لغة لاذعة ضد المقدسين

الحلقة التاسعة من كتاب: المسيحية رحلة من الحقائق إلى الخيال

هذا الكتاب دراسة تحليلية موثقة للدفاع عن الحق الذي قامت عليه المسيحية الأولى النقية التي صدع بها المسيح الناصري عيسى بن مريم كما أنه بيان يكشف الحقيقة التي حجبَها تجّار الدين وسماسرة الخلاص، زبانية الترهيب وأصحاب صكوك الغفران.

والحق أن العقائد المسيحية قد اكتسبت صورتها الحالية من خلال عملية تغيير ممتدة على تاريخ المسيحية كله تقريبًا. فبدلا من الخوض في جدال لا نهاية لـه حول عملية التغيير تلك، اختار الكاتب دراسة العقائد المسيحية الحالية واختبارها على محكّ المنطق والعقل. وبالإضافة إلى موضوعات أخرى قد تمّ في هذا الكتاب بحث مسائل هامة كبنوة المسيح، الكفَّارة، الثالوث، المجيء الثاني للمسيح.

هذا عزيزي القارئ باختصار شديد هو محتوى هذا الكتاب القيِّم: «المسيحية رحلة من الحقائق إلى الخيال» لحضرة ميرزا طاهر أحمد (رحمه الله رحمة واسعة). ورأت أسرة «التقوى» نشره على صفحاتها عبر حلقات متسلسلة نظرا إلى الدعاية الواسعة التي نشطت بشكل خطير في الآونة الأخيرة صوتًا وصورةً وكتابةً بُعَيد الدمار الذي حلّ – ولا يزال يحلّ – بالمسلمين وأراضيهم من قِبل «الدجال».. القوى المادية للمسيحية بالتواطؤ مع الصهاينة. ومما لا شك فيه أن هذا الكتاب بيان حُبٍّ صادق مخلص للمسيح والمسيحيين في جميع أنحاء المعمورة. كما أنه رسالة حبّ لهم، لأنه يقودهم إلى حقيقة مَن يحبّون، وما يحبّون: المسيح الحق، والمسيحية الحقة. ولقد آن الأوان لأن تُفني المسيحية الحقّة ضَلالَ من حرّفها وضيّعها، ولتعود بأجيالها وعالمها كلّه إلى هداية رب العالمين.

وقد حصل شرف نقل الكتاب إلى اللغة العربية للكاتب السوري الأستاذ محمد منير الإدلبي وراجعه ثُلّة من أبناء الجماعة المتضلّعين في اللغة والدين. «التقوى»

وكما أشرنا آنفًا فقد تنبأت الكتب المقدسة بأن مدّعي النبوة الكاذب والمفتري على الله كلامًا لم يقله سوف يُعلَّق على الخشبة. ولذلك فإن موت يسوع  على الصليب سيكون بمثابة الموت للمسيحية. ولهذا السبب نجد الكتب الدينية اليهودية الأصلية مليئة بتبجح اليهود بموت المسيح على الصليب. واعتبره أعداؤه المعاصرون من اليهود نبيًّا كاذبًا دون ريب بناء على ذلك الحكم التوراتي. ولم يبدوا نحوه أيّ احترام بل استعملوا في حقه لغة قذرة مهينة يأنف منها ويستنكرها كل من يحب المسيح كما نحبه نحن لكونه نبيًا صادقًا ومُكرَّمًا ومحبوبًا عند الله تعالى.

هنا يمكن للمرء أن يتخيل جيدًا المعاناة العميقة والكرب الشديد الذي واجهه المسيحيون الأوائل الذين عرفوا المسيح رجلاً ربانيًا ورسولاً صادقًا حائزًا على مرتبة “المسيح”. كيف يمكن لهؤلاء المسيحيين أن يدافعوا عن أنفسهم ضد هذه الهجمة التي كُتبت بلغة بذيئة، حين نقرأها في هذا العصر تثير في الأذهان صورة بشعة مماثلة لكتاب سلمان رشدي السيئ الصيت: “آيات شيطانية”.

يبدو أن الغياب الكلي لاحترام القيم والأدب من قِبل الفريقين: (سلمان رشدي، واليهود) قد نشأ من داخل الانحطاط البشري. والمقتطفات التالية تعطي القارئ فكرة عما يحدث لجميع القيَم الإنسانية المهذبة، حين يختار الخصوم المسعورون أن يجعلوا المقدسين هدفًا لِهَذياناتهم المشوِّهة المفسِدة الوقحة.

