القتل باسم الدين الحلقة الرابعـة

الفصل الخامس قانون المودودي للردّة

إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (المزَّمّل : ۲۰)

 

«في ظل سلطاننا.. لن نسمح لأي مسلم أن يغير دينه، ولن نسمح لأي ديانة أخرى أن تنشر دعوتها…» (المودودي، عقاب المرتد في الشريعة الإسلامية)

«لا يَعرف مولانا المودودي في تطلعه إلى السلطة السياسية حدودا. وقانون الردة الذي شرَّعه ليس إلا انعكاسًا لشخصيته المستبدة المتعصبة، ولا علاقة له بالإسلام ألبتة. يقول الدكتور إسرار أحمد، وقد عمل مع المودودي : « استعار المودودي مبادىء حركته من مولانا أبي الكلام آزاد وإخوان خيري، وأخذ أسلوب التقديم من نیاز الفتح بوري؛ ولكن غروره وصل حدًا يمنعه من الاعتراف بأن أفكاره تَمتُّ لأحد سواه». (د. إسرار أحمد، الرئيس السابق لمنظمة الطلاب بالجامعة الإسلامية المودودية، إسلام اور باکستان، لاهور، خدام القرآن، ۱۹۸۳، ص ۷۲).

وبالمثل فإن آراء مولانا في موضوع الردة، والتي ترجع أصولها إلى تفسيرات خاطئة لبعض فقهاء المسلمين، تقوم في الحقيقة على مسيحية القرون الوسطى. كانت مدرسة الديوبنديين تختلف مع منظمة الأغلبية الهندوسية السياسية.. المؤتمر القومي الهندي من ناحية، ومن ناحية أخرى تشتبك في معركة دفاعية مع حملة (شُدي).. أَمَدَّتْ هذه المدرسة مولانا بتفسيراتها الخاطئة عن هذا الموضوع. أما البصمات الماركسية، والتي تظهر واضحة في فكره، فتعود إلى قراءاته عندما كان محررًّا شابًّا سهل التأثر. وإذن، فحركة (جماعت إسلامي) مزيج غريب من ممارسات عصور الظلام المسيحية في القرون الوسطى مع التعصب الديوبندي الوهابي، مصحوبًا بنزعة ماركسية فوضوية.

وكما رأينا في الفصل الأول من هذا الكتاب.. أن مفهوم الحرية الدينية ليس متسمًا بالتطورية وليس مبدأً وراثيًا، ولكنه ظاهرة دورية: كلما ظهر واحد من الأنبياء أو المصلحين قوبل بالمعارضة؛ فيُتّهم بتفريق وحدة المجتمع، وتمزيق الأعراف الموروثة، ويُرمی بالارتداد، ويُشهر به. وفي نهاية الأمر ينجح النبي في إرساء أساس الحرية الدينية. ولكن بمرور الأيام فإن هذا الدين الذي انتشرت بفضله هذه الحرية يتجمد بسبب ضيق الأفق والتعصب في هيئة عقيدةٍ صُلبةٍ، فيُنكرون حق الاختلاف. وهلم جرا.

في زيارته الأخيرة للمعبد قال المسيح عيسى ابن مريم :

« أَعْطُوا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا ِللهِ للهِ». (إنجيل مرقص 17:12)

بهذه العبارة الواضحة فصل المسيح ما بين العقيدة الدينية وبين السلطة السياسية. ولكن بعد أن حصلت الكنيسة المسيحية على السلطة السياسية عام ۳۱۲م تمزقت في مدى سنة واحدة بفعل الانشقاقات. قاسى المسيحيون الأوائل أشد الاضطهاد لأكثر من ثلاثة قرون، فازدهروا. ولكن عندما تنصَّر الإمبراطور قسطنطين واجهت الكنيسة اعتزال الرهبان، وانشقاق الدوناتست، وردَّة آریوس. وعلى امتداد تاريخ الكنيسة المسيحية كانت الهرطقة أو الارتداد والانحراف عن الأرثودكسية (التقليدية).. محلَّ اهتمام عميق، لأنها كانت تتعلق بمفهوم الإله أي ألوهية المسيح.

فإذا كان المسيح إلهًا بالمفهوم المطلق، ثم هو في نفس الوقت متميز عن الرب، لكان معنى ذلك أن للمسيحيين إلهين، ولكانت عقيدة ثنوية وليست توحيدية. أما إذا فسرت العلاقة البنوية حرفيًا لكان الإله الآب سلفًا للإله الابن. ولكن منطق هذه العلاقة يعني أن المسيح ليس إلهًا بمعنى الكلمة.. لأنه لا بد من فاصل زمني بين (وجود الابن مع الأب) وبين (وجود الإله الأب وحده). (براندون، قاموس تاريخ الأفكار، نیویورك ۷۳).

يعتقد المسيحيون الأرثودكس بأن المسيح الابن مساوٍ تمامًا في الجوهر للإله الأب، في حين يری آریوس (256، 336) أنه مشابه ، وليس مساوٍ له.

ثم جاءت مسألة أم المسيح، فقد أعلن نستوریوس (451) أن مريم كانت أمًّا لعيسى الجسد فقط، وليست أمًّا للإله عيسی، ولذلك رأى أن تُسمى أم المسيح. والمفهوم الأرثودكسي أن مريم أمٌّ حقيقية ليس للإله نفسه، وإنما (للكلمة المتجسدة).. أو الرب.. متضمنة الطبيعتين: الإلهية والبشرية للمسيح.

أصدر المجمع المسكوني الأول للكنيسة في نيقوسية البيزنطية عام 325 م.. قانون الإيمان المسيحي حول لغز عقيدة التثليث، وحكم المجمع بالحرمان على آريوس الذي أصر على رأيه، وأخرجه من شركة المؤمنين، ونفاه الإمبراطور قسطنطين، وأمر بإحراق كل كتب آریوس وإعدام من يحوز شیئا منها.

اكتملت (دورة) الحرية الدينية التي بدأها عيسي الناصري يوم شرَّع الإمبراطور جستنيان (4۸۳، 565م) عقوبة الإعدام لمن يرتد، وتقررت هذه العقوبة في القانون الروحاني بدءًا من عام 535م.

إنه منعطف مأساوي في مسار حرية الضمير إذ تَلقَى حتفَها على يد المسيحيين الرومان، الذين كان أسلافهم الوثنيون يحرقون المتنصّرين ليكونوا وقودًا يتسلی به نیرون الروماني (64م). وما دام المسيحيون يعانون الاضطهاد على يد السلطات السياسية غير المسيحية تجد الكتّاب المسيحيين يدافعون بحماس عن حرية العقيدة، ولكن عندما ينتقل التاج الإمبراطوري ليوضع على رأس المسيحيين تنظر الكنيسة بعين الكراهة نفسها إلى (الفردية!) في الدين، وتراها انعزالاً أو تمردًا.

ما كان وما زال الله إلى منتصف القرن الخامس الميلادي.. أصبح من نصيب القيصر.. فالكنيسة أصبحت اليد اليمنى للسلطة السياسية. وفي أثناء حملة ضد جماعة (دوناتست) احتج سانت أوجستن (354، 420م) بقوله: «هناك عقاب تطهيري تنزله كنيسة المسيح بالخطاة. إنها تعاقبهم بروح المحبة كي تصححهم وتستعيدهم من الخطية.. متخذة كل الوسائل لخيرهم، ولضمان خلاصهم الأبدي…»

(مختارات من مكتبة آباء نيقوسيا ومن قبلهم، بفالو، ۱۸۸۷، ج 4، ص640).

في عام 385 اتهم الأسقف الأسباني بریسكیلیان بالدعوة إلى المانوية والتبتل التام. ونفي الرجل عن نفسه التهمة، ولكنه حوکم وقضى عليه بالإعدام حرقًا مع بعض رفاقه.

ويتفق مارتن لوثر الألماني (14۸۳، 1546)، رئیس کنیسة البروتستانت الإصلاحية مع سلفه الروحاني من الرأي حيث يقول: «للإكليروس أي (رجال الدين المسيحي) سلطان على الفكر، ولكن مساندة الدولة ضرورية لتوقيع الحرمان المطلق من حماية القانون حتي يجتث الاثم .. وإن كان من المستحيل التخلص من الخطية ..». (د البرج، أكتون، تاريخ الحرية، ماكميلان، لندن ۱۹۱۷ ص 162).

أما جون كالفن (1509، 1564م) رجل الدين الفرنسي البروتستانتي.. فهو حقًا الذي ألهم مولانا المودودي، فقد كان كالفن يريد نشر الدين بالسيف، وعقاب الارتداد بالقتل، كتب يقول: «ينبغي عقاب الكاثوليك المحرضين على العصيان.. على أساس أن الواجب إنزال العقاب لجلال الرب بنفس القوة التي يتأثر بها صاحب التاج». (المرجع السابق ص ۱۷۸).

وبينما كان كالفن يُلهم مولانا.. زوده المفكر الإنجليزي توماس هوبز (1588، 1679) بالأساس الفكري المنطقي، وذلك في كتابه (ليفياثان). في رأي هوبز أن المعجزات من علامات النبوة الصادقة. ولما كان عصر المعجزات قد انتهى، ولم يعد هناك مجال لهداية الناس عن طريق النبوة أو الوحي الإلهي، فالملك وحده هو صاحب السلطة المدنية والدينية.. وهو وحده أيضًا صاحب القدرة على التشريع، لأن من يملك السيادة الشرعية لتطبيق النصوص المكتوبة.. له أيضًا سلطة التصديق على تفسيرها أو عدم الموافقة عليه.

