في عالم التفسير
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ* إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ * عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا) (التحريم: 2-6)

شرح الكلمات:

صَغَت: مالَت لاستماع النصح.

التفسير:

اختلفت الرواة في أسباب نزول هذه الآيات، فقيل: إن رسول الله وطئ ماريةَ أمَّ ولدِه إبراهيم أو جاريةً في بيت من بيوت إحدى زوجاته، وعلى الأغلب بيت حفصة، فغضبت. فأراد النبي أن يرضيها بأن يُحرِّم على نفسه زوجته مارية، وطلب إلى حفصة أن تخفي ذلك، ولكنها أخبرت عائشة به، فأنبأه الله تعالى بذلك، فهجر زوجاته شهرًا.

هذه القصة أو الرواية لا يعتد بها أكثر المفسرين، ولكن الكُتّاب المسيحيين وجدوا فيها فرصة للطعن في شخصية الرسول ، فقالوا عنه ما شاء الحقد والبغض أن يُمليه عليهم. ولا يستأهل كلامهم الواهي أي تفنيد أو تعليق.. فمارية ليست بسرية، بل كانت أم الولد، وهي زوجة من زوجاته أي إحدى أمهات المؤمنين، ولها في نفوسنا من التبجيل ما لغيرها من زوجات الرسول ، ثم إنه عليه الصلاة والسلام لم تكن له أية جارية.

والرواية الأخرى عن سبب نزول هذه الآيات، وهي الرواية التي أخذ بها المفسرون، هي أن بعض أزواج النبي قدمت إليه شرابًا صنع من العسل، أن الغيرة دفعت بعض أزواجه الأخريات أن يقلن له عندما ذهب لزيارتهن أن رائحة فمه كرائحة المغافير، وهو نوع من العشب يشبه العسل في الطعم، ولكن رائحته كريهة. ولرقة طبع الرسول قيل إنه حرم على نفسه تناول العسل.

ولكن يبدو أنه من المستبعد عن رسول الله أن يلجأ إلى ذلك المسلك القاسي إرضاء لغيرة بعض زوجاته ويحرم على نفسه طعامًا حلالا، خاصة وأنه وصف في التنزيل العزيز بأن فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ (النحل: 70). ويظهر أن الراوي أو رواة الواقعة قد اختلط عليهم الأمر، خصوصًا وإننا نجد أن بعض الأحاديث تقول بأن الرسول قد شرب العسل في بيت زينب وأن عائشة وحفصة هما اللتان سعتا لتحريم شرب العسل على نفسه. وتذهب أحاديث أخرى إلى القول بأن حفصة هي التي قدمت العسل للنبي ، وأن الاعتراض كان من جانب عائشة وزينب وصفية. ويبدو بالإضافة إلى ما تقدم أن بعض الأحاديث تذهب إلى أن الواقعة تتعلق بزوجتين أو ثلاث على الأكثر من زوجات النبي ، بينما يظهر من قوله تعالى: تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ ، ومن قوله: عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ ، أن الواقعة أعظم من قصة عشب المغافير، وقد تواطأت فيها زوجات النبي بزعامة اثنتين منهن.

ورد في الروايات عن عبد الله بن عباس، أنه كان حريصًا على أن يسأل عمر عن المرأتين من أزواج النبي اللتين قال الله لهما: إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا . وعندما واتته فرصة الانفراد معه ذات مرة وهما في طريقهما إلى الحج، فما أن سأله حتى رد عمر قائلاً: “واعجبي لك، يا ابن عباس، عائشة وحفصة”. ثم إن عمر لم يكتف بالرد على السؤال بل تابع الحديث وقال: “كنا معشر قريش نغلب النساء، فلما قدمنا على الأنصار، إذا هم قوم يغلبهم نساؤهم. فطفق نساؤنا يأخذنه أدب نساء الأنصار. فصحتُ على امرأتي، فراجعتني. فأنكرتُ أن تراجعني، فقالت: ولم تُنكر أن أراجعك، فوالله، إن أزواج النبي يراجعنه، وإن إحداهن لتهجره اليوم حتى الليل.”

