السلطة السياسية يتفق مع حاجاته الحاضرة. ومن ثم اختاره، ونسبه إلى سيرة النبي بمنطق صعب المنال.

وعندما أقول إن مولانا تحت تأثير هاجس، لا أقصد بذلك عدم احترامه.. كلا، هذا مع أنه لما وضع سيفا في يد سيدي ومولاي محمد قد أظهر عدم الاحترام للنبي .. ولكل ما يمثله من قِيَم.

عندما ألقيت نظرة على كتاب إسرائيل شِنكَر Israel Shankar المسمى (معطف متعدد الألوان)، وهو مجموعة من المقالات عن اليهودية.. (يقول عنه هيُوغ نِسنْدن Hugh Missenden:

“لقد صور مستر شنكر هاجسه بطريقة تجعل تاريخ شعبه متقبَّلا ومشرقا لدى كل إنسان”

(H. Missenden, Scripture &Survival, New York Times Book Review, 17.3.85, 12).

تمنيت لو أن مولانا قد انتفع بهاجسه هكذا، ولكنه بدلا من ذلك سوّغ الجبر وبرره، ليس من الناحية الشرعية فحسب.. وإنما من ناحية كونه منهجا أساسيا للإصلاح.. فيقول:

“وما كان ممكنا أن يضحوا (أي خصوم الإسلام) بمنفعتهم الذاتية بطريق الإقناع والتفكير، ولكن ما على المرء إلا أن يتملك السلطة السياسية ثم يقهرهم ليتوقفوا عن أذاهم..”.

يبدو أن هذه الطريقة (الإصلاحية) أشد أثرا، وأيسر جهدا من الإقناع.. الذي يتطلب الصبر والمثابرة في مواجهة السخرية والصد والزجر. نعم، ما أسهل تحويل الناس قسرًا.. اعتمادا على القوة المادية. ليس ثمة وجه للمقارنة بين الطريقتين.. واحدة سهلة سريعة، والأخرى مضنية بطيئة.. تحتاج إلى صبر أيوب ! هذا قدر المصلحين جميعا.. كان عليهم أن يحتملوا الرفض والاستهزاء. وهذا ما يقرره القرآن المجيد:

إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (المطففين: 30-34)

تبين الآيات السابقة سبب رفض مولانا اتباع طريق المصلحين الذين أرسلهم الله تعالى.. فالناس ينظرون إليهم ساخرين: ويقولون: انظروا إلى من يريدون تغييرنا ولا سلاح لديهم سوى الإقناع، إنهم من الضعف بحيث لو شئنا لسحقناهم سحقا.. ويزعمون أن بوسعهم التغلب علينا بالفكر والنصح. لذلك أبى مولانا النقاش السلمي وقال:

“من أراد اجتثاث الأذى والفوضى من هذا العالم، وابتغى إصلاح بني البشر.. فليدرك أن ذلك محال عن طريق الوعظ والإرشاد.. لا فائدة من ذلك. لا بد له من أن يثور على حكومة المبادئ الباطلة.. لا بد من أن يحصل على السلطة. ويزيح الآثمين من الحكومة، ويقيم حكومة تستند إلى مبادئ سليمة، وإرادة عادلة منصفة.. ” (حقيقة الجهاد للمودودي).

ولكن الطريقة الإصلاحية المودودية هذه.. ماركسية المثال. وهي ليست الأسلوب الإلهي لإنقاذ البشر. في الخطة الإلهية يحظى الإقناع العقلي بأهمية عظمى. حتى إنه في عصر الانحطاط الأخلاقي الشامل لن يفلح إلا المؤمنون الصالحون..

الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (العصر: 4).

وبنظرة خاطفة على التاريخ، ينكشف لنا أن الله تعالى يطالب عباده الذين يقومون بثورات روحية أخلاقية.. أن يكسبوا قلوب الناس بالحق وبالصبر. نعم، الصبر والدعاء مكملان للثورة الدينية.. وينبغي دوام الحضِّ عليهما إلى أن يتحقق وعد الله. ولقد وعد الله بأن الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (هود: 50).

