"الكهف" و"يأجوج  ومأجوج".. دَوْرَان لرقي المسيحية
  • متى ازدهرت المسيحية روحانيا؟
  • متى ازدهرت المسيحية روحانيا ماديا؟

____

 

ملخص إسراء موسى :

بعد الاطلاع على هذه الأحداث وشرحها (راجع ما نشرناه من تفسير القرآن في الشهور المنصرمة «التقوى») لن يصعب على المرء أن يدرك أن إسراء موسى قد ذُكر في هذا المقام من القرآن الكريم للدلالة على الأمور التالية:

1 – أن ظهور محمد رسول الله كان مقدَّرًا بعد فساد قوم المسيح الناصري الذين كانوا الجزء الأخير من الأمة الموسوية.

2 – بعد انقضاء دور التوحيد إثر تطرُّق الفساد إلى المسيحيين كان ظهور محمد ضروريًّا.

3 – أن شرع الإسلام يحتوي على قوانين ومبادئ يخالفها التعليم الموسوي في بعض المقامات اختلافًا شديدًا، ولذلك من الصعب على الأمتين الموسوية والمسيحية التعاون مع الإسلام، ولكن لا نجاة لهم من دون العمل بشرع الإسلام.

4 – أن اليهود والنصارى لن يؤمنوا بمحمد رسول الله وقت ظهوره، بل سيقبلون دعوتَه كقوم بعد زمن طويل يستمرّون خلاله في سفرهم الروحاني على حدة.

5 – وأنهم سيشعرون بالتعب والملل في نهاية المطاف بعد أن ظلوا مسافرين لأمد مديد، وسيستولي عليهم اليأس من الحصول على الأمن والاطمئنان بمساعيهم المنفردة؛ وعندها سيفكرون فيما آلوا إليه ليدركوا أنهم ما زالوا مسافرين دونما غاية، لأن زمن سفرهم الانفرادي كان قد انتهى قبل ذلك بكثير.

6 – أن الأنباء الغيبية التي وردت في كتبهم المقدسة عن ظهور محمد وشرعه، والتي حفظها القرآن بين دفتيه، ستكون سببًا لهدايتهم حينذاك.

7 – وأنهم سيستعدون حينئذ لقبول تلك الشرائع والحدود التي ما كانوا ليقبلوها من قبل، وعندها سيتحلَّون بالرغبات الطيّعة الخالصة لله تعالى قاضين على ميولهم الهمجية الوحشية. فتتداركُهم رحمةُ الله، فيدخلون في بحر من رحمته تعالى لا شاطئ لـه، ولا بحر بعده، إلا الذي يتفرع منه ويكون جزءًا منه.

وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (الكهف 84)

 شرح الكلمات:

القَرنين: هو مثنى القرنِ وهو الرَّوقُ من الحيوان. والقرنُ مائةُ سنة. والقَرنانِ كنايةٌ عن مشرق الأرض ومغربها (الأقرب).

التفسير:

إن قصة ذي القرنين هي أيضًا من القضايا التي قد منح الله تعالى أستاذي المكرّمَ حضرة المولوي نور الدين شرفًا لحلّها. مما لا شك فيه أن بعض الكتّاب المعاصرين قد ألقى الضوء على هذا الموضوع ورفض الرأي القائل بأن الإسكندر المقدوني هو ذو القرنين. كما قال البعض الآخر إن ذا القرنين مَلِكٌ اتسع ملكُه في البلاد الشرقية والغربية. وفوق ذلك فإن المستشرق الألماني الدكتور هربيلات مؤلف «Bibelia Oriental» كاد يصيب كبدَ الحقيقة حين قال إن ذا القرنين ملِكٌ من ملوك الفرس الأوائل (تفسير القرآن للقسيس «ويري»).

وكان أستاذي المكرّم يتبنى بحثه على ما ورد في الكتاب المقدّس ويقول: لقد ورد في الكتاب المقدس رؤيا لدانيال النبي حيث قال: رأيت في المنام كبشًا ذا قرنين واقفًا عند النهر. رأيت الكبش ينطح غربًا وشمالاً وجنوبًا، فلم يَقِفْ حيوانٌ قُدّامَه، ولا مُنقِذ مِن يده، وفعَل كما شاء (دانيال 8: 3 و4).

