العلم والدين.. وذكرى للذاكرين

العلم والدين.. وذكرى للذاكرين

التحرير

إن العلاقة بين العلم والدين هي من أكثر المسائل جدلاً، ومن أهم القضايا التي تثار بين الفينة والأخرى بين مختلف الناس على اختلاف مستوياتهم الفكرية. والعلاقة بين الدين والعلم علاقة جديرة بالتأمل والاهتمام والتقدير. فإذا تصفحنا التاريخ الإنساني والديني سنجد في أقوال وتعاليم مؤسسي الديانات السماوية الجانب الروحي والمنطقي الذي لا يخالف العقل والسنن الطبيعية التي سنّها الله تعالى. وعلى النقيض من هذا نجد في عبارات جدل معارضيهم ما يخالف العقل والمنطق والسنن. وقد دونت الكتب السماوية مواقف الأنبياء ومخالفيهم، ليتبين أي الفريقين كان على اعتقاد صحيح مبني على عقلانية متوازنة ومنطق في فقه كنه الأشياء والمحسوسات ونظائرها في العالم الروحي، وبين من كان فريسة ضلالاته وخرافاته التي لا تمت للعقل ولا للسنن بصلة.

فالأديان الحقة في أصولها بُنيت على أسس سليمة متوازنة قبل أن تضمحل وتضعف بفعل عوامل التحريف والفساد التي طرأت عليها في ما بعد. وبما أنها لم تكن شرائع وتعاليم جامعة وكاملة ولم تكن موجهة إلى البشرية جمعاء، ولم يَعِد الله بحفظها ورعايتها، فقد اندرست هذه الحقائق وتلاشت معالمها مع الزمن ولم يبق منها شيء يذكر.

وببعثة المصطفى بدين الإسلام، فقد أنزل الله عز وجل شريعة كاملة وكتاباً سماوياً خاتماً يفي بمتطلبات كل العصور، ويستوعب في مكنونه تلك الحقيقة الأبدية الخالدة التي لا تتناقض مع العلوم والسنن والفطرة الإنسانية مهما طال الزمن. وكان القرآن الكريم ذلك الكتاب الخالد الذي يفيض بمعارف وحقائق تؤكد صدقه وصدق من نزل عليه . وكانت رسالته الخالدة التي تتجاوز الزمان والمكان، والتي تقدم دليلاً وتحدياً في كل وقت على صدقها وصلاحيتها وخلودها.

إن القرآن المجيد كلام الله والكون فعله، ومن المستحيل أن يتناقض قول الله مع فعله. فهو مُنزل القرآن وخالق الكون وهو ذاته رب العالمين. والقرآن الكريم بميزته الفريدة هذه يفتح الآفاق أمام المؤمنين كي يبحروا في بحار العلوم، مستنيرين بنوره ومسترشدين بهديه. كما أن القرآن الكريم، من خلال معارفه وأسلوبه وأسراره وكنوزه الظاهرة والباطنة، يقوِّم الفكر الإنساني وينميه ويجعل الإنسان أكثر قدرة على رؤية حقائق الأشياء ومكنوناتها.

فالدين الإسلامي فريد في هذا الجانب لأنه يحترم العقل البشري دون أن يعطله كما عطله السدنة والرهبان ورجال الكهنوت عبر التاريخ. وهذا هو سر تلك الروح التي أحْيت تلك الحضارة الإسلامية المجيدة التي انبعثت في أرض العرب والمسلمين الأوائل في بغداد الرشيد، ودمشق، وسمرقند والأندلس

فالسنن الطبيعية وأسرار الحياة المكتشفة والخفية، يستحيل أن تخالف المُسلّمات التي نطق بها القرآن، بل بالعكس حيثما أُقِرّت حقيقة علمية كان القرآن مصدّقاً لها ومحيطاً بمختلف جوانبها المعقدة في لفظ بليغ ووجيز. لذلك كان القرآن دعوة ورسالة تخاطب الألباب أي العقول، وتدين التقليد والتسليم الأعمى بالمعتقدات دونما دليل أو برهان! كدأب عبدة الأوثان وعقائد أهل الصلبان وغيرهم ممن ضل بهم مسلك عقولهم الجامد. فالعقل في القرآن له مقامه وفاعليته التي أكدتها آيات عديدة وعبارات واضحة تثني على الذين يتفكرون ويعقلون ويتدبرون ويتذكرون، في الوقت الذي تذم فيه تخبط فريق من الناس كانوا لا يتفكرون ولا يتدبرون ولا يبصرون ولا يعقلون..!!

