قدسية القرآن الكريم

قدسية القرآن الكريم

مصطفى ثابت

تُثار في الغرب مزاعم كثيرة ضد التحدي القرآني القائل بأنه لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله. ويُقال أيضا بأنه ليس بالضرورة من وحي الله تعالى، بل إن محمدًا كان طفرة من بين البشر. إذ يقولون إنه حسب قانون الطفرة يُمكن أن يُؤتى فرد من الأفراد موهبة فائقة أو قدرة خارقة، لا يماثله فيها أحد من البشر.

وعلى هذا.. فإن كان القرآن كتابا فريدا لم يستطع أحد أن يأتي بمثله، فلا يدل هذا بالضرورة على أن ذلك الكتاب من وحي الله تعالى، بل يمكن القول بأن محمدا كان رجلا عبقريا.. وإنه كان طفرة من بين البشر.

اقرأ الرد على هذا البهتان وافحص الدلائل على أن القرآن نزل من عند الله، من خلال كتاب: القرآن معجزة الإسلام الذي سننشره عبر حلقات في هذه الزاوية.   «التقوى»

الدليل الأول على قدسية القرآن الكريم حياة رسول الله

لعل أبلغ الدلائل على قدسية القرآن هي حياة رسول الله نفسه. فقد قضى الله تعالى منذ الأزل أن من يفتري على الله كذبا.. بأن يدّعي كذبا أنه قد تلقى وحيا من الله تعالى، فإن الله يُهلكه أو يُسلط عليه من يقتله. وكان المعيار الذي يعرف به الناس النبي الصادق من مُدّعي النبوة الكاذب هو أن الله يؤيد الصادق ويُهلك الكاذب، فقد جاء في التوراة:

“وأمّا النبي الذي يطغَى فيتكلم باسمي كلاما لم أوصه أن يتكلم به أو الذي يتكلم باسم آلهة أخرى فيموت ذلك النبي” (سفر تثنية: إصحاح 18: فقرة 20)

ومن الواضح أن قوله: “فيموت ذلك النبي” يعني أن الله يُسلط عليه من يقتله، أو يُهلكه الله عقابا له على كذبه في ادعائه بتلقي الوحي من الله تعالى. ولا تعني هذه الفقرة أن المدّعي الكاذب سوف يموت في يوم من الأيام، وإلاّ فلا يكون لهذه الفقرة معنى. لأنه لو كان المقصود هنا بالموت هو الموت العادي.. بعد عمر طويل.. لما كان ذلك من الأدلة التي تساعد على معرفة الصادق من الكاذب، فإن كل إنسان.. سواء كان صادقا أو كاذبا.. مصيره إلى الموت.

وفي الإنجيل.. يقول المسيح عليه السلام مشيرا إلى نفس المعنى:

“كل غرسٍ لم يغرسه أبي السماوي يُقلع” (متّى 15: 13)

أي أن الغرس الذي لم يغرسه الله تعالى، وإنما يكون من افتراء الإنسان.. فإن مصيره هو أن يُجتث من فوق الأرض فما له من قرار، ويُترك ليصيبه الموت والهلاك.

لذلك نقول إن حياة رسول الله كانت دليلا على أن القرآن هو فعلا من وحي الله تعالى، وأنه بالحق مُنـزّل من لدن خالق السماوات والأرض. إذ لـو لم يكن القرآن وحيا من عند الله بل كان من صنع محمد ، لكان الله تعالى قد أنزل عقابه على محمد وأهلكه. ومن هنا كان تأكيد القرآن مرات ومرات، وإعادة التأكيد في آيات وآيات، وتكرار الإثبات تلو الإثبات.. على أن هذا القرآن كتاب نزل من عند الله تعالى. فالله يريد أن يُبين للمخالفين والكافرين أنه لو كان هذا الكتاب مفترىً ومن صنع البشر، وأن محمدا قد نسبه إلى الله زورا وافتراءً عليه، لكان الله تعالى قد دمّره وقضَى عليه، وفضح بذلك افتراءه وتزويره. يقول تعالى:

أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا فَإِن يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ، وَيَمْحُ اللهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ   (الشورى:25)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ، قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلاَ تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئًا، هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ، كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْني وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم (الأحقاف:9)

