انعدام أي دليل عقلاني على عقيدة الشرك
  • لا يمكن لأحد أن يفلت من المؤاخذة الإلهية فإنه تعالى قائم بكل شيء بحيث كل شيء في قبضته تعالى.
  • الزعم الباطل بأن لله تعالى شركاء في ملوكيته والعياذ بالله
  • القرآن يؤكد على أن عقيدة التوحيد أسبق زمنًا من الشرك.
__
أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لله شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (الرعد: 34)

شرح الكلمـات:

قائمٌ: قامَ عليه: خرجَ عليه وراقبه. قامَ على غريمه: طالبه (الأقرب) قوله تعالى أفمن هو قائمٌ على كلّ نفسٍ بما كسبت أي حافظٌ لها (المفردات)

تُنبّئون: نبّأه الخبرَ وبالخبرِ: خبَّره. ويُقال: نبّأتُ زيداً عمراً مُنطلقاً: أي أعلمته (الأقرب)

التفسـير:

هناك محذوف بعد قوله تعالى أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت والتقدير: كمن هو ليس بقائم. والشواهد على هذا الحذف كثيرة في اللغة العربية، حيث يحذفونه لفظاً ويقدرونه معنىً. والمراد أن الله تعالى يراقب ويرى كل صغيرة وكبيرة من أعمال البشر، ويسجلها ويرتّب  النتائج عليها، بحيث لا يمكن لأحد أن يفلت من المؤاخذة الإلهية على أعمالهم، فإنه تعالى قائمٌ بكل شيء ويراقبه بحيث إن كل الأشياء في قبضته سبحانه وتعالى. فهل يمكن لمثل هذا الإله أن يتساوى بمن لا يملك شيئاً من هذه القوى والقدرات. وما دامت عنده هذه القدرة الهائلة فلماذا يتعجل في عذاب الناس؟ لأنه إنما يتعجل بالانتقام من لا يملك القدرة الكافية على عدوه، ويخاف أنه إذا لم ينتقم الآن فربما ينفلت من يده فلا يتمكن منه. ولكن ما دام الله تعالى قادراً على كلّ شيء وفي أي وقت فلماذا يتعجل الانتقام شأن الضعفاء في إنزال العقاب بالمجرمين؟ لذا عليكم يا أعداء محمد أن لا تستهزئوا أو تتعجبوا من تأخير العذاب عنكم، بل يجب أن تقوموا بمحاسبة أنفسكم وتفكروا  ما إذا كنتم مجرمين في حق الله تعالى. فإذا كنتم مجرمين بالفعل فلا يليق بكم أن تضحكوا وتستهزئوا، غافلين عمّا أنتم فيه غير مكترثين بمآلكم.

فقد أشار بقوله تعالى أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض إلى انعدام أي دليل عقلاني، ولا شهادة إلهية على وجود الشركاء. وأشار بقوله أم بظاهر من القول إلى انعدام أي دليل يستند إلى الكتب السابقة أو الفطرة الإنسانية على صحة عقيدة الشرك.

وبيّن بقوله تعالى وجعلوا لله شركاء أنهم لو تدبّروا عقائدهم وأعمالهم لوجدوا أنهم قد ارتكبوا الجرائم في حقّ الله تعالى، إذ زعموا أن لله تعالى شركاء في ملكوته، مع أنه تعالى يقوم بنفسه وحدَه بتدبير كل أمر في ملكوته دونما حاجة إلى مساعدة أحد، وإنهم يستوجبون العقاب على ذلك، فكيف يظنون أنهم بخير وفي مأمن من العذاب؟

ثم قال تعالى قل سمّوهم . اعلم أن من أسلوب القرآن أنه إذا تطرق الحديث إلى مسألة هامة -ولو تطرقاً ضمنياً- فإنه يُشبعها بحثاً وتفصيلاً. وهذا ما فعله القرآن هنا أيضاً حيث قال وجعلوا لله شركاء شرحاً للموضوع الجاري وهو كون الله تعالى قائماً ومراقباً على كلّ نفس. ولـمَّا كان الشرك يمثل قضية دينية هامة لذلك رأى القرآن لزاماً أن يترك الموضوع الأصلي جانباً لبعض الوقت ليبرهن على تفاهة هذه العقيدة وضحالتها وفسادها.