لقد اتبع رسل الله جميعا هذه الطريقة للإصلاح الديني، وهي طريقة تتعارض تماما مع الماركسية التي تنتهج أسلوب القسر. وحفظ القرآن لنا سيرة كثير من الأنبياء والمبلغين. كان الإقناع بالحجة وسيلة نوح وإبراهيم عليهما السلام لتحقيق الانقلاب، وشعيب وصالح عليهما السلام، وأُرسل لوط ناصحًا، وكذلك موسى ، وأحدث عيسى ثورة بمواعظه. وفوق الكل.. خاتم النبيين، وسيد المصلحين في كل الزمان، سيدنا محمد المصطفى ، بُعث ليحدث انقلابا عالميا روحيا.. بالإقناع والفكر لا غير. ولكن مولانا يتجاهل سنَّة كل رسل الله، بل وينقضها بعبارته: “من أراد اجتثاث الأذى والفوضى من هذا العالم، وابتغى إصلاح بني البشر، فليدرك أن ذلك محال عن طريق الوعظ والإرشاد.. فلا فائدة من ذلك..”.

تعالوا نقارن هذا القول الجازم من المودودي.. بسنة أنبياء الله التي لم تتخلف قط. عندما اتهم نوحًا قومُه بإشاعة -الضلال المبين- بينهم، أجاب:

قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (الأَعراف: 62-63)..

هذا ما يقصه الله تعالى عن رسالة نوح، ولكن بحسب القول الجازم للمودودي، كان ينبغي على نوح أن يقول لهم: أنا رسول الله، ولسوف أسلط عليكم، شئتم أم أبيتم، جماعة من الصالحين.. فينزعون السلطة من أيديكم!!

ولما قالت عادٌ لهود أنه قد ضل وأمعن في سفاهته وكذبه، لم يجبهم بقوله: لا تنخدعوا وتحسبوني سفيها لأن نصحي لا ضرر منه. أنتم لا تعرفونني على حقيقتي. لسوف أنتزع السلطة من أيدي الذين عصوا الله، وأضعها في يد رجالي الصالحين. نعم، لم يقل ذلك.. لأنه نبي يتَّبع سنة الأنبياء جميعا، قال: يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (الأَعراف: 68-69).

وما فعلته عاد فعلته ثمود، إذ رفضوا نبيهم صالحًا ، واتهموه بكل نقيصة. فسار على طريقة نوح وهود عليهما السلام، وقال لهم:

يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ

(الأَعراف: 80). ثم بعث الله لوطًا ، ولم يحاول أتباعه الاستيلاء على السلطة من القوم المسرفين. وواظب على إقناعهم بالحجة والمنطق.. إلى أن نزل بهم عقاب الله. وخرج لوط مع من آمن به.. تاركًا القرية بإذن من ربهم، وجاء ذلك الصباح الذي طالما حُذِّر الطغاة منه.. فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (الصافات: 178).

وتستمر سورة الأعراف تحكي قصص الأقوام الضالين.. وكيف فعلوا مع أنبيائهم الذين جاءوا لإصلاحهم. فبعد لوط يخبرنا القرآن الكريم عن شعيب ، الذي مضى في محاولاته لإقناع قومه المتكبرين، ومناشدة معذبيه القساة. فلما رفضوا كل نصح، توجه إليهم قائلاً:

يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (الأَعراف: 94).

القرآن كلمة الله عند مولانا المودودي وعند كل المسلمين.. يخبرنا بأن رسل الله تعالى جميعا كانوا يعظون وينصحون لأقوامهم. فإذا لقوا منهم الإعراض ابتهلوا ودعوا ربهم وتوسلوا إليه تعالى. لقد كانوا يؤمنون برسالاتهم إيمانا لا يتزعزع. وبدلا من أن يفكروا أو يحاولوا انتزاع السلطة من خصومهم، دأبوا على عطاء الحب والعطف. كانوا يسعون إلى الإقناع بلطف الصديق، وينصحون في لين وتواضع، ويتركون النتيجة لله تعالى؛ فهو وحده مالك الملك، يورث الأرض من يشاء من عباده. لقد أجمل موسى خلاصة مراد الرسل في دعائه:

رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (الأَعراف: 127).

ونصح قومه قائلا: اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا ، وأوضح لهم:

إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (الأَعراف: 129).