ثم يقول دانيال: لقد أخبرني الله تعالى بتأويلها وقال: أما الكبش الذي رأيتَه ذا القرنين فالمراد منه ملوكُ ميديا وفارس (دانيال 8: 20).

وبناءً على هذه الرؤيا كان أستاذي المحترم يقول إن ذا القرنين هذا هو ملِكٌ من ملوك ميديا وفارس، وأن ذلك الملك هو كيقباد[1]Ø. (فصل الخطاب لمقدمة أهل الكتاب ص 207 – 208)

الحكمة في ذكر قصة ذي القرنين:

بعد ذكر رأي أستاذي المكرّم أسجل بحثي بهذا الصدد، ولكن قبل بيانه أود أن أبيّن هنا الحكمة من ورود قصة ذي القرنين في القرآن وفي سورة الكهف بالتحديد عَقِبَ إسراء موسى .

لقد سبق أن قلتُ إن سورة الكهف تتحدث عن الصراع بين الإسلام والمسيحية، ولاسيما ذلك الصراع الذي هو شبهُ دينيٍّ.. بمعنى أنه وإن كان صراعًا دينيًّا فإنه ذو صلة بسياسة الديانتين. فقد حكت لنا هذه السورة أوّلاً قصّةَ أصحاب الكهف لتبين لنا كيف بدأت المسيحية، وكيف دبّ في أهلها الفساد. ثم بعدها تناولت إسراءَ موسى لبيان أن قومه سيحرَمون من الرقي الروحاني بعد الوصول إلى حد معين، فيَظهرَ عندها نبي آخر من عند الله تعالى. كما أوضح إسراؤه أن المراد من قوم موسى في هذا المقام هو القسم الأخير منهم أي الأمة المسيحية، لأن القسم الأول منهم – أي اليهود – كانوا قد ماتوا مِيتةً روحانيّةً قبل ذلك بزمان. وبالفعل أكّدت الأحداثُ صدقَ النبأ القرآني بكل قوة وجلاء، حيث انتهى الدور الأول لرقي المسيحية بظهور محمد ؛ مما زاد المؤمنين إيمانًا على إيمانهم. ذلك أن التنبؤ خلال الفترة المكّيّة الحرجة بغلبة المسلمين على المسيحيين لنبأ عظيم منقطع النظير.

ثم بعد ذكر إسراء موسى ذكرت سورة الكهف قصةَ ذي القرنين إشارةً إلى الدور الثاني لنهضة الأمة المسيحية.

ولو قيل: ما الداعي لاختيار هذا الأسلوب غير العادي؟ لماذا لم يشر القرآن ببساطة إلى الرقي المسيحي بأجمعه مرة واحدة؟ فالجواب أنه مما لا شك فيه أن هذا الأسلوب القرآني يبدو طفيفًا في نظر أهل الدنيا، ولكن الذي يدرك أهمية الدين لا بد أن يعدّه صحيحًا بل ضروريًّا. ذلك أن الأمم – من حيث الدين – أربعٌ وِفقًا للسنة الإلهية الجارية منذ بدء الزمان، وهذه الأقسام هي:

1ـ الأمم التي تؤمن بنبي زمانها، وتحرز الرقي الديني والمادي متمسكين بالإيمان.

2ـ الأمم التي تؤمن بنبيها، ولكنها تقع فيما بعد في المعاصي والشرور، فتبوء بغضب من الله تعالى؛ ورغم ذلك يمكنها أن تُصلح حالها وتستنـزل فضلَ الله ورحمته ثانيةً مع انتمائها إلى دينها ومن دون أن تبدِّل هيئتها القومية. كل ما عليها أن تصلح أعمالها، لأنها تؤمن بنبي زمانها، ولكن أعمالها لا تتفق مع إيمانها.