إن ما يميز الإسلام عن غيره هو تقديره للعقل البشري في ما يمكن أن يحيط به من فهم. وحتى في الجوانب الروحية التي يعسر على المؤمن إدراكها، كالجنة ونعيمها، والنار وعذابها، حيث جعل الله لهذه الغيبيات في القرآن ما يوحي للإنسان تصورها بمقارنة ومماثلة تقريبية، لها صلة بأعمال الإنسان وروحانيته في دار الدنيا. كما ضرب الله لنا في القرآن أمثلة مادية لكنها تحوي ضمنيا رسائل روحية في علاقة فريدة منسجمة بين ما هو مادي وروحي!! فالدين الإسلامي فريد في هذا الجانب لأنه يحترم العقل البشري دون أن يعطله كما عطله السدنة والرهبان ورجال الكهنوت عبر التاريخ. وهذا هو سر تلك الروح التي أحْيت تلك الحضارة الإسلامية المجيدة التي انبعثت في أرض العرب والمسلمين الأوائل في بغداد الرشيد، ودمشق، وسمرقند والأندلس وغيرها من بلاد العرب والمسلمين، حيث كان لهم سبق في العلوم والمعارف على باقي أمم الأرض. فمن لا يعرف ابن سينا وابن الهيثم والخوارزمي وابن رشد وابن خلدون وغيرهم الكثير..! الذين استفاد منهم العالم، والذين وضعوا حجر الأساس للعلوم المعاصرة في العلوم الطبيعية كالفلك والحيوان والنبات وفي الهندسة والجغرافية والتاريخ والفلسفة والمنطق والسياسة والفنون العسكرية وغيرها..!! أوَ ليس هذا كله من ثمرات الجانب العقلي الذي رسخه القرآن؟ إن الفكر الإسلامي الأحمدي البديع فكر يستوعب قيمة العقل كما احترمها القرآن الكريم وحث عليها. وهذا ما جعل لجماعتنا الإسلامية الأحمدية العالمية ودعوتها قبولاً وانتشاراً في الشرق والغرب، بين مؤيدين ومؤمنين، هذا فضلاً عن رسالتها التجديدية الربانية في الإسلام!!.. ولعل ما قدمته من شروحات وخدمات وإنجازات، كان كافياً لسدّ أفواه الطاعنين في صدق القرآن وتعاليمه، هذا في الوقت الذي عجز فيه رجال الدين التقليديون من مشائخ وفقهاء عن تقديم إسلام يتجاوب مع القضايا المعاصرة، ويقف عند التحديات العلمية والتقنية والثقافية.

لقد قدم حضرة ميرزا طاهر أحمد -رحمه الله – الخليفة الرابع لسيدنا الإمام المهدي برؤية علمية ودينية متعمقة، إسهاماً لا يُنسى في فلسفة علاقة الدين بالعلم. وقد بيّن تفوق الإسلام والقرآن العظيم في ترسيخ أسس العلاقة القويمة بين الدين والعلم، إضافة إلى تفوقه المطلق في التطابق بين وحيه وبين المعارف العلمية الثابتة على مرّ العصور. كما بين حضرته، من خلال عدد كبير من الأمثلة، أن هذا العصر الذي هو عصر العلوم والمعارف قد برهن بشكل ساطع على دقة التطابق بين المعارف القرآنية والمعارف العلمية المعاصرة. ويعتبر كتابه التاريخي العظيم الذي ألّفه ونشره بسنوات قليلة قبيل وفاته والمسمى “الوحي، العقلانية، المعرفة والحق” موسوعة الإسلام في العصر الحديث الذي يجدر بأي مسلم أن يقتنيه لما يحتويه من أسانيد وحجج وأدلة وبراهين من روح القرآن وفلسفته ومبادئه وتعاليمه. هذا الكتاب الذي أثار اهتمام كثير من الباحثين، والمثقفين حالياً وسيبقى كذلك في المستقبل أيضاً. وسيجد فيه كل باحث ما يساعده في كشف اللثام عن أمور مستقبلية أخرى أكدها القرآن.

ونحن ندعو القارئ الكريم أن يطالع هذا الكتاب الذي جعلناه متوفراً عبر الشبكة العالمية وستجد داخل هذا العدد تفاصيل ذلك. ونأمل بهذا العمل المتواضع توسيع أفق الوعي الديني الإسلامي بفهم معاصر يدمر ما ألصقه المغرضون من الأعداء أو الجهلة من المسلمين بتعاليم القرآن الحكيم. ونسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم من أولي الألباب ومن المتفكرين في آياته والمتدبرين.

Share via
تابعونا على الفايس بوك