يذكر “التلمود” (الكتاب الديني الذي يشمل جميع معارف الشعب اليهودي ومعتقداتهم) أن عيسى لم يكن ابن الحرام فحسب، بل كان أخرق وفظًّا أيضًا لكونه قد وُلد من زواج شيطاني لمريم أثناء الحيض. (والعياذ بالله من هذا البهتان المبين).

ويفصِّل التلمود هذا الافتراء بأن عيسى كانت له روح “عيسو”: أي أنه كان أحمق مشعوذًا ومضلاً، وقد صُلب ودُفن في الجحيم، ثم نصبه أتباعه صنمًا يُعبد. المقاطع التـالية أُخذت من كتاب “التلمـود بلا قنـاع” للقسيـس آي بي برانيـتس  (The Talmud Unmasked by Reverend. I.B. Pranaitis).

لقد رُوي في “تراكت كالاه”

(Tract Kallah, 1b (18b) ما يلي:

“ذات مرة، حين كان الشيوخ جالسين عند البوابة مرّ بهم شابان، أحدهما كان مغطى الرأس والآخر مكشوف الرأس. قال الحاخام أليعازر: إن الشاب المكشوف الرأس كان ولدًا غير شرعي، .mamzer وقال الحاخام يهوشوع: إن ذلك الشاب غير الشرعي قد حُمل به أثناء فترة الحيض ben niddah.

أمّا الحاخام عقيباه فقال: ينطبق عليه كلا الحالين. عندها سأل الآخرون الحاخام عقيباه: لماذا تجرّأ على مخالفة زملائه؟ فأجاب: بإمكانه أن يبرهن ما قال. وذهب إلى أم الولد التي كانت جالسة في ساحة السوق تبيع الخضار وقال لها: “يا ابنتي إذا أجبت بصدق على ما سأسألك، فإنني أعدك بأنك ستَنجين في الحياة الآخرة”. فطلبتْ منه أن يحلف على أنه سيَفي بوعده؛ وفَعَلَ الحاخام عقيباه ذلك ولكن بشفتيه فقط، إذ أنه بقلبه أبطل ذلك الحلف. ثم قال: “أخبريني أيّ نوع من الأولاد ابنك هذا؟” فأجابت: “في اليوم الذي تزوجتُ فيه كنت حائضًا، وبسبب ذلك تركني زوجي، ولكن روحًا شريرة جاء ونام معي، ومن هذا الجماع وُلد هذا الولد لي.”

وهكذا فقد ثبت أن هذا الشاب لم يكن ابنًا غير شرعي فحسب، بل كانت أُمّه قد حملت به أثناء فترة حيضها. وعندما سمع سائلوه هذا أعلنوا قائلين: “عظيم حقًا الحاخام عقيباه إذ صحح خطأ شيوخه.” وصاح الشيوخ قائلين: “تبارك الرب إله إسرائيل الذي كشف سره للحاخام عقيباه بن يوسف.”

وأما الحقيقة أن اليهود يعتبرون أن هذه القصة تشير إلى المسيح عيسى وأمه السيدة مريم، فهي موضّحة تمامًا في كتابهم Toldath Jeschu  (أي ولادة عيسى) حيث ذُكرت ولادة “مخلّصنا” بالكلمات نفسها تقريبًا. (1)

إن كل ما في الإنسان من أدب ولياقة، ليثور على هذا القَذَر المتعفّن الذي تم تكديسه حول سمعة وشرف رجل كريم مثل عيسى في كتابات أعدائه الألداء. من المؤكد أن سيدة طاهرة اسمها مريم قد حملت عيسى ولم يلعب أي شيء آخر دورًا في ذلك الحمل سوى قدرات الله ربنا الخالقة وغير المحدودة. إن فكرة الحمل من خلال جماعٍ مع الشيطان أثناء الحيض هي أكثر انطباقًا على العقلية التي حملت هذه الفكرة القبيحة والمنكرة. واحسرتاه! لم تسلم زوجات الرجال الربانيين ولا أمهاتهم من ألسِنة وأقلام الفاسدين الضالين الذين ينفثون سمًّا وقبحًا. ولا يختلف الأمر فيما إذا كان مثل هؤلاء المجانين قد عاشوا قبل ألفي عام، أو وُجدوا في العالم المعاصر. ولكم هو أمر مدهش حقًا أن أكثر المجتمعات ثقافة في هذه الأيام تغضّ الطرف عن هذه الوحشية بل نراها تقبل مثل هذه الإهانات الفاضحة باسم حرية الكلام والقلم!

