قوامة القرآن على الكتب السماوية

قوامة القرآن على الكتب السماوية

مصطفى ثابت

تُثار في الغرب مزاعم كثيرة ضد التحدي القرآني القائل بأنه لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله. ويُقال أيضاً أنه ليس بالضرورة من وحي الله تعالى، بل إن محمداً كان طفرة من بين البشر. إذ يقولون إنه حسب قانون الطفرة يُمكن أن يُؤتي فرد من الأفراد موهبة فائقة أو قدرة خارقة، لا يماثله فيها أحد من البشر.

وعلى هذا.. فإن كان القرآن كتاباً فريداً لم يستطع أحد أن يأتي بمثله، فلا يدل هذا بالضرورة على أن ذلك الكتاب من وحي الله تعالى، بل يمكن القول بأن محمداً كان رجلاً عبقرياً.. وإنه كان طفرة من بين البشر.

اقرأ الرد على هذا البهتان وافحص الدلائل على أن القرآن نزل من عند الله، من خلال كتاب: القرآن معجزة الإسلام الذي سننشره عبر حلقات في هذه الزاوية. “التقوى

 ثانياً: القرآن.. الكتاب القيّم على الكتب الأخرى

إن المعنى الثاني من معاني كلمة “قيّم” كما تقدم هو من يُشرف على تربية الصغار وتنشئة القُصّر، وهو الذي يرعى مصالحهم ويقودهم ويوَجههم إلى ما فيه الخير لهم. وبهذا المعنى.. فإن القرآن قيّم على الكتب السابقة. يقول تعالى:

(وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ۖ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ) (المائدة: 49)

فالقرآن جاء مُصدقاً للكتب التي بين يديه.. أي التي أُنزلت من قبله.. لأنه جاء تصديقاً وتحقيقاً للنبوءات التي احتوتها تلك الكتب عن نزول القرآن، كما أنه مهيمن على تلك الكتب، أي أنه شاهد ورقيب وأمين على هذه الكتب، لأنه هو القيم عليها. ويذكر القرآن أربعة أسباب تجعل لهذا الكتاب العزيز الحق في هذه القوامة:

أولاً: تتحقق قوامة القرآن على الكتب السابقة من حيث إنه احتفظ بالتعاليم الصالحة التي كانت في الكتب السماوية الأخرى، ونسخ وأبطل التعاليم التي لم تعد تصلح للإنسانية جمعاء.. رغم أنها كانت صالحة في فترة من الفترات، أو في مرحلة من المراحل التاريخية التي مرّت بها مجموعة معينة من البشر. وبذلك يكون القرآن بمثابة مجمع الحكمة الذي يحتوي على كل الخير الذي نزل في الكتب السابقة، ويضيف إليه ما تحتاجه البشرية في حركة تقدمها عبر السنين.

ثانياً: تتحقق قوامة القرآن على الكتب السماوية الأخرى من حيث إنه يضع المعيار الأسمى للتفاضل بين الناس، بما يدعو لإزالة أسباب الفُرقة والخلاف، ودعوة الناس إلى التوافق والائتلاف. فهو بمثابة الأب الروحي لكل الكتب السابقة.. ولأتباعها أيضاً.. يدعوهم إلى ما فيه خيرهم، ويُوَحد بينهم باعتبارهم جميعاً أبناء أسرة واحدة.

ثالثاً: تتحقق أيضاً قوامة القرآن على الكتب الأخرى من حيث إن القرآن يُبيّن أوجه الخلاف الذي نشأ بين أتباع تلك الكتب، كما أنه يوضح حقائق الأحداث والأمور التي وقعت في سالف الأزمان، غير أن تلك الحقائق قد فسدت أو اندثرت بسبب ما يكون قد اعترى الكتب السابقة من تغيير او تحريف بسبب طول الزمن.

رابعاً: تتحقق كذلك قوامة القرآن على الكتب السماوية الأخرى من حيث إنه يستخلص منها العبر والحِكم حتى تكون هادياً ونبراساً للأمم جميعاً. فالقرآن حين يذكر الأحداث الماضية.. لا يذكرها كما تذكرها كتب التاريخ او المذكرات وسجلات تدوين الحقائق، وإنما يذكرها استخلاصاً للحكمة والعبرة.. إنذاراً وتبشيراً بما يمكن أن يحمله مستقبل الأيام.