والابتداع، في رأي هوبز، حكم شخصي، وهو بذلك يتعارض مع الرأي السائد كما يقرره الملك. فاستحقاق العقاب إذن ليس على خطأ التقدير اللازم للهرطقة.. وإنما العقاب يكون على العصيان الشخصي ضد السلطة. فإذا كان ولاء المرء نحو ما يمليه عليه ضميره فإن ذلك يجيز للأفراد العاديين عصيان أمرائهم حفاظًا على دينهم، سواء كان هذا الدين صحيحًا أو باطلاً. وهذا، عند هوبز.. هو الفوضى والخراب التام. (هوبز، ليفياثان، الموسوعة البريطانية، 1952 شيكاغو).

وليس ثمةَ ارتداد من غير ابتداع ، ولا ابتداع من غير عقيدة. ولقد اتضحت العقيدة الكاثوليكية الرومانية بأسلوب دقيق لا لبس فيه.. في قانون الإيمان المسيحي الذي يقول: نعبد إلهًا واحدًا مثلث الأقانيم في ثالوث، والثالوث في واحد؛ لا يمزج بين الأشخاص، ولا يجرّي الجوهر.

من وحي تعاليم القرون الوسطى الكنسية هذه، وليس من الإسلام أبدًا، طوّر مولانا المودودي المبادئ الأساسية لمولانا أبي الکلام آزاد وإخوان خيري عن (الحكومة الإلهية). (د. إسرار أحمد، اسلام اور باکستان). أَمَدَّه كل من سانت أوغسطين ومارتن لوثر وجون كالفن وتوماس هوبز بالأفكار اللاإسلامية عن الأرثوذكسية (السلفية الأصولية)، والدجماتية (الالتزام المبدأي الحازم)، والابتداعية (البدع)، وأمدوه أيضًا بفن البيان المتعصب.

المستشرقون، الذين لا يدعون فرصة تفلت من أيديهم لانتقاد الإسلام، يوافقون على خلو الإسلام من فكرة الدجماتية والابتداع. يقول جولد تسيهر:

«لا يمكن أن يقارن دور الدجماتية في الإسلام بذلك الدور الذي كان لها في الحياة الدينية لأي كنيسة مسيحية. فليس ثمة مجامع ولا مجالس تضع الصيغ الدينية بعد مشاورات ومجادلات مثيرة.. بحيث تصبح تلك الصيغ معتقدًا لأهل الملة. ليس هناك مؤسسة كنسية تعتبر معيارًا للأصولية، ولا يوجد تفسير واحد معتمد للنصوص المقدسة.. بحيث تبني عليه وحدة تعاليم وتأويلات الكنيسة. فالمتفق عليه، وهو المرجع الوحيد لكل المسائل الدينية المعمول بها.. عبارة عن فقهٍ مَرِنٍ.. حتى ليصعب القول بأنه محدد. وهناك اختلافات في شرح مفاهيمه. وفي الإجماع على وجه الخصوص حيث المعمول به هو المتفق عليه بلا خلاف؛ ما هو متفق عليه عند فريق لا يكون مقبولاً بهذه الصفة عند فريق آخر.

ويقول المستشرق اليهودي المعاصر، برنارد لويس، الذي لا يمكن اتهامه بمناصرة الإسلام:

كان المعوَّل على ما يفعله الناس، التطبيق قبل النظرية. وأبيح للمسلمين على وجه العموم أن يعتقدوا بحسب ما يقومون به فعلاً.. ما داموا يؤمنون بالحد الأدنى الأساسي: وحدانية الله ونبوة محمد، والعمل وفق قواعد السلوك الاجتماعية. (برنارد لويس، یهود الإسلام، برنستون، ۱۹۸۳، ص53).

لم يَعُدِ الإسلام الحقيقي ملهِمًا لمولانا المودودي.. فبعد أن استحدث مفاهيمه عن الارتداد والابتداع لم يبق بوسعه التنصل من منطق (كالفن)، الذي يشرع (عقوبة الموت للردة). ومولانا لديه من التهور ما يكفي ليفتري هذه العقوبة على النبي . كتب مولانا کتيبًا حول هذا الموضوع، استشهد فيها بالعمليات الحربية التي قام بها سيدنا أبو بكر ضد القبائل المتمردة.. واتخذها دليلاً على أن القتل عقوبة الارتداد. وقبل بحث هذه النقطة ينبغي تقديم نماذج لبعض كتابات مولانا.. لنكشف عن مدى تأثره بالنماذج المسيحية.

وخلاصة القول إن الآباء المسيحيين في العصور الوسطى بأوربا شرعوا القتل عقوبة للارتداد عن المسيحية، وتعريفهم للمسيحية هو التعريف الوحيد الواجب القبول. وواضح أن الحاكم المودودي.. في حكومة مودودية.. هو الذي سوف يقرر من هو المسلم ومن غير المسلم. وماذا سيكون قراره یا ترى؟ نجد الجواب في كتابات مولانا، وهي معبرة واضحة تمامًا.

يری مولانا المودودي أن الأحمديين مرتدون، وأنهم أقلية (غير مسلمة). ولكن الكفر ليس وقفًا على الأحمديين وحدهم، فأهل القرآن.. أتباع المدرسة الفكرية للسيد برويز.. كفار كذلك ومرتدون. والواقع أن كفرهم أخطر من كفر القاديانيين. ولقد صنّفهم مولانا أمين أحسن إصلاحي. (وكان مودودي التفكير، وكان يعتبر اليد اليمنى للمودودي) ووضعهم بين المطرودين من الاسلام حسب ترتيب نشره في جريدة (تسنیم) اليومية، لسان حال (جماعتِ إسلامي) جاء فيه:

«ينصح بعض الناس (أي أهل القرآن) أنه ما دامت الشريعة الإسلامية لن تنسخ أبدًا فينبغي أن تشكل الحكومة في هذا البلد، باکستان، طبقا للمبادئ القرآنية. وإذا أراد هؤلاء الناس بقولهم هذا أن قواعد الشريعة محصورة في القرآن فقط.. وأن القوانين الأخرى ليست من الشريعة.. فهذا كفر صريح. إنه كفر يماثل کفر القاديانيين، وهو في الواقع أشد خطرًا».

هذا هو الحكم ضد القاديانيين وضد أهل القرآن. هلموا نلقِ نظرة فاحصة لاكتشاف هل الكفر مقصور عليهما وحدهما أم لا؟؟

ما ليس مودوديا فهو عند المودودي كافر. والتعاليم المودودية تماثل قانون الإيمان المسيحي.. أي انحراف عنها كفر.. يقول مولانا:

«99.9 في المائة من الأمة الإسلامية لا علم لهم بالإسلام، ولا قدرة لهم على معرفة الصواب من الخطأ. إنهم لا يوجهون أخلاقياتهم ولا أفكارهم وجهة الإسلام. المسلم منهم مسلم لأن أباه كان مسلمًا، وانتقل إليه الإسلام جيلاً بعد جيل. لا يقبل هؤلاء المسلمون الحق لأنهم يعتقدون أنه حق، ولا يرفضون الباطل لأنهم يعلمون أنه باطل. ولو وضعت أمور المسلمين في أيدي هؤلاء الناس.. فمن ظن أن أمور المسلمين سوف تدار كما ينبغي كان غارقًا في سعادة وهمية»..

ويستطرد مولانا: «عملية الانتخاب الديمقراطي تشبه خض اللبن ليستخرج منه الزبد؛ ولو كان اللبن مسمومًا لأنتج زبدًا مسمومًا. فالذين يحسبون أن الحكومة الإلهية ستقوم تلقائيًا بعدما تتحرر البلاد المسلمة من الأغلبية الهندوكية مخطئون.. بل سينتهي الأمر إلى حكومة کافرة من المسلمين».

ومولانا أشد وضوحًا في الفقرة التالية من نفس الكتاب :

«إن الأمة التي تُدعى مسلمة تتكون من كل صنوف النفايات. كل خُلق الكفار موجود فيهم. شهود الزور أمام محاكمهم أكثر مما تجده في محاكم الأمم الأخرى. فيهم الرشوة والسرقة والزنا والزور. وعلى الجملة، ما من نقيصة أو فساد في الكفار إلا هو فيهم» .

حقًا، مراسیم مولانا وإنذاراته تتسم بالشمولية الواسعة. وقد يظن البعض أن هذه الأحكام تشير إلى الـ ( 99,9 بالمائة) من المسلمين العاديين وحده ؛ وأنه يستثني الزعماء والمثقفين. لا ! لقد أصدر مولانا تصريحًا تكميليًا بشأن قادة المسلمين والعلماء، ليوضح أن أي مسلم واقع في الضلال لا محالة إذا لم يقبل بقانون الإصلاح المودودي. يقول مولانا:

«القادة السياسيون الذين حصلوا على تعليم غربي، والعلماء وخبراء الفقه الإسلامي، كل هؤلاء في الضلالة سواء؛ كل فئة منهم بحسب وسائلها وغاياتها. لقد ضاع منهم طريق الحق، وتخبطوا عميانًا في الظلمات. وليس لأحد منهم بصيرة إسلامية».

إذن عند المودودي لا (99.9 بالمائة من المسلمين، ولا قادتهم الدنيويون، ولا زعماؤهم السياسيون على صراط مستقیم. كلهم قد ضلوا السبيل، آراؤهم غير إسلامية، وكل نوعيات الإجرام في الكفار موجودة بينهم.

