إيمان ذوي الفطرة السعيدة قائم على المشاهدات، لا على إراءة المعجزات

إيمان ذوي الفطرة السعيدة قائم على المشاهدات، لا على إراءة المعجزات

حضرة مرزا مسرور أحمد (أيده الله)

حضرة مرزا مسرور أحمد (أيده الله)

الخليفة الخامس للمسيح الموعود (عليه السلام)
  • من الذي يطلب المعجزة ليؤمن؟
  • هل لأسلوب إيمان الصديق دخل في اكتسابه هذا اللقب؟
  • القول في كونه أول المؤمنين

___ 

خطبة الجمعة التي ألقاها أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز

الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي بتاريخ 10/12/2021م

في المسجد المبارك بإسلام آباد، بريطانيا

تنويه العنوان الأساسي والعناوين الجانبية من اختيار أسرة “التقوى”

 قبول سيدنا أبي بكر الصديق الإسلام

كنتُ أتحدث عن قبول أبي بكر الإسلام، وأذكر مزيدًا عن الموضوع نفسه، لذا يبدو من تعدد الروايات التي تتناول نفس الواقعة أن واقعة واحدة تتكرر مرارًا، وبيد أن كل رواية كانت تلقي ضوءها على جانب من الحقيقة. والآن أذكر بعض التفاصيل.

وردت في أُسْد الغابة واقعة قبول أبي بكر الإسلامَ، عن عبد الله بن مسعود قال:

قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ : إِنَّهُ خَرَجَ إِلَى الْيَمَنِ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ النَّبِيُّ فَنَزَلَ عَلَى شَيْخٍ مِنَ الأَزْدِ عَالِمٍ قَدْ قَرَأَ الْكُتُبَ، وَعَلِمَ مِنْ عِلْمِ النَّاسِ كَثِيرًا، فَلَمَّا رَآنِي، قَالَ: أَحْسَبُكَ حَرَمِيًا؟ قُلْتُ: نَعَمْ، أَنَا مِنْ أَهْلِ الْحَرَمِ، قَالَ: وَأَحْسَبُكَ قُرَشِيًّا؟ قُلْتُ: نَعَمْ، أَنَا مِنْ قُرَيْشٍ، قَالَ: وَأَحْسَبُكَ تَيْمِيًّا، قُلْتُ: نَعَمْ، أَنَا مِنْ تَيْمِ بْنِ مُرَّةَ، أَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عُثْمَانَ، مِنْ وَلَدِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمِ بْنِ مُرَّةَ، (أظن أن النبي لم يكن قد سماه بعد عبد الله، ولكن هكذا ورد في هذه الرواية) قَالَ: بَقِيَتْ لِي فِيكَ وَاحِدَةٌ، قُلْتُ: مَا هِيَ؟ قَالَ: تَكْشِفُ عَنْ بَطْنِكَ، قُلْتُ: لا أَفْعَلُ أَوْ تُخْبِرُنِي لِمَ ذَلِكَ؟ قَالَ: أَجِدُ فِي الْعِلْمِ الصَّحِيحِ الصَّادِقِ أَنَّ نَبِيًّا يُبْعَثُ فِي الْحَرَمِ، يُعَاوِنُ عَلَى أَمْرِهِ فَتًى وَكَهْلٌ، فَأَمَّا الْفَتَى فَخَوَّاضُ غَمَرَاتٍ وَدَفَّاعُ مُعْضِلاتٍ، وَأَمَّا الْكَهْلُ فَأَبْيَضُ نَحِيفٌ، عَلَى بَطْنِهِ شَامَةٌ، وَعَلَى فَخِذِهِ الْيُسْرَى عَلامَةٌ، وَعَلَيْكَ أَنْ تُرِيَنِي مَا سَأَلْتُكَ، فَقَدْ تَكَامَلَتْ لِي فِيكَ الصِّفَةُ إِلا مَا خَفِيَ عَلَيَّ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَكَشَفْتُ لَهُ عَنْ بَطْنِي، فَرَأَى شَامَةً سَوْدَاءَ فَوْقَ سُرَّتِي، فَقَالَ: أَنْتَ هُوَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، وَإِنِّي مُتَقَدِّمٌ إِلَيْكَ فِي أَمْرٍ فَاحْذَرْهُ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ، قُلْتُ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: إِيَّاكَ وَالْمَيْلَ عَنِ الْهُدَى، وَتَمَسَّكْ بِالطَّرِيقَةِ الْمُثْلَى الْوُسْطَى، وَخَفِ اللهَ فِيمَا خَوَّلَكَ وَأَعْطَاكَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ : فَقَضَيْتُ بِالْيَمَنِ أُرَبِّي، ثُمَّ أَتَيْتُ الشَّيْخَ لأُوَدِّعَهُ، فَقَالَ: أَحَامِلٌ عَنِّي أَبْيَاتًا مِنَ الشِّعْرِ قُلْتُهَا فِي ذَلِكَ النَّبِيِّ قُلْتُ: نَعَمْ، فَذَكَرَ أَبْيَاتًا.قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَقَدِمْتُ مَكَّةَ، وَقَدْ بُعِثَ النَّبِيُّ فَجَاءَنِي عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، وَشَيْبَةُ، وَرَبِيعَةُ، وَأَبُو جَهْلٍ، وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ، وَصَنَادِيدُ قُرَيْشٍ، فَقُلْتُ لَهُمْ: هَلْ نَابَتْكُمْ نَائِبَةٌ، أَوْ ظَهَرَ فِيكُمْ أَمْرٌ؟ قَالُوا: يَا أَبَا بَكْرٍ، أَعْظَمُ الْخَطْبِ: يَتِيمُ أَبِي طَالِبٍ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَلَوْلا أَنْتَ مَا انْتَظَرْنَا بِهِ، فَإِذْ قَدْ جِئْتَ، فَأَنْتَ الْغَايَةُ وَالْكِفَايَةُ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَصَرَفْتُهُمْ عَلَى أَحْسَنِ مَسٍّ، وَسَأَلْتُ عَنِ النَّبِيِّ فَقِيلَ: فِي مَنْزِلِ خَدِيجَةَ، فَقَرَعْتُ عَلَيْهِ الْبَابَ، فَخَرَجَ إِلَيَّ، فَقُلْتُ: يَا مُحَمَّدُ، فَقَدْتَ مِنْ مَنَازِلِ أَهْلِكَ، وَتَرَكْتَ دِينَ آبَائِكَ وَأَجْدَادِكَ؟ قَالَ: «يَا أَبَا بَكْرٍ، إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكَ وَإِلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ، فَآمِنْ بِاللهِ»، فَقُلْتُ: مَا دَلِيلُكَ عَلَى ذَلِكَ؟ قَالَ: «الشَّيْخُ الَّذِي لَقِيتَ بِالْيَمَنِ»، قُلْتُ: وَكَمْ مِنْ شَيْخٍ لَقِيتُ بِالْيَمَنِ؟ قَالَ: «الشَّيْخُ الَّذِي أَفَادَكَ الأَبْيَاتَ»، قُلْتُ: وَمَنْ خَبَّرَكَ بِهَذَا يَا حَبِيبِي؟ قَالَ: «الْمَلَكُ الْمُعَظَّمُ الَّذِي يَأْتِي الأَنْبِيَاءَ قَبْلِي»، قُلْتُ: مُدَّ يَدَكَ، فَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ، وَأَنَّكَ رَسُولُ الله. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَانْصَرَفْتُ وَمَا بَيْنَ لابَتَيْهَا أَشَدَّ سُرُورًا مِنْ رَسُولِ الله بِإِسْلامِي. (أسد الغابة في معرفة الصحابة، ج3 ص312-313، دار الكتب العلمية، بيروت، 2008)