وسوف نتناول هذه الأوجه الأربعة بشيء من التفصيل:

أولاً: القرآن مجمع الحكمة

إن القرآن يؤكد على أنه لم تكن من حقيقة نافعة تضمنتها الكتب السابقة إلا وقد حفظها القرآن وجاء بما يفوقها، وهو في كل هذا يُطمئن القارئ بأنه كتاب يخلو من التناقض ويسمو عن الاختلاف. يقول سبحانه وتعالى:

(إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ) (الإسراء: 10)

ولأنه الكتاب القيّم الذي يهدي للتي هي أقوم، فكل هداية احتوتها الكتب السابقة قد احتواها القرآن أيضاً أو زاد عليها وأحسنها وأكملها. يقول تعالى: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ) (الإسراء: 90)

(وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (الزمر: 28)

وهذه الآيات الكريمة تؤكد لأتباع الأديان الأخرى.. وأصحاب الكتب السابقة.. على ان القرآن ليس مجرد كتاب يماثل الكتب المقدسة الأخرى التي اعتراها الكثير من الإضافة، وضاع منها الكثير مما كانت تحويه من الحكمة، حتى إن بعضاً منها صار خُلْواً إلا من أساطير وخرافات، بل إنَّ القرآن هو الكتاب الذي يحتوي على كل مثلٍ تتطلبه الحكمة، وكل موضوعٍ يقود إلى الهدى، وكل أمر يؤدي إلى الاستقامة والفلاح في أمور الدنيا والآخرة. فالقرآن يفيض بشتّى الموضوعات المختلفة دينية وسياسية، علمية واقتصادية وتاريخية وأخلاقية وغيرها. كما أنَّ القرآن يحتوي على التعاليم التي تساعد الإنسان على السمو من الحالة الحيوانية البدائية إلى الحالة الأخلاقية، ثم تأخذ بيده لترفعه من الحالة الأخلاقية إلى الحالة الربّانية، فتصل به تعاليم القرآن لتجعل منه إنساناً ربّانياً. إنَّ الكتب السابقة تقف عاجزة عن الوصول إلى هذا المقام.. بل إنها تعجز حتى عن رؤية تلك الإمكانات التي يفتح القرآن أبوابها، ويقود السالك في دروبها، ويصل به إلى غايته ومقصده.

ثم يُعلن القرآن تحدّياً بكل قوة فيقول:

وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (الفرقان: 34)

لا شك أنَّ الكتب السماوية السابقة قد نزلت من عند الله تعالى، وكان الغرض من إنزالها أن تهدي الناس الذين أُنزلت إليهم إلى الطريق المستقيم. ولكن الله تعالى لم يَعِد بحفظ تلك الكتب من أيدي العبث والتحريف، ولم يحفظ لغاتها الأصلية التي نزلت بها، فضاع الكثير منها خلال الترجمة من لغةٍ إلى أخرى. ولكنها مع ذلك قد تحتوي على بعض آثار ذلك الهدي الإلهي، وقد يجد الإنسان فيها بصيصاً من نور الهداية، ولكن هذا لا يدل على أنَّ هذه الكتب تصلح الآن.. خاصةً بعد نزول القرآن.. لتكون مصدراً متكاملاً للهُدى والاستقامة. ومهما احتوت تلك الكتب على بقايا من علم.. أو فضلات من حقائق.. فإنَّ القرآن.. دائماً وأبداً.. يأتي بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا .

إنَّ القرآن يحوي من الحكمة والعلم والعرفان ما يفوق أي كتاب آخر، والقرآن حين يُعلن أمراً لا يفعل ذلك من فراغ، ولا يقدّم دعوى بغير دليل. ولذلك كان لا بد من تقديم التحدي وتوضيح الأدلة، حتى يعلم أتباع الأديان الأخرى جميعاً مقدار عظمة شأن القرآن.. ليس بهدف التقليل من شأن الأديان الأخرى وكتبها المقدّسة، ولا بغرض الحطّ من معتقدات أصحاب الأديان السابقة.. بل بهدف تبيين الحق لهم، وتوضيح الصالح أمامهم، وتقديم الخير إليهم.