وما ينبغي للصالحين أن يتملكوا السلطة ويقفزوا عليها بالقوة، وكل ما نعرفه أن (.. العاقبة للمتقين).

بعد موسى جاء عيسى عليهما السلام، وبدوره قضى حياته واعظا ناصحا، ولم يكن من أهل السلطة والسياسة. وأخيرا بُعث إمام الأنبياء.. محمد .. واعظا وناصحا، يدعو قومه إلى الفضائل.. ولم يكن شرطيا أو مقاتلا.. بل سمّاه الله (مذكِّرا) حيث قال له:

فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (الغاشية: 22-23).

ولكن مولانا المودودي يصر على أنه وأتباعه من أعضاء جماعتي إسلامي.. “ليسوا هيئة تبشيرية، أو جماعة للوعظ والإرشاد.. ولكنهم منظمة من جند الله.. ليكونوا شهداء على الناس. مهمة هؤلاء (الفرسان) استعمال القوة لمحو الظلم والأذى، والقضاء على الفوضى والعصيان والاستغلال في الدنيا” (حقيقة الجهاد للمودودي).

ينبه الله تعالى أعظم أنبيائه بقوله:

وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (الأَنعام: 108)،

ولكن مولانا المودودي يحتفظ لنفسه ولجماعته بالسلطة البوليسية، ولا يكتفي بهذا.. بل ويجمع إليها السلطة القضائية أيضًا. عجبا، لا يعطي الله أعظم المصلحين سلطة دنيوية على قلوب الكافرين، ولكنه، معاذ الله، يمنحها للمودودي وجماعته بدلاً من محمد وجماعته.. ذلك النبي الكريم، الذي تجسد فيه العطف والرحمة.. عندما يشتد في الابتهال إلى الله تعالى، ويلحف في الدعاء، كي تتحقق على يده هداية البشر إلى صراط الله المستقيم.. فيهوِّن الله تعالى عليه بقوله: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (يونس: 100)؟ أما فيما يتعلق بالكافرين فقد أخبره الله تعالى:

وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (الأَنعام: 108).

وفي تناقض صارخ مع المنهج المقرر عند جميع رسل الله تعالى.. كما بينه القرآن الكريم بصورة عامة، ومع سيرة كل نبي خاصة.. يعطي مولانا المودودي لنفسه الحق في قهر عباد الله وإكراههم.. حتى يتيح ل (جماعتي إسلامي) التي يتزعمها.. محو الظلم والأذى والفوضى والعصيان والاستغلال من الدنيا!

إن طموح مولانا إلى السلطة الدنيوية لم يعرف حدودا. وهو مستعد للذهاب إلى أبعد مدى لتحقيق ما يصبو إليه. لقد تملكه (هاجس) السلطة السياسية حتى حسبَ عبادةَ الله ما شرعت للمسلمين إلا ليغتصبوا السلطة ويحكموا العالم. وليس للعبادة في نظرة أي هدف روحاني. إنها ليست في تقديره تجربة روحية، ومجالا للقاء بين الإنسان وخالقه، ولكنها شعائر لتحقيق الانضباط الذاتي..! يقول الله تعالى وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (الذاريات: 57). فالدنيا مخلوقة بهدف عبادة الله تعالى، ولم تشرع العبادة لأي غرض آخر، ولكن مولانا يمضي مُصرًّا:

“لقد شرعت الصلاة والصوم والزكاة والحج لإعداد الناس وتدريبهم لهذا الغرض، أي الجهاد. كل حكومات الدنيا تدرب جيوشها تدريبات خاصة ونوعية، ولقوات البوليس ولرجال الخدمة المدنية أيضًا تدريباتهم. وبنفس الطريقة يدرب الإسلام الذين يدخلون في خدمته، ثم يطالبهم بالذهاب إلى الجهاد لإقامة حكومة الله..” (حقيقة الجهاد، المودودي).

ما من دين في العالم يبشر بمثل هذا المفهوم المادي للعبادة. إنما يمكن أن تكون عبادة الله تدريبا عسكريا لا غير.. عند من استبد بهم هاجس شديد!