 ومن الممكن أن يكون قد أُضيف في نص هذه الواقعة بعض التفاصيل لتزيين القصة ولكن يمكن أن تكون بعض التفاصيل صحيحة أيضًا.

روايات تشهد بصديقيته

وردت في الرياض النضرة قصة إسلام أبي بكر . عن أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها قالت: كان أبو بكر خدنًا للنبي وصفيًّا له، فلما بُعث انطلق رجال من قريش إلى أبي بكر فقالوا: يا أبا بكر إن صاحبك هذا قد جن، (والعياذ بالله) قال أبو بكر: وما شأنه؟ قالوا: هو ذاك يدعو في المسجد إلى توحيد إله واحد، ويزعم أنه نبي، فقال أبو بكر: وقال ذاك؟ قالوا: نعم هو ذاك في المسجد يقول، فأقبل أبو بكر إلى النبي فطرق عليه الباب فاستخرجه فلما ظهر له قال له أبو بكر: يا أبا القاسم ما الذي بلغني عنك؟ قال: «وما بلغك عني يا أبا بكر؟» قال: بلغني أنك تدعو لتوحيد الله وزعمت أنك رسول الله فقال النبي : «نعم يا أبا بكر، إن ربي جعلني بشيرًا ونذيرًا، وجعلني دعوة إبراهيم وأرسلني إلى الناس جميعًا.» قال له أبو بكر: والله ما جربت عليك كذبًا، وإنك لخليق بالرسالة لعظم أمانتك وصلتك لرحمك وحسن فعالك، مد يدك فأنا أبايعك، فمد رسول الله يده فبايعه أبو بكر وصدّقه، وأقر أن ما جاء به الحق، فوالله ما تلعثم أبو بكر حين دعاه رسول الله إلى الإسلام. (الرياض النضرة ج1 ص84-85، دار الكتب العلمية، 2014)

هناك رواية أَنَّ رَسُولَ الله قَالَ:

«مَا دَعَوْتُ أَحَدًا إِلَى الإِسْلامِ إِلا كَانَتْ لَهُ عَنْهُ كَبْوَةٌ، وَتَرَدُّدٌ وَنَظَرٌ، إِلا أَبَا بَكْرٍ مَا عَتَمَ حِينَ ذَكَرْتُهُ لَهُ، مَا تَرَدَّدَ فِيهِ.» (أسد الغابة في معرفة الصحابة ج3)

قال النبي :

إِنَّ اللهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ فَقُلْتُمْ كَذَبْتَ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ صَدَقَ وَوَاسَانِي (أي أعانني بنفسه وماله). (صحيح البخاري، كتاب المناقب)

هذه روايةُ صحيح البخاري.

