الخطيئة الموروثة والصلب.. تخمين وأماني رجال الدين المسيحي

الخطيئة الموروثة والصلب.. تخمين وأماني رجال الدين المسيحي

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

الخليفة الرابع للمسيح الموعود (عليه السلام)

هذا الكتاب دراسة تحليلية موثقة للدفاع عن الحق الذي قامت عليه المسيحية الأولى النقية التي صدع بها المسيح الناصري عيسى بن مريم عليه السلام .  كما أنه بيان يكشف الحقيقة التي حجبها تجّار الدين وسماسرة الخلاص، زبانية الترهيب وأصحاب صكوك الغفران.

والحق أن العقائد المسيحية قد اكتسبت صورتها الحالية من خلال عملية تغيير ممتدة على تاريخ المسيحية له تقريباً. فبدلا من الخوض في جدال لا نهاية له حول عملية التغيير تلك ، اختار الكاتب دراسة العقائد المسيحية الحالية و اختبارها على محكّ المنطق والعقل. وبالإضافة إلى موضوعات أخرى قد تمّ في هذا الكتاب بحث مسائل هامة كبنوة المسيح ، والكفارة، الثالوث، المجئ الثاني للمسيح.

هذا عزيزي القارئ باختصار شديد هو محتوى هذا الكتاب القيّم : “المسيحية رحلة من الحقائق إلى الخيال” لحضرة ميرزا طاهر أحمد (رحمه الله رحمة واسعة). ورأت أسرة “التقوى” نشره على صفحاتها عبر حلقات متسلسلة نظرا إلى الدعاية الواسعة التي نشطت بشكل خطير في الآونة الأخيرة صوتاً وصورةً وكتابةً بُعَيد الدمار الذي حلّ – ولا يزال يحلّ- بالمسلمين وأراضيهم من قِبل “الدجال”.. القوى المادية للمسيحية بالتواطؤ مع الصهاينة. ومما لا شك فيه أن هذا الكتاب بَيان حُبٍّ صادق مخلص للمسيح والمسيحيين في جميع أنحاء المعمورة. كما أنه رسالة حب لهم، لأنه يقودهم إلى حقيقة مَن يحبون وما يحبون: المسيح الحق ، والمسيحية الحقة. ولقد آن الأوان لأن تُفني المسيحية الحقة ضَلال من حرّفها وضيّعها، ولتعود بأجيالها وعالمها كلّه إلى هدية رب العالمين. وقد حصل شرف نقل الكتاب إلى اللغة العربية للكاتب السوري الأستاذ محمد منير الأدلبي وراجعه ثّلة من أبناء الجماعة المتضلّعين في اللغة والدين. ” التقوى

لا يمكن ليسوع أن يكفّر عن أحد

أخيراً وليس آخراً، كيف يمكن أن يولد يسوع بلا خطيئة وقد وُلد من أمّ بشرية؟. فإذا كانت خطيئة آدم وحوّاء قد لَوّثت جُلّ ذريتهما فيجب، كنتيجة طبيعية، أن يرث جميعُ الذكور والإناث في هذه الذرية النزعةَ نفسها إلى ارتكاب الخطيئة. وربما كانت الإناث أكثرَ عرضة لارتكاب الخطيئة ، لأنها هي التي كانت الأداة في يد الشيطان فأغوتْ آدم؛ فلذا مسؤولية الخطأ تقع على عاتق حوّاء أكثر من آدم.

وفيما يتعلق بولادة المسيح فمن الواضح إن بنتاً من بنات حواء قد ساهمت بالحصة الكبرى في هذه الولادة. والسؤال الذي يبرز هنا بقوة هو: هل  ورث يسوع أيّاً من الكروموسومات الحاملة للصفات الوراثية من أمه البشرية أم لا؟ فإذا كان قد ورث حقاً فمن المستحيل عليه أن ينجو من حتمية الخطيئة الموروثة. وإن لم يرث أية كروموسومات من أمه أو من الإله الأب فإن ولادته يكون في الحقيقة معجزةً خيالية مضاعفة، لأن المعجزة الخيالية  مضاعفة، لأن المعجزة الخيالية فقط هي التي يمكنها أن تأتي بمولود لا صلة له بأبيه ولا بأمه.