ويُبين الله تعالى في هذه الآيات الكريمة.. ردًّا على الذين يزعمون أن محمدًا يفتري على الله هذا القرآن كذبا.. أنه لو كان الأمر كذلك لختم الله على قلب المدّعي الكاذب، لأن الله يمحو الباطل الذي يُنسَب إليه كذبا وزورا، ويحق الحق بكلماته. ولهذا يقول تعالى لنبيه الأكرم أن يُعلن أمام الناس: كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنيِ وَبَيْنَكُمْ .. أي كفى بالله شهيدا لأنه عليم بذات الصدور، وهو يعلم أنه سبحانه هو الذي يوحي إليّ هذا القرآن، فإن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا، ولا تستطيعون أن تنقذوني من عقابه الذي لا بد أن يأخذ الكذاب الذي يفتري عليه، ويدّعي كذبا بأن الله قد أوحَى إليه.

وفي الآية التالية.. يُفَصل الله الأمر تفصيلا حاسما فيقول:

فَلآ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لاَ تُبْـصِـرُونَ * إِنَّهُ لَقَـوْلُ رَسُـولٍ كَـرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ * وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيـلاً مَّا تَذَكَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلَ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (الحاقة:39-48)

والله تعالى يعلم أنه من المستحيل لرسوله الأعظم أن يتقوّل على الله، لذلك يستخدم حرف «لو» للتعبير عن هذا الفعل المستحيل الوقوع من نبيه الأكرم

إن الله تعالى يُقسم بكل ما في الكون.. بما تبصرون وما لا تبصرون.. يُقسم على أن القرآن لقول رسول كريم. ثم يستخدم الله تعالى التقرير الإيجابي والتقرير السلبي لتأكيد الأمر الذي يتحدّث عنه، وهو قدسية القرآن الكريم.. أي أن مصدره الله تعالى. والتقرير الإيجابي هو أن تقرر حقيقة تريد إثباتها، فمثلا إذا أردت أن تصف إنسانا بالأمانة فتقول إنه أمين، وهذا هو التقرير الإيجابي، ثم تريد أن تؤكد صفة الأمانة بالتقرير السلبي فتنفي عنه صفة تتعارض مع الصفة المثبتة، فتقول إنه لا يخون الأمانة. واستخدام كلٍّ من التقرير الإيجابي والسلبي في جملة واحدة يدل على التأكيد واليقين، فمثلا حينما تؤكد باليقين على أمانة شخص ما تقول: إنه أمين لا يخون الأمانة.

ونرى في آيات سورة الحاقة أن الله تعالى استخدم كلا من التقرير الإيجابي والتقرير السلبي في حق القرآن الكريم فيقـول: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ، وهذا هو التقرير الإيجابي، ثم يُتبعه بالتقرير السلبي فيقول: وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ ، ثم يكرر استخدام التقرير السلبي فيقول: وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ ، ثم يعود إلى التقرير الإيجابي فيقول: تَنْزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ .

إن أي إنسان يستطيع أن يدّعي النبوّة، ويمكن لأي بشر أن يدّعي بأنه يتلقى الوحي من الله تعالى، وقد يتوهم واحد من الناس أنه قد صار رسولا مبعوثا من عند الله. وحين يذكر الله تعالى عن القرآن قوله: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ، فإنه سبحانه يعلم أن بعض الناس يمكن أن يقولوا إن محمدًا كان يتوهم أنه رسول، وعلى ذلك فإن الاكتفاء بقوله إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُـولٍ كَرِيمٍ لا يدل بالضرورة على أن القرآن قد نزل من عند الله، ولذلك جاء التقرير الإيجابي الثاني يرد على هـؤلاء فقال عن القرآن إنـه: تَنْزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينََ .

ثم لا يكتفي سبحانه وتعالى بهذا التقرير السلبي والتقرير الإيجابي، بل يذكر المعيار الصائب الذي يُمكن لكل إنسان لديه شيء من العقل أن يُفرّق به بين الصادق والكاذب، فيقول سبحانه: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلََ . لم يقل سبحانه “وإذا تقوّل علينا بعض الأقاويل”، ولم يقل “وإن تقوّل علينا بعض الأقاويل”، بل استخدم حرف “لو” الذي يستخدم للاستحالة. تقول مثلا.. لو وُلدتُ ملكا لفعلت كذا وكذا، لأن هذا الأمر مستحيل الحدوث. والله تعالى يعلم أنه من المستحيل لرسوله الأعظم أن يتقوّل على الله، لذلك يستخدم حرف “لو” للتعبير عن هذا الفعل المستحيل الوقوع من نبيه الأكرم ، ثم يُبين العقاب الذي ينتظر كل من يتقوّل على الله فيقول: لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِين ، أي لأخذناه بقوة وبعقاب شديد أخـذ عزيز مقتدر. ثم.. ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ، والوتين هو الشريان الذي يحمل الدم إلى القلب، وقطعه كناية عن القتل أو الهلاك. أي أن القتل أو الهلاك هما عقاب الذي يتقوّل على الله الكذب.

وهنا أمر جدير بالذكر.. وهو يُبين عظمة القرآن الكريم اللغوية وحرصه على توضيح الحقائق بأدق الوسائل، مما يؤكد على أن هذا الكتاب هو فعلا من عند الله وليس من تأليف البشر. يقول تعالى: ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ، وحرف “ثم” يفيد الترتيب مع التراخي.. فإذا قلت: جاء حسن ثم حسين، فإن السامع يفهم أن حسنا جاء أولا، ثم مرّ بعض الوقت، ثم جاء حسين إلى الحفل.

والأمر الذي يؤكد على أن هذا القرآن هو فعلا من عند الله.. حرصه الشديد على توضيح الحقائق باستعمال أدق الأساليب. فاستخدام الحرف “ثم” في قوله تعالى: ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ، يُفيد مرور زمن ما.. بين الأخذ باليمين، وبين قطع الوتين. فلم لم يستخدم الله تعالى حرف “الواو”  أو حرف “الفاء” للعطف بين هذين الفعلين وإنما استخدم حرف العطف “ثم” ليبين أن هذا العقاب لا يأخذ المُتقوّل فور تقوله على الله، وإنما من رحمته سبحانه أنه يعطي ذلك الإنسان فرصة للتوبة والندم. فإذا رجع المتقوّل عن غيّه، وتاب إلى الله وتَوَقف عن تقوّله على الله، وامتنع عن ادّعائه بأنه يتلقى الوحي من الله، فإن الله تعالى يتوب عليه ويصفح عنه، ولا يحل به عقاب القتل والهلاك. أمّا إذا استمر ذلك المتقوّل في غيّه، وأصر على أنه يتلقى وحيا من الله تعالى، وأعلن ذلك الوحي على الناس، ودعاهم إلى اتباعه والإيمان بذلك الوحي، فإن الله يُنـزِل به عقابه ويُهلكه أو يُسلط عليه من يقتله، كما فعل مع جميع المدّعين الكذبة بغير استثناء. ولهذا استخدم الله تعالى حرف “ثم” للعطف، بدلا من حروف العطف الأخرى، حتى يُبيّن أنه من فضله ورحمته يعطي للمذنب المُتقوّل على الله فرصة للتوبة والإصلاح.

ولعله من المفيد هنا أن نشير إلى أن عقاب من يدّعي الألوهية لا يماثل عقاب من يدّعي النبوّة. فإن الله تعالى لم يتوَعّد مُدّعي الألوهية بعقاب في الدنيا كما توَعد الذي يتقَوّل على الله. وذلك لأن النبوة أمر جائز على البشر، فمن يدّعي أنه يتلقى الوحي من الله تعالى يكون ادعاؤه هذا أمرا يحتمل الصدق أو الكذب. أما الألوهية فهي أمر لا يجوز للبشر، فمن يدّعي الألوهية يكون ادعاؤه هذا أمرا لا يحتمل غير الكذب، وبالتالي فإن من يصدق مُدّعي الألوهية يكون هو المسئول عن جريرته. ولهذا فقد ذكر الله تعالى أن عذاب مُدّعي الإلوهية هو جهنم فقط، دون أن يكون هناك عذاب بالقتل أو الهلاك في الدنيا كما هو الحال بالنسبة لمن يتقوّل على الله تعالى. يقول تعالى:

وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (الأنبياء:30)

