في عالم التفسير
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (البقرة 41)

 شرح الكلمات:

بني إسرائيل: إسرائيل هو لقبُ سيدنا يعقوب ، ويقول الكتاب المقدس إن الله تعالى سماه بهذا لشجاعته حيث ورد: }فقال: لا يُدعى اسمك فيما بعد يعقوب بل إسرائيل، لأنك جاهدت مع الله والناس وقدرتَ{ (التكوين 32: 28). وأُطلقَ هذا اللقب على نسل يعقوب أيضًا، فيسمَّون “إسرائيل” بدلاً من بني إسرائيل. (Analytical Hebrew and Chaldec)

ويسمى إسرائيل بالعبرانية “يسرائيل”، وتتركب هذه الكلمة من “يسر” أي المقاتل الباسل، و”إيل” أي الرب، فالمعنى: “المقاتل الباسل للرب”.

أما الكلمة العربية “إسرائيل” فتتركب من “إسر” و “إيل”، وقد تكون عبرانية الأصل ومعرّبة. والحق أن اللغتين لغة واحدة، وحسب تحقيقنا فإن العبرانية صورة مشوهة من العربية. ويرى هذا الرأي بعض العلماء الغربيين أيضا، وإن كان معظمهم -بسبب تعصبهم الديني- يعتبرون اللغتين متفرعتين عن لغة أخرى؛ بل زعم بعضهم أن العربية منحدرة من العبرانية! ولا مجال هنا لمناقشة هذه القضية، غير أني أكتفي بالقول إن اشتراك اللغتين حقيقةٌ ثابتة، وعليه نستطيع القول إن كلمة “إسرائيل” عربية الأصل، وتغيّرَ شكلها في العبرية فصارت “يسرائيل”. يقال في العربية: أسَرَ الرجلَ: قبَض عليه وأخَذه (الأقرب)، وعليه فتعني كلمة “إسر” القوي الشجاع الذي يتغلب على خصمه ويأسره. أما كلمة “يسر” العبرية فتعني في العربية اللِّين والانقياد (لسان العرب)، أي: قبول قول الآخر بسهولة وطاعته والإذعان له.

أما كلمة “إيل” فهي في صورتها هذه لا تعني في العربية معنى الرب، ولكن التدبر يكشف أن معناها الحقيقي ينطبق على الله تعالى، لأنها مشتقة من الفعل “آلَ”، واسم الفاعل منه “آئل”، والصفة المشبهة منها “إيل”. و”آلَ” يعني: ساسَ؛ يقال آلَ الرجلُ أهلَه، أي ساسَهم، وآلَ الملكُ رعيته: ساسهم؛ وآلَ على القوم: وَلِيَهم (الأقرب)؛ أي صار ملِكًا عليهم. فمعنى الآئل: المدبّر؛ الحاكم؛ الملِك، أما “إيل” فهو الكائن المتصف أزلاً وأبدًا بصفات التدبير والحكم والمـُلك؛ وهي صفات لا يتصف بها إلا ذات الباري تعالى، لأنه وحده الأزلي الأبدي.

ومن معاني آلَ: عادَ، وعليه فتعني كلمة “إيل” الكائن المتصف أزلاً أبدًا بصفة الرجوع، وهذا هو معنى صفة الله “التواب”، أي الذي يرجع على عباده برحمته مرارا وتكرارا.

وعليه، فتعني كلمة “إسرائيل” بناءً على اشتقاقه مِن “إسْر”:

(1) العبد القوي الشجاع للملِك الأزلي الأبدي سبحانه وتعالى،

(2) العبد القوي الشجاع للمدبر الأزلي الأبدي سبحانه وتعالى،

(3) العبد القوي الشجاع للذي يعود على العباد مرارًا، أي التوّاب سبحانه وتعالى.

أما بناءً على الاشتقاق مِن “يسر” فتعني كلمة إسرائيل: عبد الله المطيعُ الكامل في الطاعة والمتخلق بأخلاقه تعالى.

ولأن العبرية متفرعة من العربية، فتغيرت كلمة “إسرائيل” إلى “يسرائيل”، أعني صارت “إِسر” إلى “يَسر” و”إِيل” إلى “أَيل” (حيث يُنطَق الألف في العبرية بصوت ما بين الفتح والكسر). وحيث إن العربية تدل على المعاني الأصلية للكلمة، فقد كشفت عن معاني هذه الكلمة كلها، أما العبرية فجعلت معانيها محدودة، أعني أن “إسرائيل” تعني في العبرية: العبد المقاتل الشجاع لله تعالى، أما العربية فقد دلت على هذا المعنى بوضوح، كما أشارت إلى معنى آخر للكلمة، لأن “إسرائيل” يمكن أن تكون الصفة المشبهة من “يسر” أيضًا، وفي هذا المعنى إشارة إلى صفة مميزة في فطرة الأنبياء، وهي استسلامهم التام الدائم لله تعالى، فكأن “إسرائيل” تعني: المطيع المستسلم لله تعالى، والمنقاد لأحكامه دائما. ويتأكد هذا المعنى من معجم “تاج العروس” أيضًا حيث جاء فيه: إسرائيل “معناه: صفوةُ الله، وقيل: عبدُ الله، وقيل: سَرِيُّ اللهِ.” والسريّ هو السيد الشريف ذو المروءة والكرم والعز.

أما المعجم العبراني الإنجليزي للعهد القديم “Hebrew & English Lexicon of the old Testament” فقد صرَّح أن “يسر” لا يعني”السريّ” في الحقيقة، بل يعني مفهومها مشابها له.

والحق أن كلمة “يسر” تعني المقاتل الشجاع، ومثل هذا هو الذي يُؤمَّر على الجيش. وكان العرب يسيِّدون على أنفسهم من هو أكثرهم شرفًا ومروءةً وكرمًا، ومثل هذا يمكن أن يكون قائدَ الجيش أيضًا. وهكذا يصبح “يسر” مشابهًا لـ “السري” معنىً.