وما يبقى غامضاً هو لماذا لم تنقل الكروموسوماتُ المزوّدة من قِبَل حواء نزعةَ الخطيئة إلى المولود يسوع؟ ولنفترض أن ذلك قد حدث بشكل ما، وأن يسوع كان يملك تلك البراءة من الخطيئة حتى يتحمل خطايا البشر بشرط إيمانهم به، فسوف تنشأ  مشكلة أخرى وهي التساؤل : ماذا حدث لذريّة آدم وحواء الذين ماتوا قبل فجر المسيحية؟ ماذا حدث للبلايين الذين كانوا منتشرين عير العالم في القارات الخمس جيلاً بعد جيل. لا بدّ أنهم قد عاشوا وماتوا دون أمل أو حتى دون احتمال أن يسمعوا مطلقاً عن المسيح مخلّصهم الذي لم يكم قد وُلد بعد! ففي هذه الحالة لا بد أن البشر كلهم بين عهد آدم والمسيح قد حُكم عليهم بالهلاك إلى الأبد وبكل تأكيد!

لِمَ لم يُعط هؤلاء المساكين حتى أدنى فرصة ليُغفر لهم؟ هل سيُغفر لهم عن طريق يسوع المسيح بأثر رجعي؟ وإذا كان كذلك، فَلِمَ؟

ثم ماذا حدث لهؤلاء المقيمين في بقاع أخرى من العالم الأوسع بكثير من أرض يهودا الصغيرة، حيث لم يسمع الناسُ مطلقاُ عن المسيحية حتى في زمنِ حياة يسوع المسيح، فلم يؤمنوا به في حياته، وما كان باستطاعتهم أن يؤمنوا به أنه ابن الله.

فهل ستُغفر خطاياهم أم أنهم سيُعاقبون؟ وإذا لم يُعاقبوا على خطاياهم فلماذا ولأي سبب؟ وإذا عوقبوا فبأي منطق أيضاً؟ وأية فرصة كانت لديهم؟ لقد كانوا عاجزين تماماً عن فعل أي شيء! يا له من مفهوم مشوّه للعدل المطلق!

اليهود سيحتفلون في نشوةٍ، ويعلنون أنه مدَّعٍ كاذب قد ثبت كذبه في نهاية المطاف دون أدنى شك بناءً على ما جاء في الكتاب المقدّس. كان هذا هو السبب وراء تلهفه الكبير للنجاة من كأس الموت المرّ، ولكن لم يكن هذا من منطلق الجُبن، بل خوفاً من أن يُضلّل قومه ويفشلوا في إدراك الحقيقة لو مات على الصليب.

تضحية بالإكراه

والآن دعونا نتحوّل إلى مسألة الصّلب نفسها لنجد أنفسنا أمام معضلة أخرى لا تُحلّ.

يقال بإصرار إن يسوع قد قدّم نفسه طوعاً منه لله الأب، فجُعل كبش فداءٍ عن خطايا جميع البشر، ولكن طبعاً إذا آمنوا به ولكن الواقع أنه حين دنا وقت تحقيق أمنيته وبدأ بصيص الأمل للبشرية الخاطئة يظهر كفجر يوم جديد، فبدلاً من أن يرى يسوع في بهجته وسعادته ونشوته المتوقعة في تلك اللحظة الفريدة من التاريخ البشري، ونرى أن أحلامنا قد تبخرت وتوقعاتنا قد تبدّدت في تلك اللحظة الحاسمة! فبدلاً من أن نرى يسوعاً مخلّصاً ينتظر بفارغ الصبر ساعة الفرح والابتهاج، نجد يسوعاً يبكي ويصرخ داعياً ومتوسلاً إلى الله الأب أن يُبعد عنه كأسَ الموت! لقد عنّف يسوع أحد حوارييه بشدّة عندما وجده يغالب النعاس بعد قضاء يوم طويل ومشؤوم، وبعد معاناة ليلة قاتمة كئيبة سيئة له ولسيده المقدس. لقد جاء ذكر هذا الحدث في الإنجيل كما يلي:

<< ثم ذهب يسوع وتلاميذه إلى بستان يدعى جثسيماني، وقال لهم: <<اجلسوا هنا ريثما أذهب إلى هناك وأصلي>>. وقد أخذ معه بطرس وابني زبدي وبدأ يشعر بالحزن والكآبة. فقال لهم: << نفسي حزينة جدا حتى الموت! ابقوا هنا واسهروا معي! >> وابتعد عنهم قليلا وارتمى على وجهه يصلي، قائلا: << يا أبي، إن كان ممكنا، فلتعبر عني هذه الكأس: ولكن، لا كما أريد أنا، بل كما تريد أنت!>> ورجع إلى التلاميذ فوجدهم نائمين، فقال لبطرس: << أهكذا لم تقدروا أن تسهروا معي ساعة واحدة؟ اسهروا وصلوا لكي لا تدخلوا في تجربة. إن الروح نشيط؛ أما الجسد فضعيف>>. وذهب ثانية يصلي، فقال: << يا أبي إن كان لا يمكن أن تعبر عني هذه الكأس إلا بأن أشربها ، فلتكن مشيئتك!>> ورجع إلى التلاميذ، فوجدهم نائمين أيضا لأن النعاس أثقل أعينهم” (إنجيل متى ، الإصحاح 26: 36-43).

واحسرتاه! أن الإله الأب –كما تبين القصة المسيحية- لم يَقبل دعواتِ يسوع وتوسلاته، كما لم يستجب دعوات حوارييه وتوسّلاتهم! فصُلب يسوع في نهاية المطاف بالرغم من رفضه المتكرّر، سواء رَضِيَ بذلك أم لا! فهل كان هذا الشخص أميرَ البراءة ونموذج التضحية الذي تطوّع بنفسه بكلّ شجاعة ليّحمل أعباء جميع خطايا البشر على كتيفيه، أم كان شخصاً آخر؟

إن سلوكه في كلتا الحالتين : حادث الصلب وساعة الصلب بالضبط، يلقي بشدّة ظلال شكٍ؛ إما حول هوية وحقيقة يسوع المسيح، أو حول حقيقة الأسطورة المنسوجة حول شخصه!

لنتركْ ذلك جانباً ولنعُد إلى فحصنا النقدي من حيث تَبرز من خلال صرخة الألم الأخيرة ليسوع المسيح: من الذي أطلق تلك الصرخة الحزينة المؤثّرة قائلاً: “إلهي إلهي لماذا تركتني؟” وإذا كان هو يسوع الإنسان ، فمن الذي تركه؟ ولماذا ؟! إذا قبلنا هذا الاختيار فلا بدّ عندئذ لنا أيضاً  من أن نقبل أن يسوع الإنسان قد احتفظ، حتى اللحظة الأخيرة، بشخصية مستقلة منفردة كان بإمكانها التفكير والإحساس بحريّة بصفة مستقلة.

وهل مات يسوع ابن الله لحظةَ مفارقة روحه للجسد البشري الذي كانت تسكن فيه؟ وإذا كان الأمر كذلك فلمَ، وكيف؟ وإذا الجسد البشري هو الذي مات بعد أن غادرته الروح الإلهية فإن السؤال الذي يبرز هنا هو : من الذي بُعث ثانية من الموت عندما عادت روح الله إلى الجسد نفسه فيما بعد؟ كذلك يقودنا هذا الاختيار أيضاً إلى الاعتقاد بأنه لم يكن يسوع ابنُ الله الذي قد عانى على الصليب، بل إن شخص يسوع الإنسان.. الذي أطلق صراخه بألم شديد.. كان يعاني، بينما كان يسوع ابنُ الله يتفرج في فتور وتجاهُل تام!

إذاً كيف يمكن تبرير القول بأن يسوع ابن الله هو الذي عانى من أجل البشرية، وليس يسوع الإنسان؟!