وبعد سماع هذا الوصف المودودي، لو قال أحد من الناس بأن الأمة الإسلامية (حفنة من المرتدين) لأجابه المودودي: لقد أصبتَ كبد الحقيقة! ومولانا لا يتكلف في اختيار كلماته، وعندما تحدث عن الذين تركوا جماعته.. جماعتِ إسلامي.. قال:

«ليس هذا طريقًا فيه رجعة.. الرجوع عنه يعني الارتداد عن الدين ..»

فإذا كان الخروج من (جماعتِ إسلامي) والانضمام إلى جماعة أخرى يعني الارتداد، فمعنى ذلك بالضرورة أن الجماعة الأخرى هذه.. أيًا كانت.. جماعة كافرة. وبالمثل، فالمسلمون الذين يصلون عند مقابر الأولياء تبرکًا، والشيعة الذين يظنون في الخلفاء الراشدين قبل عليّ (رضي الله عنهم جميعًا) أنهم اغتصبوا الخلافة.. كلهم كفار. ومن المسلّم به عند مولانا، ومعه علماء دیوبند، أن أهل السنة والجماعة في الهند وباكستان المعروفين باسم (البريلويين) كفارٌ كذلك.

والآن، وبعد أن أعلن مولانا بالقول الواضح أن جميع غير المودوديين كفار.. يتناول بتفصيل شدید موضوع (المسلمين بالمولد). وهذه واحدة من أشد الحجج صعوبة في فكر المودودي. وعن إسلام المودودي نفسه قال: «لقد خلعتُ عني طوق الإسلام الموروث، وقرأت القرآن، ودرست سيرة محمد ، فأنا الآن مسلم من جديد..».

وعلى هذا الأساس وضع المودودي نظامًا مستحدثًا للدخول في الإسلام من جديد. ويكشف عن خطته فيقول: «عندما توضع عقوبة الإعدام على الارتداد موضع التنفيذ في حكومة إسلامية جديدة.. يبقى المسلمون داخل الجماعة المسلمة. لكن هناك خطر من وجود عدد كبير من المنافقين بينهم، وهذا يمثل تهديدًا دائمًا بالخيانة…

وحلاًّ لهذه المشكلة أرى أنه حينما وقعت ثورة إسلامية.. يعلن جميع المسلمين غير الملتزمين تحوُّلهم عن الإسلام وخروجهم من المجتمع المسلم.. وذلك خلال عام واحد. وبعده يُعتبر المسلمون بالمولد مسلمين، وتسري عليهم كل القوانين الإسلامية، ويكونون ملزمين بأداء كل فرائض الدين الواجبة. ومن أراد منهم بعد ذلك ترك الإسلام يعاقب بالإعدام. ولسوف تبذل كل الجهود الممكنة لإنقاذ من يمكن إنقاذه من الناس وتنجيتهم من الكفر؛ أما من يتعذر إنقاذهم فيُستبعَدون من المجتمع إلى الأبد (كيف؟ بالإعدام طبعًا). وبعد تطهير المجتمع الإسلامي نبدأ من جديد بمسلمين قرروا باختيارهم البقاء في الإسلام». (المودودي: عقاب المرتد، ص ۸۱).

مولانا.. لا يدلنا على القواعد التي بني عليها اجتهاده هذا.. أعني تأخير قانون إعدام المرتد. على أية حال فهو لن يؤخره كثيرًا .. إنها فترة مؤقتة لحين إنشاء دولة إسلامية، أي على سبيل التنازل من جانبه! وبعد فترة السماح الكريم هذه.. يضيع المسلمون الذين ولدوا (کفارًا)! ويشرح مولانا سبب عجزه عن استثناء هؤلاء التعساء فيقول: «هناك مسألة أخيرة حول موضوع عقوبة الإعدام التي قد تزعج الكثير من بيننا. غير المسلم الذي يعتنق الإسلام باختياره، ثم يرتد إلى الكفر.. هذا يمكن القول بأنه قد ارتكب الخطأ العمد، ولكن ماذا بشأن من وُلِدَ لأبوين مسلمين ولم يعتنق الإسلام؟ هذا مسلم بالمولد.. فإذا بلغ الرشدَ، وأراد الخروج عن الدين هددته بالإعدام ليبقی مسلمًا؟ هذا ليس بعدل؛ كما أنه يزيد في عدد من يولدون منافقين في المجتمع الإسلامي. هناك حلان لهذه المسألة: أحدهما يتناول الناحية العملية، والثاني يتعلق بالمبدأ. فمن ناحية المبدأ، ليس هناك تمييز بين من يولدون على دين ما وبين من يتحولون إليه، ولم يميز أي دين بينهما.. لأنهما كليهما يخضعان لنفس أحكام الشريعة. ومن المحال وغير المعقول معاملة أبناء المنتسبين إلى الدين على أنهم كفار أو ذميون إلى أن يبلغوا رشدهم، ثم تخيرهم بعد ذلك في قبول دينهم الذي ولدوا فيه أو يرفضونه.. وهذا بالطبع يعني الجنسية أيضًا. ولا يمكن لمجتمع في العالم أن يدير أموره بهذه الطريقة». (المرجع السابق ص ۷۲).

ولو أننا قبلنا بمشروع المودودي بأن الإسلام يقرر الإعدام عقوبةً للمرتدين، وأن المسلمين كفار باستثناء جماعتِ اسلامي، فليس بوسعنا اعتبار المسلمين غير المودوديين مرتدين.. حتى ولا باتباع منطق المودودي نفسه. إنهم غير مرتدين، لأنهم (مولودون کفارًا). ويبدو أن مولانا يريد أن يحصل على (الكعكة) ويلتهمها أيضًا. فالمسلمون الذين لا يتفقون مع مفهوم المودودي للإسلام أعطوا صفتين : (مسلمون بالمولد)، و(الأولَى أنهم كفار) لأن آباءهم ربوهم في بيئة كافرة. ثم وصفوا بعد ذلك (بالردة) لأنهم عند البلوغ لم يرفضوا إسلام آبائهم، وفضلوه على إسلام المودودي. وغير المسلم الذي يدخل الإسلام ثم يرتد يستحق الإعدام.. لأنه صار مسلمًا ويعرف تمامًا أنه لا مهرب له. وبالمثل يُعامل غير المودودي المسلم بالمولد على أنه (مرتد) لأنه عندما بلغ الرشد لم يقبل بالإسلام المودودي المعدَّل.

هذه هي الحجة التي تكشف بوضوح شخصية مولانا المستبدة، المناورة، المتعصبة. فلا مناص (للمسلم بالميلاد) ولا للمسلم (المتحول إلى الإسلام) من الوقوع بین براثنه. إنه يلوي عنق القاعدة القرآنية لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ في هذه الكلمات: «هذا يعني ألا نكره أحدًا على اعتناق ديننا حقًا، ولكن يجب تحذير من يود النكوص بأن الباب ليس مفتوحًا للمرور الحر. إذا أردت الدخول فافعل ذلك بعزم أكيد ألا مخرج لك…»

علّق أحد علماء (أهل القرآن) البارزين، غلام أحمد برويز، على التفسير المودودي للآية المذكورة قائلاً:

«إسلام مولانا المودودي مصيدة للفئران.. من دخلها فلا مهرب له…»، والحجة الأساسية لدی مولانا أن كل دين يعتبر نسل أتباعه من أتباعه. فكل مولود لأبوين مسلمين يعتبر ملكية إسلامية.. وإن كان من الوجهة العملية كافرًا. فإذا كان حق الملكية قد تقرر بشأن هؤلاء المواليد، فكيف عند سن الرشد يكونون أحرارًا في اختيار دین آخر؟ وعند توضيح هذه النقطة غفل مولانا أو تغافل عن حديث النبي : «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه..». (البخاري).

فلو كانت الحجة الرئيسية لمولانا صحيحة.. فلماذا يجعلها قاصرة على ذرية المسلمين وحدهم؟ لماذا لا يطبقها على أبناء غير المسلمين أيضًا؟ إنهم حسب الحديث النبوي ولدوا على فطرة الإسلام! وهذا يعطي للحكومة المودودية السيطرة التامة على كل طفل غير مسلم، ولا فرق هناك بين كون الطفل أو عدم كونه من مملكة المودودي! وبالإضافة إلى غفلة مولانا عن الحديث النبوي المشار إليه آنفًا.. فإن قوة منطقه جرّته إلى هذا السخف!

الواقع أن مولانا قد استنسخ مسيحية القرون الوسطى المظلمة.. كلمة بكلمة.. في حركته (جماعتِ إسلامي). كتبت إليزابث لابروث، المؤرخة للعصور الوسطى المسيحية، تعلق على سياسة المودودي المتعصبة.. فقالت: «إنها، أي سياسته وفكره، على مستوى الأفراد تخلق إما شهداء أو منافقین». (قاموس تاريخ الأفكار ج 4).

والآن قارنوا بين ملاحظة المؤرخة لابروث وبين هذه الفقرة من كتاب المودودي (عقوبة الارتداد في الإسلام): «لو كان (أي المرتد) صادقًا في عزوفه عن حياة النفاق، ويرغب حقًا في الثبات على عقيدته.. فلماذا لا يقدم نفسه للموت!؟».. ولما كان المفهوم المودودي هو السبيل الأوحد للخلاص.. فإن مولانا لا يسمح بنفس الحقوق والامتيازات لأتباع أي دين آخر؛ ولا يسمح بأي نشاط تبشيري للديانات الأخرى في الدولة المودودية. يقول مولانا:

«قتل المرتد قد حسم الأمر. فما دمنا لا نسمح لمسلم أن يدخل في دین آخر، أصبحت مسألة السماح للملل الأخرى بفتح إرساليات تبشيرية لنشر عقائدها داخل حدودنا مسألةً غير ذات موضوع. ليس باستطاعتنا احتمال ذلك أبدًا!».

