«ارحموا ترحموا»  
التاريخ: 2007-01-26

«ارحموا ترحموا»  

حضرة مرزا مسرور أحمد (أيده الله)

حضرة مرزا مسرور أحمد (أيده الله)

الخليفة الخامس للمسيح الموعود (عليه السلام)
  • صفة الله الرحمن
  • محمد المظهر التام لرحمانية الله
  • ضرورة دوام الاستغفار
  • من مظاهر رحمات الله
  • مواقف من رحمة النبي
  • سبيل الفوز برضا الله كما علم رسول الله

__

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بِسْمِ اللهِ الرحْمنِ الرحِيمِِ * الْحَمْدُ للهِ رَب الْعَالَمِين * الرحْمـنِ الرحِيمِ * مَالِكِ يَوْم الدينِ * إِياكَ نَعْبُدُ وإِياكَ نَسْتَعِينُ* اهدِنَا الصرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضالينَ *‏

إن شاء الله تعالى في خطبة اليوم أيضًا سوف أتناول بيان صفة الله تعالى “الرحمن” على ضوء الأحاديث النبوية الشريفة. هناك الكثير من الأحاديث التي تبين صفة الله “الرحمن”..ولقد اخترت بعضًا منها  والتي من خلالها قد شرح وبيَّن لنا النبي هذه الصفة الإلهية من مختلف الزوايا لكي ندركها بشكل صحيح.

إن هذه الأحاديث إذا كانت من ناحية تولد فينا الرغبة للاتصاف بصفاته عز وجل وجذب رحمته وتدفعنا أن نظل خاضعين راكعين لله تعالى.. بحيث تبقى كل ذرة من كياننا خاضعة له جل جلاله؛ فإنها من ناحية أخرى وفي نفس الوقت تدفعنا للصلاة على ذلك النبي الأعظم الذي فسَّر هذه المواضيع وبيَّن الزوايا المختلفة لهذه الصفات الإلهية من أجل أن ننشئ نحن.. عباد الله الضعفاء.. الصلة بالله تعالى. فالنبي بتقديم أسوته الحسنة قد بيَّن لنا تلك الطرق لإنشاء الصلة الحقيقية مع الله تعالى.

وقبل أن أقدم لكم هذه الأحاديث أريد أن أقدم لكم مقتبسًا من أقوال سيدنا الإمام المهدي لكون النبي مظهرًا كاملاً لرحمانية الله تعالى..حيث يقول سيدنا الإمام المهدي   ما معناه:

أن المظهر التام للرحمانية هو “محمد” .. حيث تعني كلمة “محمد” الذي حُمِّدَ كثيرًا. و“الرحمن” أيضًا هو من يرزق ويهب دون سؤال سابقٍ ومجانًا ودون تفريقٍ بين المؤمن والكافر.. فمن البيّن أن الذي يُعطي دون سؤالٍ سوف يُحمد ويُثنى عليه.. فإن “محمد” كان يحظى بتجلي “الرحمن”. (جريدة الحكم، 17 فبراير 1901)

هذا هو حُسن وجمالُ إدراك المسيح الموعود وفهمه لمقام سيدنا “محمد” ومدى مكانته العليا.. الذي كان سيده ومطاعه. وهذا بيانه لمكانة النبي وعظمته..حيث لا يدرك هذه المكانة غيره.

إن تجلي صفة “الرحمن” الذي ذكره المسيح الموعود سوف نلمس جوانبه العديدة من خلال الأحاديث النبوية الشريفة التي سأتناولها لاحقا في هذه الخطبة. وسنلاحظ أن الرسول عندما يتناول بيان هذه الصفة الربانية فإن كلماته تصطبغ بنبرة معينة. وسوف ترون في بعض هذه الأحاديث ما هو متعلق بالحيوانات أيضًا وكيف نرحم هذه المخلوقات.. وكيف تجلت صفة الرحمانية على الذي كان رحمةً للعالمين وكيف كان يضطرب لآلام الحيوانات.

في الخطبة الماضية ذكرت لكم في ضوء أحد الأحاديث كيف كان النبي يضطرب ويقلق بسبب أن الناس يصبحون محل عذاب الله تعالى بسبب شقاوتهم رغم كونه عز وجل رحمانًا.

وفي هذا الصدد هناك حديث؛ فَعَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَة:

 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ قَالَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله أَبُو الْقَاسِمِ صَاحِبُ هَذِهِ الْحُجْرَةِ: “لا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلا مِنْ شَقِيٍّ”.(مسند أحمد)

قد ورد في هذا الحديث الشريف أن الرحمة سوف تنـزع من الشقي؛ وفي الوقت نفسه قد بشر برحمة الله الواسعة أيضا. فإن الذين لا يتجاوزون حدود الله تعالى؛ لن يُحرموا من رحمة الله تعالى. إنما الحرمان هو من نصيب أولئك الذين يتجاوزون حدود الله. فالمؤمن يجب أن يكون حريصًا على أن ينال حظًا وافرًا من رحمانية الله تعالى ومن صفاته الأخرى لكي يرث نِعم الله تعالى أكثر فأكثر قدر المستطاع.

