«إنها النبوة، لا الملك»
  • في عشرة آلاف قديس (المسير إلى مكة)
  • فتح مكة
  • رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل مكة
  • مظاهر الفتح والنصر

__

إن حياة نبي الإسلام كتاب مفتوح كلما بحثت في أي جزء منه تجد فيه تفاصيل تثير الاهتمام وتخلب اللب. ولم يحدث أن تم تسجيل وقائع حياة نبي أو حياة مَعلم آخر تسجيلاً دقيقًا ومتاحًا للدارسين، مثل حياة الرسول العظيم . وصحيح أن هذه الغزارة في الحقائق والمرويات المدوّنة، قد أعطت النقاد الماكرين فرصتهم المنتظرة، ولكن من الصحيح أيضًا أنه حين تتم دراسة الانتقادات بعناية، ويتم الرد الحاسم عليها، فإن ما تثيره فينا حياة الرسول من الإيمان والحب الغامر والتقوَى، لا يماثلها فيه حياة أي شخص آخر.

إن الحياة الغامضة التي لا يعرف الناس شيئًا عن تفاصيلها قد تسلم من النقد، ولكنها لا تفلح في بث الإقناع وزرع الثقة في قلوب من يتبع أصحابها. إذ تظل صعوبات الغموض، وظلمات الحيرة، وخيبة الأمل، قابعة في القلوب. ولكن الحياة الغنية بالتفاصيل المدوّنة، مثل حياة الرسول ، تثير فينا التأمل العميق ومن ثم تثبّت الاقتناع. وعندما يتم تصفية الحسابات الخاطئة للانتقادات والمفاهيم الزائفة، بكشف الحقائق وتسليط الأضواء عليها، فمن المحتم أن تجذب حياة الرسول منَّا كل حب وإعجاب وتقدير، وتثير فينا كل إعزاز وإكبار وتوقير، بشكل كامل ودائم وإلى الأبد.

تلك هي عزيز القارئ أهم ملامح هذا الكتاب القيم الذى ستطالعه عبر حلقات في هذه الزاوية. والجدير بالذكر في هذا المقام أنه من الصعب تقديم ملخص كامل متوازن لحياة كحياة الرسول ، التي كانت واضحة كالكتاب المفتوح، وشديدة الثراء بما تحتويه من وقائع ومواقف وأحداث. وقد أعطى المؤلف لمحة، ولكن حتى هذه اللمحة لها وزن وثقل. حيث أنه كان يمارس ما يعظ به، وكان يعظ بما كان يمارسه؛ وإذا عرفته فقد عرفت القرآن المجيد، وإذا عرفت القرآن المجيد فيمكنك أن تتعرّف عليه.

لقد حصل شرف نقل هذا الكتاب إلى لغة الضاد للأستاذ الفاضل فتحي عبد السلام وراجعه ثلة من أبناء الجماعة المتضلعين في اللغة والدين.

مسير رسول الله إلى مكة في عشرة آلاف من أتباعه

في العام الثامن للهجرة في شهر رمضان (ديسمير/كانون الأول سنة 629ميلادية) خرج الرسول في طريقه إلى آخر حملة غرست أعمدة الإسلام عميقًا في أرض الجزيرة العربية.

في الحديْبية تم الاتفاق بين الرسول والمشركين على أن يُسمح للقبائل العربية الأخرى بالانضمام لحلف يضمهم مع المشركين أو مع المسلمين على السواء، واتُّفق أيضًا على إيقاف الحرب عشر سنوات بين الطرفين ما لم ينقض أحدهما أو المتحالفون معه الاتفاق بالهجوم على الطرف الآخر، وفي إطار هذا الاتفاق دخلت بنو بكر في حلف مع مكة، ودخلت خزاعة في حلف مع الرسول .