اُذكروا: ذكَر الشيء يذكر ذكرًا وتَذكارًا: حفِظه في ذهنه. وذكَر الشيء بلسانه: قال فيه شيئا. وذكر لفلان حديثا: قاله له. وذكر ما كان قد نسيَ: فطن به (الأقرب).

الذكرُ تارةً يقال ويراد به هيئةٌ للنفسِ بها يمكن للإنسان أن يحفظ ما يقتنيه من المعرفة، وهو كالحفظ إلا أن الحفظ يقال اعتبارًا بإحرازه، والذكرُ يقال اعتبارًا باستحضاره؛ وتارةً يقال لحضور الشيء القلبَ أو القولَ، ولذلك قيل: الذكرُ ذكرانِ: ذكرٌ بالقلب وذكرٌ باللسان؛ وكلُّ واحد منهما ضربانِ: ذكرٌ عن نسيان، وذكرٌ لا عن نسيان بل عن إدامة الحفظ (المفردات).

نعمتي: النعمة: الصنيعةُ والمنّةُ؛ ما أُنعمَ به عليك مِن رزق ومال وغيره؛ المسرّةُ؛ اليدُ البيضاء الصالحة. وفي الكليات: النعمةُ في أصل وضعها: الحالةُ التي يستلذّ بها الإنسان، وهذا مبني على ما اشتهر عندهم من أن الفعلة بالكسر للحالة، وبالفتح للمرّة. نعمةُ الله: ما أعطاه اللهُ للعبد مما لا يتمنى غيرَه أن يعطيه إياه. والجمعُ أنعمٌ ونِعَمٌ. يقال: فلان واسع النعمة، أي واسع المال (الأقرب).

عهدي: العهد: حفظُ الشيء ومراعاته حالاً بعد بحال. وسُمّي الموثِق الذي يلزَم مراعاتُه عهدًا… وعهدُ الله تارةً يكون بما ركَزه في عقولنا، وتارةً يكون بما أمَرنا به بالكتاب والسنّةِ رسلُهُ، وتارةً بما نلتزمه (المفردات).

والعهد: الوصيةُ والأمرُ؛ الموثِقُ واليمين؛ الحفاظُ ورعايةُ الحرمة؛ الأمانُ؛ الذمةُ؛ الالتقاءُ؛ المعرفةُ؛ الزمانُ؛ الوفاءُ؛ توحيدُ الله تعالى؛ الضمانُ؛ الذي يُكتَب للوُلاة (التاج).

ارْهَبونِ: رهِب الرجلُ يرهَب رهبةً: خاف (الأقرب).

وأصلُ ارهبونِ ارهبوني.

التفسير:

ترتيب الموضوع: بذكر مثال سيدنا آدم ، قد بيّن الله تعالى أن دعوى محمد رسول الله ليست بدعًا، بل ما إن اكتمل العقل البشري حتى أنزل الله وحيه على آدم. ولما كان من الممكن أن يتساءل أحد قائلا: ما دام الله تعالى قد أنزل وحيه في البداية فما الحاجة إلى وحي آخر، ألا يكفي ذلك الوحي الأول؟ وهذا سؤال عام يثيره معظم منكري النبوة، بل أتباع الديانات السابقة أيضًا. وليس هدفُ منكري النبوة من هذا السؤال إلا التشكيك في المدعي. إذ يريدون بذلك أن يقولوا إن المدعي الجديد على الباطل، أما الأنبياء السابقون فماتوا وليس هناك من يخلفهم أو ينوب عنهم حتى يطاع أو يُتَّبَع. أما أتباع الديانات السابقة فيريدون بإثارة هذا الاعتراض أن يقولوا: ما الحاجة إلى نبي جديد مع وجود ديننا؟

ويمكن الرد على هذا السؤال بطريقتين: الأولى أن نثبت ضرورة النبوة عقلاً، والثانية أن نقدّم شهادة التاريخ والواقع بأن النبوة كانت مستمرة بعد آدم أيضًا. وقد تناول القرآن الكريم ضرورة النبوة من حيث العقل في مواضع أخرى عديدة، أما هنا فقد اختار الطريقة الثانية للجواب، مبينًا أن مدّعي النبوة ما زالوا يأتون قبل الإسلام بزمن قريب، فلا يصح الاعتراض على نزول شريعةٍ أو وحيِ نبوةٍ الآن رغم وجود الشريعة السابقة، والذين قد ثبت صدقهم بالشواهد والدلائل كيف يمكن إنكار دعواهم؟ وإذا كان الأولون صادقين في دعواهم، فكيف يمكن إنكار الوحي الذي أتى بعد الوحي الأول؟ فما دام نزول الوحي مستمرا بعد الوحي الأول، بل قد بعث الله تعالى الأنبياء حتى ما قبل الإسلام بزمن قريب، فكيف يصح الاعتراض على الإسلام بأنه لا داعي لنزول الوحي الجديد فيه بعد الوحي السابق؟

وهناك فائدة أخرى لاختيار هذا الأسلوب للجواب، ذلك أن اليهود والنصارى كانوا من بين أول المخاطبين بالقرآن الكريم، وقد استدل على استمرار الوحي بذكر أنبيائهم هم، مبينًا أن في سلسلة أنبيائهم حلقة لا تكتمل بدونها هذه السلسلة، ألا وهي بعثة نبي من بني إسماعيل، فقد أنبأ الله تعالى منذ عهد إبراهيم ببعث نبي من ذرية إسماعيل أيضًا، وقد زاد موسى ومَن بعده من الأنبياء نبوءةَ بعث هذا النبي إيضاحًا. فالاستشهاد بوحي أنبياء اليهود والنصارى له فائدتان: إحداهما التدليل على ضرورة استمرار النبوة، والثانية التدليل على أن انتقال الوحي بعدهم من بني إسرائيل إلى بني إسماعيل كان أمرًا محتمًا. فذكرُ أنبياء بني إسرائيل هنا لا يؤكد استمرارَ وحي النبوة فقط، بل يؤكد أيضًا لزومَ بعثةِ صاحبِ الوحي في الزمن الأخير من بني إسماعيل والعرب.