وقد ورد في حديث آخر:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: “لَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ مَا عِنْدَ الله مِنَ الْعُقُوبَةِ مَا طَمِعَ فِي الْجَنَّةِ أَحَدٌ وَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ مَا عِنْدَ الله مِنَ الرَّحْمَةِ مَا قَنَطَ مِنَ الْجَنَّةِ أَحَدٌ خَلَقَ الله مِائَةَ رَحْمَةٍ فَوَضَعَ رَحْمَةً وَاحِدَةً بَيْنَ خَلْقِهِ يَتَرَاحَمُونَ بِهَا وَعِنْدَ الله تِسْعَةٌ وتسعون رَحْمَةً”.(مسند أحمد)

فكل هذه الرحمة التي أحاط الله تعالى بها كل هذا الخلق هي جزء واحد من مائة جزء من رحمته عز وجل. ولكن هذا لا يعني أن المؤمن سوف يُحرم من هذه الرحمة بعد كونه مؤمنًا وبعد أن يعرف ما عند الله من العقوبة وأنه لن يطمع في الجنة بناءً على ذلك.. وإنما المراد أن المؤمن بتقواه ولعلمه بصفات أخرى لله تعالى وإدراكه لها وهو يزداد في هذا الإدراك؛ يكون عنده خوف وخشية أن يصيبه غضب الله تعالى أو يتعرض لسخطه بسبب خطأ ما. لذا فهو يحاول دائمًا أن يسير على الصراط المستقيم ويدعو الله تعالى دومًا ويسأله رحمته. إن الله تعالى قد علمنا تلك الأدعية التي يجب أن ندعوه بها لكي نرث رحمته. فقد علمنا تعالى في سورة الأعراف هذا الدعاء:

رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (الأعراف:24)..

فالمؤمن الحقيقي والذي يخشى الله تعالى على الدوام ويخافه ورغم علمه بأن رحمته عز وجل واسعة؛ يبقى دائمًا خائفًا أن يبعده عن رحمته أي عملٍ من أعماله. فإذا كانت حالة المؤمن هكذا فسوف تنـزل عليه أمطار فضل الله تعالى أكثر من الآخرين.

يقول سيدنا المسيح الموعود ما معناه: “إن الإنسان بكل ظروفه ظاهرة كانت أم خفية، وسواء علمَها أم لم يعلمها.. يجب أن يبقى مستغفرًا لذنوبه على الدوام. لذا ينبغي أن ندعو دعاء سيدنا “آدم”:

  رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ .

إن هذا الدعاء قد سبق أن استجيب.

إن المؤمن إذا كان يجب أن يقلق من ناحية؛ فمن ناحية أخرى يجب أن يبقى ذاكرًا لرحمة الله تعالى حيث علمنا الدعاء لنيل رضوانه ورحمته. فإن الله تعالى قد طمأن المؤمن حيث قال تعالى:

  يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم (الزمر:54).

وقال تعالى:

وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ الله إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ الله إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (يوسف:88).

فإن الحديث الشريف السابق لا يدفع إلى اليأس والقنوط؛ إنما يشرح الرحمة وأن هناك عند الله تعالى تسعة وتسعون جزءًا من الرحمة.. وأنكم سوف تنالون حظًا منها عندما تؤدون ما عليكم من أعمال.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: “إِنَّ لله مِائَةَ رَحْمَةٍ قَسَمَ مِنْهَا رَحْمَةً بَيْنَ جَمِيعِ الْخَلائِقِ فَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ وَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ وَبِهَا تَعْطِفُ الْوَحْشُ عَلَى أَوْلادِهَا وَأَخَّرَ تِسْعَةً وَتِسْعينَ رَحْمَةً يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ”.(ابن ماجة-كتاب الزهد)

فمن شقاوة الإنسان ألا ينال تلك الرحمة.. لذا يجب أن نسأل الله تعالى دائمًا رحمته.. وألا يصدر منَّا عن عمدٍ أي تصرف قد يؤدي بنا إلى الحرمان من رحمة الله تعالى.

ثم كيف يرحم الله عباده.. أقدم لكم مثالا آخر ندرك منه كيف علمنا النبي أن رحمة الله تعالى تسع كل شيء؛ فَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ

عَنِ النَّبِيِّ أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلًا فِيمَنْ سَلَفَ أَوْ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ قَالَ كَلِمَةً يَعْنِي أَعْطَاهُ الله مَالًا وَوَلَدًا فَلَمَّا حَضَرَتِ الْوَفَاةُ قَالَ لِبَنِيهِ أَيَّ أَبٍ كُنْتُ لَكُمْ قَالُوا خَيْرَ أَبٍ قَالَ فَإِنَّهُ لَمْ يَبْتَئِرْ (يدخر ويقدم) أَوْ لَمْ يَبْتَئِزْ (يدخر ويقدم) عِنْدَ الله خَيْرًا وَإِنْ يَقْدِرِ الله عَلَيْهِ يُعَذِّبْهُ فَانْظُرُوا إِذَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي حَتَّى إِذَا صِرْتُ فَحْمًا فَاسْحَقُونِي أَوْ قَالَ اَلْإِسْكَنْدَرِيَّة فَإِذَا كَانَ يَوْمُ رِيحٍ عَاصِفٍ فَأَذْرُونِي فِيهَا فَقَالَ نَبِيُّ الله فَأَخَذَ مَوَاثِيقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَرَبِّي فَفَعَلُوا ثُمَّ أَذْرَوْهُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ فَقَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ كُنْ فَإِذَا هُوَ رَجُلٌ قَائِمٌ قَالَ الله أَيْ عَبْدِي مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ فَعَلْتَ مَا فَعَلْتَ قَالَ مَخَافَتُكَ أَوْ فَرَقٌ مِنْكَ قَالَ فَمَا تَلافَاهُ أَنْ رَحِمَهُ عِنْدَهَا”. (البخاري-كتاب الرقاق)..