إن اللغة التي استخدمها سلمان رشدي مثلاً ضدّ الزوجات الطاهرات لنبيّ الإسلام محمد ، لا تختلف عن اللغة التي استُخدِمت ضد الأم الطاهرة للمسيح عيسى . لقد جاء في السنهدرين 67: أ، ما يلي:

“هذا ما فعلوا مع ابن ستادا (Stada) في اللُّد (Lud)، وعلّقوه في مساء عيد الفصح. لأن ابن ستادا كان ابن بانديرا (Pandira) فإن الحاخام تشاسدا يخبرنا أن بانديرا كان زوج ستادا، أمه، وأنه عاش في زمن بافوس بن يهودا”.

ويعلّق القسيس آي بي برانيتس، مؤلف كتاب “التلمود بلا قناع” على ما جاء أعلاه بما يلي:

“معنى ذلك أن مريم هذه كانت تُدعى ستادا أي العاهرة، لأنها، بحسب ما تم تعليمه في بومباديتا Pumbadita، هجرتْ زوجها وارتكبت الزنى. وهذا مسجّل أيضًا في التلمود القدسي والميمونيين Jerusalem Talmud and Maimonides”.”وسواء أكان الذين يؤمنون بمثل هذه الأكاذيب الشيطانية يستحقون الكراهية أم الشفقة أكثر، فإني لا أستطيع أن أقول شيئا.”

إن هذه حقًا صرخة كرب وألم من قلب ضحية عاجزة، يحزنها التحقير المتعصب الموجّه إلى سيدها المحبوب. لا بدّ أن المسيحيين الأوائل قد عانوا ألمًا أشد وأعظم، وقد عانوا من الجحيم جراء استهزاء يهود ذلك الزمان وتحقيرهم. كان عليهم أن يُعانوا القدح والطعن الموجَّه ليس ضد من كانت ذكراه مدفونة في الماضي البعيد، بل من كانت ذكراه لا تزال حية منتعشة، ومن أحبه حبًّا جمًّا ممن شاهدوه (عيسى) وقاسموه أجمل لحظات حياتهم. ولا بدّ أنهم قد عُذِّبوا بعذاب ضِعف إذ إنهم لم يتأذّوا من السخرية البشعة فحسب، بل لاقوا مزيدًا من الإهانات أيضًا التي أضيفت إلى جرحهم المؤلم بسبب معاناة المسيح عيسى أثناء محاكمته ومحاولة صلبه.

وإني لأتمنى أن يقوم الضمير المسيحي في بلاد الغرب الحرة ببعض الجهد على الأقل لأنْ يفهم عذابَ وألَمَ ألف مليون مسلم الذين بالتأكيد لا يُعذَّبون أقل من ذلك حين تستخدم لغة مشابهة، غير إنسانية، في التهجّم على قدسية سيّدهم ومحبوبهم محمد وصحابته الكرام.

لقد عانى المسيحيون الأوائل من كل هذا رغم معرفتهم الشخصية وما لديهم من برهان لا يُدحض على أن عيسى كان حيًا ولم يمت على الصليب كما يتفاخر اليهود ويزعمون. لقد عالجوا جروحه هم بأنفسهم، وشاهدوه يصحو ويُشفى من إغمائه العميق بشكل إعجازي بعد تسليم جسده الشريف إليهم، ثم شاهدوه بأمّ أعينهم، ليس على شكل الروح أو الشبح بل بالجسد البشري الضعيف الذي كان قد عانى كثيرًا من أجل الصدق، ومع ذلك فقد نجا من الموت بشكل إعجازي. لقد تحدثوا معه وأكلوا معه وشاهدوه يتحرك خطوة خطوة، وليلة بعد ليلة في سرّية بالغة بعيدًا عن موقع الصلب.

الصّعــود

إن القديسين متّى ويوحنا لم يتطرقا في إنجيليهما إلى موضوع صعود المسيح إلى السماء. وإن عدم ذِكْر مثل هذا الحدث يترك المرء متعجبًا عن سبب ذلك. إن الإنجيلَين اللذَينِ يذكران الصعود هما إنجيل مرقس 19:16 (2) وإنجيل لوقا 51:24 (3)

ومع ذلك، فإن الأبحاث الأكاديمية والعلمية الأخيرة قد برهنت على أن الروايات الواردة في هذين الإنجيلين هي تحريفات أضيفت فيما بعد ولم تكن موجودة في النصوص الأصلية.