حسنًا، هل يستطيع (کافر) أن يدعو لفكره بين (الكفار) الآخرين؟ أعني هل يمكن المسيحي أن يفتح إرسالية للدعوة المسيحية بين اليهود أو الهندوس مثلاً؟ هل بوسع (آریاسماج)، الذين لا يؤمنون بعبادة الأصنام، ويعبدون إلهًا واحدًا.. هل بوسعهم الدعوة بين أتباع (سناتن دھرم) الدهريين؟ يجيب مولانا:

«لا يطيق الإسلام انتشار الديانات الباطلة في العالم.. فكيف يرخص لمبشري المال الباطلة أن ينشروا الباطل، ويدعوا الآخرين إلى النار التي هم ذاهبون إليها؟».

ويوافق المودودي على أن اليهود والنصارى أهل كتاب، ولكنه يری منعهم من دعوة عبّاد النار أو الأصنام أو المشركين لعبادة إله موسی وعیسی.. الإله الواحد.. وفي هذا ما يقربهم خطوة نحو الإسلام.

وباختصار، مولانا يتنازل فقط في حالة الكافر بالمولد، فهذا لا يعاقب بالقتل إذا رفض الدخول في الإسلام. ولكن.. إذا كان كذلك، فلماذا يقتل الكافر الجديد إذا ارتد؟ إذا كان للكفار عقوبة بأية حال.. فلماذا القتل؟ لماذا لا يكون النفي أو السجن المؤبد مثلاً.. حتى لا يتمزق المجتمع الإسلامي؟ هنا يوضح المودودي المسألة.. وفي ولاء صادق لمنطق سانت أوغسطين.. بأن قتل المرتد إنما هو الصالح المرتد نفسه: «هناك طريقتان لا غير للتعامل مع المرتد: إما أن نجعل منه مجرمًا.. وذلك بتركه حيًا مع حرمانه من كل حقوق المواطنين، أو ‏أن تنتهي حياته بالقتل. من المؤكد أن الطريقة الأولى أشد قسوة من الثانية، لأنها تجعله (لا هو بالحي ولا هو بالميت).. فالقتل أفضل له، إذ يضع نهاية لعذابه ولعذاب المجتمع كليهما في الوقت ذاته”.

‏ولكن العقوبة التي يقررها مولانا للمرتد ليست فعلا كتعذيب أوغسطس المفعم بروح المحبة.. ذلك لأن هناك حياة بعد الموت، ولكن بقتل المرتد يكون مولانا قد أسلمه إلى نار الجحيم. وتخليص المرتد من الآلام المؤقتة في حياة منبوذة يرسل به إلى نار ذات عذاب مقيم.. ومولانا قبل ذلك يحرم المرتد المفجوع من فرصة التوبة ‏والنجاة، وفي الوقت الذي يتمتع والكافر بفرصة التوبة في أي لحظة من لحظات حياته.. لا يستطيع المرتد أن يعود إلى الإسلام لينتفع من رحمة الغفار التواب!

‏وتمشيا مع منطق مولانا حتى نصل بها إلى نتيجته السخيفة المنافية للعقل.. للمرء أن يسأل لما كان المقصود من عقوبة الموت للمرتد هو ردع الناس الذين يبدلون دينهم باستهتار حتى لا يدخلوا مجتمع الإسلام فما هو اقتراحك، يا مولانا، لمنع هؤلاء القوم المترددين من أن يولدوا في بيوت إسلامية؟!

وليست سياسة الوحشية هذه القائمة على الإكراه والتعصب.. وقفًا على السياسة الداخلية في الدولة المودوية.. بل وليست سياسة الوحشية هذه القائمة على الإكراه والتعصب.. وقفًا على السياسية الداخلية في الدولة المودودية.. بل إن سياستها الخارجية أيضا تعتمد على القوة والتعصب. يقول مولانا:

“الإسلام لا يريد أن يحدث هذا الانقلاب في قطر أو بضعة أقطار، إنما يريد نشره في كل بلاد الدنيا. إن مهمة (جماعتِ إسلامي) أن يحدث الانقلاب أولا في وطنه.. إلا أن الثورة العالمية هي هدفه النهائي..”

لا ريب أن الانقلاب العالمي هو الهدف النهائي للإسلام.. ولكن الإسلام يريده انقلابا روحيا، وليس ثورة ماركسية شيوعية كتلك التي استلهم مولانا (أيديولوجيتها) من الشيوعيين. ليس من قبيل المصادفة أبدًا أن الجدلية المودودية العنيفة تتبع الجدلية الشيوعية. إنه استبدل عبارة (الحزب الشيوعي)، وستجد أصداء صوت ماركس ولينين في كتابات المودودي. ثورة مولانا المودودي لا تقوم على العدل.. بل على المادية.. وما ينشأ عنها من دكتاتورية شخصية. ولا تختلف السياسة المودودية تجاه الدول المجاورة كثيرا عن السياسة الخارجية الشيوعية. فيقول المودودي:

“إن العلاقات والروابط الإنسانية متكاملة إلى حد أن أي حكومة لا تملك حريتها الكاملة للتصرف وفقًا لمبادئها ما لم تكن هذه المبادئ نفسها نافذة المفعول في البلاد المجاورة. ومن ثم فإن الجماعة الإسلامية لن تكتفي بتوطيد الإسلام في منطقة واحدة منفردة، بل ينبغي لسلامتها الذاتية وللصالح العام.. أن تسعى للتوسع في جميع الاتجاهات. فمن ناحية تنشر فكرها (أيديولوجيتها)، ومن ناحية أخرى تدعو الناس من كل الشعوب لقبول عقيدتها.. لأن النجاة فيها وحدها. فإذا أتيح للدولة الإسلامية القوة والموارد (الاقتدار بتعبيره الأردو) فسوف تحارب حتى تقضي على الحكومات غير الإسلامية، وتوطد في مكانها حكومات إسلامية”.

هذه الفقرة هي الواقع نسخة من البيان الرسمي الشيوعي (المانيفستو الشيوعي).. بعد إدخال التغييرات المناسبة. ولا يتردد مولانا أن ينسب سياسة العدوانية هذه إلى النبي الكريم فيقول:

“كانت هذه هي السياسة التي اتبعها النبي وخلفاؤه الراشدون .. كانت جزيرة العرب هي المكان الذي قام الحزب الإسلامي الأول، والذي توجَّب ترسيخ أقدامه فيه. بعد ذلك أرسل النبي دعوات إلى البلاد المجاورة، ولكنه لم يتريث ليرى ما إذا كانت دعواته ستلقى القبول.. فما أن امتلك زمام القوة حتى ابتدأ الصدام مع الإمبراطورية الرومانية، وأصبح أبو بكر قائد الحزب بعد النبي ، فهاجم الرومان والفرس كليها. ثم في النهاية أحرز عمر النصر عليهما”.

هذا، ولا شك، إعلان عام بالحرب على جميع على جميع البلاد غير الإسلامية المجاورة. وهم بمنجاة من العدوان ما دامت الدولة المودودية ضعيفة بدون “اقتدار ” (السلطة). وكما أمهلت الحكومة المودودية رعاياها من (المسلمين بالمولد) سنة واحدة ليختاروا بين الإسلام المودوي أو يرفضوه، ويقعوا تحت المعارضة المحلية.. فإن الحكومة المودودية سوق تغزو جيرانها بعد مهلة وصولها إلى (الاقتدار).

ولا يوافق المودودي على الرأي المقبول بين المسلمين عامة.. من أن الحرب قد فُرِضت على النبي ، وعلى خلفائه أبي بكر وعمر من جانب الإمبراطورية المسيحية والقيصرية المجوسية اللتين استهدفتا سحق الإسلام.. وأن المسلمين على فقرهم في الإمكانيات المادية.. اضطروا إلى القتال دفاعا عن النفس؟

 

 الفصل السادس

الارتداد في نظر الإسلام 

“اكتبوا لي من تلَّفظَ بالإسلام من الناس “. ( محمد )

مفهوم الطرد من الدين.. كما كان في مسيحية العصور الوسطى.. وكما عرضه مولانا المودودي.. مفهوم غريب عن الإسلام. بل وليس له كلمة واحدة تعبر عنه في اللغة العربية. لا شك أن بعض علماء الفقه القدامى اعتبر التراجع عن الإسلام جريمة من الكبائر، ولكن تعريفهم للمسلم كان من السعة بحيث لا يمكن أن يتهم بالارتداد كل من ينتسب إلى الإسلام.

أعطانا النبي تعريفين للمسلم: الأول، عندما أجرى أول إحصاء سكاني في المدينة.. قال النبي :

“اكْتُبُوا لِي مَنْ تَلَفَّظَ بِالْإِسْلَامِ مِنْ النَّاسِ” (صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير).

وفي مناسبة أخرى قال النبي :

 “مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَذَلِكَ الْمُسْلِمُ الَّذِي لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ فَلَا تُخْفِرُوا اللَّهَ فِي ذِمَّتِهِ” (صحيح البخاري، كتاب الصلاة).

ولكن مولانا المودودي، ومن على شاكلته من العلماء الذين يناصرون الاستبداد (الدكتاتورية) والتحكم المطلق في بلاد الإسلام، أضافوا إلى التعريف النبوي البسيط مواصفات شتى.