أي إذا كنت تخافني إلى هذه الدرجة؛ فأنا أجزيك برحمتي وأغفر لك وأرحمك.

وفي حديث آخر:

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: “كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ إِنْسَانًا ثُمَّ خَرَجَ يَسْأَلُ فَأَتَى رَاهِبًا فَسَأَلَهُ فَقَالَ لَهُ هَلْ مِنْ تَوْبَةٍ قَالَ لا فَقَتَلَهُ فَجَعَلَ يَسْأَلُ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ ائْتِ قَرْيَةَ كَذَا وَكَذَا فَأَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فَنَاءَ بِصَدْرِهِ نَحْوَهَا فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلائِكَةُ الْعَذَابِ فَأَوْحَى الله إِلَى هَذِهِ أَنْ تَقَرَّبِي وَأَوْحَى الله إِلَى هَذِهِ أَنْ تَبَاعَدِي وَقَالَ قِيسُوا مَا بَيْنَهُمَا فَوُجِدَ إِلَى هَذِهِ أَقْرَبَ بِشِبْرٍ فَغُفِرَ لَهُ”. (البخاري-كتاب أحاديث الأنبياء)..

وفي رواية أخرى:

 عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ لا أُحَدِّثُكُمْ إِلا مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ الله سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي: “أَنَّ عَبْدًا قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا ثُمَّ عَرَضَتْ لَهُ التَّوْبَةُ فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ فَأَتَاهُ فَقَالَ إِنِّي قَتَلْتُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا فَهَلْ لِي مِنْ تَوْبَـةٍ؟  قَالَ بَعْدَ قَتْلِ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ نَفْسًا؟ قَالَ فَانْتَضَى سَيْفَهُ فَقَتَلَهُ بِهِ فَأَكْمَلَ بِهِ مِائَةً ثُمَّ عَرَضَتْ لَهُ التَّوْبَةُ فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ فَأَتَاهُ فَقَالَ إِنِّي قَتَلْتُ مِائَةَ نَفْسٍ فَهَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ فَقَالَ وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ اخْرُجْ مِنَ الْقَرْيَةِ الْخَبِيثَةِ الَّتِي أَنْتَ فِيهَا إِلَى الْقَرْيَةِ الصَّالِحَةِ قَرْيَةِ كَذَا وَكَذَا فَاعْبُدْ رَبَّكَ فِيهَا قَالَ فَخَرَجَ إِلَى الْقَرْيَةِ الصَّالِحَةِ فَعَرَضَ لَهُ أَجَلُهُ فِي الطَّرِيقِ قَالَ فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلائِكَةُ الْعَذَابِ قَالَ فَقَالَ إِبْلِيسُ أَنَا أَوْلَى بِهِ إِنَّهُ لَمْ يَعْصِنِي سَاعَةً قَطُّ قَالَ فَقَالَتْ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ إِنَّهُ خَرَجَ تَائِبًا .. فَبَعَثَ الله عَزَّ وَجَلَّ لَهُ مَلَكًا فَاخْتَصَمُوا إِلَيْهِ.. فَقَالَ انْظُرُوا أَيُّ الْقَرْيَتَيْنِ كَانَ أَقْرَبَ إِلَيْهِ فَأَلْحِقُوهُ بِأَهْلِهَا. قَالَ قَتَادَةُ فَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ لَمَّا عَرَفَ الْمَوْتَ احْتَفَزَ بِنَفْسِهِ فَقَرَّبَ الله عَزَّ وَجَلَّ مِنْهُ الْقَرْيَةَ الصَّالِحَةَ وَبَاعَدَ مِنْهُ الْقَرْيَةَ الْخَبِيثَةَ فَأَلْحَقُوهُ بِأَهْلِ الْقَرْيَةِ الصَّالِحَةِ”. (مسند أحمد)

فهذه هي رحمة الله تعالى.. ولكن يجب ألاَّ يغيبن عن البال أن الذين يصرون على الذنوب بعناد قد بشرهم بعذابٍ. فمن أجل جذب أفضال الله تعالى ورحمته؛ لا بد من السفر في هذا الطريق وحث الخطى على ذلك.. حيث يجب أن يشعر الإنسان بالذنب إذا اقترفه.. ولتتولّد عنده الرغبة في طلب المغفرة من الله تعالى. عندئذٍ يمكن أن يرجو الإنسانُ رحمة ربه..كما جاء في قوله تعالى:

  يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم (الزمر:54).

ثم انظروا كيف كان أسلوب الذي كان رحمةً للعالمين  مع صحابته..وكيف كان يحاول تقوية إدراكهم لصفة الله “الرحمن”..فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قال كان رجل من الأنصار ثم رسول الله ومعه صبي له قال فجعل يضمه إليه ويرحمه فقال له رسول الله : “أترحمه”.  قال نعم يا رسول الله قال : “فالله أرحم به منك وهو أرحم الراحمين”.(شِعب الإيمان-البيهقي، الأدب المفرد رقم الباب 175)

ففي هذه الأيام قد لا يشعر أحد بهذه القسوة في المعاملة حتى مع الأبناء.. ولكن الذين يعرفون أحوال المجتمع العربي في ذاك الوقت؛ فإنهم يدركون كيف كان العناد والقسوة في طبائعهم. فقبل بعثة النبي كان الرجل نادرًا ما يشعر بهذه الرحمة أو يُقَبِّلُ أطفاله.. فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:

 دَخَلَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ عَلَى رَسُولِ الله فَرَآهُ يُقَبِّلُ حَسَنًا أَوْ حُسَيْنًا فَقَالَ لَهُ لا تُقَبِّلْهُ يَا رَسُولَ الله لَقَدْ وُلِدَ لِي عَشَرَةٌ مَا قَبَّلْتُ أَحَدًا مِنْهُمْ فَقَالَ رَسُولُ الله : “إِنَّ مَنْ لا يَرْحَمُ لا يُرْحَمُ”.(مسند أحمد)

وفي رواية أخرى:

 عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا قَالَتْ قَدِمَ نَاسٌ مِنَ الْأَعْرَابِ عَلَى رَسُولِ الله فَقَالُوا أَتُقَبِّلُونَ صِبْيَانَكُمْ فَقَالُوا نَعَمْ فَقَالُوا لَكِنَّا وَالله مَا نُقَبِّلُ فَقَالَ رَسُولُ الله : “أَوَ أَمْلِكُ لكَ أنْ كَانَ الله نَزَعَ مِنْكُمُ الرَّحْمَةَ”.(مسلم-كتاب الفضائل)وَعَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ الله عَنْهُما أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيّ َ عَلَى مِنْبَرِهِ يَقُولُ: “ارْحَمُوا تُرْحَمُوا وَاغْفِرُوا يَغْفِرِ الله لَكُمْ وَيْلٌ لِأَقْمَاعِ الْقَوْلِ (الذين يسمعون القول ولا يعملون به) وَيْلٌ لِلْمُصِرِّينَ الَّذِينَ يُصِرُّونَ عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ”. (مسند أحمد، مسند المكثرين من الصحابة)

فهذه الشقاوة التي ذكرها رسول الله وكما سبق أن ذكرتها لكم في الخطبة السابقة على ضوء شرح المسيح الموعود للآية الكريمة:

  وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ..

إنما هي بسبب الإصرار على الإثم.. وهذا ما يجعل الإنسان يُحرم من رحمانية الله تعالى.

عن جَرِيرٍ بن عبد الله عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ الله يَقُولُ: “إِنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ لا يَرْحَمُ مَنْ لا يَرْحَمُ النَّاسَ”.(صحيح البخاري، كتاب التوحيد)..

لذا يجب أن تراعوا العلاقات فيما بينكم.. أي صلات الرحم وصلات الصداقة وصلات الجوار وأن تؤدوا حقوق هذه الصلات. يجب أن يكون في قلوبكم مشاعر الرحمة.

وبهذا الخصوص أودّ أن أشرح وأوضح مسألةً لأنني عندما أتناول موضوع الرحمة؛ فإن الذين يتعرضون للعقوبة من قِبل نظام الجماعة فإنهم عندما يسمعون هذه الأحاديث النبوية الشريفة يكتبون إليَّ ويقولون لماذا نحن لا نُرحم بحسب هذه الأحاديث؟ فأقول لهم إن النبي كان ينصح بصفة عامة وللمجتمع كله بالرحمة فيما بين الناس وأيضًا فيما بين الخليفة والنـاس وقال: “تراحمـوا”..ولكن الذين يصِّرون على خطأٍ ما كما سبق وبيَّنت؛ فإنهم عندما يتعرضون للعقوبة فلا بد من أن يتحملوا تلك العقوبة.  في إحدى الغزوات عندما تأخر بعض الصحابة عن تلبية نداء النبي رغم صحتهم – أي رغم عدم وجود عذر لهم-؛ عاقبهم النبي بقطع العلاقات الإجتماعية معهم.. حتى أنه قد أمر أزواجهم أن ينقطعن عنهم. ومن بين هؤلاء الثلاثة كان هناك شيخٌ هرمٌ وصار هزيلاً وضعيفًا بسبب هذه العقوبة وكان يلازم السرير يبكي ويستغفر طول اليوم.. فحضرت زوجته للنبي واستأذنته أن تهيئ له الطعام.. فعندما عرف النبي أن هذه حاله وأنه يلازم السرير من شدة الضعف وأنه يبكي ويستغفر طوال الوقت.. ولأنه كان رحمةً للعالمين.. لذا فإنه أذِنَ لها. ولكن النبي أبقى العقوبة إلى أن نزل العفو عنهم من الله تعالى. لذا فإن الذين يُعاقبون يجب عليهم أن يراعوا ألاَّ يصروا على خطأهم؛ فإذا أصروا فعليهم أن يتحملوا العقوبة وألا يذكروا هذه الرحمة لأنهم بذلك يتكلمون عن الحقوق فقط ولا يذكرون الواجبات التي عليهم. فهناك أحيانًا يحدث مخالفات لنظام الجماعة؛ لذا لا بد لتدارك مثل هذا الخرق من العقوبة بهدف الإصلاح.. ويجب أن تفهموا ذلك.

عَنْ زَرْبِيٍّ قَال سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ جَاءَ شَيْخٌ يُرِيدُ النَّبِيَّ فَأَبْطَأَ الْقَوْمُ عَنْهُ أَنْ يُوَسِّعُوا لَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ : “لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنَا”.(الترمذي-كتاب البِر والصِلة)..