ولبيان هذا الدليل، أخذ الله تعالى -بدءًا بهذه الآيات- يخاطب بني إسرائيل، مذكِّرًا إياهم بنِعَمه عليهم، مطالبًا إياهم بتقديم شهادة صادقة بأن الوحي الإلهي كان مستمرًا في العالم دائمًا، وأنكم كنتم مهبطًا للوحي، بل إن انتقال الوحي منكم إلى إخوتكم بني إسماعيل في يوم من الأيام مذكور في كتبكم.

إسرائيل

قبل أن أتناول هذا الموضوع مفصلًا أود توضيح لفظ بني إسرائيل بشيء من التفصيل.

كان إسحاق الابنَ الأصغر لسيدنا إبراهيم عليهما السلام. وهو والدُ يعقوب الذي أنجب يوسف عليهما السلام. وليعقوب مقام خاص عند اليهود، ويبنون تفوُّقَهم العرقي على كونهم أبناءً له. وقد نال يعقوب لقب إسرائيل من الله تعالى، وسُمي أولاده بني إسرائيل. ورد في الكتاب المقدس أن يعقوب أثناء سفرٍ له صارع شخصا طوال الليل، وكان هذا الشخص هو “الرب” سبحانه وتعالى. “فقال له: ما اسمك؟ فقال: يعقوب. فقال: لا يُدعى اسمك فيما بعد يعقوب، بل إسرائيل، لأنك جاهدتَ مع الله والناسِ وقدرتَ”. (التكوين32: 28 إلى 30)

ويقول شرّاح الكتاب المقدس إن ذلك المصارع كان ملاكًا، ولكنهم لم يقدموا على ذلك دليلا. وسواءً أكان مَن رآه يعقوب في عالم الكشف أو الرؤيا ملاكًا أو الرب سبحانه وتعالى، فهو الذي سمّاه إسرائيل، لكونه قويًّا غالبا عند الله وعند الناس.

فإسرائيل، بحسب الكتاب المقدس، يعني العبد القوي للربّ، أو العبد الغالب في سبيل الربّ. والمعنى اللغوي لإسرائيل كما ذكرنا لدى شرح المفردات هو “المقاتل الباسل أو الجندي القوي للرب، أو العبد المطيع لله”.

على كل حال قد أُعطيَ يعقوب لقب إسرائيل في الرؤيا أو الكشف، وبسبب هذا اللقب سُمي أولاده بني إسرائيل.

بنو إسرائيل واليهود

لم تذكر هذه الآية كلمة اليهود، ولكن وردت في القرآن الكريم في مواضع أخرى كلمة “اليهود” أو “هود”. ومن المناسب أن أبين هنا الفرق بين اليهود وبني إسرائيل، لكي يعرف القارئ متى استخدم القرآن الكريم لفظ بني إسرائيل ومتى استخدم لفظ اليهود.

ورد اسم “بني إسرائيل” في 38 [1] موضعًا في القرآن الكريم، بينما وردت كلمة “اليهود” في 9 مواضع منه، ووردت كلمة “هود” (وهو جمعُ يهودي) في 3 مواضع. والتدبر في هذه المواضع يكشف أن القرآن كلما أراد الإشارة إلى الدين قال اليهود أو هود، وكلما أراد الإشارة إلى الشعب قال بنو إسرائيل. أي كلما أراد القرآن ذكر أتباع دين موسى عليه قال “اليهود” أو “هود”، وكلما أراد الإشارة إلى نسل يعقوب قال “بنو إسرائيل”. والمواضع الثلاثة التي وردت فيها كلمة “هود” قد ذكر فيها “النصارى” أيضا، وكأن القرآن قد أشار في هذه المواضع الثلاثة إلى أتباع الملة اليهودية والملة النصرانية. والمواضع التسعة التي وردت فيها كلمة “اليهود”، قد وردت في ثمانية منها كلمة النصارى أيضا، مما يدل على أن الحديث فيها هو عن الملة الموسوية وليس عن الشعب الإسرائيلي. أما الموضع التاسع الذي لم ترد فيه كلمة اليهود إزاء كلمة النصارى فهو في سورة المائدة: 65، والسياق فيه يدل بوضوح على أن الحديث هنالك أيضًا عن أتباع الديانة اليهودية وليس عن الشعب، لأن الحديث هنالك عن العقائد. وعلى النقيض كلما استخدم القرآن الكريم كلمة “بني إسرائيل” أشار إلى الشعب الموسوي، وليس هناك موضع واحد في القرآن الكريم استخدم فيه كلمة بني إسرائيل إزاء كلمة “النصارى”.

ونظرًا إلى هذا الفرق في استخدام هاتين الكلمتين، يمكن أن يندرج تحت كلمة “بني إسرائيل” مَن كانوا من نسل يعقوب، وإن تركوا الدين اليهودي ودخلوا في النصرانية أو الإسلام مثلا. كذلك يمكن أن تندرج تحت كلمة “اليهود” أو “الهود” مَن اعتنق الديانة الموسوية، وإن لم يكن من شعب بني إسرائيل.

