ماهية استغفار الأنبياء
  • تفسير موقف نوح من ابنه بعد الطوفان
  • استغفار الأنبياء لتجنب التقصيرات
  • البشرية من ذراري مختلفة
__
قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (هود: 47)

التفسيـر:

ما أبلَغَهُ من كلام حيث ذُكرت الحقيقة في كلمات موجزة للغاية. يقول عزّ مِن قائل: إننا لم نقصد بكلمة أهلك كلَّ من في بيتك، وإنما قصدنا المؤمنين فقط، لأن أهلك الحقيقيين مَن هم على صلةٍ بالله عزّ وجلّ.

وقوله تعالى إنه عملٌ غير صالحٍ يمكن تفسيره بطريقين؛ الأول: أن يكون ضمير الغائب في (إنه) راجعاً إلى دعاءٍ قام به نوح، والمعنى: أن دعاءك هذا يا نوح ليس عملاً صالحاً إذ ليس في محله، لأن الصالح من الأعمال ما يكون ملائماً للموق           ف. لقد سبق أن أعلنّا قضاءنا، فلا جدوى من هذا الدعاء وقد حان العذاب.

والثاني: أن يكون الضمير عائدًا على ابنه، وتكون كلمة (عملٌ) بمعنى عامل، أو يكون هناك محذوف والتقدير: إنه ذو عمل غير صالح، والمعنى: أن ابنك ليس من أهلك لأنه لم يزل يعمل عملاً غير صالح أي كان يرتكب أعمالاً غير صالحة منافية للتقوى.

وكلا التقديرين جائز وفق القواعد العربية، لأن المصدر يقع أحياناً بمعنى الفاعل للمبالغة، كقول الشاعر عن ناقته:

فترتع ما غفلتْ حتى إذا ادّكرتْفإنما هي إقبالٌ وإدبارٌ

                         (لسان العرب)

أي عندما تذكر فصيلَها فإنها لا تبرح مقبلة ومدبرة دون انقطاع.

ويعني قوله تعالى إني أعظك أن تكون من الجاهلين ..أنت حامل أمانة كلام الله تعالى، فعليك أن تكون أكثر حذراً في المستقبل وتتدبر في كل جانب محتمل من كلامه. وكأن ما حصل في النبأ من إجمال وغموض كان بهدف أن يجعله الله عبرةً لنوح في المستقبل، حيث قال له: عليك أن تتلقن درساً مما حصل منك من خطأ اجتهادي في فهم الوحي، وتتذكر دائماً أن الأنباء السماوية تحتمل أكثر من مدلول، ولا يُفهم تأويلها الحقيقي إلا عند تحققها.

وأما قوله تعالى فلا تَسألْنِ ما ليس لك به علمٌ فيمكن تفسيره بمفهومين:

الأول: أن لا تطلب من الله تعالى ما ليس لك علم بمآله وعاقبته.

إن هذا الأمر من الأهمية والخطورة بمكان إذ إن الجهل به يؤدي إلى أضرار كثيرة بالناس. إن الإنسان ليس بعالم الغيب، فلا يستطيع أن يدرك ما إذا كان ما يطلبه من الله هو خيرٌ له أم شر، مبارك أم غير مبارك، لذلك يجب على من يدعو الله دعاءً أن يأخذ هذا الأمر في اعتباره دوماً عند الدعاء، فيبتهل إلى ربه أن يمنحه الشيء ما دام خيراً له، وإلا فليصرفه عنه.

ولقد عمل النبي بهذه الحكمة دائمًا، كما حثّ أصحابه على ذلك، فقد كان يأمرهم أنه إذا همّ أحدهم بأمر فليقلْ: “اللهم إن كنتَ تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، فاقْدِرْه لي، ويسِّرْه لي، ثم بارِكْ لي فيه. وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاصرِفْهُ عني واصرفني عنه، واقدِرْ لي الخيرَ حيث كان، ثم أَرْضِني به” (البخاري، التهجد).

ما أكمَلَه وأشمله من دعاء! فإنه يوضح تمامًا أن ما يحسبه الإنسان خيـرًا قد لا يكون خيـراً بالضرورة، بل لعلّه يكون شرّاً في علم الله الذي عنده الغيب. فينبغي أن لا يسأل الإنسان ربه قائلاً: أعطِني كذا وجُدْ عليّ بذاك، وإنما عليه أن يتوسل إليه أن يعطيه الشيء إذا كان خيراً له عاقبةً ومآلاً، وإلاّ فليصرفه عنه. نعم، إذا كان الإنسان يعلم علم اليقين أن الشيء الذي يطلبه هو خيرٌ له دونما شك فيمكن أن يسأل الله إياه صراحة. فمثلاً لا ضير أن يسأل ربّه أن يهب له رضوانه ولقاءه، ويؤتيه حسنة في الدنيا وحسنة في الآخرة، لأنها كلها خيرٌ وبركة. ولكن يجب أخذ الحيطة والحذر دائماً فيما لا يعلم الإنسان بمآله ونتائجه.