ولما كان احترام المشركين العرب للمعاهدات ضئيلاً، خاصة معاهداتهم مع المسلمين، حدث أن كان بين بني بكر وخزاعة ثارات قديمة، فاستشارت بنو بكر بعض أهل مكة أن يعينوهم لأخذ ثأرهم من خزاعة، وبرّروا لهم طلبهم بأن خزاعة قد تخلت عن حذرها بعد توقيع معاهدة الحديبية وأحسّت بالأمن بعد حلفهم مع الرسول، فهذا هو الوقت الأنسب للانتقام منهم في مذبحة مريعة. ووافقهم أهل مكة، وانتهزوا فرصة الظلام ليشتركوا في هجوم ليلي، ولقيَ كثير من رجال خزاعة مصرعهم، فأرسلت خزاعة وفدًا من أربعين رجلاً على جمال سريعة ليخبروا الرسول بخيانة قريش للاتفاق المعقود معه، وليناشدوه النصر على مكة انتقامًا لهذه المذبحة.

فها هنا كان الرجل الذي نُفي من مكة ليس معه إلا صاحب واحد. لقد مرّت سبع سنوات صعبة منذ ذلك اليوم، وها هو الآن يدق أبواب مكة مع عشرة آلاف من أتباعه المخلصين.

والتقى الوفد مع الرسول ، وأخبرهم بجلاء قاطع أنه يعتبر مصابهم هو مصابه الخاص قائلاً للشاعر الذي كان في الوفد واستغاثه شعرا: “نُصرت ياعمرو بن سالم، وأشار إلى سحابة تتجمع في السماء وقال: إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب”. وخافت قريش العواقب، وأزعجها خبر وفد خزاعة إلى المدينة، فأرسلوا أبا سفيان سريعًا لتجديد الصلح منعًا لهجوم المسلمين. وبلغ أبو سفيان المدينة، وبدأ يبرر طلبه بأنه لم يكن موجودًا في عهد الحديبية، ولذا يلزم توقيع عقد سلام جديد. ورأى الرسول أن ليس من الحكمة قبول العذر. واهتاج أبو سفيان وذهب إلى المسجد وأعلن: أيها الناس إني قد أجرت بين الناس، ولم يفهم سكان المدينة معنى لقوله، فضحكوا منه. (الزرقاني)

وقال الرسول لأبي سفيان إن كلامه من طرف واحد، وإن الطرف الآخر لم يوافق عليه. وأرسل الرسول إخطارًا إلى كل القبائل، ولما تأكد له أنها على أهبة الاستعداد، أمر المسلمين أن يقوموا بتسليح أنفسهم والاستعداد.

وفي أول يناير/كانون الثاني بدأ زحف جيش المسلمين نحو مكة، وعند محطات مختلفة على الطريق انضمت إليه القبائل المسلمة الأخرى. وعندما دخل الجيش بريّة فاران بعد انقضاء عدة أيام قلائل، كان عدد المسلمين هو نفسه التي تنبأ به النبي سليمان من قبل، بعد أن تضخم حتى بلغ عشرة آلاف. وعندما تحرك هذا الجيش نحو مكة بدا الصمت المخيّم على كل مكان نذيرًا بالويل والثبور لأهل مكة. فأقنعوا أبا سفيان بالخروج مرة أخرى ليتبيّن نيّات المسلمين، فخرج ليجد كل الفلاة وقد أضاءتها نيران المعسكرات على مسيرة أقل من يوم من مكة. كان الرسول قد أمر بإيقاد النار أمام كل خيْمة، فكانت تلك النيران ذات لهب مخيف في ظلام الليل وسكونه.

وسأل أبو سفيان أصحابه: “ماذا يمكن أن يكون هذا؟ أهذا جيش هبط من السماوات؟ أنا لا أعرف جيشًا عربيًا بهذه الضخامة”. وذكر أصحابه أسماء بعض القبائل، ومع كل اسم كان أبو سفيان يقول إن تلك القبيلة أقل وأذل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها.