أما الاختيار الآخر فهو افتراضنا أن يسوع ابن الله هو الذي أطلق صرخة الألم، في حين أن يسوع الإنسان، الذي ربما أمل أن يبدأ حياة جديدة لنفسه، كان يراقب مشهد الصّلب دون أن يعلم حقيقةً فيما إذا كانت هذه التضحية – سواء رضي بها أم لم يرض – ستودي بحياته هو أيضا مع ذلك البرئ.. ابنِ الله.. الذي يسكن معه في جسده.

أيّ مفهوم للعدالة ذلك الذي دفع اللهَ إلى قتل عصفورين بحجر واحد! ربما هذا لغز آخر!

إذا كان يسوع الإله الابن هو الذي صُلب – وهذا ما يؤكده إجماع الكنائس المسيحية  – فالسؤال الثاني الناتج عن جواب السؤال الأول سيتركّز حول هوية الطرف الثاني الذي كان يسوع يدعوه متوسّلاً إليه؟!

كما يشير النص السالف الذكر من إنجيل متى 26: 39 و 42.

وهنا أمامنا خياران اثنان:

الأوّل: أن يسوع الابن كان يخاطب الأب شاكياً أنه تخلّى عنه حين دعت الحاجةُ! وهذا يقودنا حتماً إلى الإيمان بأنهما كانا شخصية واحدة مشتركة بحيث يشتركان على السواء في جميع صفاتها ويُظهرانها في آن واحد وبشكل متساوٍ . أحد هذين الشخصين يبدو أنه الحاكم الأعلى، القادر المقتدر على إصدار القرارات؛ بينما الآخر، وهو الابن المسكين، يبدو محروماً كليةً ولو بشكل مؤقت، من جميع الصفات المسيطرة التي يتمتع بها أبوه. إن النقطة المركزية التي يجب التركيز عليها هي أن إرادتيهما المختلفتين ورغباتهما المتعارضة تَبدو في المرحلة الأخيرة من مأساة الصلب أكثر تناقضاً وتعارضاً فيما بينهما مما كانت عليه من قبل؟

والسؤال الثاني هو: هل كان من الممكن لهذين الشخصَين المختلفَين اللذين يتميز كل منهما عن الآخر بأفكارٍ وقيمٍ وقدراتٍ مختلفة، أن يَشعرا بالألم والعذاب معاً فيما لو كانا اثنين في واحد وواحداً في اثنين؟

وكذلك ثمّة سؤال آخر يتطلّب حواراً طويلاً بين علماء اللاهوت فيما إذا كان بمقدور الله أن يتحمل الألم والعقاب. وحتى لو كان سبحانه وتعالى قادراً على ذلك فإن نصف الله فقط سيعاني والنصف الآخر لن يعاني، إما بسبب هذه الخطة، أو بسبب طبيعة الإله الذي يتنزه عن ذلك. وكلما تعمّقنا في عالم الأوهام المحيط بتلك الفلسفة الملتوية، رأينا النور يتلاشى شيئاً فشيئاً، وظلمات الشك والفوضى تتراكم بعضها فوق بعض .

والمشكلة الأخرى هي : إلى مَن كان المسيح يتوسّل وقت الدعاء والابتهال إذا كان هو الإله نفسه؟ فهو عندما توجّه إلى أبي كان هو ذاته جزءاً لا يتجزّأ من أبيه كما يقولون. إذاّ ماذا كان يسوع يقول، وإلى من كان متوجهاً بالخطاب؟

ينبغي أن تتم الإجابة على هذا السؤال بضمير حرّ ودون اللجوء إلى مبدأ العقائد البحتة التي لا تناقش ، وهذا ما يلجأ إليه المسيحيون عادة. ولكنه في الحقيقة يصبح اعتقاداً بحتاً عندما يتعذر شرحه بالمفاهيم البشرية . وبناءً على ما جاء في الإنجيل فإن يسوع عندما كان على وشك أن يُسلّم الروح صاحَ مخاطباً الإله الأب: “لماذا تركتني؟” فمَن الذي ترك الآخر يا تُرى؟ هل تخلى الإلهُ عن الإله؟!