ولعله من المفيد أن نشير هنا إلى مثال واحد يُبرز سمو تعاليم القرآن عند مقارنتها بتعاليم الكتب السماوية الأخرى. وليس أفضل من التعليم الذي يحضُّ على العدل بين الناس، فإنَّ المجتمع الإنساني المتحضّر لا يمكن أن يقوم بغير العدل. ولو بحثنا في الكتب المقدّسة لدى الأديان الأخرى عن كيفية معالجة موضوع العدل لا تضح لنا مقدار سمو تعاليم القرآن في معالجة هذا الموضوع الهام.

إنَّ تعاليم الفيدا.. كتاب الهندوس المقدّس.. لا تكفل العدالة والمساواة بين الناس، فهي تقسم أفراد المجتمع الهندوسي إلى أربع طبقات عليا وسفلى، وهي حسب ترتيبها التنازلي: أصحاب الأملاك، والتجار، والجنود، والمنبوذون (وهم كل من لا ينتمي إلى الطبقات الثلاث الأولى).

وتقول الفيدا إنه إذا اقترض إنسان من آخر قرضاً، وكان المقترض ينتمي إلى طبقة عليا والمقرض ينتمي إلى طبقة أدنى، وحلَّ موعد السداد ولم يسدد المقترض الديْن فليس عليه شيء. ولكن إذا اقترض إنسان ينتمي إلى طبقة سُفلَى من آخر ينتمي إلى طبقة عليا ولم يسدد الدين في الميعاد، فمن حق صاحب الدين أن يضعه في السجن. كذلك فإنه محرَّم على أي إنسان من طبقة المنبوذين أن يقرأ كتاب الهندوس المقدَّس، وإلّا يُقطع لسانه، وإذا استمع إلى الكتاب المقدَّس.. يُصبُّ في أذنيه رصاص مصهور.

كذلك لم تُراعِ التوراة تطبيق العدالة بين الجميع، فهي أيضاً تقسم الناس في العالم إلى قسمين: يهود وأمم. وتعتبر أنَّ اليهود هم شعب الله المختار، ولذلك فهي تُحرِّم على اليهودي أن يأخذ الربا من يهودي مثله، ولكنها تعطي اليهودي الحق في أخذ الربا من غير اليهود. وقد ركّزت التوراة على الانتقام ومبدأ العين بالعين والسن بالسن. ولعل هذا التعليم الانتقامي كان ضرورياً في مرحلةٍ من المراحل التي مرَّ بها بنو إسرائيل، بعد أن عاشوا في مصر الفرعونية ردحاً طويلاً من الزمن، يعملون كالعبيد في أعمال السخرة، وتعوّدوا فيها على حياة العبودية حتى صاروا مثل الحيوانات، يعملون ويأكلون، وفقدوا الكرامة الإنسانية. فكان لا بد من إيقاظ روح النضال فيهم، وتعويدهم على المطالبة بحقوقهم البشرية، والانتقام لكرامتهم الإنسانية. ومن هنا كان الأمر يقتضي التركيز على مبدأ العين بالعين والسن بالسن. مما يدلّ على أنَّ شريعة التوراة وأحكامها كانت مرحلية وليست أبدية.

وأما الإنجيل فقد اعتبر الشريعة لعنة، ونسخ أحكام التوراة، واستبدل بها تعاليم ثبت أيضاً أنها لا تحقّق العدالة وإنما تشجّع المعتدي على استمراره في العدوان. ولعلّه من متطلّبات الحق هنا أن نذكر أنَّ اعتبار الشريعة لعنة، ونسخ أحكام التوراة، لم يكن من تعاليم الإنجيل الذي أتى به السيد المسيح عليه السلام، وإنما كانت هذه من تعاليم بولس الذي لم يكن من تلاميذ المسيح ولا من بين الذين تلقّوا من التعليم في حياته، بل إنّه كان من أكبر أعداء المسيحيين الأوائل وكان يضطهدهم أشدَّ الاضطهاد، ولكنه دخل المسيحية وادخل إليها الكثير من التعاليم التي لم يتفوّه بها المسيح بتاتاً.