وبينما أبو سفيان ورفاقه يتأملون الأمر إذ صاح به صوت في الظلام:

“أبا حنظلة”. (حنظلة كان اسم ولد لأبي سفيان وكان يُكنى به).”العباس؟ أأنت هنا”؟ هكذا رد أبو سفيان وقد عرف الصوت.“نعم”، رد العباس، “إنه جيش الرسول جاءكم بما لا قِبَل لكم به”.

كان العباس وأبو سفيان صديقين قديمين، وأصرّ العباس أن يحمل أبا سفيان على بغلته معه ليذهبا إلى الرسول . وأمسك بيدي أبي سفيان وشده وجعله يركب الدابة، ثم همز البغلة التي انطلقت مسرعة لتصل إلى معسكر الرسول . كان العباس يخشى أن يسقط عمر رضي الله عنه على أبي سفيان ويقتله، فقد كان عمر حارسًا لخيمة الرسول ، ولكنه على سبيل الاحتياط كان قد أعطى أمره المعلن لكل من يلقى أبا سفيان ألا يحاول قتله. وأثّرت هذه الأحداث في نفس أبي سفيان بعمق شديد، لقد هزّته رفعة الشأن التي نال منها الإسلام حظًا عظيمًا. فها هنا كان الرجل الذي نُفي من مكة ليس معه إلا صاحب واحد. لقد مرّت سبع سنوات صعبة منذ ذلك اليوم، وها هو الآن يدق أبواب مكة مع عشرة آلاف من أتباعه المخلصين.

لقد انقلبت المناضد تمامًا، فالرسول الذي خرج من مكة منذ سنوات سبع، هاربًا بدينه، قد عاد إلى مكة، وتقف أمامه مكة عاجزة كل العجز عن أن تقاوم عودته.

فـتـح مـكـة

ولعل أبا سفيان كان يتفكر بعجب: أليس هذا التغيير مذهلاً، إذ تم في سنوات سبع ليس إلا؟ وماذا عليه الآن أن يصنع كقائد لمكة؟ أيقاوم.. أم أنّ عليه الاستسلام؟ وأزعجته هذه الخواطر حتى بدا للناظر إليه ما يعانيه من دهشة وذهول.

وشاهد الرسول هذا القائد المضطرب، فأمر العباس أن يذهب به وأن يستضيفه الليلة على وعد برؤيته في الغد، فأمضى أبو سفيان ليلته مع العباس. وفي الصباح استدعاهما رسول الله، وكان ذلك في وقت صلاة الفجر، وفوجئ أبو سفيان بفوْرة النشاط والتحرّكات في تلك الساعة المبكرة، فلم يكن من عادته هو ولا من عادة قومه أن يكونوا يقظين في هذا الصباح الباكر كما يفعل المسلمون بعد أن أصبحوا خاضعين لنظام الإسلام، ورأى المسلمين الذين هم في المعسكر جميعًا وقد أخذوا يتجهّزون لصلاتهم الصباحية، بعضهم يروح ويجئ بحثًا عن الماء للوضوء، والآخرون يشرفون على صف صفوف العابدين من أجل الصلاة. ولم يستطع أبو سفيان أن يستوْعب فهم هذه الحيوية الباكرة في الصباح، وخطر بباله خاطر مخيف؛ هل كانت هذه خطة جديدة لإدخال الرعب في قلبه؟

وسأل في ذهول وقلق بالغين: “ماذا يفعل كل هؤلاء”؟

وأجاب العباس: “لا شيء يدعو إلى الخوف، إنهم يستعدّون للصلاة ليس إلا”.

ورأى أبو سفيان آلاف المسلمين وقد اصطفوا خلف رسول الله، يقتدون به ويفعلون مثلما يفعل، ركوعًا وسجودًا وقيامًا، وهكذا.

كان العباس في نوبة حراسته، لذلك كان حرًّا يمكنه أن يصحب أبا سفيان، وأن يبادله الحوار. وسأل أبو سفيان: “ماذا هم فاعلون الآن”؟

وأجابه العباس: “كل ما يفعله رسول الله يفعله الباقون مثله. ما ظنك بهذا؟ إنهم يطيعون كل ما يأمرهم به لتوهم، حتى لو أمرهم بترك طعامهم وشرابهم، فإنهم لفورهم يطيعون”.