إن إنجيل Codex Sinaiticus الذي يعود إلى القرن الرابع ويظل أقدم وأقرب مرجع بالنسبة للعهد القديم والجديد.(4) وهذا الإنجيل شاهد على حقيقة أن الجُمل المذكورة في إنجيل مرقس ولوقا، لم تكن موجودة في النسخ الأصلية الموثّقة، ولكنها بالتأكيد قد أُضيفت من قِبل كاتبٍ ما بمبادرةٍ منه في زمن متأخر كثيرًا. بحسب إنجيل Codex Sinaiticus  ينتهي إنجيل مرقس في الفصل 16 العدد 8. وهذه الحقيقة معترف بها الآن في بعض طبعات الإنجيل الحديثة أيضًا. (5)

وكذلك بحسب Codex Sinaiticus فإن الكلمات: “رُفع إلى السماء” لا توجد في إنجيل لوقا 15:24.

وأيضًا طبقًا للناقد النصّي (سي إس سي ويليامز) C.S.C.Williams، إذا كانت هذه المحذوفات في Codex Sinaiticus مبرّرة، فليس هناك إشارة إطلاقًا إلى الصعود إلى السماء في النص الأصلي للأناجيل. (6)

وحتى شهود يهوَه، وهم من أعنف الخصوم المدافعين عن بنوّة يسوع وصعوده إلى الله (الأب)، قد اضطروا إلى الاعتراف في النهاية بأن الكلمات المتعلقة برفع عيسى في إنجيل مرقس ولوقا إنما هي إضافات لا وجود لها في النصوص الأصلية. (7)

ماذا حدث لجسد عيسى؟

إن الفحص النقدي العميق من وجهة نظر الفطرة السليمة والمنطق السليم يكشف عن المزيد من السخافات الموجودة في الروايات المتعلقة بالصلب وبالصعود يرويها المسيحيون المعاصرون. وفيما يتعلق بعودة يسوع إلى جسده البشري، فقد قيل ما فيه الكفاية. وما نريده هو فقط أن نضيف إلى الموضوع: ماذا كان يمكن أن يحدث لذلك الجسد حين صعد يسوع إلى السماء في النهاية، وذلك إذا كان قد صعد فعلاً!

عندما يُواجهون السؤال: ماذا حدث لجسد يسوع؟ يقول بعض المسيحيين: بينما كان صاعدًا إلى أبيه في السماء تحلَّل جسده المادي واختفى في وَهَجٍ! وهذا يثير سؤالاً أساسيًا، وهو: إذا كانت مغادرة يسوع لجسده البشري سيُحدث مثل هذا الموقف المتفجّر، فلماذا لم يحدث مثل هذا الانفجار حين موته الأول كما يُروى؟!

إن المرجع الوحيد الذي لدينا في الإنجيل، حول موت يسوع، هو أنه عندما كان لا يزال معلقًا على الصليب، وبكلمات القديس متى: “وأسلم الروح”، لم يحدث شيء آخر، على ما يبدو، سوى مغادرة الروحِ الجسدَ بصورة هادئة. فهل لنا أن نفترض أنه لم يمت على الصليب بعد ذلك كلّه، لأنه لو كانت الروح قد تركت الجسد لوجب أن ينفجر ذلك الجسد على نفس الشاكلة حتى في ذلك الوقت. فلماذا حدث ذلك لدى مغادرتها الجسد في المرة الثانية فقط؟! ففي هذه الظروف لا يبقى إلاَّ طريقان اثنان مفتوحان لمزيد من المتابعة، وهما:

1- إن شخص يسوع لم يبق محصورًا في الجسد البشري إلى الأبد بعد أن عادت روحه إليه، وأثناء صعوده، كان قد تخلى عن جسده البشري وصعد كروح إلهية خالصة.

هذا الأمر لا تدعمه الحقائق ولا يمكن استيعابه لأنه سيؤدي إلى اعتقاد أعمى أن عيسى قد مات مرتين: المرة الأولى على الصليب، والمرة الثانية حين صعد إلى السماء.

2- الخيار الثاني هو أن عيسى قد بقي محجوزًا ومحدودًا في قفصه البشري إلى الأبد.

إن هذا لا يمكن قبوله لأنه مُستنكَر للغاية ولا ينسجم مع شرف وعِزّة وجلال صورة الله .