دور الصديق في تكوين نواة جماعة المؤمنين الأولى

قال المصلح الموعود وهو يبين واقعة إسلام أبي بكر :

عندما أعلن رسول الله النبوةَ كان أبو بكر خارج مكة في سفر، وعندما رجع أبلغته إحدى إمائه قائلة إن صاحبك قد جن (والعياذ بالله) ويقول قولًا عجيبًا. يقول: إن ملائكة السماء تنزل عليه. فقام أبو بكر من فوره وجاء النبي في بيته وطرق الباب، فخرج النبي . فقال له أبو بكر : جئت أسألك في أمر. هل قلت إن ملائكة من السماء تنـزل عليك وتحدثك؟ ومخافة أن يتعثر أبو بكر وتزل قدمه أراد النبي أن يشرح له الأمر أولا، (هذه هي الرواية المشهورة في التاريخ) ولكن أبا بكر أصر وقال: لا أريد شرحًا، حسبك أن تخبرني هل قلت هذا؟ ومرة أخرى أراد النبي أن يمهد له الأمر خشية أن يسأل أبو بكر عن شكل الملائكة وكيف تنـزل، ولكن أبا بكر أصر على أن يعرف: هل صحيح ما يقال عنك؟ فقال النبي : نعم. فقال أبو بكر : إني أؤمن بك وأصدق كل ما تقول. ثم أضاف: يا رسول الله، إنني منعتك من بيان أدلة صدقك لأنني أردت أن يكون إيماني مبنيًا على المشاهدة لا على الأدلة، لأنني إذ أعتبرك صالحًا وصادقًا فلا يبقى بعد ذلك حاجة إلى دليل. باختصار، قد أظهر أبو بكر بعمله مَا أخفاه أهلُ مكة. (التفسير الكبير ج2)

كذلك بين المصلح الموعود في مكان آخر واقعة قبول أبي بكر الإسلامَ من زاوية أخرى، فقال:

كانت واقعة إيمان أبي بكر عجيبة. كان أبو بكر جالسًا في بيت أحد الرؤساء بمكة عندما تلقى النبي الوحيَ ليعلن عن نبوته. أتت أمة ذلك الرئيس وأخبرت أن خديجة جُنّت، إذ تقول بأن زوجها نبي مثل موسى ، فأخذ الناس يضحكون ويقولون: إن مثل هؤلاء المدعين مجانين. ولكن أبا بكر الذي كان يعرفه جيدًا قام وأتى بباب الرسول الكريم وسأله: هل ادعيت أي شيء؟ قال: نعم! لقد أرسلني الله تعالى لخير الدنيا وأمرني أن أمحو الشرك. فأجاب أبو بكر دون أن يسأل أي سؤال آخر: أقسم بأبي وأمي! إنك لم تكذب أبدًا ولا أستطيع أن أصدق أنك يمكن أن تكذب على الله لذلك أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول من الله تعالى. بعد ذلك جمع أبو بكر الشباب الذين اقتنعوا بصلاحه وتقواه وبدأ يشرح، فآمن سبعة رجال بالرسول الكريم. كانوا جميعًا شبابًا تتراوح أعمارهم بين 12 و 25 عامًا.» (زيارة أوروبا، أنوار العلوم ج8)

ثم بيَّن المصلح الموعود هذه الواقعة كالتالي: «لقد آمن أبو بكر برسول الله بدليل واحد ثم لم تخالج قلبه أدنى شبهة عن صدقه قط. (وهو الدليل نفسه ولكن بعض تفاصيل الواقعة تتغير في كل مرة) وذلك الدليل هو أنه رأى النبي منذ صغره ويعرف أنه لم يكذب قط، ولم يعمل شرًّا ولم يخرج من فمه كلام فاحش وقذر. فهذا كل ما كان يعرف عنه ، وما عدا ذلك لم يعرف أية شريعة حتى يعرف بناء عليها أنه صادق، ولم يكن يتبع قانونًا، ولم يعرف ما المراد من رسول الله، وما هي أدلة صدقه. فكل ما كان يعرفه هو أن رسول الله لم يكذب قط. كان أبو بكر على سفر وعندما عاد قال له أحدهم: إن صديقك محمَّدًا يقول بأنه رسول الله. فسأله أبو بكر: هل محمد يقول هذا؟ قال: نعم. فقال: إذًا، لا يكذب بل ما يقوله صدق وحق لأنه لم يكذب على العباد قط فأنّى له أن يكذب على الله؟ وما دام لم يخن الناس أدنى خيانة كيف يمكنه أن يرتكب الآن هذه الخيانة الكبرى التي تكاد تهلك أرواحهم؟ هذا كان الدليل الوحيد الذي بسببه آمن أبو بكر برسول الله . وهذا ما بيّنه الله تعالى أيضًا على لسان رسله، فقال:

فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (يونس:17)

أي قد عشتُ بين ظهرانيكم مدة طويلة ولم أخنكم قط، فأنّى لي أن أخون ربي الآن؟ فقد تمسك أبو بكر بهذا الدليل وقال: إذا كان محمد يقول بأنه رسول الله فهو صادق، وآمن به ثم لم تخالج قلبه شبهة بعد ذلك ولم تتزعزع قدمه قط. لقد واجه ابتلاءات كبيرة، اضطُر لترك الوطن والعقارات وقتل أقاربه ولكن لم يشك في صدق النبي قط. (توجيهات للمبايعين، أنوار العلوم ج6) قال المصلح الموعود هذا الكلام حين أسدى مرة نصائح للمبايعين.

ولكن أبا بكر الذي كان يعرفه جيدًا قام وأتى بباب الرسول الكريم وسأله: هل ادعيت أي شيء؟ قال: نعم! لقد أرسلني الله تعالى لخير الدنيا وأمرني أن أمحو الشرك. فأجاب أبو بكر دون أن يسأل أي سؤال آخر: أقسم بأبي وأمي! إنك لم تكذب أبدًا ولا أستطيع أن أصدق أنك يمكن أن تكذب على الله لذلك أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول من الله تعالى.

لقب «الصديق» والمنزلة العالية عند الله

بين المسيح الموعود واقعة إيمان أبي بكر بالرسول فقال:

إذا كان النبي قد أطلق على أبي بكر لقب «الصديق»، فالله أعلم بكمالات أبي بكر ومزاياه. لقد قال النبي أيضًا إن أبا بكر يفضُل على غيره بما في قلبه. والحق أننا لو أمعنا النظر لوجدنا من الصعب أن نجد نظيرًا للصدق الذي كان يتحلى به أبو بكر . والحق أن كل من أراد نيل الكمالات الصدّيقية في أي عصر فلا بد له من أن يسعى جاهدًا للتحلي بخصال أبي بكر وفطرته، ثم عليه بالمجاهدة والدعاء بكل ما أوتي من قوة. وما لم يتحلّ المرء بفطرة كفطرة أبي بكر وما لم يصطبغ بصبغته، فلن يحظى بالكمالات الصديقية أبدًا. (الملفوظات ج1)

ثم قال :

أما ما هي فطرة أبي بكر؟ فلا مجال هنا للخوض في هذا الموضوع مفصلًا، إذ يتطلب تفصيلها وقتًا كبيرًا، غير أني أوجز هنا وأذكر واقعة تدل على ذلك، وهي أن النبي لما أعلن النبوةَ كان أبو بكر في الشام في رحلة تجارية، وفيما هو عائد من سفره لقِي شخصًا، فسأله عن أحوال مكة قائلًا: هل عندك من جديد؟ ذلك لأنه إذا لقي العائد من سفره في الطريق أحدًا من أهل بلده فعادةً  يسأله عن أخبار وطنه. فقال الرجل: إن الجديد أن صاحبك محمدا ( ) قد ادعى النبوة. فلم يلبث أبو بكر أن قال: إذا كان قد ادعى فهو صادق بلا شك.فهذه الواقعة وحدها تكشف علينا مدى حسن ظن أبي بكر بالنبي ، حيث لم ير حاجة إلى رؤية معجزة منه ، والحق أنه لا يطالب بالمعجزة إلا الذي لا يعلم بأحوال المدعي، ويكون غريبًا عنه، ويريد المزيد من الاطمئنان. أما الذي يعرف أحوال المدعي معرفة تامة فأي حاجة به إلى المعجزة؟باختصار، آمن أبو بكر بالنبي وهو في طريقه إلى مكة بمجرد أن سمع عن دعواه، ولما بلغ مكة ذهب إلى النبي وقال له هل ادعيت النبوة؟ قال النبي نعم، هذا صحيح. فقال سيدنا أبو بكر فاشهدْ أني أول المؤمنين بك. ولم يكن قوله هذا مجرد ثرثرة اللسان، بل أثبت قوله بأفعاله، ووفّى بهذا العهد حتى الممات، ولم يفارقه حتى بعد الممات أيضًا.» (الملفوظات ج1)

من يطلب إراءة المعجزات؟!