وأجاب أبو سفيان: “حقًّا! لقد رأيتُ عروشًا عظيمة، لقد رأيتُ بلاط كسرى وبلاط قيصر، ولكني لم أر شعبًا يحب قائده ويخلص له كما يفعل المسلمون لنبيّهم”. (السيرة الحلبية ج2 ص90)

ومضى أبو سفيان يتساءل، وقد ملأه الخوف وتنازعه الإحساس بالذنب لكل ما حدث، وأفزعته مشاعر الخوف على ما يمكن أن يحدث لقومه وأهله في مكة، فسأل عما إذا كان العباس محجمًا عن طلب العفو أو المغفرة لقومه، يعني بهم أهل مكة؟؟

وانتهت صلاة الفجر، وقاده العباس إلى الرسول .

وسأل رسول الله أبا سفيان: “ويحك يا أبا سفيان. ألم يأْن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله”؟ وأجابه أبو سفيان: “بأبي أنت وأمي. ما أحْلمك وأكْرمك وأوْصلك، لقد ظننتُ أن لو كان مع الله إله غيره، لقد أغنى عني شيئًا بعد”.

“ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله”؟

“بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأوصلك وأكرمك، أمّا هذه ففي النفس منها شيء”.

وبينما كان أبو سفيان في تردده في الاعتراف برسول الله كرسول لرب العالمين، دخل في الإسلام اثنان من أصحاب أبي سفيان الذين رافقوه في مسيرته من مكة للاستطلاع، كان أحدهما حكيم بن حزام. ولم يلبث أبو سفيان بعدها إلا قليلاً ثم دخل هو أيضًا في دين الإسلام، لكن إذعانه الداخلي تأخر إلى أن تم فتح مكة.

وسأل حكيم بن حزام الرسول عما إذا كان المسلمون عازمين على قتل ذويهم في مكة؟ فأجابه بأنهم كانوا قساة على المسلمين، وأثبتوا أنهم لا عهد لهم، ونقضوا اتفاق السلام الذي عقدوه في الحديبية، وهاجموا خزاعة بوحشية، واستحلوا القتل في الحرم الذي عظّم الله حرمته. فأجاب حكيم بن حزام: إنه لَحَقٌ كل ما قاله، فقد فعل القوم كل ذلك تمامًا. واقترح عليه أن يغزو هوازن بدلاً من مسيره إلى مكة.

وأجابه الرسول بما يفيد أن هوازن كذلك كانوا قساة وهمجيين، وأنه يأمل أن يمكنه الله تعالى من تحقيق أهداف ثلاثة: فتح مكة، وإشاعة الإسلام، وهزيمة هوازن.

إلى هذا الحد كان أبو سفيان جالسًا ينصت، وحينئذ سأل أبو سفيان رسول الله: “إذا لم تسل مكة سيفًا فهل ينالون السلام”؟

وأجابه الرسول بالإيجاب، فمن أغلق عليه بابه فهو آمن. وهنا تدخل العباس قائلاً: “يا رسول الله. إن أبا سفيان رجل يحب الفخر، فاجعل له شيئًا”.

قال: “نعم. من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل دار حكيم بن حزام فهو آمن”.

وبعد إعلان هذه الكلمات نادى الرسول أبا رويحة وسلمه راية الإسلام، وكان أبو رويحة الأنصاري قد تآخى مع بلال رضي الله عنه، ذلك العبد الحبشى الذي صار ما صار. وقال الرسول وهو يسلمه الراية: “ومن قام تحت هذه الراية فهو آمن”.

وفي نفس الوقت وجّه الرسول أمره إلى بلال أن يمضى أمام أبي رويحة مناديًا لكل من يعنيه السلام أن هناك سلامًا تحت تلك الراية التي يحملها أبو رويحة.