 لقد نبهت إلى هذا من قبل.. حيث لاحظت في أحد المجالس أن المسنين كانوا واقفين والصغار جالسين على المقاعد. فهذا النصح النبوي يجب أن ينتبه إليه الأحمديون كبارًا وصغارًا رجالاً ونساءً..يجب أن يُرى في جميع الأحمديين هذا الخُلُق.. وعندئذٍ سوف ننال حظًا من دعوات النبي .. حيث قال : “لَيْسَ مِنَّا”؛ فالذي ليس منه كيف يمكن أن يرث دعواته. لذا ينبغي أن نعمل ونستجيب لكل أوامره ونصائحه لنرث دعواته ونستفيد منها الأمر الذي يخلق في المجتمع جو المحبة والمودة.

ثم في رواية

عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ أَنَّ النَّبِيَّ خَطَبَ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: “إِنَّ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمَّا عَلَّمَنِي فِي يَوْمِي هَذَا كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عِبَادِي حَلالٌ وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَأَضَلَّتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا ثُمَّ إِنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ عَجَمِيَّهُمْ وَعَرَبِيَّهُمْ إِلا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَقَالَ إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لِأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بِكَ وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابًا لا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ تَقْرَؤُهُ نَائِمًا وَيَقْظَانًا ثُمَّ إِنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَنِي أَنْ أُحَرِّقَ قُرَيْشًا فَقُلْتُ يَا رَبِّ إِذَنْ يَثْلَغُوا رَأْسِي فَيَدَعُوهُ خُبْزَةً فَقَالَ اسْتَخْرِجْهُمْ كَمَا اسْتَخْرَجُوكَ فَاغْزُهُمْ نُغْزِكَ وَأَنْفِقْ عَلَيْهِمْ فَسَنُنْفِقَ عَلَيْكَ وَابْعَثْ جُنْدًا نَبْعَثْ خَمْسَةً مِثْلَهُ وَقَاتِلْ بِمَنْ أَطَاعَكَ مَنْ عَصَاكَ وَأَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلاثَةٌ: ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ، مُتَصَدِّقٌ مُوَفَّقٌ، وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلِّ ذِي قُرْبَى وَمُسْلِمٍ، وَرَجُلٌ فَقِيرٌ عَفِيفٌ مُتَصَدِّقٌ وَأَهْلُ النَّارِ خَمْسَةٌ الضَّعِيفُ الَّذِي لا زَبْرَ لَهُ الَّذِينَ هُمْ فِيكُمْ تَبَعًا أَوْ تُبَعَاءَ شَكَّ يَحْيَى لا يَبْتَغُونَ أَهْلًا وَلا مَالًا وَالْخَائِنُ الَّذِي لا يَخْفَى عَلَيْهِ طَمَعٌ وَإِنْ دَقَّ إِلا خَانَهُ وَرَجُلٌ لا يُصْبِحُ وَلا يُمْسِي إِلا وَهُوَ يُخَادِعُكَ عَنْ أَهْلِكَ وَمَالِكَ. وَذَكَرَ الْبُخْلَ وَالْكَذِبَ وَالشِّنْظِيرَ الْفَاحِشَ”.(مسند أحمد)وَعَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ عَلَى الْمِنْبَرِ: “مَنْ لَمْ يَشْكُرِ الْقَلِيلَ لَمْ يَشْكُرِ الْكَثِيرَ وَمَنْ لَمْ يَشْكُرِ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرِ الله التَّحَدُّثُ بِنِعْمَةِ الله شُكْرٌ وَتَرْكُهَا كُفْرٌ وَالْجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ وَالْفُرْقَةُ عَذَابٌ”.(مسند أحمد)..

فمن نعمة الله تعالى علينا التي يجب أن نشكره عليها أنه جعلنا من جماعة المسيح الموعود في هذا الزمن فنلنا رحمة الله. وإسداءً للشكر على نعمة الله علينا هذه يجب أن نؤدي ما تتطلبه منا عواطف الرحمة للإنسانية وهو أن نوصل دعوة المسيح الموعود إلى جميع الناس في كل أنحاء العالم. كذلك يجب أن ندعو لهم أيضًا أن يهديهم الله تعالى إلى الصراط المستقيم وإلى معرفة الحق والثبات عليه.

أما فيما يتعلق بحب المؤمنين فيما بينهم وتلك المعايير التي يجب أن يكون عليها المؤمنون وماذا كان النبي يتوقع منَّا.. يبدو ذلك من حديث النبي عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ الله : “تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى عُضْو تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى”. (البخاري-كتاب الأدب).. هذا ما يجب أن يكون عليه المؤمنون فيما بينهم.. وبدلاً من إيذاء الآخرين وعدم الشعور بمصاعبهم ومشاكلهم؛ ينبغي الإحساس بمشاكل ومصاعب الآخرين والدعاء لهم. وهذا هو المجتمع الإسلامي الذي علمنا سيدنا رَسُولُ الله ونصحنا أن ننفذه في أنفسنا بناءً على رحمة الله تعالى.

ثم هناك بعض الأحاديث التي تبين لنا كيف كانت رحمة النبي بالحيوانات أيضًا.. فَعَنْ أبى أمامة الباهلي قَالَ قَالَ رَسُولُ الله : “من رحم ولو  ذبيحة رحمه الله يوم القيامة”.(الأدب المفرد-البخاري).. فمن مقتضى الرحمة بالذبيحة أيضًا أن يكون السكين حادًّا وأن تُذبح الذبيحة بسرعة حتى لا تتأذى.

وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ الله إِنِّي لأذْبَحُ الشَّاةَ وَأَنَا أَرْحَمُهَا أَوْ قَالَ إِنِّي لأرْحَمُ الشَّاةَ أَنْ أَذْبَحَهَا فَقَالَ : “وَالشَّاةُ إِنْ رَحِمْتَهَا رَحِمَكَ الله”.(مسند أحمد)وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ الله عَنْ أَبِيهِ قَالَ نَزَلَ رَسُولُ الله مَنْزِلًا فَانْطَلَقَ إِنْسَانٌ إِلَى غَيْضَةٍ (موضع يكثر فيه الشجر) فَأَخْرَجَ مِنْهَا بَيْضَ حُمَرَةٍ (طائر صغير كالعصفور) فَجَاءَتِ الْحُمَرَةُ تَرِفُّ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ الله وَرُءُوسِ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: “أَيُّكُمْ فَجَعَ هَذِهِ” فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ أَنَا أَصَبْتُ (أخذت) لَهَا بَيْضًا قَالَ رَسُولُ الله : “رُدَّهُ رَحْمَةً لَهَا”.(مسند أحمد)

كذلك هناك رواية مفادها أن النبي عرف أن هناك ناقة يحملها صاحبها أكثر من طاقتها فمنع صاحبها عن ذلك ونصحه أن يرفق بها.

في زمن النبي كان بعض الناس يأتونه وبدون أن يراعوا مكانته من الرحمة وكونه رحمةً للعالمين فكانوا يطلبون منه في بعض الأحيان أن يدعو على شخصٍ معينٍ أو قبيلة ما. والنبي كان لا يعير اهتمامًا لمثل هذا الطلب فحسب؛ بل كان ينصح صاحب مثل هذا الطلب بكل حكمة وتودد ويوجهه للخير دائمًا..وكان يدعو لمن كان الطلب بالدعاء عليه. فَعَنْ مِينَاءَ مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَال سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ فَجَاءَ رَجُلٌ أَحْسِبُهُ مِنْ قَيْسٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ الله الْعَنْ حِمْيَرًا فَأَعْرَضَ عَنْهُ ثُمَّ جَاءَهُ مِنَ الشِّقِّ (الجهة) الْآخَرِ فَأَعْرَضَ عَنْهُ ثُمَّ جَاءَهُ مِنَ الشِّقِّ الْآخَرِ فَأَعْرَضَ عَنْهُ ثُمَّ جَاءَهُ مِنَ الشِّقِّ الْآخَرِ فَأَعْرَضَ عَنْهُ فَقَالَ النَّبِيُّ : “رَحِمَ الله حِمْيَرًا أَفْوَاهُهُمْ سَلامٌ وَأَيْدِيهِمْ طَعَامٌ وَهُمْ أَهْلُ أَمْنٍ وَإِيمَانٍ”.(الترمذي-كتاب المناقب)

فانظروا بأي حكمة وموعظة حسنة أصلح سيدنا رسول الله هذا الشخص القادم إليه يطلب الدعاء على قبيلة ما..وكيف نصحه ووجهه للدعاء لهم بدلاً من أن يدعو عليهم لأن هذه هي الحسنة.. وهذه هي المعاملة التي يجب أن تكون من المؤمنين والتي تؤدي إلى تزايد الحب وتقوّي أواصر المحبة فيما بينهم..وبذلك ينشر الإنسان المحبة في الآخرين.

هناك دعاء علمنا إياه سيدنا رسول الله للفوز برضا الله تعالى.. فَعَنْ عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ الله قَالَ:

 “مَنْ قَالَ اللهمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ إِنِّي أَعْهَدُ إِلَيْكَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا أَنِّي أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ وَحْدَكَ لا شَرِيكَ لَكَ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ فَإِنَّكَ إِنْ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي تُقَرِّبْنِي مِنَ الشَّرِّ وَتُبَاعِدْنِي مِنَ الْخَيْرِ وَإِنِّي لا أَثِقُ إِلا بِرَحْمَتِكَ فَاجْعَلْ لِي عِنْدَكَ عَهْدًا تُوَفِّينِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ إِلا قَالَ الله لِمَلائِكَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ عَبْدِي قَدْ عَهِدَ إِلَيَّ عَهْدًا فَأَوْفُوهُ إِيَّاهُ فَيُدْخِلُهُ الله الْجَنَّةَ”. (مسند أحمد)

إن هذا الدعاء أو العهد يوجهنا إلى ضرورة أن نحاسب أنفسنا أيضًا. فإذا كان الإنسان يسأل الله تعالى عفوه ورحمته وفضله؛ فلا بد له من أن يتوجه إلى الأعمال الصالحة التي تجلب مرضاة الله تعالى.. رغم أنه مما لا شك فيه أنه تبقى في بعض الأحيان بعض العيوب والنقائص في أعمال العبد. أما إذا كان الإنسان من ناحية يسأل الله تعالى فضله ورحمته ومن ناحية أخرى يصرَّ على الظلم ولا يكف عنه؛ فلا تُستجاب دعوات  مثل هذا الشخص ولا ينال فضل الله تعالى ورحمته. فإذا دعوتم الله تعالى وطلبتم رحمته وفضله فسوف توفقون للأعمال الصالحة أيضًا.

وهناك دعاءٌ آخر لسيدنا رسول الله ..