يقول بولس في رسالته إلى أهل غلاطية إنَّ المسيح بموته على الصليب قد صار ملعوناً (والعياذ بالله) لأنه حمل اللعنة من على الناس، وذلك لأنَّ الناس جميعاً كانوا ملعونين بعد خطية آدم. وبالتالي فقد نسخ بولس كل تعاليم التوراة، واعتبر أنَّ الناموس.. أي القانون الإلهي أو الشريعة.. مصدر اللعنة التي خلّصهم منها المسيح، فقال:

“المسيح افتدانا من لعنة الناموس بأن صار لعنةً لأجلنا” (غلاطية 3: 13) ومن تعاليم السيد المسيح التي جاءت في الإنجيل: إذا أعثرتك عينك فاقلعها.. إذا أعثرتك يدك فاقطعها.. من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر. ولعلّ هذه التعاليم كانت ضرورية في وقتها حيث إن اليهود قد بالغوا في تطبيق مبدأ العين بالعين والسنّ بالسن حتى فقدوا كل إحساس بالرحمة والشفقة، ونسوا مبدأ العفو والمغفرة. فأراد المسيح عليه السلام أن يُغيّر من طبيعتهم القاسية، ويُعَوِّدهم على العفو والتسامح والرحمة. ولكن العفو في كل مقام غير مستحب، وأحياناً تتطلب الرحمة بالمجتمع عامةً تطبيق العقوبة على المذنب أو مقاومة المعتدي. ولذلك فقد اعترف رجال الكنيسة المسيحية بعدم جدوى التطبيق العملي لهذه التعاليم، فقال أسقف كانتربري الجملة التالية أثناء الحرب بين بريطانيا والأرجنتين حول جزر الفولكلاند:

“It would have been a mockery if the Christian principle of turning the other cheek had been applied in the conflict over the Folkland islands”.

“لو أنَّ المبدأ المسيحي الخاص بإدارة الخد الآخر قد طُبِّق في النزاع على جزر الفولكلاند لكانت مهزلة”

أما القرآن فهو يحقّق العدل للجميع دون أي تمييز أو محاباة، يقول تعالى:

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ (النحل: 91)

وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى (الأنعام: 153)

كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا (المائدة: 9) وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ (أي لا يمنعكم) شَنَآنُ (أي عداوة)

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ (النساء: 59)

هكذا يبيّن القرآن أنَّ العدل يجب أن يُطبّق على الجميع.. سواء كانوا من ذوي القربي أو من غيرهم.. وسواء كانوا من الأعداء أو الأصحاب.

إنَّ العدل حقٌّ لكل الناس.. الغني فيهم والفقير.. القوي فيهم والضعيف. ولهذا فإنَّ القرآن يأمر بتأدية الأمانات إلى أهلها، ثم يُتبع ذلك بأمرٍ آخر وهو الحكم بالعدل بين الناس.. كل الناس.. جميع الناس.. بلا مُحاباةٍ لجنسٍ على جنس أو قبيلةٍ أو قريب أو صديق.

والقرآن يُرسي قواعد العدل حتى عند التعامل مع المسيء.. فيأمر بإيقاع العقوبة على قدر الإساءة.. إذا كان في ذلك صلاح المجتمع، ويأمر بالعفو عن المسيء.. عن المسيء.. إذا كان في العفو إصلاح المسيء. فهو لا يقول بتطبيق مبدأ العين بالعين والسن بالسن في جميع الأحوال، ولا يقول بتطبيق مبدأ العفو عن المسيء وإدارة الخد الآخر في كل الظروف. يقول تعالى:

وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ۖ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (الشورى: 41)

إنَّ من مقتضيات العدل أن يُعاقَب المسيء على السيئة التي ارتكبها بالقدر الذي اقترفته يداه من سوء، وذلك حتى يمتنع عن الإساءة إلى غيره من الناس. غير أنه في بعض الأحوال يكون المسيء قد ارتكب السوء بغير قصدٍ للإيذاء، أو يكون قد ندم ندماً شديداً على ما اقترفه من سوء، أو يكون إيقاع العقوبة عليه يؤدي إلى وقوع ضررٍ كبير وإيذاءٍ شديد لغيره من الناس، أو لأي سببٍ آخر لا يؤدي بالضرورة إلى إصلاح الأمور بل إلى مزيد من الإساءة والفساد.

وفي هذه الأحوال.. حينما يكون العفو عن المسيء يؤدي إلى الصلاح.. يكون العفو هو الأولى والأجدر بالاتباع، ولهذا فق وعد الله تعالى من يعفو في هذه الظروف أن يكون أجره على الله تعالى، و الله تعالى هو العدل المطلق.