وهكذا تبين مما سبق بوضوح وبصورة مقنعة أن مفهومي الخطيئة الموروثة والصلب قد بُنيا على مجرّد التخمين وأماني رجال الدين المسيحي في مرحلة متأخرة. ومن المحتمل جداً أن هاتين العقيدتين قد تولدّتا عن أساطير مشابهة أخرى تعود إلى ما قبل المسيحية

من الذي صُلبَ؟

المشكلة الأخرى التي لابدّ لنا من مواجهتها هي أن الإنسان موجود في يسوع لم يُعاقب؛ وكان ينبغي ألا يُعاقب؛ وكان ينبغي ألا يُعاقَب أيضاً بحسب أي منطق، لأنه لم يَختر مطلقاً أن يحمل عبء أخطاء البشرية. هذا العنصر الجديد الذي يدور حوله الجدلُ يقودنا إلى وضعٍ غريب جداً لم نتأمل فيه من قبل . إن المرء ليتعجب من علاقة الإنسان الموجود في يسوع بميله الموروث إلى ارتكاب الخطيئة المشتركة بين جميع أبناء آدم وحواء. وفي أحسن الأحوال يمكن للمرء أن يُقنع نفسه بالاعتقاد أن في ثنائية “الابن الإلهي” و “الإنسان”  المحتلّين الجسد نفسه، كان “الابن الإلهي” وحده بريئاً من الإثم والخطيئة. ولكن ماذا عن الإنسان البشر الذي يعيش معه في ذلك الجسد جنباً إلى جنب!

هل كان هو أيضاً قد وُلد من كروموسومات وخصائص زوّده الله بها ؟ فإذا كان الأمر كذلك فيجب أن يتصرّف هو أيضاً كالإله الموجود في يسوع، ولن يُقبل منه أيُّ عذرٍ إذا أهمل في أمر من الامور بحجة أنه قد فعل ذلك لأنه لم يكن فيه – أعني في الإنسان الموجود في يسوع- شيءٌ يخص الله، فيجب أن نعترف بأنه كان مجرّد إنسان عادي، بل ربما نصف إنسان فقط ! ومع ذلك فإن ذلك الإنسان المدموج في يسوع يجب أن يكون بشراً حقيقياً ليرث طبيعة ميّالة إلى الخطيئة. وإذا لم يكن كذلك، فلمَ لا؟

والواضح أنه لا جدوى من القول : إن يسوع لكونه بشراً منفصلاً تماماً عن شريكه الإلهي يكون قد وقع في الخطأ بصفته المستقلّة متحملاً جُلَّ مسؤولية الخطيئة. إن هذا السناريو لا يمكن أن يتمّ بدون أن نُعّرّض يسوع “ابن الله” للموت، ليس أبداً من أجل خطايا البشر، وإنما قد يكون اهتمامه الأول أن يموت من أجل نصف أخيه، أعني للإنسان الموجود فيه.

إنه في غاية الصعوبة – إن لم يكن مستحيلاً – أن يستسيغ العقل كل هذه الأمور ! ولكن من وجهة نظرنا ليس هناك أية مشكلة إطلاقاً. لقد كان الشخص البريء هو يسوع الإنسان وهو الذي أطلق صرخة الدهشة والألم؛ دون أن يكون ثمّة أية ثنائية فيه.

معضلة يسوع

دعوني أوضّح لكم ثانية أنني لا أكفر بعيسى بل أُكنّ له احترماً عميقاً كرسولٍ لله عز وجل، وله الفضل في تقديم تضحيات غير عادية. إنني أفهم عيسى على أنه رجلٌ رباني طاهر مرَّ في فترة ابتلاء عظيم، ولكن عندما تبدأ رواية عملية الصَّلب وتأتي إلى نهايتها فلا يبقى لنا خيار إلا أن نؤمن بأن يسوع لم يتطوّع من نفسه ليموت على الصليب. وفي الليلة التي سبقت اليوم الذي حاول أعداؤه أن يقتلوه بالصّلب نسمعه يصلي ويدعو الله طوال الليل مع حوارييه، لأن مصداقية دعواه باتت في خطر. لقد جاء في العهد القديم أن النبي الكاذب الذي يعزو إلى الله كلاماً لم يقله سبحانه وتعالى سوف يُعلّق على خشبة ويموت عليها ميتة ملعونة. والنص الوارد في سفر التثنية، الإصحاح 18 العدد 20 هو كالآتي:

“وأما النبي الذي يتجبر فينطق باسمي بما لم آمره أن يتكلم به، أو يتنبأ باسم آلهة أخرى، فإنه حتما يموت”.