وعلى حد تعبير الإمام الغزالي (1058/1113) فإنهم ” قيدوا رحمة الله الواسعة لتكون الجنة وقفا على عصبة من رجال الدين”. (الغزالي، فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة” القاهرة، 1901).

وقد جمع نتائجَ جهودهم القاضي محمد منير رئيس المحكمة العليا السابق في باكستان، والذي رأس محكمة التحقيق في فتنة عام 1953 بإقليم بنجاب. فقال:

” بعد استعراض التعريفات المتعددة التي قدمها العلماء عمّن هو المسلم … فلسنا بحاجة إلى التعقيب سوى أنه لم يتفق اثنان من علماء الدين على هذه المسألة الأساسية! ولو حاولنا بدورنا أن نقدم تعريفا كما فعل علماء الدين هؤلاء.. وخالَفَ تعريفَ الآخرين، لخرجنا عندهم من ملة الإسلام .. ولو أخذنا بتعريف واحد من هؤلاء العلماء لبقينا على إسلامنا عنده وحده، وكنا من الكافرين بحسب تعريفات الآخرين”. (تقرير لجنة منير، لاهور 1954، ص 323).

ويجدر بالقارئ.. عند اطلاعه على ملاحظة القاضي منير هذه أن يرجع بذاكرته إلى تأنيب النبي  لأسامه بن زيد (رضي الله عنهما)، بعد رجوعه من غزو غالب ابن عبد الله الكلبي، وكان قد قتل رجلا منهم. روى أسامة الحادث قائلا:” كنت مع رجل من الأنصار عندما فاجأته، وهاجمناه بسلاحنا، فنطق بالشهادة، ولكننا لم نتوقف وقتلناه. وعندما رجعنا إلى النبي وقصصنا عليه ما جرى قال: من أحل لك يا أسامة أن تتجاهل قوله: (لا اله الا الله)؟ فقلت: إن الرجل ما قالها إلا لينجو من الموت. فأعاد النبي سؤاله ومضى يردد: أقتلتَ رجلا يقول (لا إله إلا الله)؟ حتى وددتُ أني ما أسلمتُ قبل ذلك اليوم، وأني ما قتلته. وسألتُه الصفح معاهدا ألا أقتل رجلاً يقول الشهادة.

فقال ستقولها بعدي يا أسامة؟ قلت: نعم يا رسول الله”. (سيرة ابن هشام).

لقد علم النبي أنه على الرغم من اهتمامه بحياة المسلمين الناطقين بالشهادة فلا يزالوا يُقتَلون على يد الضالين.. باسم الإسلام. وفي رواية أن النبي سأل أسامة: “هلا شققت عن قلبه”. (مسند ابن حنبل).. ليعرف مدى صدقة في نطقه بالشهادة.. ومع ذلك يستمر العلماء المتعطشون للسلطة والمشتغلون بالسياسة يحرضون الناس على قتل إخوانهم المسلمين.. الذين يخالفونهم في الرأي قليلا أو كثيرا.. لو كان هناك اختلاف حقا.. كما لو أنهم شقوا عن قلوبهم، فوجدوا إيمانهم باطلا؟!

وفيما يتعلق بالارتداد، يستخدم القرآن كلمة (ارتد). يوضح الإمام الراغب الأصفهاني قائلا: كلمة ارتداد تعني عودة المرء من حيث جاء متتبعا خطاه. وترتبط الكلمة بصفة خاصة بالرجوع عن الإسلام إلى الكفر، كقوله تعالى:

إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى (محمد: 26)،

وقوله:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ (المائدة: 55).

(الارتداد) مصدر لازم، فعله (ارتد)، وليس له صورة متعدية. فالمرء بنفسه يرتد عن دينه أو إلى دين آخر، ولكن لا يمكن أن يُرَدَّ. فهو عمل اختياري، لا دخل لعامل خارجي فيه. وهذا الجانب الاختياري الحر هو الذي يميز بين الارتداد وبين مفهوم (الرد) أو الطرد المسيحي والمودودي كما تناولناه بالشرح في الفصل الأول، والذي يمثل عقوبة من سلطة خارجيه كالكنيسة أو الدولة. إن الطرد من الدين بالطريقة المسيحية والمودودية إعدام أو بالأخرى اغتيال، أما الارتداد فهو كالانتحار.. يمكن أن تُعدِم أو تغتال إنسانا، ولكنك لا تستطيع أن تقتله وتقول صادقا: إنه انتحر.

ردَّ فعلٌ متعدٍ، يردُّ رداًّ. قال تعالى: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ… فهو مردود، قال تعالى: وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ . ارتدَّ فعل لازم، يرتدُّ ارتدادا فهو مرتدّ. وبهذه الصيغة يكون الفعل صادرا من الفاعل وحده، ولا ينسب إلى غيره.. فلا يكون مرتدا ولم يرتدد إذا نسبه أحد أو حكم عليه بالارتداد. الارتداد عن الدين أو الرأي عملية عقليه قلبية، يملكها المرتد وحده، ولا يمكن أن يُرَدَّ حقيقةً إلا إذا شاء هو بنفسه أن يرتد.

نزلت سورة (الكافرون) في أوائل البعثة النبوية، وهي بيان مباشر لمسألة حرية الضمير. طلب القرآن الكريم من النبي إبلاغ الكافرين بأنه ليس ثمة نقطة التقاء بين منهجهم ومنهجه في الحياة. ونظرًا لعدم اتفاقهم معه في المبادئ الأساسية للدين وفي التفاصيل أيضًا، فلا يمكن التوفيق بينهما، وإذًا

لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (الكافرون: 7).

وأُخبِرَ النبي مراتٍ متعددة بألا يقلق من رفض الكفار لرسالته، فهو ليس وكيلا عليهم، يقول الله تعالى:

وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (الأَنعام: 67).

نزل هذا التصريح في مكة، عندما كان النبي وأصحابه هم الذين يتعرضون للاضطهاد. وعندما هاجر النبي إلى المدينة بقي الإعلان تماما كما هو دون أي تغيير .. مع أنه أصبح قويًا ذا شوكة. والحقيقة أن هذا الإعلان قد أكده إعلان آخر.. فأول سورة مدنية، وهي سورة البقرة.. تناولت موضوع الحرية الدينية، وصدر فيها أوضح بيان بشأنها:

لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (البقرة: 206).

هذا هو الإعلان الواثق الصادر من النبي ، الذي نظم أمته في مدينته حيث كانت له السلطة العليا. ومخافة أن يُساء فهم موضوع الجهاد.. بينت سورة البقرة للمسلمين أن البر الحقيقي هو العمل الصالح والإيمان الصادق. (169 إلى 243)، وذكَّرتْهم بجلال الله في آية الكرسي (206). وتلا ذلك مباشرة إعلان (لا إكراه في الدين). فقد يحسب قراء القرآن الكريم أن الله تعالى يريد منهم نشر الإسلام بالقوة، لأنه أمرهم بقتال أعداء الأمة وبذل تضحيات خاصة في هذا السبيل، لذلك تخبر الآية المسلمين، وبعبارة لا ينقصها التأكيد، ألا يلجأوا إلى العنف باسم إدخال الناس في الإسلام.

ويمكن تقدير أهمية هذه الآية من حديث رواه الترمذي عن النبي يقول:

” إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ سَنَامًا وَإِنَّ سَنَامَ الْقُرْآنِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ، وَإِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ لُبَابًا وَإِنَّ لُبَابَ الْقُرْآنِ الْمُفَصَّلُ” (سنن الدارمي، كتاب فضائل القرآن).

يشير إلى الآيات الأربع الأولى من السورة، وآية الكرسي، وآيتين بعدها، ثم الآيات الأربع الأخيرة).

وتكرر ذكر مبدأ عدم الإكراه في الدين بعد معركة بدر في سورة آل عمران (21)، ثم في سورة المائدة وهي آخر ما نزل من السور. أما وقد توطدت سلطة محمد بالكامل.. ليس في المدينة وحدها، بل وفي مكة أيضا، كان التأكيد على أن الدور الوحيد للنبي هو تبليغ كلمة الله. وقوله:

وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (المائدة: 93)..

وأخيرا قوله:

مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (المائدة: 100).

فالعقيدة الدينية موضوع شخصي، والله وحده.. وليس الحكومة أو السلطات الدينية هي التي تعرف ما يعلنه المرء وما يخفيه.

وتفضي هذه الآية إلى موضوع المنافقين. وتصف كلمة (المنافقين) فئة من سكان المدينة أظهروا إسلامهم، ولكن إيمانهم مشكوك فيه لأسباب متنوعة. وقد ورد ذكرهم مرات عديدة في القرآن، ولكنهم وصفوا بأنهم مرتدون في أربع مرات منها: أولها في سورة (محمد)، وهي سورة مدنية تصف بإيجاز أهداف الحرب في الإسلام، وتقول السورة أنه في حين يرحب المؤمنون بما ينزل من وحي يأمرهم بقتال في سبيل الله.. فإن المنافقين يشعرون وكأنهم يساقون إلى الذبح. وهكذا يتميز المؤمنون الصادقون عن ضعفاء الإيمان والكاذبين. تقول السورة:

إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (محمد: 26-27).

فلا تذكر هذه الآيات أية عقوبة لهؤلاء الناس.