عَنْ خَالِدِ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ قَلَّمَا كَانَ رَسُولُ الله يَقُومُ مِنْ مَجْلِسٍ حَتَّى يَدْعُوَ بِهَؤُلاءِ الدَّعَوَاتِ لِأَصْحَابِهِ: “اللهمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ وَمِنَ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مُصِيبَاتِ الدُّنْيَا وَمَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنَّا وَاجْعَلْ ثَأْرَنَا عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا وَلا تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِي دِينِنَا وَلا تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا وَلا مَبْلَغَ عِلْمِنَا وَلا تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لا يَرْحَمُنَا”. (الترمذي-كتاب الدعوات)

إن هذا الدعاء يجب أن يدعو به الإخوة كثيرًا وخاصة هؤلاء الذين هم في بلاد يحكمها حكامٌ ظالمون ويصبون المصاعب والمشاكل والمظالم والاضطهادات على الأحمديين. ندعو الله تعالى أن ينجيهم من هذه المظالم والاضطهادات حتى يستطيع الأحمديون أن يعيشوا بحرية مقيمين شعائر الله تعالى.

وإن جميع الناس الذين قَبلوا الإسلام قد انضموا إليه بسبب رحمة النبي وشفقته. ولكن إذا عميت عيون المعارضين وقست قلوبهم وأُغلقت عقولهم فما الذي سوف يقولونه عندئذٍ غير ذلك

والآن أقدم لكم بعض الأحداث التي حدثت في حياة سيدنا رسول الله تذكر صفة الرحمان..

عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ جَرِيًّا عَلَى أَنْ يَسْأَلَ رَسُولَ الله عَنْ أَشْيَاءَ لا يَسْأَلُهُ عَنْهَا غَيْرُهُ فَقَالَ يَا رَسُولَ الله مَا أَوَّلُ مَا رَأَيْتَ فِي أَمْرِ النُّبُوَّةِ فَاسْتَوَى رَسُولُ الله جَالِسًا وَقَالَ: “لَقَدْ سَأَلْتَ أَبَا هُرَيْرَةَ إِنِّي لَفِي صَحْرَاءَ ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ وَأَشْهُرٍ وَإِذَا بِكَلامٍ فَوْقَ رَأْسِي وَإِذَا رَجُلٌ يَقُولُ لِرَجُلٍ أَهُوَ هُوَ قَالَ نَعَمْ فَاسْتَقْبَلانِي بِوُجُوهٍ لَمْ أَرَهَا لِخَلْقٍ قَطُّ وَأَرْوَاحٍ لَمْ أَجِدْهَا مِنْ خَلْقٍ قَطُّ وَثِيَابٍ لَمْ أَرَهَا عَلَى أَحَدٍ قَطُّ فَأَقْبَلا إِلَيَّ يَمْشِيَانِ حَتَّى أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَضُدِي لا أَجِدُ لِأَحَدِهِمَا مَسًّا فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ أَضْجِعْهُ فَأَضْجَعَانِي فُسْتَان قَصْرٍ وَلا هَصْرٍ وَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ افْلِقْ صَدْرَهُ فَهَوَى أَحَدُهُمَا إِلَى صَدْرِي فَفَلَقَهَا فِيمَا أَرَى فُسْتَان دَمٍ وَلا وَجَعٍ فَقَالَ لَهُ أَخْرِجِ الْغِلَّ وَالْحَسَدَ فَأَخْرَجَ شَيْئًا كَهَيْئَةِ الْعَلَقَةِ ثُمَّ نَبَذَهَا فَطَرَحَهَا فَقَالَ لَهُ أَدْخِلِ الرَّأْفَةَ وَالرَّحْمَةَ فَإِذَا مِثْلُ الَّذِي أَخْرَجَ يُشْبِهُ الْفِضَّةَ ثُمَّ هَزَّ إِبْهَامَ رِجْلِيَ الْيُمْنَى فَقَالَ اغْدُ وَاسْلَمْ فَرَجَعْتُ بِهَا أَغْدُو رِقَّةً عَلَى الصَّغِيرِ وَرَحْمَةً لِلْكَبِيرِ”. (مسند أحمد)..

فبعد مشاهدة هذا الكشف في صغره ؛ فإن الله تعالى قد ملأ قلبه الطاهر بعواطف الحب والرحمة التي ما زالت تتقوى إلى أن بلغت ذروتها عند تلقيه النبوة.

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَرْحَمَ بِالْعِيَالِ مِنْ رَسُولِ الله قَالَ كَانَ إِبْرَاهِيمُ مُسْتَرْضِعًا لَهُ فِي عَوَالِي الْمَدِينَةِ فَكَانَ يَنْطَلِقُ وَنَحْنُ مَعَهُ فَيَدْخُلُ الْبَيْتَ وَإِنَّهُ لَيُدَّخَنُ وَكَانَ ظِئْرُهُ قَيْنًا فَيَأْخُذُهُ فَيُقَبِّلُهُ ثُمَّ يَرْجِعُ قَالَ عَمْرٌو فَلَمَّا تُوُفِّيَ إِبْرَاهِيمُ قَالَ رَسُولُ الله : “إِنَّ إِبْرَاهِيمَ ابْنِي وَإِنَّهُ مَاتَ فِي الثَّدْيِ وَإِنَّ لَهُ لَظِئْرَيْنِ تُكَمِّلانِ رَضَاعَهُ فِي الْجَنَّةِ”. (مسلم-كتاب الفضائل)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قِيلَ يَا رَسُولَ الله ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ قَالَ : “إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً”. (مسلم-كتاب البِر والصِلة)