وكان دعاء نوح – وإن تمّ تلميحًا وإشارةً – بأن يركب ابنه السفينة معه أيضاً من الأمور التي لا يعرف عقباها، بل كان أغلب الظن أنه لو نجا معهم لأساء إلى الدين لِمَـا تعوّد عليه من المعاصي، وتسبَّبَ في ضعفه بدلاً من إعلاء كلمته، ولذلك كان هلاكه هو القرار الصائب الملائم.

والثاني:  إذا اعتبرنا كلمة (فلا تسألنِ) بمعناها العادي أي السؤال لا بمعنى الدعاء فالمراد من الآية: ينبغي للمرء أن لا يسأل إلا عن أمور يزيده الجواب عنها علمًا ومعرفةً، ويكون إدراك حقيقتها في مقدرته. أما دقائق الحكم ولطائف الأمور التي عليها مدار النواميس الطبيعية، والتي لا تنحصر في حادث أو حادثين وإنما تتعلق بملايين الأحداث التي وقعت بعضها قبل ملايين السنين أو سيقع بعضها في المستقبل.. فالسؤال عن مثل هذه الأمور ليس إلا عبثاً ولغواً، لأن إدراكها بشكل كامل ليس بوسع العقل البشري، إذ لم يؤتَ القدرة على استيعابها. فقوله تعالى (فلا تسألنِ ما ليس لك به علم) يعني إذاً: لا تسألْ عن أمور لا طاقة لك بإدراكها، أو التي جُعلت خارج نطاق علمك. وليس المراد أن لا تسأل عما لا تعلمه، ذلك أن الإنسان إنما يسأل عن الشيء ما دام يجهله، وأما ما يعلمه فلا حاجة له بالسؤال عنه. وأيّ شك في أنه لا يليق بالمرء أن يسأل عن أمور هي أسمى من أن يدركها عقله، أو هي مما لا ينبغي أن تنكشف له تفاصيلها.

ويبدو من قوله تعالى إنه عملٌ غير صالح أن أعمال الابن كانت خافية على أبيه، فنهاه الله عن السؤال كيلا يُهتك سترُ ابنه ويُفتضح أمره، لأن الجواب عليه كان يتطلب الكشف عن عيوبه ومعاصيه كشفًا تفصيليًا، فأوجز الجواب قائلاً (إني أعظك أن تكون من الجهلين).

فما أروَعَه مشهداً لكون الله ستارًا وذا مغفرة واسعة، حيث يقضي عزّ وجل بغرقه من جهة، ومن جهة أخرى يستر عيوبه ومساوئه. فقوله (إني أعظك أن تكون من الجهلين) يعني في هذا السياق بأنه يجب على الإنسان أن يدرك مثل هذه الأمور بعقله الموهوب ويكف نفسه عن السؤال عنها. وأيُّ شك في أن السؤال يسبب المشاكل في بعض المواقف، فيجب على المرء عندئذ أن يتصرف بحكمة مستخدماً عقله بدلاً من السؤال.

أما قول نوح وإن وعدك الحق فينشأ عنه سؤال وهو أنه لم يرد في الآية أي وعد من الله تعالى بإنقاذ ابنه، بل كل ما ذُكر فيها هو أن الله أمره بأن يأخذ معه في السفينة أناساً معينين، فإذا كان أحد قد عصى الله تعالى ولم يركب فيها وغرق فهذا ذنبه هو، وليس بأن الله قد أخلف وعده، فكيف يذكّر نوح إذَنْ ربَّه بوعده قائلاً وإن وعدك الحق ؟

الجواب: لقد كان هناك وعد إلهي حتمًا، ولكن جاء بصيغة أمرٍ، وما أكثرَ ما يكون الوعد يحمل طابع الأمر. ذلك أن أَمْرَ الله له بأن يأخذ في السفينة أناسًا معيّنين كان يتضمن دون شك وعداً منه بإنقاذهم من الطوفان.

والدليل الآخر على كونه وعداً الاستثناءُ المذكور في قوله (إلا مَن سبق عليه القول) حيث لم يكشف عليه بأسماء هؤلاء الذين قضى بهلاكهم من أهله. فلو كان هذا أمراً دون وعدٍ لصرّح بأسمائهم أو أعمالهم حتى لا يأخذهم في السفينة، ولكن هذا لم يحصل، ومن أجل ذلك تحيّر نوح عندما رفض ابنه أن يركب مع أنه من أهله. ولكن الله لم يرد أن يخبر نوحاً بأسماء هؤلاء الذين استثناهم من النجاة.

والدليل الثالث على وجود الوعد هنا أنه تعالى لم يقل لنوح عند سؤاله: متى وعدتُك بنجاة أهلك، وإنما قلت لك فقط: خُذ فيها أهلك والمؤمنين، فإذا كان أحد لم يركب معك فهذا ذنبه هو، وهو المسؤول عن عاقبته. بل الله تعالى يسلّم ويقرّ بوعده لنوح بنجاة أهله الحقيقيين المؤمنين قائلاً: نعم، ولكن هذا الرجل الذي تتوسّل من أجله ليس من أهلك.