ومن ناحية أخرى لدينا وجهة نظر من خلال الفطرة السليمة، وهي أنه من الخطأ فهم صعود عيسى على أنه نوع من الرحلات الفضائية القديمة، وأن نتخيل السماء وراء الشمس والقمر والمجرّات، والحقيقة ليست هنا ولا هناك. (8)

من الممكن أن يكون الدافع وراء اختراع مثل هذه القصة الغريبة العجيبة، هو المأزق المستعصي الحل الذي واجهه المسيحيون أثناء فترة نشوء المسيحية. وحين اختفى عيسى عن مسرح الأحداث فمن الطبيعي أن ينشأ سؤال عماذا يكون قد حدث له؟

لم يكن بإمكان المسيحيين الأوائل أن يحلّوا المأزق بالاعتراف علنًا بأنه لم يمت أصلاً وبالتالي لم يعد ثمة مجال لترك الجسد وراءه لأن الحقيقة أن جسده قد سافر معه أثناء هجرته. وبهذه الطريقة فإن مشكلة اختفاء الجسد كان يمكن حلّها بسهولة. ولكن  مثل هذا الاعتراف كان مستحيلاً.

إن الذين كان ممكنًا لهم أن يجرؤوا على الاعتراف بأن عيسى قد شوهد حيًا، وكان يبتعد عن منطقة “اليهودية” تدريجا، واجهوا خطرًا أن يُحكم عليهم بموجب القانون الروماني، كمن ساعدوا في جريمة الهروب من العدالة.

إن اللجوء إلى تلفيق قصةٍ مثل صعود عيسى إلى السماء يشتمل على خيار أكثر أمنًا مهما بدت هذه القصة غريبة. هذا بالطبع يعتبر تورطًا في الكذب والتزييف. علينا أن نشيد بأمانة الحواريين الأوائل الذين رغم هذا المأزق لم يلجئوا إلى قول الكذب. جميع كُتّاب الأناجيل قد اختاروا الصمت حول هذا الموضوع بدلاً من أن يلجَؤوا وراء ستار ضبابي بتلفيق أقوال غير صحيحة. ولا بد أنهم قد عانوا الكثير من سخرية خصومهم، لكنهم اختاروا أن يتحملوا المعاناة وبصمت.

والصمت الغامض من قبل أولئك الذين كانوا يعرفون حقيقة الأمر، يجعلهم مسؤولين بشكل كبير عن غرس بذور الشكّ في عقول المسيحيين من الأجيال المتأخرة منهم، إذ لا بدّ أن يتساءلوا:

لماذا بعد مغادرة روح يسوع جسدَه، لم يُذكر أي شيء عن جسده الذي تركه وراءه؟ وأين اختفى الجسد وماذا حدث له؟ ولماذا عادت روح يسوع إلى الجسد ذاته الذي خلّفته وراءها، وذلك لو افترضنا أنها قد عادت أصلاً؟

إن هذه الأسئلة الحيوية التي لا جواب لها، كان من الممكن أن تنجب أسئلة أخرى: إذا كان الإحياء يعني العودة إلى الجسد البشري، فما الذي كان من المفروض أن يحدث ليسوع المسيح بعد الفترة الثانية من حبسه في القفص البشري الفاني؟ هل بقي محبوسًا في ذلك الجسد إلى الأبد، ولن يتحرر منه ثانية؟

ومن ناحية أخرى، إذا كانت روح عيسى قد غادرت للمرة الثانية الجسد ذاته، فهل كان ذلك الإحياء مؤقتًا أم دائمًا؟

وإذا لم يبق محتجزًا في ذلك الجسد، إذن ماذا حدث لجسده بعد موته الثاني؟ وأين دُفن؟ وهل ذُكر هذا الأمرُ في أرشيف أو سجلٍ من التاريخ؟

يبدو أن هذه الأسئلة ولو لم تُثَر من قبل فلا بد أنها تكون قد أثيرت بشكل واسع بين رجال الدين المسيحي خلال القرون الأخيرة التي شهدت ممارسات فلسفية مكثفة حول الغموض الذي يكتنف قضية المسيح وكلّ ما يتعلق به. يبدو أن بعض الكتبة العديمي الضمير حاولوا أن يتملّصوا من ذلك بتحريف الأعداد الاثني عشر الأخيرة في إنجيل القديس مرقس، وعزوا إليه – كذبًا – قولاً إن عيسى كان قد شوهد آخر الأمر صاعدًا إلى السماء في الجسد ذاته!