3ـ الأقوام التي تجترح السيئات بعد نبيها وتفسد، وحين يظهر نبي آخر زمن فسادها تُحرَم الإيمانَ به. ومهما سعى هؤلاء القوم لإصلاح حالهم، فإن الله تعالى لا يرضى عنهم حتى يبدّلوا هيئتهم القومية ويؤمنوا بالنبي الجديد.

4ـ الأقوام التي لا تؤمن بأي نبي، ويكون رقيها كله مادّيًّا محضًا. ولكي تتوطد بينهم وبين الله تعالى علاقة روحانية لا بد لهؤلاء من أن يؤمنوا بنبي الوقت ويعملوا بوصاياه.

الكتب السماوية قد أطلقت على فترتَي الرقيِّ المسيحي اسمين مختلفين، حيث تسمَّى الفترة الأولى بدور أصحاب الكهف.. أي حين كان المسيحيون متحلّين حقًّا بصفات أصحاب الكهف، أو ما كانوا صالحين بالفعل ولكن كانت عندهم الكفاءة لأن يكونوا صالحين مثل أصحاب الكهف. أما الفترة الثانية من الرقي المسيحي فتسمَّى في الكتب السماوية بدور يأجوج ومأجوج.. أي حين لن تبقى فيهم كفاءةُ الصلاح أصلاً، ولن يستطيعوا – بسبب ظهور نبي جديد – الوصالَ إلى الله تعالى إلا بعد التخلي عن هيئتهم القومية. وهذا الدور الثاني من الرقي المسيحي ذو صلة بذي القرنين لأن بعض أعماله تسببت في ظهور هذا الدور.

بعد استيعاب أقسام الأمم هذه لا يصعب على المرء أن يدرك أن الأمة المسيحية أثناء الفترة الأخيرة من زمن رقيها الأول كانت تندرج في القسم الثاني من هذه الأقسام، إذ كانوا قد ابتعدوا عن الدين بلا شك، ولكن كان بإمكانهم أن يصالحوا الله تعالى من دون أن يبدّلوا هيئتهم القومية أي من دون أن يدخلوا في دين آخر، إذ كانوا مؤمنين بنبي زمانهم المسيحِ . ولكن بعد ظهور محمد رسول الله ، وفقًا للنبأ الوارد في الإسراء الموسوي، خرج القوم المسيحي من القسم الثاني ودخل في القسم الثالث، لأنهم نسوا مجمع البحرين وتجاوزوه تاركين إياه وراءهم، بمعنى أنهم لم يفسدوا عقيدةً وسلوكاً فحسب، بل كان من الواجب عليهم، لعقد الصلح مع الله ونيل رضاه، أن يؤمنوا بمحمد رسول الله ويتخلوا عن سياستهم ونظامهم كليًّا، مؤْثِرين النظام الإسلامي والسياسة الإسلامية.

وظاهر أن البون بين هذين القسمين – ولا سيما من منظور التأثيرات شِبْهِ السياسية – شاسع بحيث لا يمكن غض النظر عنه، وبالتالي كان لا بد للقرآن الكريم من اختيار هذا الأسلوب لبيان هذا الأمر، خصوصًا أن فيه فائدة عظيمة أخرى ألا وهي تذكير العالم المسيحي بظهور محمد رسول الله . إذًا فالترتيب الذي اتبعه القرآن الكريم لبيان فترتي الرقي المسيحي لم يكن ضروريًّا فحسب، بل يشكّل دليلاً على إعجاز القرآن أيضًا.

وأُوجز الكلام مرة أخرى فأقول: لقد ذكر الله تعالى أولاً قصة أصحاب الكهف الذين جاءوا في فترة كان المسيحيون فيها صالحين، أو كانوا فاسدين ولكنهم كانوا مؤمنين بنبي زمانهم، ومن ثم لم يكن لزامًا عليهم – من أجل الصلح مع الله تعالى – التخلي عن قوميتهم وسياستهم. ثم ذكر الله إسراءَ موسى الذي أنبأ فيه عن ظهور محمد وعن تغيُّر حالة الأمة المسيحية بعد ظهوره ، حيث بيّن أنهم سيحققون بعدها أيضًا النهضة والازدهار المادي، ولكن سيستحيل عليهم معه أن يكونوا على صلح مع الله تعالى، لأنهم سيتجاوزون نبيَّ زمانهم دون الإيمان به؛ وأن رقيهم سيظل ماديًّا محضًا من دون أن يكون فيه أي نصيب للآخرة حتى يرجعوا على آثارهم قَصَصًا وينضموا إلى موكب نبي ذلك الزمان. فبما أن الأمة المسيحية في الفترة الثانية تكون مختلفةً عما كان عليه المسيحيون الأوائل دينًا وسياسةً، لذا ذكر القرآن الكريم حالتها في الفترة الثانية منفصلةً عن الفترة الأولى.