الطموح يعني اللهفة، ولكن جنون السلطة.. من بين كل أعراض الجنون.. هو أشدها نفاذ صبر. ولذلك لا يطيق مولانا الطريق المستقيم، إنه ضيق وبطيء. والماركسية بالمثل.. لا تقبل لتحرير المظلومين طريق الديمقراطية الطويل الشاق، وتجد في طريق العنف عوضًا عنه لتسقط حكومة الوقت المنتخبة. ولا تختلف طريقة مولانا عن الفكر الماركسي بشأن الصراع العنيف فيقول:

“هبوا لإصلاح الناس ما استطعتم. اسعوا لتغيير المبادئ الخاطئة وإبدالها بالصحيحة. انتزعوا سلطان التنفيذ والتشريع من أيدي الذين لا يخافون الله..”.

ومما يثير الدهشة أن صحفيا ذا حنكة سياسية طويلة.. مثل مولانا المودودي.. لم يدرك قاعدة (عدم جواز استعمال العنف) في إسقاط الحكومات، مهما كان السبب، لأن انتهاك هذه القاعدة يهدم القانون والنظام من أساسه، وقد تلتهم نار الحرب الداخلية البناء الاجتماعي ذاته.

فأولا، ليس لحزب من الأحزاب أن يُنصِّب نفسه قاضيا ويفرض حُسن مقاصده. وثانيا، على فرض حسن النوايا، فلا يجوز له إدانة الأحزاب الأخرى المعارضة له بأجمعها. إذا لا يُتصور أن كل فرد معارض هو قاس وشرير وظالم؛ وأن كل فرد من (جند الله) تقي ورع منزه عن الأطماع والشهوات. والواقع أن الأحزاب التي رفعت شعار العمل الإصلاحي.. بعبارات رنانة.. هي التي صارت في النهاية شرهة إلى السلطة، وتبخرت نواياها الطيبة في أتون الطمع. ويوضح مولانا بنفسه صعوبة السيطرة على شهوة السلطة فيقول:

“وكما هو في معلوم الجميع.. أن السلطة شيطان خطير، حتى إن اشتهاءها يصحبه جشع لا يشبع، ويطمع الإنسان بشغف شديد إلى امتلاك كنوز الأرض، والسيطرة على بني نوعه، ليتمكن من فرص سلطانه المطلق عليهم”. ولا يعيب هذه البلاغة المتدفقة إلا أن الصحفي الخبير، مولانا المودودي، كثيرا ما يغفل عن المتناقضات الكامنة في كتاباته. فإذا كان مجرد التفكير في السلطة يُحدث مثل هذا التحول الخطير في القلب، فما هو الضمان ألا يفسد أعضاء جماعته الإسلامية (المستقيمون)، عندما يستحوذون على السلطة المطلقة؟.. لا ريب أن هؤلاء الرجال (المستقيمين) قد أتموا (تدريبات الخدمة المدنية) التي فرضها الله (تحت اسم العبادة الإسلامية) من صلاة وصوم وزكاة وحج.. ولكن هذه (التدريبات) ليست وقفًا على (جماعاتِ إسلامي) وحدها، فالمسلمون كلهم يؤدونها!؟ نعم، عبادة (الأحمديين) غير مقبولة كعبادة إسلامية عند المودودي؛ فماذا عن عبادة (البريلويين) أو (الديوبانديين) مثلا؟ وهل عبادة (الشيعة) إسلامية؟ وهل هناك من يقول بأن عبادة (أهل القرآن) غير إسلامية؟ ولو كان الأمر كذلك، فلماذا لا تهب هذه الطوائف الإسلامية ضد (حكومات المبادئ الباطلة)، وتمسك بالسلطة، وتزيح الآثمين، وتقيم حكومة مؤسسة على نظام عادل؟

إن كلمات مثل (عادل) و(سليم) و(آثم) مسميات نسبية. فما هو (عادل) عند (جماعتِ إسلامي) قد لا يكون كذلك عند (الديوبنديين). وما هو (سليم) عند هؤلاء قد لا يكون كذلك عند (البريلويين). ثم ماذا بشأن غير المسلمين؟ إنهم بالطبع لهم نظرتهم بشأن الخطأ والصواب. ولو لم تختلف نظرتهم عن المسلمين لكانوا في صفوف الإسلام، فهل لهم بالمثل حق إسقاط حكومة هذا اليوم؟!