إن إنجيل لوقا أيضًا لم ينج من أيدي التلفيق، إذ أن الكلمات المدسوسة فيه بذكاء: “وَأُصْعِدَ إِلَى السَّمَاءِ” 51:24، قد خدمت قصدَ المحرِّف. وبهذه الطريقة قضى على هذه التساؤلات إلى الأبد. وهكذا فإن غموضًا معيّنًا على الأقل في العقيدة المسيحية قد حُلَّ. ولكن، واحسرتاه، بأي ثمن؟! كان ذلك على حساب الحقائق النبيلة المتعلّقة بالصورة الحقيقية الكريمة للمسيح عيسى. إذ إن حقيقة المسيح قد تمت التضحية بها على مذبح الخيال. ومنذ ذلك الوقت استمرت المسيحية – بكامل قوتها ودون وازع ورادع – تتابع مسيرتها وتتحول من الحقائق إلى الخيال.

ونحن نعلم بالتأكيد أن اليهود كانوا غير سعداء وفي غاية الانزعاج لأنهم لم يجدوا جسد المسيح. (9) كانوا يريدون التأكد من موت المسيح عيسى، فكانوا بحاجة ماسّة إلى برهان مقبول بوجه عام على موته، أي وجودِ جسدٍ ميت. وإن شكواهم إلى بيلاطس يعبر بصورة واضحة عن قلقهم من احتمال اختفاء الجسد. (10)

وعلى أية حال فإن الجواب الحقيقي والبسيط يكمن في أن عيسى لم يكن قد مات كما يُعتقد، لذا فإن السؤال عن جسد ميت مفقود لا ينشأ أصلا، بل لا بد أنه كان قد غادر منطقة “اليهودية” بحثًا عن الخراف الضالة لبيت إسرائيل إيفاءً بوعده. ومن الواضح أنه لم يكن ممكنًا أن يُشاهَد بعد ذلك.

وجهة نظر المسلمين الأحمديين

إن وجهة نظر الجماعة الإسلامية الأحمدية عن مكان وجود جسد عيسى واضحة ومنطقية وواقعية تمامًا. فهي تقدِّم عيسى وما حدث له على ضوء حقائق ساطعة. إن حقيقة ذات المسيح عيسى جميلة بحيث لا حاجة لتزيينها بنسج الألغاز حولها. هذه الحقيقة الجميلة تشمل معاناته من أجل البشرية الخاطئة طوال حياته التي توَّجتها معاناته على الصليب ونجاته من الموت على الصليب – كما وعده الله القدير والمحسن الرحيم – ثم هجرته اللاحقة بحثًا عن قبائل إسرائيل العشر الضالة. وهكذا لم يبلِّغ المسيح رسالةَ الله إلى السبطين من بني إسرائيل فقط اللذين خاطبهما قَبل حادثة الصلب، بل وصل أيضًا إلى الأسباط الأخرى من بني إسرائيل، وبذلك حقق الغاية والهدف من بعثته. وعند ذلك فقط، حقق الغاية المتوخاة من بعثته تمامًا. هذه هي الحقائق النبيلة المفصّلة لحياة عيسى الحقيقية.

إن حضرة ميرزا غلام أحمد القادياني، مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية، قد أعلن قبل حوالي مائة سنة أن عيسى – الذي هو أحد أنبياء الله الصادقين – قد نجا من الموت على الصليب، كما سبق له أن أشار في أحاديثه. ولأول مرة في تاريخ الإسلام، قام حضرة ميرزا غلام أحمد بتوجيه من الله بكشف الغموض عن الحقائق الرائعة حول حياة عيسى.

كان هو الوحيد الذي أعلن في مواجهة الرفض والمعارضة المريرة من قبل المسلمين التقليديين بأن عيسى لم يمت على الصليب ولم يصعد بجسده إلى السماء، بل أنقذه الله بشكل إعجازي من الموت على الصليب طبقًا لوعده تعالى له. ثم هاجر خارج فلسطين بحثًا عن خراف إسرائيل الضالة مصداقًا لما وعد قومه.

وبتتبّع الطريق المحتملة لهجرة أسباط بني إسرائيل يمكن للمرء أن يفترض باطمئنان أن عيسى لا بدّ أن يكون قد سافر عبر أفغانسـتان في طريقـه إلى كشـمير ومنـاطق أخرى من الهند حيث وُجـدتْ القبائل الإسرائيلية.