في تفسير قول الله تعالى: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (الرحمن:47) ذكر المسيح الموعود مثال أبي بكر الصديق فقال:

«انظروا إلى أبي بكر الصديق الذي كان عائدًا من الشام، فسأل أحدًا في الطريق عن أي جديد في البلد، فقال له: لا جديد سوى أن صديقك محمدًا قد ادَّعى النبوة،. فقال له أبو بكر الصديق إذا كان قد ادَّعى النبوة فهو صادق، فلا يمكن أن يكون كاذبًا، ثم توجه أبو بكر الصديق مباشرة إلى بيت النبي ، وقال له مخاطبًا إياه: اشهَدْ بأني أول المؤمنين بك. فانظروا أنه لم يطلب من النبي أي معجزة وإنما آمن ببركة معرفته السابقة له.تذكَّروا، إنما يطلب المعجزات من لا تكون له معرفةٌ. أما الذي يكون صديق الصِّبا فإن مشاهدة أحوال المدعي السابقة تكون له معجزة بحد ذاتها، وبعد هذا قد واجه أبو بكر الصديق مشاكل متنوعة، وتعرَّض لأشد الأذى والاضطهاد، لكن انظروا! إذا كان هو من أوذي أكثر من غيره واضطُهد أكثر من الآخرين فقد أُجلس هو نفسه على عرش نبوة النبي قبل غيره. (فلقد منّ الله عليه بالإنعام في هذه الدنيا أيضًا، أما في الآخرة فإن الجنة هي المأوى) فشتان بين حاله السابقة التي كان يجوب فيها الطرق والشوارع من أجل أعماله التجارية، وحالته بعد الإسلام بحيث انتُخب أول خليفة للنبي .» (الملفوظات ج10)

أقسام الناس بإزاء دعوى المبعوث، والقول في أول المؤمنين

ذكر المسيح الموعود أنواع الناس بإزاء دعوى المبعوث السماوي، فقال:

«الناس نوعان؛ نوعٌ سعداء الفطرة يقبلون ويؤمنون في الأوائل، ويتمتع هؤلاء ببُعد النظر ودقته كما كان أبو بكر الصديق . ونوع آخر حمقى لا ينتبهون إلا عندما تقع الأمور على رؤوسهم.» (الملفوظات ج3)

هناك بحوث حول تحديد الذي كان أول من أسلم؟ وهناك اختلاف بين المؤرخين في الذي أسلم أولًا من الرجال؟ هل كان ذلك أبو بكر؟ أو علي؟ أو زيد بن حارثة؟ وبعضهم يقدم حلًّا لهذا الأمر أن عليًّا هو أول من أسلم من بين الصبيان، وأبو بكر أول من أسلم من بين الرجال، وزيد من الموالي. فيوفق العلامة أحمد بن عبد الله بين هذه الروايات فيقول: إن أول من أسلم مطلقًا خديجة بنت خويلد، وأول ذَكَرٍ أسلم علي بن أبي طالب، وهو صبي لم يبلغ الحُلُم، وكما تقدم في سنه أنه كان ابن عشر سنين، وكان مستخفيًا بإسلامه، وأول رجل عربي بالغ أسلم وأظهر إسلامه أبو بكر بن أبي قحافة، وأول من أسلم من الموالي زيد بن حارثة، وهذا متفق عليه لا خلاف فيه.

والحق أنه لا يطالب بالمعجزة إلا الذي لا يعلم بأحوال المدعي، ويكون غريبًا عنه، ويريد المزيد من الاطمئنان. أما الذي يعرف أحوال المدعي معرفة تامة فأي حاجة به

تناول مرزا بشير أحمد هذا البحث، فمما قدّم بهذا الخصوص أن النبي لما شرع في تبليغ دعوته كان أول من آمن به هي السيدة خديجة التي لم تتردد ولا لحظة واحدة. واختلف المؤرخون في أول من أسلم من الرجال بعد إسلام خديجة، فبعضهم يقولون هو أبو بكر عبد الله بن أبي قحافة، وبعضهم يذكرون عليًّا أو زيد بن حارثة. ولكن نرى أن هذا الاختلاف عبث؛ لأن عليًّا وزيد بن حارثة كانا كلاهما من أفراد أسرة النبي وكانا يعيشان عنده كأولاده ، وقد آمنَا به منذ لحظة إعلان بعثته بحكمهما من الأولاد التابعين، ولم تكن من حاجة لإقرارهما القولي. فلا داعي لذكر اسمهما في هذا السياق، وبعدهما فإن أبا بكر مقدّم في الإسلام وسابق بالإيمان بالاتفاق.

فلقد قال شاعر الرسول حسان بن ثابت الأنصاري عن أبي بكر كما يلي:

إذا تَذَکَّرْتَ شَجْوًا من أخِي ثِقَةٍ

فاذکر أخَاكَ أبَا بَکْرٍ بِمَا فَعَلا

.

خَيرُ الْبَرِيةِ أتْقَاهَا وَأعْدَلُهَا

بعد النبي وأوفاها لِمَا حَمَلا

.

وَالثَّانِي التَّالِي الْمَحْمُودُ مَشْهَدُهُ

وَأوَّلُ الناس منهم صَدَّقَ الرُّسُلا

.

كان أبو بكر بنبله وكفاءته معزّزًا ومكرمًا في قريش، وقد نال في الإسلام تلك الدرجة التي لم يبلغها غيره من الصحابة. لم يشك أبو بكر ولو للحظة واحدة في دعوى النبي ، بل آمن به بمجرد أن بلغته دعواه، ثم سخر كل جهوده وبذل نفسه ونفيسه لخدمة الدين الذي جاء به النبي .