ثم إن عمر ذهب إلى ابنته حفصة وأنَّبها ونهاها عن تقليد عائشة، إذ أنها أقرب إلى قلب الرسول . ولما خرج من عند ابنته ذهب إلى أم سلمة التي تربطه بها صلة قرابة وقص عليها الأمر. فقالت له: عجب لك، يا ابن الخطاب، دخلتَ في كل شيء حتى تبتغي أن تدخل بين رسول الله وأزواجه. ثم لما شاع الخبر بأن النبي قد طلق زوجاته، إذ أن النبي كان قد قرر هجر زوجاته جميعًا لمدة شهر.. توجه عمر إلى الرسول ، فسأله، فأجاب بأنه لم يطلق زوجاته.

هذا هو ملخص ما رواه البخاري عن ابن عباس . (كتاب المظالم وكتاب التفسير، سورة التحريم).

كذلك يؤخذ مما روي عن عائشة رضي الله عنها أن الآية: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (الأحزاب: 29).. نزلت عقبَ تلك الواقعة مباشرة. (البخاري، كتاب التفسير، سورة الأحزاب).

إذن، فالأمر لم يكن أمر تواطؤ زوجين دفعتهما الغيرة إلى تدبير قصة العسل، وإلا لما شمل اللوم جميع زوجات النبي . ومن جهة أخرى لماذا يتحدث عمر عن نساء المدينة وجرأتهن على أزواجهن بخلاف نساء مكة إلا إذا كان هذا الأمر له علاقة بموضوع سؤال ابن عباس . ثم إذا ما لاحظنا أن هذه الآيات الأولى من سورة التحريم تقع مباشرة عقب سورة الطلاق. والطلاق كما نعلم انفصال له الدوام بخلاف الاعتزال الذي هو انفصال موقوت. ثم إذا أخذنا في الاعتبار أيضًا أن الرسول عندما أمر بأن يخير زوجاته بين العيش معه عيشة التقشف وبين تسريحهن أي طلاقهن إذا كُنّ يردن زينة الحياة الدنيا، فكل ذلك يدل على أن الموضوع كان شيئًا آخر.. يختلف تمام الاختلاف عن قصة المغافير، وهي حادثة لو أنها وقعت فعلاً فهي من التفاهة بحيث لا تستوجب كل ما حدث، وقد كان الدافع لها هو الغيرة وليس التمتع بزينة الحياة الدنيا. ومن ثم فلا علاقة لها بأسباب نزول هذه الآيات القرآنية.

وفي ضوء هذه الاعتبارات جميعًا يمكن بأن نقول بأن الآية يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ، معناها يا أيها النبي لم تتخذ هذه الطريقة، وتعتزل الحياة الزوجية التي أحلت لك، مع أنك تحرص على إرضاء زوجاتك، وهو حرص شجعهم على التطلع إلى متاع الحياة الدنيوية، مما صرفهم عن النظر إلى مقامك السامي كنبي مرسل من عند الله تبارك وتعالى، فأخذت مطالبهن تتزايد، وقد شجعهن على ذلك شدة حنوك عليهن.

لا شك في أن هذا السلوك قد أثر في قلب الرسول تأثيرًا عميقًا، وجعله يمتعض من تطلع زوجاته إلى حياة غير متقشفة.. فحلف ألا يعاشرهن مدة شهر ليُشعرهن بشدة غضبه. ولكن الله تعالى يقول له: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ . والمعنى أن ذلك الإجراء لا يتفق مع الشرع، فمجرد أن يحلف الإنسان اليمين لا يعني أن يصبح الشيء غير المشروع حلالاً، بل الواجب في مثل هذه الحالة هو التحلل من اليمين.

ننتقل بعد ذلك إلى قوله تبارك وتعالى: وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ ، من العسير أن نحدد واقعة معينة ونقول بأنها كانت موضوع الحديث السري بين الرسول وبين إحدى زوجاته، ولكن في حديث ابن عباس الذي ذكرناه آنفًا، نجد أن عمر قد ذكر أيضًا أن الرسول قال لعائشة: “إِنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا وَلَا عَلَيْكِ أَنْ لَا تَعْجَلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ”. ثم قال: إن الله تعالى قال: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمً . فقالت عائشة: “أَفِي هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ فَإِنِّي أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ” (صحيح البخاري، كتاب المظالم والغصب).

ويمكن أن نستنتج أن الرسول بدأ بمراجعة السيدة عائشة أولاً، وإن كنا لا نعلم كيف دار الحديث بينهما، وهل كان عن مسألة معينة بالذات، وغاية ما يمكن أن نستنتجه هو أنه كان يتعلق بصفة عامة بميل زوجاته إلى أطايب الدنيا، وأن الرسول قد طلب إلى عائشة أن تكتم ما دار بينهما.