حسن المقاصد وإرادة الإصلاح لا يمكن أن تكون مبررا لإسقاط الحكومات. هناك فروق شاسعة في تعريفات (الاستقامة) لدى مختلف الأحزاب السياسية بحيث لو قُبلت كل تلك التعريفات ما أمكن اعتبار أي حزب منها مستقيما. على سبيل المثال: الجماعة الأحمدية عند مولانا لا علاقة لها بالإسلام؟ خلقتها الحكومة الإنجليزية بهدف تفريق الأمة الإسلامية، وتثبيطهم عن الجهاد، وتوهين قوتهم. وزعموا أنها طابور خامس لتحطيم الأمة من الداخل.

ولكن الأحمدي له صورة عن نفسه تخالف تماما ما عند (جماعتِ إسلامي): فالأحمدي يؤمن بأن حركة ما تأسست إلا لإعلاء الإسلام وبعث الحياة في المسلمين، وأن الله تعالى غرس بيده غرستهم.. وليس الإنجليز.. تحقيقا لوعده الذي بشر به أمة محمد . لقد وعد بأن يرسل (المهدي) لإصلاح الأمة عند انحطاطها، ويبعث (المسيح) عند غلبة الصليب، بحجة لا تُغلب، فيكسر الصليب الذي سبب الآلام للمسيح عيسى . إن الأحمدي يؤمن بأن ذلك المهدي والمسيح هو الذي أسس هذه الجماعة الأحمدية، التي تشتغل بخدمة الإنسانية بروح البذل والعطاء. فهي من ناحية تدعو الناس بكل تواضع.. وتنصحهم كي يغيروا ما بأنفسهم. ومن ناحية ثانية، تكافح العقيدة المسيحية وتنتصر عليها في كل الجبهات. فكيف يمكن التصديق بأن الجماعة وليدة الإنجليز.. وهم أنفسهم مسيحيون؟ هل يُتوقع من الإنجليز أن يؤيدوا، دعْكَ من أن يؤسسوا، جماعة أخلصت العزم على اجتثاث عقيدة التثليث، وزرع شجرة التوحيد مكانها؟ حيثما ذهب الأحمديون تذوي أعشاب التثليث وتزدهر دوحة التوحيد الجميلة، عطرة الأزهار حلوة الثمار. إذا كانت هذه ثمار شجرة زرعها الإنجليز.. فليتَهم زرعوا بضع شجرات أخر حتى تزداد سرعة إحياء الإسلام وفناء الصليبية!

فما يؤمن به الأحمديون ويعرفون عن أنفسهم.. مناقض كلية لرأي مولانا المودودي فيهم. يرى الأحمديون مؤسس جماعتهم محبا.. مستغرقا في حبه إلى أعماق القلب.. لحضرة النبي الكريم حتى قال ما معناه:

إني لنشوانٌ بعشق محمدٍ

من بعد حب الله جلَّ جلالُه

.

إن كان هذا الكفرَ إني لكافرٌ

ربي شهيد.. قد سباني جمالُهُ

ويعتقد الأحمديون أن جذور محبتهم لخاتم النبيين محمد تمتد عميقة في قلوبهم، ولكن مولانا المودودي يجزم بأنها متعمقة في تربة الإمبريالية البريطانية. رأيان على طرفي نقيض؛ تعالوا بنا ندرس الرأي المخالف.

يؤكد مولانا أن الهدف من إنشاء (جماعت إسلامي) هو خلق جماعة من الرجال أهل (الاستقامة)، من خلال التأدب الطويل بالعبادة الإسلامية، ويصل هؤلاء القوم إلى درجة من الاستعداد تجعل الإسلام يقول لهم: أنتم الآن أشد عباد الله استقامة على الأرض، إلى الأمام يا جنود الإسلام، قاتلوا من يعصي الله، انزعوا من أيديهم السلطة، اقبضوا على زمام الحكومة في أيديكم. ويرجع الفضل إلى جهود مولانا، في أن هذه الجماعة (المستقيمة) على أهبة الاستعداد، تنتظر حتى تصل إلى الاقتدار لإسقاط حكومة اليوم.