فقال دحضاً لمزاعم أهلها مشيراً إلى شركائهم: سمّوهم . وليس المراد منه أنه إذا كان لله شركاء فدلّونا على أسمائهم، إذ كانوا قد أطلقوا على أصنامهم أسماء عديدة، كما قد ذكر القرآن بنفسه بعضاً من أسمائها، بل المراد: أخبِرونا بصفات شركائكم وأعمالهم. وقد أشار الله تعالى إلى هذا المعنى في موضع آخر من القرآن بقوله إنْ هي إلاّ أسماءٌ سمّيتموها (النجم:24). أي أن هذه الأصنام التي تعبدونها إن هي إلاّ أسماءٌ فقط، لا صفات لها ولا أعمال.

وهذا دليل قوي للغاية وقادر على أن يفحم أي مشرك، لأنه لو زعم مثلاً أن هذا الصنم يهب الأولاد، لاضطر للإيمان بوجود كل الصفات الإلهية فيه، لأن إنجاب الولد يقتضي صلاح رحم المرأة من جهة، ومن جهة أخرى قوة الحيوانات المنوِيّة عند الرجل. وهذا يتطلب أغذية نافعة وأدوية ناجعة، مما يدفعنا للاعتقاد بأن هذا الصنم يملك التصرف في إنتاج الأغذية وفي تأثيرها وتأثير الأدوية بل وفي المصانع المنتجة لها. ثم إن الأعشاب التي تصنع منها الأدوية خاضعة لتأثير الأجرام الفلكية والتقلبات الجوية، فلزم أن نؤمن أن هذا الصنم يتحكم في هذه الأجرام والظواهر أيضاً.كما سنضطر للقول بكونه عالم الغيب، وإلا كيف عرف أن هذا هو الدواء الناجع المناسب لهذا المريض. كما  لابد لنا أن نؤمن بكونه ملْهِماً حيث يلقي في بال الطبيب أو المريض أو زوجته فكرة تناول هذا الدواء الناجع، وهلمَّ جَرّا.

وبالاختصار فإن الصنم لن يقدر على فعل أي شيء بدون اتصافه بجميع هذه الصفات لا بصفة واحدة. وإذا آمنا بوجود جميع هذه المزايا فيه فقد اعترفنا بوجود أكثر من إله، ولاضطررنا للتسليم بأن آلافاً من الآلهة تدير نظام الكون الذي يستطيع  واحد منهم فقط تدبيره! ومثل هذا العمل الخاطئ مرفوض حتى من الناس، دعك من أن يُنسب هذا العبث إلى الإله الحق.

سألت مرة أحد القساوسة: من الذي خلق الكون؟ قال: المسيح. قلت: هل كان الله قادراً على خلق الكون؟ قال: نعم. قلت: فهل الله يجلس بدون عمل ولا يخلق؟ قال: لا، هو أيضاً يخلق مع المسيح. ثم وجهت إليه نفس الأسئلة عن روح القدس، فردّ بنفس الرد. فقلت له: لنفترض أن هناك قلماً على تلك الطاولة، وتريد أن تأخذه، ولكنك تأمر خادمك أن يأتي به، فيذهب هو إلى الخارج ويصطحب شخصين آخرين، فيحمل الثلاثة إليك القلم، فما رأيك في هؤلاء يا ترى؟ قال: إنهم مجانين طبعاً. فقلت له: لـمَّا كان كل واحد من الأقانيم الثلاثة قادراً بمفرده على خلق الكون فلماذا يقومون بخلقه جميعاً؟ فقال القسيس مبهوتاً: الواقع أن التثليث مسألة دقيقة بحيث يتعذر على العقل الإنساني استيعابها.

فكنتُ استخدمتُ ضده نفس هذا الدليل المذكور بقوله تعالى قل سمّوهم .

وقد يكون لقوله تعالى (سمّوهم) معنىً آخر إذا اعتبرناه من قبيل قولنا لأحد تحقيراً للشيء: (سمِّه) بمعنى أن لا حقيقة لهذا الشيء، إذ يبلغ من الدناءة والحقارة بحيث يجب أن يخجل أحد من ذكره أمام الناس. فالمراد من قوله (سمّوهم) أي سمّوا هذه الأشياء الحقيرة والدنية فسوف ترون كيف يصيبكم الذل والهوان.