وهكذا تتضح عظمة التعاليم الإسلامية.. فيما يختص بمبدأ تطبيق العدل بين الناس. وهكذا شأن جميع التعاليم الأخرى التي تنظم العلاقات بين الناس في المجتمع الإنساني. ولا يوجد كتاب آخر  من الكتب المقدسة التي أنزلها الله تعالى للبشر يستطيع أن يسمو على تعاليم القرآن، ولهذا كان من الحق أن يصف الله تبارك وتعالى القرآن الكريم بأنه الكتاب القيّم.. لأنه يِهْدِي لِلّتِي هِيَ أَقْوَمُ .

ثانياً: القرآن يضع المبدأ الأسمى لتكريم الإنسان

إنَّ من أعظم الأمور التي أدت إلى الخلاف والتباعد بين الأقوام التي نزلت إليها الكتب السابقة هو أنَّ تلك الكتب كانت تعتبر أنَّ القوم الذي أُنزل إليه ذلك الكتاب هو القوم المفضّل عند الله تعالى، فهو شعب الله المختار، الذي اختصّه الله تعالى بالفضل والهداية، وحرم منها كل الشعوب الأخرى. ولذلك.. فإنَّ أتباع كل من هذه الكتب السابقة لا يعترفون بقدسية الكتب السماوية الأخرى، بل لا يعتبرونها كتباً سماوية على الإطلاق. ولا يؤمن أتباع تلك الكتب بالأنبياء الذين أرسلهم الله إلى الأمم الأخرى، لأنّهم يظنون أنهم وحدهم الذين نالوا الهداية من الله تعالى، فهم لا يعترفون بأنبياء الأمم التي تختلف عنهم.

هكذا كانت تعاليم الفيدا كتاب الهندوس المقدَّس، وهكذا كانت تعاليم بوذا، وهكذا كانت تعاليم التوراة التي اُنزلت على بني إسرائيل، وهكذا كان تعليم السيد المسيح الذي أوصى تلاميذه وحوارييه أن لا يُبلّغوا الدعوة لغير اليهود، ومنعهم من الذهاب إلى مدن غير الإسرائيليين.. إذ يحكي لنا إنجيل متّى عن وصية السيد المسيح لتلاميذه فيقول:

“هؤلاء الاثنا عشر ارسلهم يسوع وأوصاهم قائلاً: إلى طريق أمم لا تمضوا وإلى مدينةٍ للسامريين لا تدخلوا ولكن اذهبوا بالحري إلى خراف بيت إسرائيل الضالة” (إنجيل متّى10: 5-6)

كذلك فإنّ تعاليم السيد المسيح كانت لليهود فقط، واليهود كانوا يعتبرون غيرهم كالكلاب والخنازير. فمن تعاليم السيد المسيح التي جاءت في الإنجيل وصاياه لتلاميذه:

“لا تعطوا القدس (أي الشيء المقدَّس) للكلاب ولا تطرحوا دُرَرَكم قُدَّام الخنازير لئلا تدوسها بأرجلها وتلتفت فتمزّقكم” (إنجيل متّى 7: 6).

وأيضاً تصرّفه العملي الذي اتّبعه مع غير اليهود يدلّ بوضوح على أنه لم يكن مبعوثاً للعالم أجمع بل كان رسولاً إلى اليهود فقط، تماماً كما يؤكد القرآن على ذلك، وكما يوضّح المقطع التالي من إنجيل متّى: (ما بين الأقواس أُضيف للشرح)

“ثم خرج يسوع من هناك وانصرف إلى نواحي صور وصيداء، وإذا امرأةٌ كنعانية (أي ليست يهودية) خارجة من تلك التخوم صرخت إليه قائلة: ارحمني يا سيد يا ابن داود. ابنتي مجنونةٌ جداً. فلم يجبها بكلمة (لأنها ليست يهودية)، فتقدَّم تلاميذه وطلبوا إليه قائلين: اصرفها لأنها تصيح وراءنا. فأجاب وقال: لم أُرسَل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة. فأتت وسجدت له قائلةً يا سيد أَعِنّي. فأجاب وقال: ليس حسناً أن يُؤخذ خبز البنين (أي اليهود) ويُطرح للكلاب (أي غير اليهود)” (إنجيل متّى 15: 21-26).