ولعل أحدًا يساوره الشك هنا ويقول إن اليهود لا يسمحون بدخول أحد في ديانتهم، فكيف يمكن أن يدخل أحد من غير بني إسرائيل في الدين اليهودي، وإن أمكن أن يصبح أحد من بني إسرائيل نصرانيًا أو مسلمًا؟

والجواب: لا جرم أن بني إسرائيل كانوا يعتبرون الدين الموسوي خاصًا بهم، ولكن كانت هناك استثناءات أيضًا، فقد رخّصوا لبعض الناس الدخول في دينهم، مثل عبيدهم، أو الذين هاجروا إلى بلادهم واستوطنوها وعاشوا تحت حكمهم. فقد ورد في “الخروج” كتاب موسى :

{وإذا نزل عندك نزيلٌ وصنَع فِصْحًا للرب فليُخْتَتَنْ منه كلُّ ذَكرِ، ثم يتقدم ليصنعه (أي يشترك في أعياد اليهود)، فيكون كمولود الأرض، وأما كلُّ أغلفَ فلا يأكل منه. تكون شريعة واحدة لمولود الأرض وللنـزيل النازل بينكم.} (الخروج 12 :48 و 49).

لقد تبين من هنا أن شريعة موسى، وإن كانت تعتبر خاصة لبني إسرائيل، ولكنها كانت تسمح لمن ينزل بلادهم ويقيم معهم ويكون تابعا لحكمهم أن يدخل في دينهم، وذلك من أجل توحيد صفوف المجتمع.

وكذلك وردت في (سفر التثنية 23: 3-8) قائمةٌ بشعوب تدخل أفرادها في النظام اليهودي بشروط معينة.

وورد أيضًا: }وأبناء الغريب الذين يقترنون بالرب ليخدموه وليحبّوا اسم الرب ليكونوا له عبيدًا، كلُّ الذين يحفظون السبت لئلا ينجسوه ويتمسكون بعهدي، آتي بهم إلى جبلِ قدسي وأفرِّحهم في بيت الصلاة، وتكون محرقاتهم وذبائحهم مقبولةً في مذبحي، لأن بيتي بيت الصلاة يُدعى لكل الشعوب{. (إشعياء 56: 6 – 7)

علمًا أن المراد بـ (ويتمسكون بعهدي) بأنهم يختتنون، لأن الختان علامة للعهد الإلهي لإبراهيم ، كما ورد في الخروج إصحاح 12 المذكور قبل قليل.

ويقول العالم اليهودي يوسيفوس: مَن أراد أن يبدّل دينه ويدخل في اليهودية، عليه أن يتقيد بالطقوس والتقاليد اليهودية ويتبع القانون اليهودي ويقوم بعبادة الرب كعبادة اليهود له (الموسوعة اليهودية، ج 10).

ويتبين من التوراة أيضًا أن بعض الناس كانوا بالفعل يعتنقون الديانة الموسوية. فيوجد في الكتاب المقدس سِفر باسم راعوث، وراعوث هذه فتاة موآبية تزوجت من رجل إسرائيلي واعتنقت الديانة الموسوية (سِفر راعوث).

وكذلك يتبين من الكتاب المقدس أن الآشوريين الذين استوطنوا فلسطين اتبعوا الطريقة اليهودية. (عزرا 4: 2)

وهذا ما يؤكده التاريخ أيضًا، فقد ذكر المؤرخون الرومان تاسيتوس Tacitus، وديكاسيوس Diocassious، وهوريس Horece وغيرُهم في كتبهم أسماء الرومان الذين اعتنقوا الدين اليهودي (الموسوعة اليهودية ج 10).

ويتضح من التاريخ الإسلامي أيضًا أن بعض عرب المدينة دخلوا في دين اليهود، مثل كعب بن الأشرف عدوِّ الإسلام الشهير، الذي نقض عهده مع رسول الله وألّب أعداء الإسلام للهجوم على المدينة، وتآمر على قتل المسلمين، مما جعل النبي يُصدر الأوامر بقتله. كان أبوه من بني نبهان العربية، وفرّ إلى المدينة لاجئا بعد أن قتل شخصًا وتحالف مع يهود بني النضير، ثم تزوج فتاة منهم تدعى عقيلة بنت أبي الحقيق، وهكذا دخل دين اليهود. وظل ابنه كعب أيضا يهوديا. (شرح المواهب اللدنية للزرقاني، ذكرُ قتلِ كعب بن الأشرف).

كذلك يتضح من بعض الروايات أن بعض مشركي المدينة كانوا ينذرون أبناءهم لليهود، فيُدخلونهم في الديانة اليهودية عندما يكبرون، فقد ورد في الحديث: “كانت المرأة تكون مِقلاتًا، فتجعل على نفسها إن عاش لها ولدٌ أن تُهَوِّده. فلما أجليتْ بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار، فقالوا: لا ندع أبناءنا، فأنزل الله عز وجل: لا إكراه في الدين .” (أبو داود، كتاب الجهاد، باب في الأسير يكره على الإسلام)

باختصار، إن كون الديانة الموسوية مختصةً ببني إسرائيل لا يعني استحالة دخول غير إسرائيلي في اليهودية، بل بحسب الشريعة التي جاء بها موسى يمكن للرقيق أو التابع لحكم اليهود أن يدخل الدين اليهودي إذا ما عمل بحسب شريعتهم واختتن. إنما يعني اختصاص هذه الديانة باليهود أنها ليست ديانةً تبشيرية، وأنهم لم يؤمَروا بالخروج إلى أمم أخرى لدعوتهم إلى اليهودية، ويعني أيضًا أن الوعود المتعلقة بالرقي والازدهار هي خاصة ببني إسرائيل، أما الأمم الأخرى فيمكن أن ينالوا منها شيئًا بشرط أن يكونوا تابعين ومطيعين لهم تماما. وعلى النقيض يأمر الإسلام أتباعه بالتبليغ ودعوة الناس كافة، ولا يجعل وعوده المقطوعة للمؤمنين به خاصَّةً بالعرب، بل كلها تشمل كل المؤمنين، عربًا وعجمًا.