وعندما دخل الجيش بريّة فاران بعد انقضاء عدة أيام قلائل، كان عدد المسلمين هو نفسه التي تنبأ به النبي سليمان من قبل، بعد أن تضخم حتى بلغ عشرة آلاف.

رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل مكة

كان كل شيء يمضي في ترتيب حكيم. عندما كان المسلمون يعذبون في مكة، كان بلال هدفًا سهلاً لهذا العذاب، فكان يُربط بحبل في قدميه ويُجَرّ في طرقات البلدة. لم تعط مكة سلامًا لبلال، وكل ما ناله منها هو الآلام البدنية والمهانة والنكران، ولنا أن نتخيل مدى الرغبة في الانتقام التي كان بلال يحسّها تملأ قلبه في يوم عودته ذاك إلى مكة حُرًّا عزيزًا.

وكان من الضروري أن ينال بلال فرصة ليثأر لنفسه من القسوة الوحشية التي ذاقها في مكة، ولكن في الحدود التي أحاط بها الإسلام رغبة الانتقام هذه. فلم يسمح لـه الرسول بسل سيفه وضرب أعناق الذين اضطهدوه من قبل، فلم يكن ذلك من الإسلام. ولكنه بدلاً من ذلك، أعطى الراية، راية الإسلام، إلى أخي بلال، وكلف بلالاً بمهمة عرض السلام على معذبيه السابقين تحت الراية التي يحملها أخوه. فما أروع ذلك الانتقام وما أجمله! ولنتخيّل صورة بلال يمشي بين يدي أخيه وهو يرفع صوته مناديًا أعداءه إلى السلام، وإزاء ذلك لم تكن هناك فرصة لرغبته في الانتقام أن تدوم طويلاً، ولا بد أنها ذابت شيئًا فشيئًا وهو يتقدّم مناديًا أهل مكة إلى السلام تحت الراية التي يرفعها أخوه عالية خفّاقة.

وأمر الرسول العباس أن يأخذ أبا سفيان وصحبه إلى قمة مناسبة لاستعراض جيش الإسلام، ورؤية سلوكهم وشمائلهم. وفعل العباس ذلك، ومن زاوية مناسبة أمكن لأبي سفيان وصديقيه أن يروا القبائل العربية وهي تمر عليهم وتمضي عنهم، ومعها يمضي ذلك العهد الذي كان فيه أهل مكة يجمعون ويحشدون للقضاء على الإسلام معتمدين على تلك القبائل نفسها التي تمر الآن جنودًا مجنّده للإيمان بدلاً من حشدها جنودًا للكفر، وإنهم الآن ليرفعون شعارات الإسلام لا شعارات أيام وثنيتهم، إنهم ليزحفون في تشكيلات عسكرية ليضعوا حياتهم فداء للرسول لا لكي يقضوا على حياته، يزحفون لا لسفك دمه بل لسفك دمائهم دفاعًا عنه. لم يكن طموحهم في هذا اليوم يرنو إلى مقاومة الرسالة النبوية والحفاظ على وهم قومي أجوف، يتصوّر رسالة الرسول تهديدًا له وخطرًا مضادًا للقومية، بل كان طموحهم إلى حمل رسالة النور هذه إلى كل أنحاء العالم، تلك الرسالة التي طالما قاوموها، صار رجاؤهم الآن هو تأسيس وحدة إنسانية وتضامن وأخوّة تضم بني الإنسان.

وتمر الجموع والصفوف واحدًا بعد الآخر، حتى لاحت جموع قبيلة “أشجع” لعيون أبي سفيان، وكان يمكن للرائي أن يلمح في وجوههم آثار الإخلاص والتضحية بالذات والحماس الفائق، ولذلك كان هذا الحماس محسوسًا في نبرة تغنّيهم وإنشادهم لشعارات الإسلام.

ويسأل أبو سفيان: “من يكونون هؤلاء”؟

ويأتيه الجواب: “هذه قبيلة أشجع”.