إذا عملت الأمة المسلمة هذه الأيام بهذه الأسوة للرحمة المهداة للعالمين ؛ وبدلاً من الظلم والاضطهاد؛ وبدلاً من الحروب الداخلية.. إذا تعامل أفراد الأمة الإسلامية فيما بينهم بالرحمة والشفقة والمواساة فهذا هو طريق النجاة.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَدِمَ طُفَيْلُ ابْنُ عَمْرٍو الدَّوْسِيُّ وَأَصْحَابُهُ عَلَى النَّبِيِّ فَقَالُوا يَا رَسُولَ الله إِنَّ دَوْسًا عَصَتْ وَأَبَتْ فَادْعُ الله عَلَيْهَا فَقِيلَ هَلَكَتْ دَوْسٌ قَالَ : “اللهمَّ اهْدِ دَوْسًا وَأْتِ بِهِمْ”.(البخاري-كتاب الجهاد والسير).. وهكذا كانت عاطفة الرحمة عند النبي .
وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ كَانَ غُلامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ فَمَرِضَ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ يَعُودُهُ فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَه:ُ “أَسْلِمْ”. فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ فَأَسْلَمَ فَخَرَجَ النَّبِيُّ وَهُوَ يَقُولُ: “الْحَمْدُ لله الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ”. (البخاري-كتاب الجنائز).. فالنبي لكونه  مليئًا بعواطف الرحمة؛ لم يتحمل أن ذلك الشخص الذي كان يخدمه أن يُعذَب بعذاب الله تعالى. فكان يعامله معاملة حسنة ويدعوه إلى الإسلام ولكنه عندما أوشك على الموت؛ دعاه النبي للإسلام خالصةً ليحسن عاقبته.. فأسلم. وعندئذٍ فرح النبي لنجاة هذا الشاب.

إن المعارضين للإسلام الآن يقولون أن الإسلام قد انتشر بحد السيف. إن ما يقولونه هو من أجل الاعتراض فقط..فهناك الكثير والكثير جدًّا من الأحداث التي لا يشوبها أي شائبة من القسوة أو الإكراه في حياته الطاهرة . وإن جميع الناس الذين قَبلوا الإسلام قد انضموا إليه بسبب رحمة النبي وشفـقته. ولكن إذا عمـيت عيون المعارضين وقـست قلوبـهم وأُغلقت عقولهم فما الذي سـوف يقـولونه عندئذٍ غير ذلك.

ثم لننظر إلى أسوة النبي تجاه الصغار.. فَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما قَالَ كَانَ نَبِيُّ الله يَأْخُذُنِي فَيُقْعِدُنِي عَلَى فَخِذِهِ وَيُقْعِدُ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ عَلَى فَخِذِهِ الْأُخْرَى ثُمَّ يَضُمُّنَا ثُمَّ يَقُولُ: “اللهمَّ ارْحَمْهُمَا فَإِنِّي أَرْحَمُهُمَا”.(مسند أحمد)..

هذه بعض النماذج التي من خلالها وجَّه النبي الناس إلى معرفة الله “الرحمن”..وكيف يجب أن يتعامل الناس فيما بينهم بالرحمة والشفقة. إن النبي قد ضرب بأسوته مُثُلاً عليا أدت إلى إعطاء الفهم والمعرفة الحقيقية لعباد الله إلى معرفة الله تعالى. ولأن الله تعالى قد أرسله رحمةً للعالمين؛ فإن النبي قد أدَّى حق هذا الواجب من خلال تعاليمه وأسوته الحسنة أيضًا.. وهذا ليس فيما يتعلق  بهذه الصفة فحسب؛ بل في جميع الصفات الأخرى أيضًا قد بلغت أسوة النبي ذروتها. ثم من جانب آخر كان يخشى الله تعالى إلى حدٍّ كبير بحيث قد ورد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: “مَا مِنْ أَحَدٍ يُدْخِلُهُ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ”. فَقِيلَ وَلا أَنْتَ يَا رَسُولَ الله قَالَ : “وَلا أَنَا إِلا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي رَبِّي بِرَحْمَةٍ”. (مسلم-كتاب صفة الجنة والقيامة والنار)

فبعد مشاهدة هذا الكشف في صغره ؛ فإن الله تعالى قد ملأ قلبه الطاهر بعواطف الحب والرحمة التي ما زالت تتقوى إلى أن بلغت ذروتها عند تلقيه النبوة.

فانظروا إلى ذلك الإنسان العظيم الذي كانت كل لحظة من حياته تنقضي في التقرب من الله تعالى والوصول إليه ونيل رضاه.. حتى أن الله تعالى قد أعلن في القرآن الكريم بلسان رسول الله : قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لله رَبِّ الْعَالَمِينَ (سورة الأنعام:163).. أي أن كل لحظة من حياتي هي وقفٌ لله تعالى. وبالرغم من ذلك يقول النبي : “وَلا أَنَا إِلا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي رَبِّي بِرَحْمَةٍ”.. فإنه مع أن صلواته وعباداته وجميع أعماله الحسنة قد بلغت أعلى الدرجات بحيث لم ولن يستطيع أحد أن يصل إلى تلك المكانة.. ومع أن الله تعالى قد شهد له بأنه قد أوصل الحسنات إلى ذروتها.. ورغم ذلك يقول : “وَلا أَنَا إِلا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي رَبِّي بِرَحْمَةٍ”..

لذا فمن أجل نيل رحمة الله تعالى وجلب فضله قد علمنا الله تعالى الأدعية في القرآن الكريم وكذلك النبي قد علمنا تلك الأدعية التي يجب أن ندعو بها. إن رحمانية الله تعالى يجب أن تكون مدعاةً لخضوع الإنسان أمام الله تعالى..وهذه هي ميزة المؤمن الحقيقي. وفقنا الله تعالى جميعًا لذلك. آمين

Share via
تابعونا على الفايس بوك