وخلاصة الكلام أنه كان مسموحًا لأتباع الدين الموسوي أن يُدخلوا في دينهم أبناءَ الأمم الأخرى بصفة استثنائية، وقد دخل فيه عدد محدود من هؤلاء، لذلك لزم أن يكون لهم اسم سوى “بني إسرائيل” ينسبهم إلى الدين الموسوي بدلًا من الشعب الإسرائيلي، وبمرور الوقت استُعمل لفظ “اليهود” تحقيقا لهذا الغرض.

كان عدد الداخلين في اليهودية من غير بني إسرائيل بعد موسى بفترة قصيرة عددًا قليلا، وكان بنو إسرائيل يسمّونهم “أجانب أو غرباء”، ولكن بعد قيام دولة إسرائيل في زمن داود واتساعِ نطاق حكمهم، وبدأت الشعوب الأخرى تنظر إليهم باحترام، ودخل مِن رعاياهم عدد لا بأس به في اليهودية، فمسّت الحاجة أن يكون هناك اسمٌ آخر غير “بني إسرائيل” يشمل هؤلاء أيضًا.

كما لعبت الظروف السياسية دورها في اختيار هذا الاسم، فقد خلف سليمانَ ابنُه “رحبعام” الذي كان رجلاً ماديًّا، ولما جاء زعماء بني إسرائيل لزيارته عند حفل تتويجه طلبوا منه إجراء تعديلات تخفّف من وطأة القانون. ولكنه رد عليهم بردٍّ قاسٍ بناءً على مشورة حاشيته من الشباب، وطردهم من الحفل. فقام عشرة من رؤساء قبائل إسرائيل الاثنتي عشرة بإعلان التمرد على رحبعام بمجرد خروجهم من بلاطه؛ ولم يبق تحت حكمه سوى منطقة يهوذا التي تدعى اليوم فلسطين، وكانت تضم قبيلتي يهوذا وبنيامين. وكان سبب وفائهما لرحبعام أن سيدنا داود كان من قبيلة يهوذا، وَوُلد وترعرع في قبيلة بنيامين، وبمعونتها نال الحكم على منطقة يهوذا ثم على سائر مناطق بني إسرائيل. (الموسوعة اليهودية، تحت داود)

فكانت بين هاتين القبيلتين أواصر قوية، فظلتا متحدتين في أيام هذا التمرد.

وأدى هذا التمرد إلى انقسام دولة بني إسرائيل إلى دولتين: سُمّيتْ إحداهما “يهوذا”، لأن داود كان من قبيلة يهوذا وعاش في منطقتهم، واشتملت هذه الدولة على قبيلتي يهوذا وبنيامين. (أخبار الأيام الأول 3: 7-10 وأخبار الأيام الثاني 1:11)، وسُمّيت الدولة الأخرى “إسرائيل”، إذ ضمّت معظم القبائل الإسرائيلية، وكانت تقع شمال فلسطين وغرب الشام، بينما كانت دولة يهوذا تقع في منطقة فلسطين.

وبعد هذا الانقسام مالت دولة إسرائيل إلى الشرك، وفَرَّ علماء التوراة منها إلى دولة يهوذا، وصارت يهوذا بالتدريج مركزًا للعقيدة الموسوية، والحاملة الوحيدة للواء هذه الديانة.

هكذا، فسكّان دولة “يهوذا” سُمّوا يهودا للتفريق بينهم وبين سكان دولة “إسرائيل”. وباتساع هوة الخلاف بالتدريج بدأ اسم “اليهود” يُستعمل تعبيرًا عن الدين بدلًا من الدلالة على المنطقة وحدها. وعندما أعيد عُمران منطقة يهوذا على أيدي النبييْنِ “عُزير ونَحميا”، وصار زمام الدين الموسوي في يد أهلها وحدهم، اقتصر مدلول كلمة اليهود على أتباع الدين الموسوي، ولم يَعُدْ يعبّر عن اسم القبيلة أو المكان، ذلك لأن إحياء الدين الموسوي في ذلك العصر كان يجري على يد أهل منطقة يهوذا وحدهم. وعندما أخذت تسمية “اليهود” تطلق بالمعنى الديني فقط، شملتْ أتباعَ الدين الموسوي مِن غير بني إسرائيل أيضًا. ثم عندما آمنت طائفة من بني إسرائيل بالمسيح عيسى انقسموا إلى فئتين: فئة بقيت على اليهودية، وفئة سُمّيت “النصارى”. ثم جاء الإسلام وجعل بعض بني إسرائيل مسلمين، وهكذا فكان هناك مِن بني إسرائيل مَن كان دينهم الإسلام.

خلاصة القول: حيث إن الدين الموسوي قد ازدهر على أيدي أهل يهوذا، وقد جاء كل الأنبياء العظام منهم أصلاً أو نشأةً، مثل أرميا، وحزقيال، ودانيال، وعزرا، ونحميا وغيرهم، وحيث إن دولة إسرائيل الشمالية قد تفشى فيها الشرك والوثنية، فقد اشتهر أهل يهوذا وحدهم باسم اليهود. ولما كان الكثير من غير بني إسرائيل قد دخلوا في الدين الموسوي في ذلك الزمن، فصار اسم اليهود يُطلق على كل من يدخل هذه الديانة، تمييزًا لهم عن شعب بني إسرائيل. وصارت كلمة “اليهود” قبل الإسلام ببضعة قرون تعني: مَن ينتسبون إلى دين موسى . وبما أن الوعود الإلهية لإبراهيم وموسى عليهما السلام المتعلقة بالمجد الدنيوي والترقي الروحاني تخص ذريتهما، فبقيت تسمية بني إسرائيل قائمةً لتمييزهم عن الشعوب الأخرى.