وأما القرآن الكريم.. فقد أكّد على أنَّ الله تعالى قد أنزل هُداه إلى جميع الأمم، وأنه لم يكن من أمّة إلا وبعث الله تعالى إليها رسولاً يدعوهم إلى عبادة الله، وفرض على المسلمين أن يؤمنوا بجميع الكتب التي أنزلها الله تعالى على الأمم السابقة، وأن يؤمنوا بكل الأنبياء والرسل الذين بعثهم الله إلى الأمم الغابرة، سواء عرفوهم أم لم يعرفوهم، وسواء جاء ذكرهم في القرآن أو لم يذكر القرآن عنهم شيئاً.

يؤكد الله تعالى على أنه أنزل هدايته إلى كل الأمم فيقول:

وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (فاطر: 25)

وَلِكُلِّ أُمَّةٍۢ رَّسُولٌ ۖ فَإِذَا جَآءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (يونس: 48)

{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (النحل: 37)

كذلك يُبيّن الله سبحانه أنه أنزل الكتب وجعل لكل قوم المناسك والشرائع فيقول:

{لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ} (الحج: 68)

{لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} (الحج: 35)

{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (المائدة: 49)

وقد أوضح سبحانه أنه لم يذكر في القرآن المجيد أسماء كل الأنبياء والرسل فقال:

{وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} (النساء: 165)

وليس معنى هذا أن ننكر نبوّة نبي لأن اسمه لم يأت في القرآن، أو نكفر برسول من الرسل لأن الله لم يذكر عنه شيئا في كتابه العزيز، وإنما علّمنا سبحانه كيف نتعرّف على هؤلاء الأنبياء والرسل الذين لم يأت ذكرهم في القرآن، وأخبرنا الله تعالى أن ما نُسب زورا إلى الله تعالى لا يمكن أن يقوم ويستمر ويكون له من الأتباع العدد الغفير لردح طويل من الزمان، فإن الكلمة الخبيثة كالشجرة الخبيثة التي اجتُثت من فوق الأرض فما لها من قرار.

نعم إن الحق قد يحرفه الناس مع تقادم الزمان، وبالتالي فإن الدعوة القائمة على الحق في مصدرها وفي منبعها قد تحيد عن الطريق السوي مع مرور الأيام ومع ذلك يأذن الله باستمرار وجود تلك الدعوات إلى فترة معينة رغم ما أصابها من فساد، ورغم ما اعتراها من انحراف، ولكن لا يشملها ينصرته وتأييده مما يؤكد أنها لا قيمة لها الآن عند الله تعالى.

ولعلنا نرى فيما أصاب المسيحية ما يؤيد هذا الرأي.. إذ يخبرنا سبحانه أن عيسى ابن مريم جاء بالتوحيد وأمر أتباعه بعبادة الله وحده، ولكن مع تقادم الأزمان تحوّلت المسيحية إلى دين يؤمن بالتثليث. وتعتبر الكثير من الفرق المسيحية أن المسيح هو الله، ومع ذلك فإن المسيحية.. التي قامت على الحق في مصدرها ومنشئها.. ما زالت موجودة، ولها من الأتباع الملايين من الناس. أما الدعوات الباطلة.. التي قامت في مصدرها على الافتراء الباطل على الله تعالى.. كأمثال دعوة مسيلمة الكذّاب وسجاح الكاهنة والأسود العنسي وغيرها، فقد ظهرت.. وكان لها شوكة لفترة قصيرة.. ثم اندحرت وماتت وفنيت ولم يبق لها من أثر. وحين ننظر إلى الأديان الأخرى مثل الهندوسية والبوذية وغيرها.. نجد أنها قامت منذ زمن سحيق، وما زالت موجودة ولها الكثير من الأتباع، مما يدلنا على أن تلك الأديان في منشئها وفي مصدرها كانت من عند الله تعالى، ثم انحرفت مع مرور الزمان وتقادم الأيام، وأصابها ما أصابها من التغيير والتبديل حتى صارت على ما هي عليه الآن. لهذا اقتضى أمر الله الحكيم الذي نزل في القرآن الكريم أن يؤمن المسلمون بجميع الكتب وجميع الرسل الذين أرسلهم الله تعالى إلى جميع الأمم في جميع الأزمنة، وجعل ذلك شرطا من شروط دعائم الإيمان فقال:

{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} (البقرة: 286)

وقد حذر الله عز وجل من الكفر برسله كما حذر من الكفر به سبحانه، واعتبر أن الكافرين حقا هم أولئك الذين يريدون أن يفرقوا بين الإيمان بالله والإيمان بالرسل، أو أولئك الذين يؤمنون ببعض الرسل ولا يؤمنون بالبعض الآخر، فإن إنكار نبي واحد يعتبر إنكارا وكفرا بجميع الأنبياء والرسل، وذلك لأن دلائل صدق الأنبياء واحد هو الكفر بجميع الأنبياء كما هو كفر بمن أرسله. يقول تعالى:

{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (151) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (152) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (النساء: 151-153)

وأما الدعوات الإسرائيلية.. وما شاكلها.. التي تقوم على أن الله تعالى اختار بني إسرائيل.. أو قوما معينا دون الناس، وجعلهم شعب الله المختار، واختصهم بالهداية الربانية من دون خلقه جميعا.. فهذه كلها دعوات باطلة. ومما يؤسف له أن تلك الأفكار الكاذبة، والإسرائيليات المروية، قد تسربت إلى أذهان المسلمين، ولذلك نسمع عن تقسيم الديانات إلى ديانات سماوية وديانات وضعية. وإذا استثنينا الإسلام، فإن الديانات السماوية.. في زعم من يقول بهذا الرأي.. هي الديانات التي جاءت إلى بني إسرائيل. كما أننا نسمع عن كتب مساوية وكتب وضعية. وهم يقولون إن الكتب السماوية (عدا القرآن) هي الكتب التي أنزلها الله تعالى على بني إسرائيل. وهكذا تنتشر تلك الأغاليط التي روّجها اليهود والنصارى بين المسلمين، رغم أنها تتعارض مع ما جاء في كتاب الله العزيز الذي أوضح.. كما سبق بيانه.. أن الله لم يترك أمة من الأمم بغير شريعة أو بدون هداية.

بهذا وضع القرآن دعائم الإتحاد بين الأمم، ويُقيم أسس الائتلاف بين الشعوب، ويبني أركان التوافق والمحبة بين أتباع جميع الأديان. فالمسلم حين يسمع عن دين من الأديان.. يرى في وجود ذلك الدين دليلا على رحمة الله وفضله على من أنزله إليهم، وتصديقا لما قاله الكتاب العزيز من إرسال الرسل إلى كل الأمم. وبهذا فهو لا ينظر إلى أتباعه على أنهم ينازعونه فضل الله.. كما يفعل أتباع الأديان الأخرى تجاه بعضهم البعض.. ولكنه يرى وجودهم برهانا على فضل الله، وبهذا يتوافر لديه الاحترام نحو هؤلاء، وتفيض نفسه بالرغبة في دعوتهم إلى الحق الكامل، دون استعلاء أو استكبار، وإنما تحديثا بنعمة الله ودرءا للاختلاف والفُرقة. ولهذا وضع الكتاب العزيز المعيار الأسمى للأفضلية والتكريم بين الناس.. جميع الناس، فقال تعالى:

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات: 14)

هذا هو المعيار العظيم الذي لا نجده في أي كتاب من الكتب السماوية سوى القرآن الحكيم.. إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ لم يقل إن أكرمكم عند الله هم العرب أو بنو اسماعيل أو بنو إسرائيل، ولم يقل إن أكرمكم عند الله هم اليهود أو النصارى أو الهندوس، وحتى لم يقل إنهم المسلمون، بل أَتْقَاكُمْ هو الذين ينال الإكرام من الله تعالى. ومن الواضح أن الخطاب في هذه الآية الكريمة ليس موجها إلى المسلمين أو المؤمنين فقط.. بل هو خطاب عام لكل الناس، سواء كانوا من بين المؤمنين بالإسلام.. أو من بين المؤمنين بجميع الأديان الآخرى أيضا.

إن هذا المعيار الذي وضعه القرآن لتكريم الإنسان هو الذي يدعو للتقارب والتوافق، لأنه ينبني على علاقةالإنسان بخالقه، وليس على نسبه أو قبيلته أو أسرته أو سلالته أو جنسه أو لونه، وبذلك يمكن إزالة أسباب التباعد والفُرقة والاختلاف بين الناس.

Share via
تابعونا على الفايس بوك