ولولا ذلك لبطلت فيوض النبوة

ألا إن الأقلام كلها لله وهي معجزة من معجزات كتاب مبين، ثم يتلقّاها المقرّبون على قدر اتّباع خير المرسلين. فإن المعجزات تقتضي الكرامات ليبقى أثرها إلى يوم الدين. وإن الذين ورثوا نبيّهم يُعطَون من نِعَمه على الطريقة الظلّية، ولولا ذلك لبطلت فيوض النبوّة، فإنهم كأثر لعين انقضى، وكعكس لصورة في المرآة يُرَى، وإنهم اكتحلوا بمرود الفناء، وارتحلوا من فناء الرياء، فما بقيت شيء من أنفسهم وظهرت صورة خاتم الأنبياء، فكل ما ترون منهم من أفعال خارقة للعادة، أو أقوال مشابهة بالصحف المطهّرة، فليست هي منهم بل من سيدنا خير البريّة، لكن في الحلل الظلّية. وإن كنتم في ريب من هذا الشان، لأولياء الرحمان، فاقرأوا آية:

  صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ

بالإمعان. أتعجبون ولا تشكرون؟ وترون صوركم في المرايا ثم لا تُفكّرون؟

ألا إن لعنة الله على الذين يقولون إنّا نأتي بمثل القرآن، إنه معجزة لا يأتي بمثله أحدٌ من الإنس والجان، وإنه جمع معارف ومحاسن لا يجمعها علم الإنسان، بل إنه وحيٌ ليس كمثله غيره وإن كان بعده وحي آخر من الرحمان، فإن لله تجلّيات في إيحائه، وإنه ما تجلّى من قبل ولا يتجلّى من بعد كمثل تجلّيه لخاتم أنبيائه، وليس شأن وحي الأولياء كمثل شأن وحي الفرقان، وإن أُوحِي إليهم كلمة كمثل كلمات القرآن، فإن دائرة معارف القرآن أكبر الدوائر، وإنها أحاط العلوم كلها وجمع في نفسها أنواع السرائر، وبلغت دقائقها إلى المقام العميق الغائر، وسبق الكل بيانا وبرهانا وزاد عرفانا، وإنه كلام الله المعجز ما قرع مثله آذانا، ولا يبلغه قول الجنّ والإنس شأنا، فمثل القرآن وغير القرآن كمثل رؤيا رآها ملك عادل رفيع الهمّة كامل الفهم والقياس، ورأى هذه الرؤيا بعينها رجل آخر قليل الفهم قليل الهمّة ومن عامّة الناس، فلا شكّ أن رؤيا الملك ورؤيا هذا الرجل وإن كانت واحدة غير مميّزة في ظاهر الحالات، ولكن ليست بواحدة عند عارف تعبير الرؤيا وذي الحصات، بل لرؤيا الملك العادل تعبير أعلى وأرفع وأعمّ وأنفع، وهي للناس كلهم خير ومع ذلك أصح وألمع، وأمّا رؤيا رجل هو من أدنى الناس، فلا يتخلّص في أكثر صورها من الالتباس، بل من الأدناس. ثم مع ذلك لا تجاوز أثرها من الأبناء والآباء، أو شرذمة من الأحبّاء. وإنّ ركْبَ هؤلاء الأغيار، ينيخون بأدنى الأرض مطايا التسيار، وينتقلون من الأكوار إلى الأوكار، وأمّا خيل الفرقان فيجوبون كل دائرة العمران، وهو كتاب تجري تحته بحار العرفان، ولا يطير فوقه طير التبيان، وما تكلّم أحد إلاّ ادّان من خزائنه، وأخرج من بعض دفائنه، وأرى كل متكلّم صفر اليدين، من غير التطوّق بهذا الدّيْن. وكل غريم يجدّ في التقاضي، ويلجّ في الافتياد إلى القاضي، وأمّا القرآن فيتصدّق على أهل الاملاق، وينـزع عن الارهاق، بل يُعطي سبائك الخِلاص، لأهل الإخلاص، ولا يمن على الغرماء بالإنظار، بل يُرغّبهم في احتجان النضار، ولا يأخذ سارقا، إن كان فارقًا*. وإنّا نحن تلاميذ الفرقان، وأُترِعْنَا من بحره بعد ما صرنا كالكيزان… ووالله إنّا نشرب من عينه، ونتزين بزينه، ولذلك يسعى على كلامنا نور وصفاء، وفي نطقنا يبهر لمعانٌ وضياء، وبركة وشفاء، وطلاوة وبهاء، وليس عليّ منّة أحدٍ من غير الفرقان، وإنّه ربّاني بتربية لا يُضاهيها الأبوان، وسقاني الله به مَعينًا، ووجدناه منيرًا ومُعينًا، فلا نعرف التهابا ولا حرورا، وشربنا من كأس كان مزاجها كافورا. وإن كلامي هذا ليس من قلمي السقيم، بل كلام أفصحت من لدن حكيم عليم، بإفاضة النبي الرؤوف الرحيم، فلا تجعلوا رزقكم أن تكذّبوها بل فكّروا كالزكيّ الفهيم. أم ظننتم أن الله لا يعلم ما تعلمون؟ أو لا يقدر على ما تقدرون؟ كلا.. بل لا تعرفونه حق المعرفة وتستكبرون، والله يجعل لمن يشاء بسطة في العلم أفلا تُفكّرون؟ وقد كنتم على شفا حفرة فرحمكم الله أفلا تشكرون؟

* الحاشية: أعني من اقتبس من القرآن آية بصحّة النيّة، خائفا من الحضرة، فلا إثم عليه عند عالم النيّات، ذي الجود والمنّة. منه

(الهدى والتبصرة لمن يرى، الخزائن الروحانية ج 18 –  ص 274 – 280)

Share via
تابعونا على الفايس بوك