وبدأ أبو سفيان مندهشًا وهو يقول: “لم يكن أحد أعدَى لمحمد من هؤلاء”.

وردّ العباس عليه بأن الفضل لله في ذلك، لقد غير الله قلوب العدوّ عندما رآهم مستعدين لذلك ومؤهلين للتغيير.

وأخيرًا، لاح مشهد الرسول في كتيبته الخضراء، محاطا بالمهاجرين والأنصار مصفوفين قريبًا من ألفي مدرّع، والفاروق عمر رضي الله عنه يوجّه خطاهم نحو مكة. كان هذا المشهد هو الأكثر تأثيرًا بين كل المشاهد. كان إخلاص هؤلاء المسلمين وتصميمهم وحماسهم يبدو وقد فاق كل الحدود، فائضًا فائرًا يتدفّق غامرًا، وعندما وقعت عين أبي سفيان عليهم ملأه الخضوع والخشوع لفوْره، ولم يملك نفسه أن يسأل العباس قائلاً: “من كان هؤلاء”؟

ورد العباس: “هذا رسول الله في المهاجرين والأنصار”.

وقال أبو سفيان: “ما لأحد بهؤلاء قِبَلٌ ولا طاقة”. ثم توجّه بالخطاب إلى العباس خاصة وقال: “لقد أصبح مُلْك ابن أخيك اليوم عظيمًا”.

ورد العباس: “يا أبا سفيان، إنها النبوّة، لا الْمُلْك”.

قال أبو سفيان: “نعم نعم. إنها النبوّة لا الْمُلك”.

وخلال مرور جيش الإسلام على أبي سفيان، كانت راية الأنصار مع سعد بن عُبادة، فوقعت عيناه على أبي سفيان، ولم يستطع أن يقاوم كلمة اختلجت في نفسه فقال: “اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة، اليوم أذل الله قريشًا”. ولدى مرور الرسول ، رفع أبو سفيان صوته مخاطبًا الرسول قائلاً: “يا رسول الله! ألم تسمع ما قال سعد”؟ قال: “وما قال”؟ فقال: “قال كذا وكذا”. فقال عثمان وعبد الرحمن بن عوف: “يا رسول الله، ما نأمن أن يكون لـه في قريش صوْلة”. فقال رسول الله بل اليوم يوم تعظم فيه الكعبة، اليوم يوم أعز الله فيه قريشًا. وهكذا عبر أبو سفيان للرسول عن مخاوفه أن يسمح بمذبحة في عشيرته حسبما هدّد سعد وصحبه، دون أن يراعوا حرمة مكة، ورغِب في عفو الرسول وغفرانه، وما عُرف عنه من احترامه للإنسانية.

ولم يذهب رجاء أبي سفيان أدراج الرياح. إن هؤلاء المسلمين المخلصين الذين تعَوّدوا على الضرب والإهانة في طرقات مكة، وأُرغموا بذلك على ترك ممتلكاتهم ومنازلهم في تلك البلدة، بدأت تخالجهم مشاعر الرحمة نحو معذبيهم القدامى، حتى إنهم كانوا يخشون أن تكون للقصص الرهيبة التي رواها المهاجرون للأنصار عن التعذيب الوحشي وعن الاضطهاد الذي ذاقوه على يد أهل مكة، آثارًا بالغة باقية مع الزمن بحيث تدفعهم إلى الانتقام من أهل مكة على ما اقترفت أيديهم، وهذا ما عبر عنه سعد بن عبادة. وعبّروا عن مخاوفهم لرسول الله الذي تفهّم الموقف حالاً، والتفت إلى أبي سفيان ليبين لـه خطأ سعد ويصحح لـه الصورة المتوقعة، فلن يكون هذا يوم الانتقام، بل سيكون يوم الغفران. وأرسل إلى سعد يأمره أن يسلم راية الأنصار إلى ابنه قيس بن سعد، وهكذا انتقلت قيادة الأنصار من سعد إلى قيس. لقد كان قرارًا سديدًا وخطوة حكيمة، هدّأت من روْع أهل مكة، وفي نفس الوقت لم تخرج القيادة من الأنصار، فلقد كان القائد هو ابنه، وكان شابا نقيًّا ورعًا يحظى بالثقة الكاملة للرسول . ويمكن تبين مدَى تقواه من حادثة متأخرة قبل موته، وكان يستقبل عُوّاده من الأصدقاء على فراش مرضه الذي مات فيه. ولاحظ أن بعضهم لم يأت ليعوده، ولم يفهم السبب، وسأل عنهم فقيل له: “إنك تداين الناس وبعضهم يخشى المطالبة إذا جاء يعودك”. فقال: “إذن فأنا السبب في بعدهم عني، أعلنوا على الملأ أن كل من يدين لقيس بديْن فهو له، ولا ديْن لي على أحد”. وعقب هذا الإعلان تلقى قيس عددًا هائلاً من الزيارات والدعاء في أيامه الأخيرة، حتى انهارت درجات السلم المؤدّية لبابه من كثرة الزوّار.