لقد تناولت هذا الموضوع بشيء من التفصيل بهدف، وهو لكي أبين أن أعداء القرآن الكريم يرمونه بالجهل بالدين اليهودي وتاريخ بني إسرائيل، ولكننا نجد القرآن الكريم قد فرّق بين كلمتي اليهود وبني إسرائيل بدقةٍ منتاهية؛ أعني أن القرآن كلما أراد ذكر الدين الموسوي استخدم كلمة اليهود، وكلما أراد ذكر الوعودَ القومية الخاصة بآل إبراهيم أو آل موسى أو آل داود، أو ذكَر مَن خاطبهم أنبياءُ السلسلة الموسوية، لم يستخدم كلمة “اليهود” بل استخدم كلمة “بني إسرائيل”، لأن تلك الوعود لم تكن خاصة بأتباع الدين الموسوي بل كانت خاصة بمن يراعون عهد الله من بني إسرائيل، سواء أكانوا على دين موسى أو على أي دين سماوي بعده، كالذين دخلوا في الإسلام من بني إسرائيل.

ومن المضحك أن هؤلاء الذين يرمون القرآن بجهله بتاريخ بني إسرائيل، فإن كتبهم السماوية نفسها تخطئ في هذا الصدد، فمثلا جاء في الأناجيل عن المسيح أنه “مَلِكُ اليهود”، حيث ورد أن بيلاطس عندما سأله: أأنت مَلِكُ اليهود؟ فقال له يسوع: أنت تقول (متى27: 11، مرقس 15: 2، لوقا 3:23).

وأساس دعوى الملوكية هذه هو ما جاء في العهد القديم كالتالي: }ابتهجي جدًّا يا ابنةَ صهيون، اهتفي يا بنتَ أورشليم، هو ذا مَلِكُكِ يأتي إليكِ{ (زكريا 9:9).

تبيّن هذه العبارة أن زكريا أخبر بمجيء ملِكٍ إسرائيلي يعيد لأورشليم مجدها، فثبت أنه ليس المراد به ملِكًا لليهود كما ورد في العبارات الإنجيلية أعلاه، بل المراد ملِكٌ للإسرائيليين. فقد ورد: }يا معلّم أنت ابنُ الله، أنت ملِكُ إسرائيل{ (يوحنا1: 49). وهذا هو الصحيح، لأن الوعود برقي السلسلة الموسوية كانت مخصوصة ببني إسرائيل، وليس بكل من يدخل في الدين اليهودي.

ثم إن دعوة المسيح كانت موجهة إلى بني إسرائيل، فقد ورد أنه عندما أرسل تلاميذه للتبشير قال لهم:

{ إلى طريق أمم لا تمضوا، وإلى مدينة للسامريين لا تدخلوا، بل اذهبوا بالحري إلى خراف بيت إسرائيل الضالة} (متى 10: 5).

 علمًا أن السامريين كانوا شعبًا خليطًا من أصول مختلفة، وأكثرهم كانوا أولادًا لآباء من اليهود، وكانوا يؤمنون بالتوراة ويعملون بها. فما دام المسيح قد نهى تلاميذه عن الذهاب حتى إلى السامريين، فما بالكم بالأمم الأجنبية الأخرى؟

وهذا الخطأ قد التصق بالمسيحيين بحيث لم يتخلصوا منه حتى اليوم، فلا يفرّقون بين اليهودي والإسرائيلي. فهُمْ خلال الثورة الحالية في ألمانيا وبعض البلاد الأوروبية ضد الجنس الإسرائيلي، يرفعون شعار: اطردوا اليهود من البلاد، ولا يعنون بذلك كل تابع للدين الموسوي فحسب، بل أيضًا مَن تنصَّر من اليهود. صحيح أنهم من بني إسرائيل إلا أنهم لم يعودوا يهودا بعد تنصّرهم. وقد ازداد هذا الهياج في ألمانيا حتى إن كل من كان في عروقه دمٌ من أُمٍّ إسرائيلية اعتبروه عدوًّا للوطن قائلين إنه يهوديّ أو أن فيه دمًا يهوديًا، مع أن مثل هؤلاء لا يدينون بدين اليهود، ولم تكن أمهاتهم يهوديات، وإنما كن مسيحيات، وكان نسلهن أيضًا مسيحيًا.

إذًا، ففي عصر العلوم هذا أيضا، الذي تزهو به أوروبا بازدهارها العلمي، لا يفرّق أهل أوروبا بين اليهودي والإسرائيلي، لكن القرآن الكريم قد راعى هذا الفرق قبل ثلاثة عشر قرنًا، فكلما تناول ذِكْرَ الوعود المتعلقة بازدهارهم القومي أو خطابَ الأنبياء لهم، استخدم كلمة “بني إسرائيل”، وكلما ذكر العقيدة الدينية اكتفى بكلمة “اليهود”. ولما كانت الآية الكريمة التي نحن بصدد تفسيرها تشير إلى الوعود المخصوصة بذرية إبراهيم ، أو إلى الوعود التي قُطعت لذرية إبراهيم بواسطة موسى ، فاستخدم القرآن في هذه الآية وفي كل الآيات التالية اسمَ “بني إسرائيل” بدون استثناء، ولم يستخدم فيها لفظ اليهود قط. فقال الله تعالى يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ، ولم يكتفِ الله هنا بقوله اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ بل زاد وقال: الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ، ليُدخل هنا مفهومًا إضافيًا، لأن من خصائص العربية أن الزيادة في الحروف أو الكلمات تدل على زيادة أو جِدَّة في المعنى، والمعنى الإضافي المشار إليه بقوله أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ هو أنها نعمة قد جعلتُها خاصة بقومكم. ذلك أن نِعَم الله على نوعين: أوّلهما عام يتمتع به المؤمن والكافر على حد سواء، كالهواء والماء والنار والغذاء وغيرها؛ والثاني خاص يناله عباد الله المقربون بتحقيق شروط معينة، أو ما ينزل بحسب وعود خاصة. فلو كان المراد من نعمتي النوع الأول الذي يستوي فيه الكافر والمؤمن لقال: (اذكروا نِعَمي)، ولكنه تعالى استخدم كلمة “نعمة” مفردة للإشارة إلى أنها نعمة خاصة، ثم زاد عليه قوله أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ليبين أنها كانت نعمة خاصة لكم، ولم يشارككم فيها سواكم.