وساق القرآن دليلاً آخر على بطلان الشرك بقوله تعالى أم تنبّئونه بما لا يعلم في الأرض أم بظاهر من القول أي لو كان لله تعالى شريك لأخبرَنا الله بنفسه عنه. فمثلاً حين تُوَلّي الدولةُ أحداً ليكون حاكماً على محافظة أو منطقة فهي التي تعلن عن تعيينه وليس سكان المنطقة بأنفسهم. كذلك يقول الله تعالى: لو أنني كنت أنا الذي اتخذت شركاء في ملكوتي لباشرت بنفسي الإعلان عنهم على لسان أحد الرسل، أو أنزلت الملائكة يعلنون عن ذلك، أو أنَّ هؤلاء الشركاء أنفسهم على الأقل أخبروا الناس بأن الله قد اختارهم شركاء له سبحانه وتعالى. ولكن لم يحدث أي شيء من هذه الأمور الثلاثة، ولذلك قال الله تعالى أم تنبّئونه بما لا يعلم في الأرض .

أما قوله تعالى أم بظاهر من القول فيعني أنكم لا تقولون ما تقولون إلا بأفواهكم، بينما قلوبكم منكرة له وغير مقتنعة به، لأن القلوب إنما تقتنع بما يقوم عليه برهان ودليل. وكأن قوله تعالى أم بظاهر من القول يمثل سؤالاً من فطرتهم الراقدة النائمة، لأن السؤال من الفطرة السليمة يكون وسيلة ناجحة للإقناع في بعض الأحيان.

أو أنَّ المعنى: أم تقولون هذا بناءً على دليل ظاهر .. أي هل عندك من دليل معقول يستند إلى كلام وحي سماوي مما نزل في كتب الأوّلين. فكيف إذاً تستسيغون اتخاذ شركاء من دون الله سبحانه وتعالى.

وباختصار، قد أشار بقوله تعالى أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض إلى انعدام أي دليل عقلاني، ولا شهادة إلهية على وجود الشركاء. وأشار بقوله أم بظاهر من القول إلى انعدام أي دليل يستند إلى الكتب السابقة أو الفطرة الإنسانية على صحة عقيدة الشرك.

وأما قوله تعالى بل زُيّن للذين كفروا مكرهم ، فاعلم أن فاعل (زُيّن) هو نفوسهم، وليس الله تعالى، والمعنى أن الإنسان عندما يعتاد خداع الآخرين يصبح هو وأولاده بالتدريج فريسةً للتأثيرات الهدّامة لمكره وخداعه. فمثل هؤلاء المخادعين يختلقون العقائد الوثنية خداعاً للناس ليستولوا على أموالهم باسم هذه الأوثان، ولكن بمرور الوقت يستحسنون بأنفسهم الأصنام تدريجياً، أما أولادهم فيقعون فريسةً لهذه الأوهام كلية.

وأضاف قائلا: وصدّوا عن السبيل أي أنهم عندما يقطعون صلتهم بالله تعالى يبدأون في اتخاذ شركاء له. ذلك أن الإنسان لا يستطيع في الواقع العيشَ بدون صديق ومعين، ولذلك عندما يبتعد عن الله تعالى يبحث عن السند والملاذ في أشياء أخرى. وهكذا ينشأ الإشراك بالله تعالى.

وهناك اختلاف في هذه المسألة بين القرآن الكريم وبين علماء مقارنة الأديان  الغربيين. فالقرآن يؤكد على أن عقيدة التوحيد أسبق زمناً من الشرك، ولكن هؤلاء يقولون بأن الناس كانوا مشركين في بداية الأمر، ثم بدأوا يفكّرون في وجود إله واحد، فنشأت نظرية التوحيد الإلهي (موسوعة الأديان، كلمة  (Polytheism.

ولكن التاريخ والواقع الحاضر يشهدان على صدق موقف القرآن الكريم. لقد كان اليهود والمسلمون موحدين في بداية الأمر، حتى إن المستشرقين أيضاً يعترفون بأن الرسول علّم التوحيد الكامل، ولكن انظروا كيف صار اليهود والمسلمون بمرور الزمن مشركين وثنيين عملياً. وهذا ما حدث بالناس في البداية. كانوا موحدين ثم صاروا مشركين. وهذا ما يؤكده القرآن الكريم هنا بأنهم عندما قطعوا صلتهم  بالخالق أخذوا يبحثون عن الملاذ في المخلوقات، وهكذا تسرب فيهم داء الشرك.