كان أبو بكر أحبَّ شخص إلى النبي من بين الصحابة، وقد انتُخب خليفةً بعد وفاته، وأثبت جدارته المنقطعة النظير في عهد خلافته.

يقول المستشرق الأوروبي المشهور «سبرنغر»: إن إيمان أبي بكر بالنبي ( ) في بدء الإسلام أكبر دليل على أن محمَّدًا ( ) يمكن أن يكون منخدعًا إلا أنه لم يكن خادعًا بأية حال من الأحوال، بل كان يوقن بصدق القلب أنه رسول من الله. والسير «وليام موير» أيضًا اتفق معه تمامًا في هذا الرأي. (سيرة خاتم النبيين ) هذا ما كتبه حضرة مرزا بشير أحمد .

الصديق إمام للمتقين السابقين إلى الإسلام

ما هي المحن والمشاكل التي تعرض لها سيدنا أبو بكر بسبب نشره الإسلامَ فقد ورد عن ذلك في أسد الغابة: لما جاء الْإِسْلَام سبق إِلَيْه، وأسلم عَلَى يده جماعة لمحبتهم لَهُ، وميلهم إِلَيْه، حتَّى إنه أسلم عَلَى يده خمسة من العشرة (المبشرين بالجنة). (أسد الغابة في معرفة الصحابة ج3)

فقد أَسْلَمَ بِدُعَائِهِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ  وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفِ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَطَلْحَةُ  بْنُ عُبَيْدِ اللهِ. (سيرة ابن هشام ج1)

يقول حضرة مرزا بشير أحمد :

إن الذين أسلموا بعد السيدة خديجة وسيدنا أبي بكر وسيدنا علي وسيدنا زيد بن حارثة y، أسلم خمسة منهم بدعوة سيدنا أبي بكر وكانوا كلهم يُعَدُّون من أجلَّة الصحابة الكبار:

وأولهم سيدنا عثمان بن عفان من بني أمية، وكان عمره عند إسلامه ثلاثين سنة تقريبا، وانتخب خليفة ثالثًا للنبي بعد وفاة سيدنا عمر ، وكان حيِّيًا وفيًّا حليمًا سخيًّا ثريًّا، ففي مناسبات عدة قدم خدمات مالية كثيرة، ويقدَّر حبُّ النبي لعثمان من تزويجه بنتَيه واحدة بعد أخرى منه، ومن أجل ذلك لقب بذي النورَين.

والثاني هو عبد الرحمن بن عوف من بني زهرة، وكانت والدة النبي أيضًا من القبيلة نفسها، كان عبقريًّا ونبيلًا ووقورًا، وهو الذي كان قد حكم بأن يكون سيدنا عثمان خليفة ثالثًا، وكان عمره عند إسلامه ثلاثين سنة تقريبًا، وتوفي في عهد سيدنا عثمان .

الثالث هو سيدنا سعد بن أبي وقاص وكان في عز شبابه أي كان عمره تسعة عشر عامًا، وكان هو الآخر من بني زهرة وكان شجاعًا باسلًا، فقد فُتحت العراق على يديه في عهد سيدنا عمر ، وتُوفي في عهد الأمير معاوية .

الرابع هو سيدنا الزبير بن العوام وكان ابن عمة النبي أي كان نجل السيدة صفية بنت عبد المطلب وكان صهر سيدنا أبي بكر . وكان من بني أسد وعند إسلامه كان عمره خمسة عشر عامًا فقط. في غزوة الخندق منحه النبي لقب الحواري له، لإسدائه خدمة متميزة، واستُشهد في خلافة سيدنا علي بعد معركة الجمل.

الخامس هو سيدنا طلحة بن عبيد الله وكان من قبيلة سيدنا أبي بكر أي بني تيم، وكان شابًّا، وكان هو الآخر من المخلصين المتميزين للإسلام، واستشهد في معركة الجمل في عهد سيدنا علي . هؤلاء الخمسة من الصحابة العشرة المبشرة أي من الصحابة العشرة الذين بشَّرهم النبي بلسانه المبارك بالجنة بوجه خاص، وكانوا من الصحابة المقربين إلى النبي ومستشاريه. (سيرة خاتم النبيين )

تذكَّروا، إنما يطلب المعجزات من لا تكون له معرفةٌ. أما الذي يكون صديق الصِّبا فإن مشاهدة أحوال المدعي السابقة تكون له معجزة بحد ذاتها، وبعد هذا قد واجه أبو بكر الصديق مشاكل متنوعة، وتعرَّض لأشد الأذى والاضطهاد، لكن انظروا! إذا كان هو من أوذي أكثر من غيره واضطُهد أكثر من الآخرين فقد أُجلس هو نفسه على عرش نبوة النبي قبل غيره.