هناك دليل تاريخي قوي أن كلاًّ من شعبَي أفغانستان وكشمير قد انحدروا من قبائل يهودية مهاجرة. لقد أعلن سيدنا ميرزا غلام أحمد أن عيسى قد مات ودُفن في سرينغار بكشمير.

عندما يقدّم المسلمون الأحمديون هذا البيان كتفسيرٍ واقعي ومقبول لمسألة اختفاء جسد عيسى عن بلد مولده، كثيرًا ما يُواجَهون بالرّد أنه حتى لو نجا من الموت على الصليب فإنه من المستعبد جدًّا أن يكون قد قام برحلة خطرة من منطقة “اليهودية” إلى كشمير. يستغرب الأحمديون عند سماعهم هذا الرّد ويتساءلون: أي المسافتين أطول يا تُرى؟ الرحلة من منطقة “اليهودية” إلى كشمير، أم الرحلة من الأرض إلى أبعد وأعلى السماوات؟!

ثم يتعجب الأحمديون: ماذا حدث بشأن وعد عيسى لقـومه، أنه سـيذهـب للبحـث عن خرافٍ ضالّةٍ لبـيت إسرائيل؟

فلو صحّ القول بأنه قد رحل رأسًا من فلسطين إلى السماء ليجلس عن يمين أبيه لكان قد نسي وعده والتزامه بالبحث عن خراف ضالة لبيت إسرائيل، فهل نسي حقًا وعده والتزامه أم تعذر عليه الوفاء بوعده؟ فإمَّا أن يكون هذا ما حدث أو.. حسب ما تساءلنا من قبل.. هل يُقبل أن الخراف الضالة لبيت بني إسـرائيل تكـون قد سبقوه إلى السـماء فذهب هو في أعقـابهم!؟

حالات من النجاة

أما الذين لا يزالون يجدون صعوبة في تصديق رواية نجاة عيسى من الموت على الصليب ويرونها أمرًا مستبعدًا وغير مقبول، فنلفت نظرهم إلى حقيقة أن حالة عيسى كما ذكرناها ليست عجيبة ولا مستحيلةَ القبول على ضوء ما هو معروف ومُسجّل تاريخيًا من بقاء الإنسان حيًّا في الحالات البالغة الخطورة.

وقد ذكر الطب حالات كثيرة وموثقة للذين أوشكوا على الموت وهي تمثّل براهين قوية على نجاتهم من الموت في ظروف شبه مستحيلة.

إن القضية المسجلة والموثَّقة لمهراجا (أمير هندي) في ولاية صغيرة في الهند قبل التقسيم جديرة بالذكر. فقد وقع المهراجا المذكور في حالة مشابهة لما سبق، حيث كانت إمكانية بقائه حيا ضئيلة جدا، إذ دسّت زوجته السم لـه. ولدى محاولة إحراق جثته في نيران مشتعلة، هبّت فجأة عاصفة عنيفة، وفي نهاية المطاف لم ينج المهراجا من الموت فحسب، بل استعاد عرشه أيضًا بعد معركة قضائية طويلة. والقصة هي كالآتي:

” إن “رامندرا ناريان روي” أميرُ ولاية بهووال (وكانت مدينة جودهبور مركزها الرئيسي) قد دُسّ له السُم، كما يُزعم، وأُعلن موته، ثم أُحضر جسده للحرق على منصة المحرقة في أيار عام 1909. وتبيّن من ظروف الحادث أن زوجته كان لها الدور الرئيس في محاولة قتله.

وقبل أن تنتهي عملية الإحراق انفجر رعد قوي أرعب القائمين على حرق الجسد واضطرهم ليعودوا بسرعة تاركين الجسد وراءهم، وهطل المطر فتسبب في إطفاء النار. ولاحظ مجموعة من النساك الهندوس الذين مروا بالمكان أن الرجل حيٌّ فأنقذوه من الحرق. وفي اليوم التالي عندما اكتشف المتآمرون أن جسد الأمير قد اختفى؛ أحضروا جسدًا آخر وأحرقوه ليظهروا أن حرق الأمير كان حقيقة. والنساك الهندوس الذين أنقذوا الأمير أخذوه من مكان إلى آخر. وكانت حالة الموت الوشيك التي مر بها المهراجا قد تسببت له في فقدان الذاكرة، ولكنه استعادها تدريجًا ثم عاد إلى “جودهبور” بعد اثني عشر عامًا. وقد ساعدته الظروف المألوفة المحيطة بمنـزله على استعادة ذاكرته بشكل كامل. حين رَفع الأمير شكوى قضائية لاستعادة ملكه في محكمة مَدَنية Court of Wards باعتبار نفسه الوارث الحقيقي والمالك لولاية بهووال؛ قامت زوجته مع آخرين بمعارضة القضية. ثم جرت معركة قضائية مريرة بين الفريقين. وشهد أكثر من ألف شخص لصالح الأمير وأربعمائة شخص لصالح زوجته. وكان النـزاع في المحكمة يدور حول هوية الأمير لأنه كان حسب المعلوم عمومًا قد مات قبل اثني عشر عامًا.