وقد كان اختيار الرسول لعائشة لأنها هي وحفصة هما اللتان كانتا تتزعمان التواطؤ. ثم إنه ليس من المستبعد أن تكون عائشة قد أفشت ما أسره النبي إلى حفصة شريكتها في زعامة ذلك التواطؤ.

على أي حال، فإن الآية تلقننا درسًا في وجوب كتمان السر، وعلى الأخص إذا كان ذلك السر بين الزوجين، ويتعلق بأمور عائلية خاصة، أو إذا كان ذلك السر بين الرسول وأحد متبعيه، إذ لا تخرج زوجات النبي عن كونهن من زمرة متبعيه.

ويقول الله تبارك وتعالى: إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ .

إن التواطؤ كان بين زوجات النبي ، ولكن بما أن عائشة وحفصة هما اللتان كانتا على رأس ذلك التواطؤ، لذلك ورد الخطاب في الآية موجهًا إليهما بصيغة التثنية. هذا، فضلاً عن كونهما ابنتي المقربين إلى الرسول ، أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما.

ثم يتحول الخطاب إلى صيغة الجمع: عَسَىٰ رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا .. أي أنه إذا فضلت أزواج النبي الحياة الدنيا وبالتالي اخترن قطع العلاقة الزوجية، فإن الله تعالى يستبدل بهن زوجات ثيبات وأبكارًا يتصفن بتسليم أمرهن لله تعالى والإيمان والطاعة والاتجاه دائمًا إلى الله ، والإخلاص في العبادة والتمسك بالصوم.

عرفنا أن موضوع الآيات في سورة التحريم ما كان يتعلق بغيرة بعض زوجاته عليه الصلاة والسلام، وإنما بسبب تطلعهن على متاع الحياة الدنيا. مما حدا به إلى هجرهن لمدة شهر. وفي ذلك نزل قوله تبارك وتعالى: يا أيُّها النَّبي لِمَ تُحَرِّمُ ما أحَلَّ اللهُ لك .

وهنا قد يبدو أن النبي قد لجأ إلى هذه الوسيلة وفقًا لتعاليم القرآن المجيد بهجر النساء في بعض الحالات. ومن ثم يبدو غريبًا أن يعاتبه الله في عملٍ عمِلَه وفقًا للشريعة.

والواقع أن هذه الحادثة لا تنطبق عليها الحالات التي تبيح هجر الزوجات لمدة معينة، وهي التي تضمنها قوله تبارك وتعالى: .. وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ.. (النساء: 35). وحسب هذه الآية الكريمة يكون هجر الزوجة في حالة النشوز. “والمرأة الناشز هي المرتفعة الصوت على زوجها، التاركة لأمره، المعرضة عنه، المبغضة له (تفسير ابن كثير)”.

ولم تكن زوجات الرسول يتصفن بأي صفة من هذه الصفات الذميمة. وعلى ذلك فالآية تتحدث عن موضوع تطلع زوجات الرسول للأطايب الدنيوية، أو بعبارة أخرى لم يكن هجر الرسول لزوجاته عملاً يناسب علاج الحالة التي واجهته علاجًا حاسمًا، ويتفق في نفس الوقت مع حرصه دائمًا وأبدًا على المحافظة على إرضائهن. ولذلك وجهه الله تبارك وتعالى إلى العلاج المناسب وهو تخييرهن بين البقاء معه مع صرف النظر عن المتع الدنيوية، وبين الطلاق.