لذلك فإننا نرى رجلا مثل بهاء الله الذي ادعى أنه مظهر الله يعيش أمدا طويلا، لأنه لم يدع أنه تلقى وحيا من الله تعالى، بل قال إنه هو الذي أنزل كتاب “الأقدس” باعتبار أنه مظهر الله. أمّا الذي يفتري على الله كذبا ويدّعي أنه يتلقى منه وحيا.. الذي يزعم كذبا أن الله يوحي اليه ويدّعي قدسية ذلك الوحي.. الذي يتقوّل على الله ويقول أُوحي إليّ ولم يوح إليه شيء ، فقد جعل الله له هذا العذاب بالقتل والهلاك في الدنيا. وذلك لأن من ينسب وحيا إلى الله تعالى فإنه يجعل الله حَكَمًا وشهيدًا بينه وبين الناس، فإن كان كاذبا فإن الله يُهلكه ويقطع دابره، ويخزيه ويختم على قلبه، ويقضي عليه قضاءً مبرمًا، فلا يستطيع أحد من الناس أن يحجز عنه عذاب الله تعالى، تماما كما يقول سبحانه:

فَمَا مِنْكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (الحاقة:49)

هذا وعد الله ووعيده لكل كاذب يفتري الكذب على الله، وينسب إليه وحيا أو كلاما أو قولا أو كتابا. ولو لم يكن الأمر كذلك.. لما استطاع الناس معرفة الصادق من الكاذب، ولما تمكن الصالحون من التفرقة بين الحق والباطل. ولذلك فقد ذكر الله تعالى هلاك المدّعي الكاذب في كل من التوراة والإنجيل والقرآن.

أمّا إذا استمر ذلك المتقوّل في غيّه، وأصر على أنه يتلقى وحيا من الله تعالى، وأعلن ذلك الوحي على الناس، ودعاهم إلى اتباعه والإيمان بذلك الوحي، فإن الله يُنـزِل به عقابه ويُهلكه أو يُسلط عليه من يقتله، كما فعل مع جميع المدّعين الكذبة بغير استثناء.

أمّا الإنسان الذي اجتباه ربه، وأوحَى إليه كلماته، وأنزل عليه آياته، وأمره أن يُعلن ذلك على الناس جهرا، ويحفظه الله تعالى من الناس رغم أنهم يريدون أن يفتكوا به، ويتآمرون للقضاء عليه، فهو حتمًا الإنسان الصادق الذي يتلقى الوحي فعلا من عند الله تعالى. وعلى ذلك فإن من يقول إنه مُنـزّل من عند الله فهو صادق في قوله، ومُصدَّق من الله تعالى، وهو حقا وصدقا الإنسان الصادق الأمين الذي طهّره الله تعالى من عنده، وعلّمه من لدنه ما لم يكن يعلم. وبذلك لا يكون للمخالفين والمعارضين من عذر يعتذرون به، ولا من حجة يحتجّون بها، إذا لم يستخدموا الملكات العقلية التي أعطاها الله إياهم، وما وضع أمامهم من حقائق لكي يُفرّقوا بها بين الحق والباطل.

وقد عاش رسول الله يُعلن للناس أنه يتلقى الوحي من الله، وعاداه الناس وخالفوه ولكنه أصر على دعوته، واستمر في إعلانه وفي إصراره هذا على مدى ثلاثة وعشرين عاما.. هي مدة عمره الشريف من بعد أن نزل الوحي عليه إلى أن اختاره الله لجواره. ومع ذلك لم يُعاقبه الله تعالى بالقتل أو الهلاك المبكر كما توعّد الكاذبين، بل أمره أن يُبلّغ دعوته إلى الناس جميعا، ووعده أن يعصمه من الناس، فقال له:

يَآ أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاس (المائدة:68)