وبقي هنا أمر آخر يحتاج الشرح وهو: كان ذو القرنين قبل رسول الله ، فلماذا ذكر القرآن قصته بين قصة أصحاب الكهف وبين إسراء موسى ؟

فجوابه أن الكتب السماوية قد أطلقت على فترتَي الرقيِّ المسيحي اسمين مختلفين، حيث تسمَّى الفترة الأولى بدور أصحاب الكهف.. أي حين كان المسيحيون متحلّين حقًّا بصفات أصحاب الكهف، أو ما كانوا صالحين بالفعل ولكن كانت عندهم الكفاءة لأن يكونوا صالحين مثل أصحاب الكهف. أما الفترة الثانية من الرقي المسيحي فتسمَّى في الكتب السماوية بدور يأجوج ومأجوج.. أي حين لن تبقى فيهم كفاءةُ الصلاح أصلاً، ولن يستطيعوا – بسبب ظهور نبي جديد – الوصالَ إلى الله تعالى إلا بعد التخلي عن هيئتهم القومية. وهذا الدور الثاني من الرقي المسيحي ذو صلة بذي القرنين لأن بعض أعماله تسببت في ظهور هذا الدور. وفيما يلي بيان ذلك.

إن يأجوج ومأجوج اسمان للشعوب التي كانت تقطن في شمال آسيا وشرق أوروبا، وكانت تُغِير على البلاد الآسيوية الخصبة (الموسوعة اليهودية كلمة Gog  Magog).

ولو أنها نجحت في غاراتها لانتشرت في هذه البلاد وانصهرت في الشعوب الآسيوية الأخرى، واعتنقت الأديانَ المختلقة الموجودة في هذه البلاد، ولم تجتمع على دين واحد كما هي حالها الآن، بل لكان شأنها شأن الشعب الآري الذي هاجر إلى الهند، وانصهر في الأقوام القديمة القاطنة فيها فاقدًا كيانه الخاص. ولكن شاءت الأقدار أن ذا القرنين – وسيأتي ذكره مفصَّلاً بعد قليل – صد بكل شدة وقوةٍ حملاتِ هذه الشعوب الشمالية الغربية، حتى انحصرت في شمال وغرب آسيا وفي شرق أوروبا؛ وذلك بعد أن وضع ذو القرنين سدًّا حال بين هذه الشعوب وبين دخولها آسيا، حتى أصبحوا وكأن آسيا كلها قد فرضت عليهم مقاطعة كاملة. وكانت النتيجة أن أخذت هذه الشعوب تنتشر في أوروبا. ولما كانت الوثنية سائدة في أوروبا ولم يوجد فيها من الديانات المعروفة إلا المسيحية، دخلت هذه الشعوب كلها في الديانة المسيحية تدريجيًّا، مما شكّل كُتلةً دينية هائلة تواجه العالم كله؛ وهكذا زُرعت بذرةُ العداوة الدينية.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن آسيا – التي كانت حينذاك تحت نفوذ ذي القرنين وعاملةً بحسب إستراتيجيته السياسية – قامت بطرد هذه الشعوب إلى المناطق الشمالية التي كانت أردأَ بقاع الأرض في ذلك الزمان؛ مما ولّد في قلوب هؤلاء رغبةً عارمة للدخول في آسيا والبلاد الشرقية، وهذه الرغبة الجامحة قد توارثَها أولادُهم جيلاً عن جيل؛ وهكذا بُذرت بذرةُ العداوة السياسية.

Share via
تابعونا على الفايس بوك