وردت الإشارة الثانية عن المنافقين في سورة (المنافقون) والتي نزلت في أواخر السنة السادسة بعد الهجرة. وتكشف السورة كفر المنافقين وخداعهم، وتدين إيمانهم بالكذب والغدر، وتؤنبهم الآيات علانية فتقول:

وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ * وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ * سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (المنافقون: 2-7).

ووردت الإشارتان الأخيرتان عن المنافقين في واحدة من أواخر السور نزولا، هي سورة التوبة قال تعالى:

لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِين (التوبة: 66).

وواضح أن الذين يعفى عنهم هم من المنافقين الذين تابوا وعادوا مسلمين مخلصين. أما الذين يعاقبون فتحددهم السورة بعد ذلك وتقول:

وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ (التوبة: 66).

وجاءت الإشارة الأخيرة في قوله تعالى:

يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِير (التوبة: 74).

كان النبي يعرف أن عبد الله بن أُبي بن سلول كان رأس المنافقين، ولكنه لم يتخذ ضدَّه أيَّ إجراء. بل صلى النبي عليه صلاة الجنازة عند موته. روي أن عمر ابن الخطاب قال: “لما توفي عبد الله بن أُبي، دُعِيَ رسول الله للصلاة عليه، فقام إليه. فلما وقف عليه يريد الصلاة تحولتُ حتى قمتُ في صدره، فقلت: يا رسول الله، أتصلي على عدو الله عبد الله بن أُبي بن أبي سلول؟ القائل كذا يوم كذا…؟ أُعدِّد أيامَه، ورسولُ الله يبتسم حتى إذا أكثرتُ قال: يا عمر، أخرِّ عني، إني قد خُيِّرتُ فاخترتُ، قد قيل لي: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم.. إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم). فلو أعلم أني إن زدت على السبعين غفر الله، لزدت. قال: ثم صلى رسول الله ، ومشى معه حتى قام على قبره حتى فرغ منه”. (سيرة ابن هشام).

إن حرية التحول هي المحك الحقيقي لمبدأ (لا إكراه في الدين). لا يمكن أن تكون الحرية في اتجاه واحد.. اتجاه دخول الإسلام.. ثم لا مخرج منه. هناك عشر إشارات في القرآن إلى الرجوع عن الإسلام، إحداها مكية في سورة النحل والتسع الباقية في سور مدنية.. ولم يصدر قط أية واحدة منها.. ولو تلميحا.. أن الإعدام جزاء من يرجع عن الإسلام.

ومن أوضح التصريحات القرآنية عن الارتداد ما ورد في سورة البقرة حول موضوع تغيير القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة في مكة. يروي ابن إسحاق: “ولما صُرِفتْ القبلة عن الشام إلى الكعبة، أتى رسول الله رفاعةُ بن قيس، وقردم بن عمر، وكعب بن الأشرف، ورافع بن أبي رافع، والحجاج بن عمر، والربيع بن الربيع بن أبي الحقيق، وابنه كنانة، فقالوا: يا محمد، ما ولاك عن قبلتك التي كانت عليك نتبعك ونصدقك”. وإنما يريدون بذلك فتنة عن دينه. فأنزل الله تعالى فيهم:

  وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ..

أي ابتلاء واختبار..

وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ.. (المرجع السابق).

ولم يقرر القرآن عقوبة لهؤلاء المنقلبين (المرتدين). ولا يسجل لنا التاريخ أن أحدا عُوقب بعد واقعة تغيير القبلة.

نزلت سورة آل عمران المدنية بعد انتصار المسلمين يوم بدر في السنة الثانية من الهجرة، وفيها آيتان نزلتا في شأن ارتداد بعض اليهود في المدينة:

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (آل عمران: 72-73).

وذكر ابن إسحاق أسماء أولئك الذين دبروا هذه المؤامرة فقال:

” قال عبد الله بن صيف، وعدي بن زيد، والحارث بن عوف، بعضهم لبعض: تعالوا نؤمن بما أنزل على محمد وأصحابه غدوةً، ونكفر فيه عشية، حتى نلبس عليهم دينهم لعلهم يصنعون كما نصنع ويرجعون عن دينه”. (المرجع السابق). ولم يعاقب أحد من هؤلاء اليهود الثلاثة.

وآية أخرى في سورة (النساء) تقول:

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (النساء:138).

كيف يمكن للمرتد أن يتمتع بمهلة التردد بين الإيمان والكفر إذا كانت عقوبته القتل؟ وليس عند المقتول فرصة ليؤمن ثم يرتد مرة أخرى!

السنَّة الشريفة هي أفعال النبي وتصرفاته بإلهام السماء، وهي المصدر الثاني للشريعة الإسلامية .. وليس في السنة النبوية عقاب للخروج من الإسلام. وأسماء الأشخاص الذين أُعْدِموا تحفظها لنا السيرة الكريمة والحديث الشريف، كما تحفظ لنا أسماء الذين ارتدوا. هناك أعرابي دخل الإسلام على يد النبي ، وأصابته الحمى وهو في المدينة. فسأل النبي أن يعفيه من بيعته، وكرر طلبه ثلاث مرات، وكان النبي يرفض طلبه في كل مرة. وغادر الرجل المدينة دون أن يزعجه أحد. ولما سمع النبي قال: “المدينة كالكير تنفي خبثها”. (البخاري)

ويروي ابن اسحاق أن النبي قد عهد إلى أمرائه من المسلمين حين أمرهم أن يدخلوا مكة، ألا يقاتلوا إلا من قاتلهم.. إلا أنه سمى نفرا أمر بقتلهم ولو وُجدوا تحت أستار الكعبة وهم:

  1. عبد الله بن سعد بن أبي سرح،

2، 3، 4.  عبد الله بن خطل من بني تيم بن غالب، وقينتاه اللتان كانتا تتغنيان بهجاء النبي .

  1. الحُوَيْرِثْ بن نُقَيد بن وهب بن قُصيّ،
  2. مقيس بن حبابة،
  3. سارة مولاة بعض بني عبد المطلب،
  4. عكرمة بن أبي جهل.

أما عبد الله بن سعد فكان واحدا ممن يكتب للنبي ، فارتد مشركا، ورجع إلى كفار مكة. ولكونه من كتبه الوحي بإملاء من النبي، وموضع ثقته .. ففي فراره هذا تشويش على صحة الوحي نفسه. ولما اطمأن الناس في مكة استأمن له عثمان بن عفان ، أخوه في الرضاعة، فعفى عنه النبي . وما كان النبي ليفعل ذلك أبدا لو كان هناك حد في القرآن للارتداد. إن سياسة النبي بصدد الشفاعة في حدود الله معروفة، وتبينها تماما حادثة المخزومية التي أدينت بالسرقة، وعندما حاول أسامة بن زيد رضي الله عنهما التشفع لها، عنفه النبي قائلا

“أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ؟ .. وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا” (صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء).

أما ابن خطل، فقد بعثه النبي لجمع الزكاة، وبعث معه رجلا من الأنصار يخدمه. فنزل منزلا، وأمر الخادم أن يذبح تيسا ويصنع له طعاما. فنام واستيقظ ولم يصنع شيئا. فعدا عليه وقتله. ثم ارتد مشركا، ورجع إلى مكة، ونفذ فيه حكم الإعدام سعيد بن حريث المخزومي وأبو برزة الأسلمي لجريمة قتل الأنصاري المسلم.

أما المغنيتان فقد أعدمت إحداهما بسبب هجائها المثير للفتنة، وعفي عن الأخرى.

كان الحويرث ابن نقيدة من بين جماعة الهبار بن الأسود بن المطلب، الذين أدركوا السيدة زينب بنت محمد وهي تغادر مكة قاصدة المدينة. فنخث الحويرث جملها فأوقعهما على الأرض. وكانت حاملا، فأجهضت، واضطرت للرجوع إلى مكة. وقد أرسل النبي عددا من الرجال، وأمرهم أن يقتلوا هبار بن الأسود والحويرث إذا وجدوهما، ولكن الحويرث فر هاربا.

وفي رواية أخرى أن العباس بن عبد المطلب حمل فاطمة وأم كلثوم ابنتي النبي من مكة يريد بهما المدينة، فنخس بهما الحويرث، فرمى بهما إلى الأرض. (المرجع السابق).

وأخيرا قتله عليٌّ في مكة. (الزرقاني، شرح المواهب اللدنية).

أما مقيس ابن حبابة، فقد جاء النبي في المدينة وقال له: جئتك مسلما، وأريد ديَّة أخي الذي قُتل خطأ. فأمر النبي  أن يدفعوا له دية أخيه هشام. مكث مقيس مع النبي لفترة بعد أن تسلم الدية. ثم وجد فرصة، فقتل الأنصاري قاتل أخيه، وارتد إلى مكة كافرا. فأعدم مقيس هذا بسبب جريمة قتل الرجل بعد أن أخذ الدية.

وكانت سارة تؤذي النبي في مكة، واستؤمن لها النبي فأمنها، ولم تقتل في زمن النبي .

وفرَّ عكرمة بن أبي جهل إلى اليمن، وأسلمت زوجته أم حكيم، واستأمنت له النبيَّ فأمَّنه، وعاد إلى النبي، وأسلم. وهكذا لا نجد هناك أي شاهد على أن النبي عاقب أحدًا لارتداده عن الإسلام.

أحدثت وفاة النبي عام 11 بعد الهجرة أزمة كبيرة في وجه الإدارة الإسلامية الحديثة. حدثت اضطرابات في الجزيرة العربية، وخرجت قبائل عديدة على حكومة المدينة برفضها أداء الزكاة. وعرفت هذه الحركة باسم (الردة). وكان الواجب الرئيسي على أبي بكر خليفة النبي أن يخمد هذا الاضطراب. وكان أول مهمة له غداة خلافته إنفاذ جيش بقيادة أسامة بن زيد إلى حدود الشام تنفيذًا لأمر النبي قبل وفاته.