وربح الأمير القضية بعد أن تمكن من وصف بعض العلامات على جسم زوجته والتي يعرفها الزوج فقط؛ وهكذا أعيد إليه ملكه.” (11)

قد تكون هناك مئات الألوف من الحالات كهذه لم يتم ذكرها أو تسجيلها في التاريخ. ولكن بفضل التسهيلات الطبية الحديثة والتغطية الإعلامية تُسجَّل اليوم مئات من الحالات المشابهة.

فإذا كان هذا كله مقبولاً بالنسبة لأشخاص عاديين من مختلف طبقات المجتمع، ومن مختلف الخلفيات الدينية والأخلاقية فلماذا لا يمكن ذلك في حالة عيسى ؟!

إذا كانت هناك فرصة أن ينجو شخص من الموت في حالات شبه مستحيلة، فإن عيسى أحقّ بها من غيره بسبب الظروف الخاصة المحيطة به. ومن الغريب حقًا أن يَستبعد المتشكِّكون فكرة نجاة عيسى من محاولة قتله على الصليب، ومع ذلك يصدِّقون بسهولة بالغة الروايةَ الأبعد عن الواقعية والأكثر غرابة لقيامه أو إحيائه من الموت المحقَّق الذي استمر ثلاثة أيام وثلاث ليال كاملة كما يزعمون!

لقد أظهرت البحوث الطبية أيضـًا اهتمـامها بدراسة حالات الموت الوشيك.(12) لقد أُجريت دراسة تم فيها عرض ثمانية وسبعين تقريرًا عن حالات تتعلق بالموت الوشيك. وفي ثمانين بالمائة من هذه الحالات حضر متخصصون في المجال الطبي وشاهدوها أثناء حدوثها أو بعد ذلك مباشرة. والمهم في الأمر أن 41 بالمائة من هذه الحالات قيل عنها بأن أصحابها قد اعتُبروا في عداد الموتى أثناء حالة الموت الوشيك. (12)

فإذا كان من الممكن للأطباء الخبراء – رغم وجود كل أنواع الأدوات المتاحة لهم – أن يعلنوا عن شخص حيّ أنه قد مات؛ فإلى أيّ مدى يمكن الاعتماد على شهادة مراقب قلقٍ، شاهدَ عيسى يفقد وعيه (على الصليب)، فاستنتج من ذلك أنه قد مات؟ وعلاوة على ذلك فـإن استـنتاجه – بعد أن رآه مرة ثانية – بأنه قد قـام من المـوت، لأمـرٌ غـير مقـبـول عقـلا ولا مـبرر لـه إطـلاقًا!       (يُتبع)

……………..

وإني لأتمنى أن يقوم الضمير المسيحي في بلاد الغرب الحرة ببعض الجهد على الأقل لأنْ يفهم عذابَ وألَمَ ألف مليون مسلم الذين بالتأكيد لا يُعذَّبون أقل من ذلك حين تستخدم لغة مشابهة، غير إنسانية، في التهجّم على قدسية سيّدهم ومحبوبهم محمد وصحابته الكرام.

إن حقيقة المسيح قد تمت التضحية بها على مذبح الخيال. ومنذ ذلك الوقت استمرت المسيحية – بكامل قوتها ودون وازع ورادع – تتابع مسيرتها وتتحول من الحقائق إلى الخيال.

يستغرب الأحمديون عند سماعهم هذا الرّد ويتساءلون: أي المسافتين أطول يا تُرى؟ الرحلة من منطقة «اليهودية» إلى كشمير، أم الرحلة من الأرض إلى أبعد وأعلى السماوات؟!

Share via
تابعونا على الفايس بوك