ما هي تلك النعمة؟ تعالوا نعرفها من القرآن الكريم نفسه، حيث قال الله تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (المائدة:21).

وهذا ما قاله موسى لبني إسرائيل عندما اقتربوا من الأرض المقدسة، وأُمروا بدخولها. والواضح أنهم لم يكونوا عندها ملوكًا، بل كانوا يتيهون في الفيافي؛ كما أنهم لم ينالوا الملك قبل ذلك الوقت، ولم يكن فيهم ملِكٌ قط منذ زمن إبراهيم حتى يوسف عليهما السلام، وكانوا عبيدًا في مصر بعد يوسف ، وخرجوا من هذه العبودية على يد موسى ، ووُعدوا على لسانه بالملك في الأرض المقدسة التي لم يكونوا قد دخلوها بعد، كما تبين الآية التي تلتها من سورة المائدة. فثبت أن قوله تعالى: جَعَلَكُمْ مُلُوكًا لا يعني أنهم كانوا ملوكًا قبل تلك المناسبة، وإنما المراد أنه تعالى وعدهم بالملك في المستقبل. ولأن قوله تعالى: وإِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ تكملة للآية السابقة فهو أيضًا لا يشير إلى أنبيائهم في الماضي، وإنما هو وعد بالمستقبل، والمراد أن موسى قال لهم عندها: اذكروا وعد الله معكم بأنه تعالى سيبعث فيكم الأنبياء بكثرة، ويجعلكم ملوكًا، ويعطيكم ما لم يعط أي شعب آخر. وقد ذكر الله تعالى هذا الوعد بصيغة الماضي لأنه وعدٌ قطعيّ حتميّ، وليس لأنه إشارة إلى الماضي. فموسى ذكّرهم بوعد الله هذا وأمرهم بدخول الأرض المقدسة، وأخبرهم أن هذا الوعد سيبدأ تحقّقُه بعد دخولهم الأرض المقدسة، فلا يتقاعَسُّن عن فتحها لكيلا يتأخر تحقق الوعد.

وأكدت الأحداث التالية عَمليًا على تحقق هذا الوعد، حيث ظهر في بني إسرائيل بعد دخولهم الأرض المقدسة أنبياء كثيرون، كما جعلهم الله ملوكًا أيضًا، وفتح عليهم بواسطة سلسلة طويلة من الأنبياء علومًا روحانية لا نجد نظيرها في الأمم الغابرة.

متى قُطع هذا الوعد؟ يتضح من الكتاب المقدس أن هذا الوعد قُطع أول مرة في زمن إبراهيم . فقد ورد:

{وقال له: أنا الرب الذي أخرجك من أُور الكلدانيين ليعطيك هذه الأرض لترثها} (التكوين 15: 7).

وورد بعد هذه الفقرة أيضًا أن هذا الوعد سوف يتحقق بهجرة قومه إلى بلد آخر حيث يصيرون عبيدًا، وبعد أربعة أجيال سوف يخرجهم الرب منها إلى فلسطين فيملكونها. وسبب تحقُّق هذا الوعد بعد هذه الفترة هو أن الآشوريين الذين يسكنون في فلسطين، لم يبلغوا بعد في الإثم مبلغًا يستحقّون به الطرد منها عقابًا.

ويتبين من هذه العبارة أن هذا العهد قُطع لهم على لسان إبراهيم، وأخبروا أنه سيتحقق بعد خروج بني إسرائيل من مصر بعد عيشهم هنالك عبيدًا، أي في زمن موسى كما يتضح ذلك من الكتاب المقدس والقرآن الكريم والتاريخ. فقول موسى في هذه الآية من سورة المائدة إشارةٌ إلى هذا الوعد الإبراهيمي المذكور آنفًا.

ورب معترض يقول هنا: إن الوعد الإبراهيمي هذا لا يتضمن ذكر النبوة، وإنما يشير إلى الملك المادي فحسب.

ولكننا عندما نقرأ هذا الوعد في ضوء ما ذكره الكتاب المقدس في أماكن أخرى يتضح لنا الأمر جليًّا، فقد ورد:

{فَأَجْعَلَ عَهْدِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ، وَأُكَثِّرَكَ كَثِيرًا جِدًّا». فَسَقَطَ أَبْرَامُ عَلَى وَجْهِهِ. وَتَكَلَّمَ اللهُ مَعَهُ قَائِلاً: «أَمَّا أَنَا فَهُوَذَا عَهْدِي مَعَكَ، وَتَكُونُ أَبًا لِجُمْهُورٍ مِنَ الأُمَمِ، فَلا يُدْعَى اسْمُكَ بَعْدُ أَبْرَامَ بَلْ يَكُونُ اسْمُكَ إِبْرَاهِيمَ، لأَنِّي أَجْعَلُكَ أَبًا لِجُمْهُورٍ مِنَ الأُمَمِ. وَأُثْمِرُكَ كَثِيرًا جِدًّا، وَأَجْعَلُكَ أُمَمًا، وَمُلُوكٌ مِنْكَ يَخْرُجُونَ. وَأُقِيمُ عَهْدِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ، وَبَيْنَ نَسْلِكَ مِنْ بَعْدِكَ فِي أَجْيَالِهِمْ، عَهْدًا أَبَدِيًّا، لأَكُونَ إِلهًا لَكَ وَلِنَسْلِكَ مِنْ بَعْدِكَ. 8وَأُعْطِي لَكَ وَلِنَسْلِكَ مِنْ بَعْدِكَ أَرْضَ غُرْبَتِكَ، كُلَّ أَرْضِ كَنْعَانَ مُلْكًا أَبَدِيًّا. وَأَكُونُ إِلهَهُمْ} (سِفْرُ التَّكْوِينِ 17 : 2-8)