وقامت الدنيا ضده، وتآمر عليه أهله وعشيرته، وحاول الناس قتله.. فنجاه الله تعالى. ولما هاجر إلى المدينة جمعوا الجيوش وشهروا السيوف للقضاء عليه، ولكن الله تعالى كان دائما يعصمه من الناس، فلم يُسلط عليه أحدا يقتله، ولا أهلكه هو خلال بضع سنوات من إعلان دعوته. لذلك فإننا.. بكل الحب والود.. نسأل أهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين لا يريدون أن يؤمنوا بصدق القرآن وصدق الرسول ، نسألهم.. هل من المعقول أن يترك الله أحدا يتقوّل عليه كذبا بدون عقاب؟ وهل تبلغ الجرأة بذلك المتقوّل على الله أن يدّعي بأن الله وعده أن يعصمه من الناس؟ وإذا افترضنا جدلا أن افترى إنسان على الله كذبا وزعم أن الله وعده بأن يعصمه من الناس، فهل يُحقق الله تعالى كلام ذلك الكذّاب ويعصمه فعلا من بطش الناس، ويحفظه من محاولاتهم لقتله والقضاء عليه؟

من أجل هذا نقول لجميع الناس من كافة الأديان الأخرى، وخاصة اليهود والنصارى الذين جاءت كتبهم بنفس المعيار الذي ذكره القرآن الكريم للتمييز بين الصادق والكاذب.. نقول لهم إن حياة الرسول   واستمرارها لمدة ثلاثة وعشرين عاما لهي أبلغ دليل على أن القرآن وحي صادق من عند الله تعالى، وأنه كتاب مقدس، جاء من عند الله، ونزل من لدن العزيز الحكيم.

ثم نقول للمستشرقين المسيحيين الذين يلمزون القرآن الكريم، ويُشككون الناس في قدسيته.. إنكم تصمون المسيح عليه السلام بوصمة مخزية، وتتهمونه بفرية متدنية، وتزعمون أنه قُتل بأيدي أعدائه على الصليب، وأنه صار ملعونا والعياذ بالله.. لأنه في زعمكم قد حمل لعنة الله من على الناس، فصار ملعونا حسب ما تنص عليه التوراة التي تؤمنون بها. بل إنكم تعتبرون الرسالة التي كتبها بولس إلى أهل مدينة غلاطية من الأسفار المقدسة، رغم أنه يؤكد فيها على ملعونية المسيح حسب قوله:

“المسيح افتدانا من لعنة الناموس إذ صار لعنة لأجلنا، لأنه مكتوب ملعون كل من عُلّق على خشبة” (سفر غلاطية: الإصحاح الثالث: فقرة 13)

وبزعمكم أن المسيح عليه السلام قد قُتِل بأيدي أعدائه على الصليب،  تقرّون بأنه لم يكن يتمتع بالعصمة الربانية التي جعلها الله للأنبياء العظام. بل إنكم.. حسب اعتراف بولس نفسه.. تقرّون بأن المسيح قد نزل عليه عقاب الله الذي لا يُنـزله إلاّ على الكذابين والدجالين الذين يفترون على الله الكذب، فقد ورد في التوراة أن يكون جزاؤهم القتل بواسطة الصليب، وأن هذه القتلة بالذات تعني أن المقتول على الصليب قد صار ملعونا من الله تعالى.. أي أنه مطرود من رحمة الله، تماما كما لعن الله إبليس والشيطان اللعين. ورغم كل ذلك تزعمون أن المسيح هو ابن الله تعالى، وكأن الله في زعمكم قد صار عاجزا عن حماية ابنه، أو أنه قد سُرّ بأن ابنه قد صار مثيلا للشيطان فصار ملعونا حتى يرفع اللعنة التي وضعـها الله حسـب قولكـم على الجـنـس البشـري بأكمـله.

ولعلكم لم تدركوا أنكم بهذه الأقاويل تصمون الآب بالظلم، حيث إنه صب لعنته على جميع الناس.. سواء أخطأوا أو لم يخطئوا، لأنه في زعمكم قد لعن حتى الأطفال الرضع الذين لم يقترفوا إثما ولم يرتكبوا معصية، وماتوا وهم في سن الطفولة البريئة، ولم يعوا تلك النظريات التي ألفها بولس، وزعم فيها أن الخطيئة يمكن أن يتوارثها إنسان آخر.