نصيبه من اضطهاد مشركي مكة

لقد مارس كفار مكة أنواع المظالم على الذين أسلموا، ولم يتعرض لاضطهادهم المستضعفون والعبيد من المسلمين فقط بل لم ينجُ من مظالم المشركين وسلوكهم العنيف سيدُنا رسول الله نفسُه وأبو بكر أيضًا. فقد سجل لنا التاريخ كمًّا من أنواع الاضطهاد والإيذاء صُبت عليهم، فقد ورد في السيرة الحلبية:

لما جهر أبو بكر وطلحة بالإسلام أخذهما نوفل بن العدوية، وكان يدعى أسد قريش فشدهما في حبل واحد ولم يمنعهما بنو تيم، ولذلك سمي أبو بكر وطلحة القرينين، ولشدة ابن العدوية وقوة شكيمته كان يقول: «اللهم اكفنا شر ابن العدوية.» (السيرة الحلبية ج1 باب ذکر أول الناس إيمانًا به )

وقال عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ سَأَلْتُ ابْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَخْبِرْنِي بِأَشَدِّ شَيْءٍ صَنَعَهُ الْمُشْرِكُونَ بِالنَّبِيِّ قَالَ بَيْنَا النَّبِيُّ يُصَلِّي فِي حِجْرِ الْكَعْبَةِ إِذْ أَقْبَلَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ فَوَضَعَ ثَوْبَهُ فِي عُنُقِهِ فَخَنَقَهُ خَنْقًا شَدِيدًا فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى أَخَذَ بِمَنْكِبِهِ وَدَفَعَهُ عَنْ النَّبِيِّ قَالَ: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ. (صحيح البخاري، كتاب مناقب الأنصار)

وفي رواية أن المشركين قالوا لرسول الله : «ألستَ تقول في آلهتنا كذا وكذا» قال بلى، فتشبَّثوا به بأجمعهم فأتى الصريخُ إلى أبي بكر، فقيل له أدرك صاحبك، فخرج أبو بكر حتى دخل المسجد فوجد رسول الله والناس مجتمعون عليه، فقال لهم: ويلكم، أتقتلون رجلًا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم. فكفوا عن رسول الله فأقبلوا على أبي بكر يضربونه، قالت بنته السيدة أسماء: فرجع إلينا فجعل لا يمس شيئًا من غدائره إلا أجابه وهو يقول: تباركت يا ذا الجلال والإكرام.

وفي رواية أنهم شدوه من رأسه ولحيتِه حتى سقط أكثرُ شعره. فقام أبو بكر دونه وهو يقول: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله، وهو يبكي. فقال رسول الله : دَعْهم يا أبا بكر، فو الذي نفسي بيده إني بُعثت إليهم بالذبح (أي أن أكون فداء في هذه السبيل)، ففرّجوا عنه . (السيرة الحلبية ج1 باب استخفائه وأصحابه في دار الأرقم بن أبي الأرقم)

أبو بكر أم مؤمن آل فرعون؟!

مرة قال علي بن أبي طالب للنَّاس:

مَنْ أَشْجَعُ النَّاسِ؟ فَقَالُوا: أَنْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: أَمَا إِنِّي مَا بَارَزَنِي أَحَدٌ إِلَّا انْتَصَفْتُ مِنْهُ (أي قتلتُه)، وَلَكِنْ أشجعُ الناس هُوَ أَبُو بَكْرٍ، إِنَّا جَعَلْنَا لِرَسُولِ اللهِ عَرِيشًا يوم بدر، فَقُلْنَا: مَنْ يَكُونُ مَعَ رَسُولِ اللهِ ، لِئَلَّا يَهْوِي إِلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ؟ فَوَاللهِ مَا دَنَا منه أَحَدٌ إِلَّا أَبُو بَكْرٍ، شَاهِرًا بِالسَّيْفِ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللهِ ، لَا يَهْوِي إِلَيْهِ أَحَدٌ، إِلَّا أَهْوَى إِلَيْهِ، فَهَذَا أَشْجَعُ النَّاسِ.قَالَ علي : وَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ وَأَخَذَتْهُ قُرَيْشٌ، فَهَذَا يحادُّه، وَهَذَا يُتَلْتِلُهُ، وَيَقُولُونَ: أَنْتَ جَعَلْتَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا. فَوَاللهِ مَا دَنَا مِنه أَحَدٌ إِلَّا أَبُو بَكْرٍ يَضْرِبُ وَيَجَاهدُ هَذَا، وَيُتَلْتِلُ هَذَا، وَهُوَ يَقُولُ: وَيْلَكُمْ، أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ: رَبِّيَ اللهُ. ثُمَّ رَفَعَ عَلِيٌّ بُرْدَةً كَانَتْ عَلَيْهِ، فَبَكَى حَتَّى اخْضَلَّتْ لِحْيَتُهُ ثُمَّ قَالَ: أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ، أَمُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ خَيْرٌ أَمْ هُوَ (أي أبو بكر)؟

وأقول: لعل عليًّا ذكر هذا المؤمن من آل فرعون الذي كان يكتم إيمانه وورد ذكره في القرآن الكريم في قوله تعالى: (أتقتلون رجلًا أن يقول ربي الله).