وأما قوله تعالى ومن يُضلِلِ الله فما له من هادٍ فاعلم أن (أضلَّ) لها ثلاثة معانٍ: أغوى أحداً، أو اعتبره غوياً، أو أهلكه. وبما أن الله تعالى لا يغوي أحداً، بل يهدي كما قال في هذه السورة نفسها: لو شاء الله لهدى الناس جميعاً ، فلا يمكن أن نأخذ قوله من يضلل الله بمعنى الإغواء، بل المراد أن من اعتبره الله غوياً أو من أهلكه الله فلا أحد يستطيع أن يهديه. والله تعالى عالم للغيب مطلع على بواطن الناس وسرائرهم  فلذلك لا يمكن أن يعتبر أحداً ظالماً ما لم يكن قد سدَّ هذا في وجهه طرق الهداية كلها. ويتأكد هذا المعنى بآية أخرى حيث قال الله تعالى وما يضل به إلا الفاسقين أي أنه تعالى لا يعد أحداً ظالماً إلا أن يكون من أهل السوء والعصيان.

لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ  الله مِنْ وَاقٍ * مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (الآيتان: 36:35)

شرح الكلمـات:

أشَقُّ: شقَّ الشيءَ: صدَعه وفرّقه. شقَّ عليه الأمرُ شقّاً: صَعُبَ. شقَّ على فلانٍ: أوقعه في المشقّة (الأقرب)

مَثل: المثلُ: الشِبْهُ والنظيرُ؛ الصفةُ؛ الحُجّةُ؛ يُقالُ: أقامَ له مثلاً أي حجةً؛ الحديثُ؛ القولُ السائر؛ الآيةُ (الأقرب)

  التفسـير:

المراد من قوله تعالى تجري من تحتها الأنهار أنه ستكون هناك أنهار جارية خلال بساتين الجنة. وفي هذا إشارة إلى توفُّر الماء على مقربة منهم، وإلى أن الأنهار سوف تكون ملكاً لهم.

واعلم أن “النهر” هو الماء الجاري في سهولة ويسر، وهكذا فكلمة (الأنهار) تشير إلى أن أهل الجنة سوف يحققون الترقيات الروحانية بسرعة دون أي عائق.

كما أن كلمة “النهر” تدلّ على الكثرة والسعة، لأن النهر أو القناة لا يحفر ولا يشق من أجل عشرة أو عشرين فداناً مثلاً، بل من أجل أراضٍ شاسعة. وفي هذا إشارة إلى أن أعمال المؤمن تكون كثيرة ومتنوعة، وأنه لا يكون ضيق الآفاق و قليل المعلومات كضفدع يعيش في ماء البئر، ويرى أن البئر هي الكون كله.

ثم باستخدام صيغة الجمع (الأنهار) أشار إلى أن المنافع والنعم المشار إليها بكلمة (الأنهار) ستكون أقساماً وألواناً.

وهذا ما يؤكده القرآن الكريم هنا بأنهم عندما قطعوا صلتهم  بالخالق أخذوا يبحثون عن الملاذ في المخلوقات، وهكذا تسرب فيهم داء الشرك.

وكلمة النهر تعني العمل في اللغة الروحانية، فالمعنى أن أعمال المؤمن المتنوعة الكثيرة ستتمثل له يوم القيامة على شكل أنهار كثيرة، وسيكون له نهر جارٍ إزاء كل عمل صالح تذكيراً له أن هذا النهر جزاؤك على عمل كذا وكذا.

وبيّن بقوله أُكُلُها دائمٌ وظلُّها أن الخريف لن يهاجم بساتين الجنة أبداً، بل ستظل مخضرةً نضِرةً على الدوام. بمعنى أنه لن يتخلل نعيم أهل الجنة وراحتهم أي انقطاع أبداً بل إنهم سينعمون بها إلى الأبد.

كما أشار بقوله أُكُلُها دائمٌ وظلُّها إلى دوام النعم بنوعيها الظاهري والباطني، لأن ثمار الشجرة تنعش باطن الإنسان وأما ظلّها فيريح ظاهر جسمه.

ووضّح بقوله تعالى(وعقبى الكافرين النار) أنهم لم يهتموا في الدنيا برقيهم الروحاني وإنما اتبعوا الآخرين دونما تبصّر ووعي وقالوا: بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا .. وكأنهم لم يعيشوا لأنفسهم وإنما لغيرهم. وهذا ما يُفعل بهم في الآخرة أيضاً حيث يُلقَون في النار التي لا ينفعها احتراقها شيئاً، وإنما ينتفع بها الآخرون.

Share via
تابعونا على الفايس بوك