ولعله لم يدُر بخلدكم ولا بخلد بولس.. أن دواعي العدل تقتضي ألا يُحاسَب الإنسان على خطيئة إلاَّ إذا ارتكبها وهو يعي ويعقل أنها خروج على القوانين الإلهية وعصيان لأوامر الله عز وجل. ولعلكم لم تُدركوا أن هذا الظلم قد وقع كذلك على آلاف الملايين من البشر من غير بني إسرائيل.. أولئك البشر الذين خلقهم الله بعد آدم خلال الأربعة آلاف عام التي سبقت نزول المسيح، وعاشوا وماتوا كالأنعام لأنهم.. في زعمكم.. لم يتلقوا وحيا ولا شريعة ولا كتابا، إلى أن جاء الابن لتخليص الناس من هذه اللعنة، وكأن الآب قد عجز عن أن يغفر للناس خطاياهم بوسيلة أخرى غير أن يضطر ابنه إلى النـزول إلى الأرض ليهينه الناس ويبصقوا عليه، ثم يصلبوه ويسفكوا دمه، لكي يتمكن الآب من أن يغفر لكم خطاياكم. وبغير هذه التضحية التي تزعمون أن المسيح قد قام بها، فإن الآب لم يكن ليستطيع أن يغفر خطايا البشر، ولكانت صفة المغفرة فيه تبقى مُعطّلة عن العمل، وموقوفة عن التأثير، إلى أن يتطوع الابن بتقـديم نفسـه لكي يكون كبـش الفداء. ألا سـاء ما تحكمون!

وعلى أي الأحوال.. إن هذا ليس هو مجال تفنيد دعاوى أولئك المستشرقين، إلاّ أن لمزهم وغمزهم عن القرآن الكريم هو الذي دفعنا إلى بيان فساد ما يدّعونه من اللعنة التي يقولون إنها أصابت المسيح بزعم موته على الصليب. وخاصة ذلك المستشرق الذي نشر كتابه في النمسا وطعن في عصمة القرآن الكريم وفي قدسيته. لذلك فإننا نرد عليه بما يستحقه هو وأمثاله. ولكننا نؤكد على أننا نحترم أتباع المسيح عليه السلام الصادقين، ونحمل لهم كل ود وكل محبة، أولئك الذين لا يؤمنون بعقيدة التثليث، ولا بألوهية المسيح، بل يؤمنون بإله واحد خالق السماوات والأرض، مثل أتباع كنيسة الكريستادلفيان، وأتباع كنيسة اليونيتريان أي كنيسة الموحدين، وغيرهم كثير. بل إننا نحترم أيضا جميع المسيحيين مهما كانت عقائدهم، حتى ولو اختلفت عقائدهم مع التعاليم الإسلامية، ما داموا لا يتطاولون ولا يلمزون القرآن الكريم، فقد خلق الله الناس أحرارا يؤمنون بما شاءوا أن يؤمنوا به، ويكفرون بما شاءوا أن يكفروا به، فقال:

وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَنْ شَآءَ فَلْيَكْفُرْ (الكهف:30)

ونحن لسنا أوصياء على الناس، ولا وكلاء عنهم، فمن آمن بالحق فجزاؤه عند الله تعالى، ومن كفر بالحق فحسابه أيضا عند الله تعالى، إن يشأ يُعذبهم وإن يشأ يغفر لهم. ولا نملك إلاّ أن نخاطب الإخوة المسيحيين الكرام بما عَلّمنا وأمرنا به الله تعالى، حيث قال:

ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالـمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (النحل:126) وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتيِ هِيَ أَحْسَنُ، إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ، وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَـا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْـنُ لَـهُ مُسْلِمُونَ (العنكبوت:47)

وأمّا أولئك الذين يتطاولون على الإسلام، وينتقصون من شأن القرآن، ويسخرون من آيات الفرقان، فأولئك نحن لهم بالمرصاد، ونرد عليهم بما كانوا أهلا له، ونُفند كل أكاذيبهم بالحق الذي يزهق الباطل، ويخرس ألسنة أولئك الذين يسلقون الإسلام والمسلمين بألسنة حداد.

………………………

من أجل هذا نقول لجميع الناس من كافة الأديان الأخرى، وخاصة اليهود والنصارى الذين جاءت كتبهم بنفس المعيار الذي ذكره القرآن الكريم للتمييز بين الصادق والكاذب..

نقول لهم إن حياة الرسول واستمرارها لمدة ثلاثة وعشرين عاما لهي أبلغ دليل على أن القرآن وحي صادق من عند الله تعالى، وأنه كتاب مقدس، جاء من عند الله، ونزل من لدن العزيز الحكيم.

Share via
تابعونا على الفايس بوك