بعد أن خرج أسامة بالجيش انشقت معظم القبائل على المدينة، ولم يبقى سوى مكة والمدينة وما حولهما على ولائهم للإدارة المركزية في المدينة. وأجبرت القبائل المنشقة عمال النبي الذين عينهم قبل وفاته، على ترك مراكزهم والعودة إلى المدينة. لقد كان تمردا أو ثورة اكتمل ريشها.

عزم سيدنا أبو بكر على قتال المتمردين، وأرسل إلى القبائل الموالية يدعوهم إلى معونته. وبينما كان أبو بكر في انتظار المدد أعد خارجة بن حزم هجوما مفاجئا على المسلمين بقيادة عيينة بن حصن الفزاري والأقرع بن حابس التميمي. وأُخذ المسلمين بالمفاجئة وفروا، ولكنهم استعادوا جأشهم، وكروا على خارجة ورجاله وهزموهم.

قبل موقعة (ذي القصة) جاء المدينة وفد من قبائل العرب للتفاوض مع أبي بكر حول موضوع الزكاة، ولكن أبا بكر رفض التفاوض. لم يوافق عدد من السابقين الأولين من المهاجرين على قرار أبي بكر بمحاربة مانعي الزكاة. فرغبة هذه القبائل في التفاوض دليل على أنهم لم يرتدوا، وأنهم لا يريدون قطع علاقتهم بالمدينة، ولكنهم غير مستعدين لقبول سيطرة المدينة عليهم. إنها لم تكن مسألة إيمانهم بالله ورسوله، ولكنها الزكاة. واعترض جماعة من الصحابة على قرار أبي بكر بحرب العصاة. وروي أن عمر قال لأبي بكر رضي الله عنهما: بأي حق تقاتلهم وقد قال النبي :

“أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإن قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم” (كتاب الأم للإمام الشافعي).

جمع أبو بكر المسلمين بعد مغادرة الوفد للمدينة وخطبهم قائلا:

“لقد رأى الوفد قلة عددكم في المدينة، ولا تعرفون متى يأتونكم نهارا أم ليلا، وهم على مرمى حجر من المدينة، ويريدون أن نقبل عرضهم ونتفق معهم، ولكننا أبيناهم. فاستعدوا لهجومهم فنهم فاعلون في غضون ثلاثة أيام”. (ابن جرير الطبري، تاريخ الرسول والملوك).

سالت دماء غزيرة في حرب الردة. ولم يكن مفهوما لدى المؤرخين للدولة الإسلامية من المتأخرين.. أنه بعد وفاة النبي كان من الضروري قيام حروب كثيرة على الأرض العربية.. فعزوا هذه الحقيقة الواقعة إلى حركة دينية مضادة للإسلام أسموها (الردة). ولما فشل الفقهاء في أن يجدوا سندًا من القرآن أو من سنة النبي لقتل المسلمين المتهمين بالكفر أو بالحرب ضد السلطات السياسية المسلمة.. تقبلوا الافتراض بدون ضجة زائدة.

يقول الإمام الشافعي في مناقشة لشرعية محاربة أبي بكر للمسلمين المتمردين: “والردة هي الرجوع من دين سابق إلى الكفر ورفض تحمل المسئولية السابقة”. (كتاب الأم للإمام الشافعي السابق). فالارتداد ليس كافيا لوحده، بل لا بد من أن يتفاقم بادعاءات أخرى كخرق لاتفاق. سأأ

وأوضح هذا الموضوع ابن أبي الحديد، وهو عالم من مدرسة مختلفة فقال: “إن القبائل التي رفضت أداء الزكاة لم يكونوا مرتدين، ولكنهم أطلق عليهم الصحابة هذه التسمية على سبيل المجاز”. (شرح نهج البلاغة لمحمد أبو الفضل ابراهيم).

والرد عند (ولهاوزن) كانت خصامًا مع قيادة المدينة، وليس مع الإسلام نفسه. أرادت معظم القبائل أن تمضي في عبادة الله بدون أداء زكاة. ويتفق (سيتاني) معه ويقول : “إن الردة لم تكن حركة للارتداد، وإنما كانت حروبا سياسية. ويتابعهما (بيكر) ويقرر أنه:

“أعطى موت محمد المفاجىء دعما جديدا للميول الطاردة عن المركز، وكانت سمات الحركة في جملتها خفية بالطبع كما فرضت نفسها على ملاحظة المؤرخين.. عن المعاصرين لها. فلولا انفصالية الردة وما ترتب عليه من ضرورة أثارت في حكومة المدينة تلك الطاقة التي دفعت بالجميع أمامها لغرقت بلاد العرب في الإقليمية.

لم تكن حرب الردة حربا ضد الخروج عن الدين، فلم يكن ثمة اعتراض على الإسلام، ولكن الاعتراض كان على فرض الجزية التي تؤدى إلى المدينة. فالحرب كانت تستهدف السيادة على جزيرة العرب.

ويبين (برنارد لويس) بوضوح تام أن وصف الأحداث بأنها ردة تحريفا لمغزاها الحقيقي عن طريق إضفاء صبغة دينية عليها بيد المؤرخين المتأخرين”.

ويمضي قائلا: “لم يكن رفض القبائل الاعتراف بخلافة أبي بكر في الواقع ارتدادا من المسلمين إلى وثنيتهم السابقة، ولكنه إنهاء بسيط وتلقائي لعقد سياسي بسبب موت أحد الطرفين. والقبائل المجاورة للمدينة دخلوا الإسلام، وكانت مصالحهم وثيقة بالأمر بحيث أنه لم يدون لهم تاريخ منفصل. أما الباقون فقد قطع موت محمد روابطهم بالمدينة تلقائيا، واستعادت الأطراف حرية العمل، ولم يشعروا بأي شكل أنهم مرتبطون بانتخاب أبي بكر الذي لم يكن لهم فيه يد. وعلى الفور أوقفوا علاقات الزكاة والمعاهدات. (مقالات الأسهري).

وكان على أبي بكر أن يعقد معاهدات جديدة ليستعيد بها سيطرة المدينة.

قتل الخليفة علي بن أبي طالب (40 هج 661م) ، وذهب معه مفهوم الحاكم المسلم الذي يجمع في شخصه رئاستي الدولة والدين. وبدأ عصر الملكية الأموي (661 إلى 750م) . وكان معاوية بن أبي سفيان أول حاكم سياسي في الإسلام. لم يكن لديهم الإطلالة الدينية التي كانت للخلفاء الصالحين، وكانوا يعتبرون ملوكا دنيويين تقريبا. وجاء العلماء الحفظاء على الشريعة ليشغلوا مناصب تشابه من وجوه عديدة مناصب رجال الدين /النصراني بعد دخول قسطنطين الكبير في النصرانية. كانوا كنظرائهم من رجال الدين في العصور الوسطى في أوروبا.. يلقون الاحترام لعلمهم وورعهم، وكانت مساندتهم مطلوبة لإسباغ الشرعية على السلطة السياسية لحاكم مستبد أو غير شعبي. وعملوا أيضا كقادة للمعارضة مفضلين اكتساب نفوذ لدى السلطة السياسية بدلا من أن يحصلوا عليها لأنفسهم.

والآن أصبحت الثورات السياسية أو الاجتماعية تبرر بتعبيرات دينية. وكذلك وجدت الصراعات بين البيوتات الحاكمة على السلطة السياسية قوالب تتصلب فيها داخل شقوق التعاليم الدينية. الخوارج والشيعة حركتان رئيسيتان انشقتا عن الجماعة العامة بعد مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان عام 644م، ونشأتا خلال الصراع على الخلافة. كان الخوارج هم أول من رأى أن مرتكب الكبيرة ليس مسلما. وهم أيضا أول من أعلن الجهاد ضد المسلمين الذين هم من وجهة نظرهم ليسوا مؤمنين حقا. كان هؤلاء الخوارج من حزب علي، ثم خرجوا عليه بسبب خلافهم معه على مسألة التحكيم بينه وبين معاوية بهدف تسوية الخلافات الناشئة عن مقتل عثمان قالوا: الحكم لله وحده وليس للمحاكم البشرية. كان الخوارج رواد مبدأ العقائد التعسفية، وكانوا مدققين بإزاء صفات المسلم وموقفه تجاه الإنسان، مسلما كان أو غير مسلم. كانت هذه الطائفة أول مذهب محدد يظهر في الإسلام، كما كانت الأولى أيضا في رفض مبدأ النجاة بالإيمان.. إذ كانوا يرون أن مرتكب الكبيرة لم يعد مسلما، ولا يمكن أن يرجع للإيمان، بل يجب قتله وأسرته معه. واعتبروا أن كل من ليس منهم خارجٌ على القانون وغير مسلم.

وكما رأينا سابقا أن النبي عرف المنافقين في المدينة وكبيرهم عبد الله بن أبيّ، ومع ذلك لم يتخذ ضده أي إجراء عقابي.. أي إنه لم يصدر حكما على إيمان المسلم.