ويعتقد مولانا أن هذه الجماعة (المستقيمة) أسست كي تصلح البشرية، وترفع راية الإسلام في العالم، وتمحو كل الإثم، وتحفر بحد السيف اسم الله في كل قلب. وادعاء مولانا المودودي بأن أعضاء (جماعتِ إسلامي) هم أقوم عباد الله.. ادعاء في نظر الأحمديين لا أساس له. فمن ناحية المبدأ كل امرئ له الحق في أن يحسب نفسه في جانب الحق هو ومن يتبعه، فكونك على حق شيء، وكونك مستقيما شيء آخر. ليس بوسعنا الادعاء بأننا صلحاء مستقيمون.. لأن الإنسان يضل في متاهات من خداع النفس، والوهم، والنفاق الصريح.. حتى إن المرء لا يستطيع أن يقيم نفسه بدقة. من غيرُ الله تعالى يعرف أسرار القلب، ورغبات العقل، والأمنيات الخفية؟ هو وحده الذي يعرف المستقيم والآثم. نعم هناك بعض الاستثناءات: فمن الناس من تبدو من أمارات مقنعة لا تخطئها البصيرة على استقامته، بحيث يظهر حب الله في سلوكهم.. فيتكلم معهم الله تعالى كما تكلم إلى أهل الاستقامة في الماضي.. يتلألأ نور الله حولهم كما أشع من قبل على القديسين والأولياء في هذه (الأمة)، وتجلى عونه وتأييده لهم بالقول والفعل. وبناء على ذلك يرفض الأحمديون، رفضًا قاطعًا، ادعاء المودودي بأن (جماعت إسلامي) تأسست لرفع الإسلام، فذلك في الواقع تشويه وإهانة للدين الذي يصرح بانتمائه إليه. بوسع أتباع المودودي أن يدعوا بما شاؤوا داخل حدود آمنة.. في بلاد إسلامية مثل باكستان أو السعودية؛ ولكن دعهم يحملوا عقيدتهم هذه (الإسلام بالسيف) إلى مجال خارجي ليروا كيف يستقبلونهم!

هل يستطيعون (أسلمة) المسيحيين.. مع اعتقادهم بأن المسيح عيسى حي في السماء منذ حادثة الصليب؟ هل بإمكانهم عندئذ كسر الصليب؟ هل يستطيع أحد أن يرفع علم الإسلام بالعقائد المودودية هذه!؟

ما من شك، أن من وجهة النظر الأحمدية، تعاليم مولانا المودودي تسيء إلى سمعة الإسلام، وتجعله هدفًا للسخرية. و(جماعت إسلامي) إذن ليست صديقا للإسلام، بل هي نوع من الماركسية.. خالية من القيم الروحية، متعطشة للسلطة.. تستلهم تعاليمها من الكرملين الأحمر وليس أبدا من الكعبة المشرفة.

وموجز القول، إن الجماعة الأحمدية لتدين (جماعت إسلامي) بنفس القوة التي يستهجن بها مولانا الأحمدية لكونها بزعمه فاسدة مسيئة.

وعندما يتكرر مثل هذين الرأيين المتقابلين بين طوائف (الأمة) وأحزابها.. ستجد أن كلاًّ منهم يقدح في ادعاء الآخرين بالاستقامة ويمزقه كل ممزق. فمن يا تُرى الذي يهبُّ لإصلاح الناس وانتزاع السلطة التنفيذية والتشريعية من الذين لا يخشون الله؟!

(هاجس السلطة).. هو البؤرة التي يتركز فيها مفهوم الإصلاح عند مولانا المودودي. فهو ينظر إلى النبي بمنظار سياسي، ويشرح العبادة الإسلامية برطانة عسكرية، ويفسر القرآن من منطلق المناورات السياسية البحتة. مولانا يدرك تماما أنه غير مؤهل للإصلاح عن طريق الإقناع والصبر والتواضع.. فيقدم لنا سياسة العنف والفوضى والفساد. وعلى أكثر الاحتمالات.. يمكن القول بأنه مع ذلك حسن النية. نعم، لكن الطريق إلى سقر مرصوف بالنوايا الحسنة. والحكم القرآني مع ذلك واضح بين:

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (البقرة: 12-13).

Share via
تابعونا على الفايس بوك