وجاء في السّفر نفسه الإصحاح 21 العدد 22 -23:

“إن ارتكب إنسان جريمة عقابها الإعدام، ونفذ فيه القضاء وعلقتموه على خشبة، فلا تبت جثته على الخشبة، بل ادفنوه في نفس ذلك اليوم، لأن المعلق ملعون من الله. فلا تنجسوا أرضكم التي يهبها لكم الرب ميراثاً”.

ولقد علم عيسى أن ذلك لو حَدَثَ به فعلاً فإن اليهود سيحتفلون في نشوةٍ، ويعلنون أنه مدَّعٍ كاذب قد ثبت كذبه في نهاية المطاف دون أدنى شك بناءً على ما جاء في الكتاب المقدّس. كان هذا هو السبب وراء تلهفه الكبير للنجاة من كأس الموت المرّ، ولكن لم يكن هذا من منطلق الجُبن، بل خوفاً من أن يُضلّل قومه ويفشلوا في إدراك الحقيقة لو مات على الصليب.

لقد دعا عيسى الله ربَّه طوال الليل، وتوسّل إليه بتواضع بالغٍ يثير الشفقة والرثاء، وبشكل يجعل قلب قارئ هذه الرواية المأساوية يتمزّق حزناً وأسى. وعندما تقترب هذه الرواية المأساوية من نهايتها نجد أن ذروة حزنه واكتئابه وغمّه وألمه وعجزه تنعكس في صرخته الأخيرة: “إلهي إلهي، لماذا تركتني!” حيث نقرأ في إنجيل متى، الإصحاح 27 العدد 46: ” ونحو الساعة الثالثة صرخ يسوع بصوت عظيم” << إيلي، إيلي ، لما شبقتني؟>> أي : إلهي ، إلهي ، لماذا تركتني؟” ولا بدّ هنا ملاحظة أن تلك الصرخة لم تعبّر عن الألم والعذاب، بل كانت بدون شك ممزوجة أيضا بعنصر المفاجأة الممتلئة خوفا ورعبا!

ثم لما استرد وعيه بمساعدة بعض حواريّيه المخلصين – الذين عالجوا جروحه بِمَرهَم كانوا قد أعدّوه من قبل الصّلب، وكان يحتوي على جميع العناصر النافعة لتسكين الآلام وشفاء الجراح- فلا بدّ أنه سعد وفرح بتلك المفاجأة الجميلة، وازداد إيمانه بالله المحب الحق بقوةٍ وعمقٍ يندر أن يشعر بها إنسان.

إن حقيقة كون المرهم قد أُعدَّ مسبقا تُشكّل برهانا قويا على إن حواريّي عيسى كانوا حقا يتوقعون وينتظرون نجاتَه من الموت على الصليب؛ وأنه سيكون بحاجة ماسّة إلى علاج طبي يشفي جروحه.

وهكذا تبين مما سبق بوضوح وبصورة مقنعة أن مفهومي الخطيئة الموروثة والصلب قد بُنيا على مجرّد التخمين وأماني رجال الدين المسيحي في مرحلة متأخرة. ومن المحتمل جداً أن هاتين العقيدتين قد تولدّتا عن أساطير مشابهة أخرى تعود إلى ما قبل المسيحية،  وعندما طُبّقت على ظروف المسيح عيسى أغرتْهم ليخلقوا أسطورة مشابهة بعد ما رأوا بينهما مماثلات متقاربة. وعلى كلّ حال، فمهما كان هناك من غموض أو تناقض، كما يبدو لنا، ليس ثمّة أيّ دليل على أن فلسفة الخطيئة والكفارة المسيحية قد بُنيت على شيء قاله المسيح أو فَعَله أو علَّمه؛ إذ ما كان لعيسى أن يعلّم أشياء تناقض العقل البشري كليّاً.

Share via
تابعونا على الفايس بوك