عندما اكتمل استعراض الجيش المسلم طلب العباس من أبي سفيان أن يسرع إلى مكة ليُعْلم أهل مكة بقدوم الرسول ، ويشرح لهم طريقة التأمين الذاتي لكل منهم. وبلغ أبو سفيان مكة فعلاً وبدأ يُعلن شروط السلام لبلدته. ولكن هند زوجته لقيته، وهي المشهورة بعدائها الشديد للمسلمين، وبكفرها العنيد. غير أنها كانت شجاعة، فأمسكت بشارب زوجها وقالت: “اقتلوا الحميت الدسم الأخمش الساقين، قبح من طليعة قوم”. وهكذا اتهمته بالعار، ونادت الناس للثورة عليه قائلة إنه بدلاً من تحريك بلده للدفاع عن شرف بلدهم والتضحية بأرواحهم في سبيلها، فقد جاء يدعوهم للسلام.

ولكن أبا سفيان كان يرَى الحقيقة، ويرى زوجه تتصرف بحمق، ويرى أن هذا الزمن الذي تعيش فيه زوجه قد ولى، وأن عليها أن تذهب لمنْزلها لتقبع خلف بابه المغلق. وصاح في قومه: “لا تغرّنكم هذه من أنفسكم، فإنه قد جاءكم بما لا قِبَل لكم به”. وقال لهم إنه شاهد الجيش الذي جاء إلى مكة، وعرف نوعية مقاتليه، وأن أهل الجزيرة العربية بأكلمها لا يستطيعون أن يصمدوا أمامه. ثم أخذ يشرح لهم شروط السلام التي قررها الرسول ، والتي تحدّدت حدودها في الإعلان النبوي عن الأماكن الآمنة وكيفيّة نوال السلامة والأمن.

ولقد استثنى إعلان الأمان أحد عشر رجلاً وأربع نسوة، كانت الأعمال التي اقترفوها بشعة للغاية. لم تكن جرائمهم أنهم كفروا، أو أنهم شاركوا في حرب ضد الإسلام، بل كانت أعمالاً مجرمة، بربرية لا إنسانية، لا يمكن تركها تمر دون عقاب. ولكن في النهاية، اقتصر الأمر على أربعة أشخاص فقط لقوا عقاب الموت.