وقال الراوي:

فَسَكَتَ الْقَوْمُ، فَقَالَ عَلِيٌّ : فَوَاللهِ لَسَاعَةٌ مِنْ أَبِي بَكْرٍ خَيْرٌ مِنْ مَلْءِ الْأَرْضِ مِنْ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ، ذَاكَ رَجُلٌ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ، وَهَذَا رَجُلٌ أَعْلَنَ إِيمَانَهُ. (أبوبکر الصديق شخصيته وعصره للدکتور علي محمد الصلابي ص38 دار ابن کثير بيروت 2003ء)

مواساته لخلق الله تعالى

أبدى حضرة أبي بكر نموذجًا عظيمًا في المواساة، ومما قال حضرة المصلح الموعود : أننا عندما نفحص سيرة النبي تظهر لنا هذه الدعوى حقيقةً ثابتةً، ونجد عند كل خطوة في حياته أحداثًا تدل على ما كان يكنّه من حب وشفقة نادرين تجاه الإنسانية. لقد تحمل في سبيل تبليغ رسالة الله تعالى ولسنوات عديدة من الأذى والتعذيب ما لا حدود له.

فذات مرة كان النبي في الكعبة فخنقه الكافرون برداء خنقًا شديدًا حتى احمرت عيناه وكادتا تخرجان من محجريهما. فسمع أبو بكر ذلك، فأتى يجري وعندما رأى ما أصاب النبي من أذى اغرورقت عيناه، فدفع عنه الكافرين قائلًا: ألا تخافون الله تعالى؟ أتقتلون رجلًا أن يقول ربي الله؟ (التفسير الكبير ج7)

وقال سيدنا المسيح الموعود :

ذات مرة وجد بعض الأعداء النبي وحيدًا فأمسكوا به ووضعوا الرداء في عنقه وبدأوا يخنقونه حتى كادت نفسه تزهق، إذ جاء أبو بكر صدفةً وخلّصه من تعذيبهم بصعوبة بالغة. ثم إنهم ضربوا أبا بكر ضربًا مبرحًا حتى سقط على الأرض مغشيا عليه. (ينبوع المعرفة)

وهناك روايات عن فكّ سيدنا أبي بكر لرقاب العبيد، حيث ورد: أسلمَ أبو بكر وله أربعون ألفًا من الدراهم، فأنفقها في سبيل اللَّه، وأعتق سبعةً كلهم يعذَّب في اللَّه: أعتقَ بلالاً، وعامرَ بن فهيرة، وزِنِّيرَةَ، والنَهْديّةَ وابنتَها، وجاريةً بني المؤمَّل، وأمَّ عبيس. (الإصابة في تمييز الصحابة ج3)

كان بلال مولى لبني جُمَح، وكان أمية بْن خلف يعذبه تعذيبا شديدًا. (أسد الغابة ج1) وفي رواية:

أَنَّ بِلالا لما آمن أَخَذَهُ أَهْلُهُ فَألقوه على الأرض وَأَلْقَوْا عَلَيْهِ مِنَ الْبَطْحَاءِ وَجِلْدِ بَقَرَةٍ فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: رَبُّكَ اللاتُ وَالْعُزَّى، وَيَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ. قَالَ فأتى عليه أبو بكر فقال: علامَ تُعَذِّبُونَ هَذَا الإِنْسَانَ؟ قَالَ الراوي: فَاشْتَرَاهُ أبو بكر بِسَبْعِ أَوَاقٍ فَأَعْتَقَهُ (أي بمئتين وثمانين درهما، إذ الأوقية أربعون درهما). فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ فَقَالَ: الشَّرِكَةَ يَا أَبَا بَكْرٍ. فَقَالَ: قَدْ أَعْتَقْتُهُ يَا رَسُولَ اللهِ. (الطبقات الکبرى لابن سعد الجزء الثالث)

 كان عامرُ بْنُ فهيرة أسودَ اللون، مملوكًا للطفيل بْن عَبْد اللَّهِ بْن سخبرة، أخي عائشةَ لأمِّها. وكان عامر من السابقين إِلَى الإسلام. عُذّب في اللَّه، فاشتراه أَبُو بكر، فأعتقه. (أسد الغابة ج3)

وكانت زِنِّيرَةُ الروميةُ من السابقات إلى الإسلام، أسلمتْ في أول الإسلام، وعذبها المشركون. وقيل: كانت مولاة بني مخزوم، فكان أبو جهل يعذبها. وقيل: كانت مولاةَ بني عبد الدار، فلما أسلمتْ عمِيتْ، فقال المشركون: أعمتْها اللات والعزى لكفرِها بهما! فقالت: وما يدري اللات والعزى مَن يعبدهما، (أي أنهما لا تبصران فكيف تصيبانني بالعمى) إنما هذا من السماء، (أي إنما ذهب بصري بقضاء الله تعالى) وربي قادر على رد بصري. فأصبحتْ من الغد وقد ردَّ الله بصرها. فقالت قريش: هذا مِن سحرِ محمد. ولما رأى أبو بكر ما ينالها من العذاب، اشتراها فأعتقَها. (أسد الغابة ج6)

Share via
تابعونا على الفايس بوك