تصادم الخوارج مباشرةً مع تعاليم القرآن وسنة النبي . وكان إعلانهم (لا حكم إلا لله فقط) مخالفةً تامة للسنة، عين النبي سعد بن معاذ حكمًا ليحكم في مصير قبيلة بني قريظة اليهود، ونفذ فيهم حكمه. يعلق الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم بخصوص حكم سعد هذا قائلا: ” كان مباحا للمسلمين أن يلجأوا إلى التحكيم”.  والواقع أن واجب جماعة المسلمين أن يصلحوا بين أي فريقين متحاربين من المسلمين. يقول القرآن:

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (الحجرات: 11).

فقذفُ المسلمين بالكفر ثم عقابهم على ذلك، لأن خصائصهم لا تتفق مع معيار مرجع ديني معين، ابتداعُ  تكفير دخيل على الإسلام.

يناقش(برنارد لويس) موضوع التكفير ويقول:

“.. بل إن العصيان العلني لا يعني التكفير تلقائيا. ففي عام 923 رفض القاضي الكبير ابن بهال أن يدين المتمردين الكارماتينيين بالكفر، لأنهم استهلوا رسائلهم بالتوسل إلى الله وإلى النبي. ومن ثم فهم، بحسب الظاهر، مسلمون. ويصر الفقه الشافعي على أن الطائفي، وإن كان متمردا، له حق المعاملة كمسلم، بمعنى أن تحترم أسرته وممتلكاته وألا يتعمد إعدامه أو استرقاقه عندما يقع في الأسر.

وعلى أية حال، فالتكفير من تأليف الفقهاء. فكما رأينا أن التكفير كان حجة الخوارج لاتهام علي . ولما تبنى الفقهاء هذه البدعة الخارجية لم يعد باستطاعتهم الاتفاق على تعريف للمسلم.

إن محاولة تفتيش ثلاثة عشر قرنا من التاريخ الإسلامي بحثًا عن عدد الذين قتلوا بسبب خروجهم عن الإسلام عمل لا طائل منه. كانت هناك محاولات فاشلة لقتل الميمونيين في القاهرة، وأمير يونس الماروني، وتعذيب رشيد الدين في تبريز، ولكن مثل هذه الأمثلة كانت نادرة للغاية. وفي الهند إبان حكم المغول حالة واحدة مسجلة، فقد دخل الإسلام راهب برتغالي، ثم ارتد إلى دينه الأول، فأعدم في (أورانج آباد). كان إعدامه لأسباب سياسية وليست دينية، إذ كان الرجل موضع شبهة قوية لصالح البرتغال مستترًا بإسلامه.

وأُعدِم جعد بن درهم في الكوفة بأمر هشام بن عبد الملك عام 124 أو 125 ه بتهمة اعتقاده بكفر المعتزلة من خَلق القرآن وحرية الإرادة. وفي عام 127ه اتهم الشاعر العراقي بشار بن برد بالزندقة، فضرب وألقي به في مستنقع في البطحاء. وقتل الحسين بن منصور الحلاج عام 309ه بتهمة التجديف، لأنه قال بالحلول (الاتحاد مع الله). وأعدم شهاب الدين يحيى السهروردي بأمر الملك الظاهر عام 578ه، وكانت جريمته أنه اعتبر كل ما هو حي و أو يتحرك يتخذ وجوده على أنه حقيقة، بل وأسس دليله على رمز الضوء.

كان شهيد القرن السابع عشر هو محمد سعيد سرمد ولدًا لأبوين يهوديين في كاشان. وكان قبل إسلامه حبرًا وشاعرا عظيما في الفارسية، وكان أحديًا ينكر وجود المادة.. أعدم في عصر أورانجزيب (1658.. حكم 1707م). ويقع مزاره مقابل المسجد الجامع في دلهي، ويجذب مئات المسلمين لزيارته حيث يضعون الزهور على قبره، ويقرأون له الفاتحة.

وفي أفغانستان قُتل أحمديان لأنهما قبلا دعور مرزا غلام أحمد القادياني بأنه المسيح الموعود. أولهما صاحب زاده عبد اللطيف الذي قام بمراسم تتويج الأمير حبيب الله خان.. رجم حتى الموت عام 1903م، والثاني المولوي نعمة الله عام 1924م. وقد مُنحا الفرصة للتبرئ من دعاوي مرزا غلام أحمد، ولكنهما رفضا.

وأعدم محمد محمود طه في السودان عام 1985م، لأنه كان يعتقد بأن ما نزل من القرآن في المدينة لم يعد ساريا في هذا العصر.

ومما له مغزى كبير أن السلطان العثماني وهو عاهل إمبراطورية دينية و(خليفة كل المسلمين)، لم يأمر بإعدام بهاء الله (1817.. 1892) بعد ارتداده. لقد أعلن بهاء الله أنه القائم المنتظر، الذي أخبر عنه الباب، وأسس دين البهائي الذي يخالف دين الإسلام تماما. وزعم أن ظهور بهاء ينسخ التعاليم ودين محمد . سجن بهاء الله في سجن عكا بالقرب من حيفا بفلسطين. ولكن عندما أعلن سابّاتي زيفي (1627.. 1676) اليهودي الصوفي الذي ادعى بأنه المسيح عام 1648 أصدر شيخ الإسلام حكما بإعدامه فقبض عليه، وتراجع عن دعواه لينجو من عقوبة الموت ودخل الإسلام. ومع ذلك لم يعدم رغم ردته، لأنه لم يكن يمثل خطرا على القانون والنظام في الإمبراطورية العثمانية.

وكما رأينا فإن مفهوم الردة مخالف للإسلام ولم تشرع عقوبة دنيوية للخروج عن الإسلام. ولكن العلماء الذين جاءوا إلى محكمة التحقيق المشكَّلة بقانون بنجاب، مادة 2 لعام 1954 للتحقيق في فتن عام 1953.. أكدوا أن عقوبة الارتداد في الإسلام هي الموت.

وضمت القائمة كلا من هؤلاء العلماء:

مولانا أبو الحسنات سيد محمد أحمد القادري رئيس جمعية علماء باكستان، بنجاب.

مولانا أبو الأعلى المودودي مؤسس وأمير سابق للجماعة الإسلامية المودودية، باكستان.

مفتي محمد إدريس، مدير الجامعة الأشرفية، لاهور، وعضو جمعية علماء باكستان.

مولانا داود الغزنوي، رئيس جماعة أهل الحديث، باكستان.

مولانا عبد الحليم القاسمي، جمعية علماء الإسلام، بنجاب.

السيد إبراهيم علي الجشتي.

وقد علقت محكمة التحقيق على تأكيدهم هذا بقولها:

“بناء على هذا المذهب.. يجب إعدام شودري ظفر الله خان إذا لم يكن ورث معتقداته الحالية، وكان قد اختار بإرادته الحرة أن يكون أحمديا . ولا بد  أن يلقى نفس مصير الديوبنديون والوهابيون (بما فيهم مولانا محمد شفيع الديوبندي عضو مجلس تعليم الإسلام الملحق بالمجلس الدستوري لباكستان، ومولانا داود الغرنوي).. لو وصل إلى رئاسة الدولة الإسلامية أي واحد من العلماء المتربعين على كل ورقة من شجرة الفتوى الجميلة.. EX.D.E 14

ولو كان مولانا محمد الشفيع الديوبندي رئيسا للدولة لاستبعدوا من الإسلام أولئك الذين اتهموا الديوبنديين بالكفر، ولأنفذ فيهم حكم الإعدام إذا انطبق عليهم تعريف المرتد، أي لو أنهم كانوا غيروا عقيدتهم ولم يرثوها.

وتشككت المحكمة في حقيقة فتوى الديوبنديين [Ex.D.E13] القائلة بأن الشيعة الإثنى عشرية كفار ومرتدون. ولكن مولانا محمد شفيع بحث الموضوع من ديوبند، وتسلم من سجلات المعهد نسخة الفتوى ممهورة بتوقيع كل المعلمين في دار العلوم، بما فيهم مولانا محمد شفيع نفسه. وتقول السجلات المذكورة أن أولئك الذين يعتقدون في صحابية حضرة الصديق الأكبر والذين يقذفون حضرة عائشة الصديقة، والذين اقترفوا جريمة تحريف القرآن.. كافرون. ويشارك في هذا الرأي السيد إبراهيم علي الجشتي الذي يعرف هذا الموضوع ودرسه، ويحسب الشيعة من الكفار لأنهم يعتقدون أن حضرة علي يشارك النبي في نبوته. ورفض السيد إبراهيم الرد على سؤال يقول: هل السني الذي يغير آراءه و يوافق على عقيدة الشيعة يُعدُّ مرتدا مستحقا للقتل؟ وعند الشيعة، كل أهل السنة كفار، وكذلك أهل القرآن كفار (الذين يعتبرون الحديث غير جدير بالثقة ومن ثم لا يؤخذ به) وهكذا كل المفكرين المستقلين كفار. والنتيجة أنه لا الشيعة، ولا أهل السنة، ولا الديوبنديون، ولا أهل الحديث، ولا البريلويون مسلمون.. وإذا ما قبضتْ على دفة الحكم جماعةٌ من هؤلاء الذين يكفِّرون غيرهم.. فإن عقوبة الإعدام تنتظر كل من يتحول من فكر إلى آخر.

ولا يحتاج الأمر إلى كثير من التصور للحكم على تبعات هذه التعاليم إذا تذكرنا أنه لم يتفق عالمان اثنان أمامنا على تعريف صحيح للمسلم. وفي الحقيقة، لو أُخذ بتعريفاتهم إجمالا.. فإن الأسس التي يتهم به المرء بالكفر تصبح كثيرةً كثرةً تفوق الحصر.

(يتبع)

Share via
تابعونا على الفايس بوك