كان رسول الله قد أمر خالدًا بن الوليد ألا يسمح بقتال إلا إذا قوتل هو أولاً، ولم يكن إعلان السلام وشروطه قد بلغت هذا الجزء من المدينة الذي دخل منه خالد، واحتشد أهل هذا الجانب من مكة، وتحدّوا خالدًا ودعوه إلى القتال، وحدثت معركة سقط فيها اثنا عشر رجلاً أو ثلاثة عشر. كان خالد رجلاً ذا طبع حاد باتر، وخشي بعض الناس مغبّة ذلك، فأسرع بالخبر لرسول الله ليوقفه، فأرسل الرسول لخالد ينهاه عن ذلك سائلاً إياه: “ألم أنهك عن القتال”؟ وأجاب خالد بالإيجاب، ولكن عذره أن هؤلاء الناس هاجموه أولاً وبدأوا برمي السهام، وأنه لم يفعل بهم شيئًا في البدء وبيَّن لهم أنه لا يريد قتالاً، ولكنهم لم ينصتوا ولم يتوقفوا عن الرماية، فاضطر للرد عليهم وتفريقهم. كانت هذه هي الواقعة الوحيدة المؤسفة في تلك المناسبة، ولكن من الناحية العملية وبوجه عام، يمكن اعتبار أن فتح مكة قد تم سلميًا دون إراقة دماء.

ودخل الرسول مكة. وسألوه أين سيقيم، فسألهم عما إذا كان عقيل قد ترك دارًا أو منْزلاً في مكة. كان عقيل ابن عم الرسول ، وأثناء فترة غيابه بعد هجرته إلى المدينة، باع أقرباؤه كل بيوته، فلم يكن قد بقي مكان يمكن أن يعتبره بيتًا له. لذلك قال لهم أنه سينْزل في خيف بني كنانة، وكان مكانًا مفتوحًا، حيث تعاهدت قريش وكنانة وأقسموا أنه ما لم يسلّم بنو هاشم وبنو عبد المطلب رسول الله إليهم يفعلون به ما شاءوا، فإنهم لن يتعاملوا مع القبيلتين، لا بيع ولا شراء معهم، فلجأ رسول الله وعائلته وأتباعه إلى شعب أبي طالب وعانوا مقاطعة مريرة استمرت مع حصار طال حتى بلغ السنوات الثلاث.

كنتم تطلبونني، فها أنا ذا، ولكن ليس كما كنتم تريدون. لقد كنتم تريدونني سجينًا، مهينًا، ضعيفًا رهن رحمتكم. ولكن ها أنا ذا وقد منحني الله القوّة والمنَعة، فليست عشيرتي وحدها هي التي تقف معي، بل إن أهل الجزيرة العربية كلها يقفون إلى جواري. لقد كنتم تريدون من عشيرتي أن تُسلّمني إليكم، ولكنهم بدلاً من ذلك قد سلُموكم أنتم إلىّ.

وهكذا كان المكان الذي اختاره الرسول لإقامته ذا مغزى معيّن. لقد اجتمع أهل مكة هناك يومًا، وأقسموا أنه لن يقوم سلام مع عشيرته ما لم يقوموا بتسليمه إليهم. وها قد جاء الرسول إلى نفس ذلك المكان، وكأنه قد جاء ليقول لهم: لقد كنتم تطلبونني، فها أنا ذا، ولكن ليس كما كنتم تريدون. لقد كنتم تريدونني سجينًا، مهينًا، ضعيفًا رهن رحمتكم. ولكن ها أنا ذا وقد منحني الله القوّة والمنَعة، فليست عشيرتي وحدها هي التي تقف معي، بل إن أهل الجزيرة العربية كلها يقفون إلى جواري. لقد كنتم تريدون من عشيرتي أن تُسلّمني إليكم، ولكنهم بدلاً من ذلك قد سلُموكم أنتم إلىّ.

كان يوم الفتح هذا هو يوم الاثنين، وهو نفس اليوم أيضًا الذي غادر فيه الرسول وأبو بكر غار ثور في طريقهما إلى المدينة. في ذلك اليوم، ألقى بنظرة على مكة وقال: “يا مكة، والله إنك لأحب بلاد الله إلى الله، وأحب بلاد الله إليّ، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما خرجت”.

وحينما دخل الرسول مكة، كان يمتطي ناقته، ويمشي بجواره أبو بكر وهو يتوكأ على عصا، بينما كان يتلو بعض الآيات الكريمة من سورة الفتح التي أنبأت بفتح مكة منذ سنوات مضت.

Share via
تابعونا على الفايس بوك