فتبين أن استغفار الأنبياء لا يعني أنهم بالفعل ارتكبوا معصية لربهم، وإنما المراد منه أن يحميهم الله من عواقب تقصيراتهم الناتجة عن ضعفهم البشري.

لقد رأيت لزاماً عليّ أن أوضّح هذا الأمر بالتفصيل لأن بعض الجهال ينكرون إمكانية وقوع النبي في خطأ اجتهادي في فهم أنباء الله تعالى، وعندما تُعرض عليهم مثل هذه الآيات التي تنقض دعواهم يقولون: ليس فيها أي وعد، وإنما تذكر أمراً من عند الله تعالى. ولكني قد أثبتُّ الآن أن الله كان قد قطع فيها وعداً لنوح بنجاة أهله، ولكنه لم يدرك المراد الحقيقي من الوعد، فوقع في خطأٍ اجتهادي، ولكن الله تعالى كشف عليه الحقيقة في موعدها.

قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ   (هود: 48)

التفسيـر:

ما أرفَعَ مكانة الأنبياء في طاعة الله عز وجل، فما أن سمع سيدنا نوح   قول الله تعالى حتى قام واعترف بخطئه ورجع عن موقفه، وليس هذا فحسب، بل تضرع إليه تعالى قائلا: يا رب سأسعى جاهداً أن لا أعود لمثله أبدًا، ولكني لا أقدر على فعل شيء بدون معونتك، فأَعِنّي على أن لا أقع في مثل هذا أبداً.

ما أشدَّ أولئك المتصوفين الكاذبين جهلاً وغباءً، الذين يطلقون دعاويَ فخمة خطيرة، رغم حرمانهم من أية درجة روحانية عالية، ولا يتأسون بهذه الأسوة الحسنة للأنبياء عليهم السلام.

كما أن هذه الآية تكشف لنا حقيقة استغفار الأنبياء ونوعية الأخطاء التي تصدر عنهم. فقد ذكرت الآية استغفار نوح ، ولكنه لم يكن عن معصيةٍ أو مخالفة منه لحكمٍ من أحكام الشرع، وإنما كان استغفاره بسبب خطأ اجتهادي وقع فيه من جراء الضعف البشري، كما توضح الآيات السالفة. فتبين أن استغفار الأنبياء لا يعني أنهم بالفعل ارتكبوا معصية لربهم، وإنما المراد منه أن يحميهم الله من عواقب تقصيراتهم الناتجة عن ضعفهم البشري.

قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ   (هود: 49)

  شرح الكلمات:

بركات: جمعُ بركة وهي: النماءُ؛ الزيادةُ؛ السعادةُ. بَرَكَ الشئ بالمكان:  ثَبَتَ وبارك الله فيك: طَهَّرَك. بارَكَه: رضي عنه.واللهم بارِكْ على الأنبياء وآلِهم: أي أَدِمْ لهم ما أعطيتهم من التشريف والكرامة (الأقرب).

التفسيـر:

تعارض هذه الآية نظرية التوراة بأن الناس اليوم هم أولاد لنوح من ذريته التي بقيت بعد الطوفان، فإنه تعالى يؤكد هنا أنه ليس نوح وحده الذي انتشرت ذراريه في الدنيا، بل لقد قطع الله تعالى وعودًا لأتباعه بالبركة والنماء، وأن أولادهم أيضاً قد انتشروا في الدنيا إلى جانب أمم أخرى غير أمة نوح .

ما أقوى هذا البيان دليلاً على فضل القران الكريم على التوراة. إن كل كِتابيّ مثقّف يوقن اليوم في قلبه أن سكان الأرض ليسوا من أولاد نوح وحده، وهكذا تراه يؤكد موقف القرآن ويرفض موقف التوراة التي تقول بأنه لم ينج من الطوفان إلا نوح وأولاده  وأن ذراريهم هم الذيـن عمـروا  الأرض فيما بعد (التكوين:8). إذ تصنِّف التوراة سكان المعمورة كلهم ثلاثة أصناف تُنسب إلى ثلاثة من أبناء نوح: سام وحام ويافث (التكوين:7). بينما يعارض القرآن الكريم هذه الفكرة الخاطئة معلناً أنه ليست ذرية نوح وحده الذي عمّرت ذريته الكرة الأرضية، بل كان لأتباعه أيضًا أولاد، إلى جانب الشعوب الأخرى من المناطق التي لم تتعرض للطوفان.

وقوله تعالى(وأمم سنمتِّعهم) قد يعني الأمم الأخرى التي لم تتعرض للطوفان -كما أسلفتُ- بل مدّ الله لهم وأمهلهم ثم أهلكهم فيما بعد. كما يمكن أن يُقصد به ذراري نوح وأتباعه، والمراد أن طائفة كبيرة من أولاد هؤلاء الناجين المباركين سوف تؤول إلى الفساد بعد فترة من الزمن فيمسهم منا العذاب الأليم.

Share via
تابعونا على الفايس بوك