وهنا قد يتساءل الإنسان أيضًا: إذا كان الله قد أحلَّ الزينة الدنيوية والرزق الطيب طبقًا للآية: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ.. (الأعراف: 33).. وذلك دون إسراف طبقًا لقوله تعالى قبل هذه الآية مباشرة: إنَّهُ لاَ يُحِبُّ المــُسْرِفِيْنَ .. كذلك نقرأ في التنزيل العزيز: الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ* أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ * وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ (هود: 1-4).. كما نعلم من السيرة أن أحوال المعيشة في بيت الرسول كانت ضيقة إلى حد كبير. فلماذا يغضب الرسول عندما تطالبه زوجاته بإنهاء حالة الضيق هذه، وهو طلبٌ يبدو معقولاً طبقًا لما تضمنته الآيتان المذكورتان، كما وأنه طلبٌ قُدِّم للرسول في الوقت المناسب بعد أن مضت حالة الضنك التي كان فيها المسلمون.. إذ حدث ذلك في السنة السابعة أو الثامنة للهجرة.. أي بعد واقعة الخندق وما تلاها من القضاء على بني قريظة واستيلاء المسلمين على مغانم كثيرة. من ثم يبدو أن مطالبة نساء النبي بتغيير الحالة كانت طلبًا لا غبار عليه، اللهم إلا إذا قلنا أن طلبهن كان يتسم بطابع الشطط، وهو ما نستبعده عن نساء النبي، وعلى الأخص أن يكون البادئ به أو المدبر له عائشة وحفصة ابنتي أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. إذًا لم يبق إلا أن نقول أن الطلب كان معقولاً، وإن كان مشوبًا بإلحاح. أو على أكثر تقدير مغالى فيه إلى حد ما. الأمر الذي لا يستحق مواجهته بمثل هذه الشدة حتى يكاد الموقف يصل إلى حد الطلاق.

ولكنا إذا ما أعدنا النظر في القرآن المجيد نجد أن الأمر كان ينطوي على خطورة بالغة ذات أثر بعيد المدى. عرفنا مما سبق أنه عندما هجر النبي زوجاته نزل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (الأحزاب: 29-30).

ثم يلي ذلك قوله تبارك وتعالى: يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا * وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (الأحزاب: 31-32).

ويتلو ذلك وعظ زوجات النبي وما ينبغي أن يتحلين به، ويبدأ ذلك الوعظ الإلهي بعبارة: يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ .

ويتضح من هذه الآيات الكريمة أن وضع نساء النبي يختلف عن وضع باقي النساء. ولكن لماذا هذا الفرق حتى أنه يضاعف لهن العقاب إذا ما ارتكبن خطيئة؟ يفهم من الآيات السابقة أن السبب في ذلك هو كونهن زوجات النبي أي زوجات المثل الأعلى الذي يقتدي به الناس، وهو الحاكم الذي يتحمل مسؤولية صلاح الرعية. ومن ثم ينبغي أيضًا أن تكون أسرته مثلاً أعلى للأسوة. ومن هنا تتضح مسؤوليتهن الخطيرة. فمن شأن الثروة المادية، كما نعلم، أن تجر وراءها الاهتمام بالشؤون الدنيوية والرغبة في الراحة والمعيشة الناعمة، ويستتبع ذلك التكاسل في العبادة والتضحية. ويبدأ هذا الداء أولاً في محيط الأسرة ثم تنتقل عدواه إلى غيرها من الأسر. وهكذا يشيع الفساد ويسري في طبقات الأمة، فتتركه إلى الدعة واللهو، فتنكبُّ على ملذات الحياة، وتنحرف عن الطريق المستقيم الذي يحفظ على الأمة كيانها، ويعود عليها بالخير في الدنيا والآخرة.

ولما كان من أهم واجبات الرسول أن يقاوم ذلك الانحراف الخطير الذي يُعد من أهم أسباب تدهور الأمم وانحلالها لذلك يقتضيه واجبه أن يلتزم هو وأسرته جانب التشدد في الأخذ بأطايب الحياة الدنيوية، لأنه هو وأسرته المثل الذي يقتدي به الناس. وأي توسع في محيط أسرته لا بد من أن ينتشر بين الناس بسرعة وبدرجة أعظم. وليس معنى ذلك أن تعيش أسرة الحاكم في تقتير وفقر مدقع، ولكن المقصود هو أن يستقر في ذهن كل فرد منها أن واجباته ومسؤولياته في هذا المجال لا تقتصر على محيط الأسرة فحسب، وإنما ينعكس أثرها على الأمة، أو بعبارة أخرى إن واجبات ومسؤوليات النبي وأهله في هذا الصدد لا تنحصر في بيئة الأسرة الضيقة، وإنما تشمل أيضًا الأمة التي تقتدي بهم.

ومن هنا ندرك معنى قوله سبحانه وتعالى لزوجات النبي : يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ . ولهذا كله قال تعالى لهن: مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ .

قد يبدو للبعض أن هذا القضاء الإلهي يتسم بالقسوة، إذ ما دامت الجريمة واحدة فلماذا هذه التفرقة في توقيع عقوبة أشد على نساء النبي؟ والواقع أن الأمر على خلاف هذا. قد يكون الجرم من نوع واحد، وخطأ زوجة من زوجات أي رجل من المسلمين لا يعدو أن يكون خطأ في حق نفسها أو زوجها أو أبنائها. ولكن إذا ارتكبت إحدى زوجات النبي جرمًا مماثلاً، والعياذ بالله، فإن أثره لا يقتصر على نطاق الأسرة الضيق، وإنما ينتشر صداه، أو بعبارة أخرى فإنه لا يكون جرمًا في حق نفسها أو في حق الرسول فحسب، بل وفي حق الأمة. ومن ثم فإن العدالة تقتضي بأن تكون العقوبة هنا أعظم. وهكذا نرى أنه في كلتا الحالتين أي في حالة الزوجة العادية وحالة زوجة الرسول يتناسب العقاب مع الجرم، وتتكافأ كفتا ميزان العدالة. وعلى ذلك تنفي الآية نفيًا قاطعًا وجود تخفيف في العذاب أو التشديد فيه دون مبرر، بل هناك مبرر قوي.

ثم من ناحية أخرى يقول الله تعالى مخاطبًا نساء النبي : وَمَنْ يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ ، فما وجه تفضيل زوجات النبي على زوجات الآخرين إذا كن أيضًا يطعن الله ورسوله وأزواجهن، ويعملن صالحًا؟ ولكن إذا ما فكرنا قليلاً نجد أن لا تفضيل ولا تمييز. ذلك أن جو الحياة في بيت الرسول يختلف عن غيره اختلافًا كبيرًا، وفيه من الشُقّة والمسؤوليات ما لا نظير له في البيوت الأخرى. من الطبيعي أن يكون التعبد فيه والنهوض بالأعمال الصالحة أثقل عبئًا وأعظم تضحية. ومن ثم فمن العدالة أنه يكون الثواب المناسب لذلك العبء ولهذه التضحية.

وفي كتب السيرة رواية تشبه ما ذكرناه من بعض الوجوه، قد يكون في استعارتها ما يلقي ضوءًا على الموضوع. فقد روي أن أبا بكر وعثمان رضي الله عنهما كانا يتنافسان في الصدقات. وفي إحدى الغزوات تصدق عثمان بقدر أعظم مما تصدق به أبو بكر . ففرح وذكر للرسول أنه في هذه المرة قد سبق أبا بكر. ولكن الرسول أبطل ظنه، وقال له بما معناه أن أبا بكر تصدق بجميع ماله، ولكنك تصدقت بنصف مالك.

فالمعيار هنا هو معيار العبء الذي تحمله كل منهما، وليس مقدار المال الذي أداه. وهكذا أيضًا هناك فرق بين أفعال زوجات النبي وأعمال زوجات الآخرين.

ثم إن هناك عاملاً آخر، فيما يبدو لي، يصح أيضًا أخذه في الاعتبار وهو أن تقوى زوجات الرسول وصلاحهن وفعلهن الخير وتضحياتهن من شأنها أن تشيع هذه الصفات الحميدة بين الآخرين، ولا شك أن في ذلك ما يستحق التقدير. فهن أشبه بالمعلم الذي يعمل على تربية الصغار بالقدوة الحسنة وبالنصح والإرشاد دون أن يتقاضى أجرًا على ذلك.

بقيت بعد ذلك نقطة أخرى وهي، وإن كانت خارج الموضوع، إلا أنها أيضًا يستحق عرضها، وهي حادثة المغافير التي كان منشؤها الغيرة. وهي كما ذكر من قبل حادثة تافهة، ولعلنا ندرك الآن سبب نعتها بهذا الوصف، فهي وإن كانت تنبع من طبيعة المرأة البشرية، شأنها في ذلك شأن التطلع إلى متاع الحياة، إلا أن أثرها لا يتعدى نطاق الأسرة. وعلى العكس من الميل إلى الترف وعلى الأخصّ في بيت النّبيّ الّذي بعث ليتمّم مكارم الأخلاق وليكون حاكمًا مثاليًّا يقتدى به. وكونه القرآن المجسد لم يعر هذه الحادثة التافهة اهتمامًا يدلّ على أنّ الشّريعة الإسلاميّة تأخذ في الاعتبار طبائع النّاس وما فطروا عليه، فلا تقرّر قواعد جامدة لمثل هذه المسائل الصّغيرة ثمّ تغفل عن الهمّ.

Share via
تابعونا على الفايس بوك