لقد اتضح من هنا أن الله تعالى وعد إبراهيم وعدينِ: أولهما أنه سيُدخل قومه في أرض كنعان ويجعلهم ملوكًا عليها، وهذا إشارةٌ إلى الرقي المادي، والثاني أنه تعالى سيكون إلهَهم، وهذا إشارة إلى الرقي الروحاني.

باختصار قد وعد الله تعالى إبراهيم في هذه الفقرة من الكتاب المقدس أنه سيأتي بأولاده إلى أرض كنعان ويعطيهم الملك ويكتب لهم الترقيات الروحانية العظيمة. وهذا الوعد قد تكرر فيما بعد بواسطة يعقوب وموسى عليهما السلام، ولكن بدايته كانت مع إبراهيم . فالنبوة والملك الموعود بهما في الآية المذكورة آنفًا من سورة المائدة هما نفس ما وُعدوا به على لسان إبراهيم في الكتاب المقدس، وهي نفس النعمة التي تشير إليها آيتنا قيد التفسير، أعني قول الله تعالى: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ . وبِذِكر هذه النعمة أخبرهم الله تعالى أن نعمة النبوة لم تنتَهِ بآدم، بل استمرت في بني إسرائيل أنفسهم حيث كانت فيهم سلسلة طويلة من الأنبياء، فلماذا الإنكار الآن؟

وقد جاء ذكر هذه النعمة الموعودة لبني إسرائيل في سياق الحديث عن إبراهيم في موضع آخر من سورة البقرة نفسها حيث قال الله تعالى: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (البقرة:125). وتبين هذه الآية (أولاً) أن الله تعالى وعد إبراهيم بأن يجعله إمامًا، أي يبوئه في مرتبة الأنبياء أولي الأمر؛ و(ثانيًا) طلب إبراهيم إلى الله تعالى أن يمدّ هذا الوعد إلى ذريته أيضًا، فقبِل الله طلبه بشروط إذ قال تعالى إنه سيحققه لبعض أولاده الذين لا يرتكبون الظلم القومي لكيلا يصبحوا محرومين من بركات هذا العهد.

وقوله تعالى أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ إشارة إلى هذا الأمر نفسه، أي أن الأمة الأخيرة التي استمرت فيها سلسلة الوحي طويلاً هي بنو إسرائيل بلا شك، ولكن هذا العهد كان مشروطا بشروط، ووفّاه الله لهم ما داموا مستحقين لذلك، ولكنهم عندما باتوا غير مستحقين لنعم هذا العهد نهائيا حوّله الله إلى الفريق الثاني. وقد سبق أن ذكرنا أن العهد الذي تم مع إبراهيم هو أن الله تعالى سيجعل في ذريته الأنبياء، ولكن عندما يصبح جزء من أولاده ظالمين فلن يستحقوا الوفاء به، بل سينتقل هذا العهد إلى الجزء الآخر من أولاده.

والكتاب المقدس أيضًا يذكر أن هذا العهد كان مشروطا، حيث جاء: }وقال الله لإبراهيم أما أنت فتحفظ عهدي، أنت ونسلك من بعدك في أجيالهم. هذا هو عهدي الذي تحفظونه بيني وبينكم وبين نسلك مِن بعدك: يُختَن منكم كلُّ ذَكَر، فتختنون في لحم غُرْلتكم، فيكون علامةَ عهدٍ بيني وبينكم… وأما الذَّكر الأغلف الذي لا يختن في لحم غرلته، فتقطع تلك النفس من شعبها. إنه قد نكث عهدي.{ (التكوين 17: 9-11 و14)

توضح هذه العبارة أن العهد مع إبراهيم في نسله كان مشروطا وعلامته الظاهرية هي الختان، وأنّ مَن لم يلتزم بهذا العهد لا يكون له عهد مع الله تعالى، ولن ينال نِعَمَه التي وُعدوا بها على لسان إبراهيم .

ولا يغيبنّ عن البال أنه قد ورد هنا صراحة أن الختان هو علامة هذا العهد بين الله تعالى وعبده، وهذا يبين أن الختان لم يكن هو العهد نفسه من طرف العباد، بل كان علامةً ظاهريةً للعهد، ولكن اليهود لم يدركوا هذا الأمر واكتفوا بالختان فقط، فنبّههم موسى ألا يفرحوا بالعمل بحكم واحد ويظنوا أنهم قد وفّوا ما عليهم من العهد، وبلّغهم قول الله هذا:

{ولكن إنْ لم تسمعوا لي، ولم تعملوا كل هذه الوصايا، وإنْ رفضتم فرائضي، وكرهتْ أنفسُكم أحكامي، فما عملتم كلَّ وصاياي، بل نكثتم ميثاقي، فإني أعمل هذه بكم: أُسلِّطُ عليكم رعبًا وسِلاًّ وحُمًّى تُفني العينين وتُتلِف النفسَ، وتزرعون باطلاً زرْعَكم، فيأكله أعداؤكم، وأجعلُ وجهي ضدكم} (اللاويين 26: 14-17).

 قارِنوا بين قول الله لهم: “وأجعل وجهي ضدكم” وبين ما قيل في هذا العهد من قبل، أعني: “لأكون إلهًا لك ولنسلك من بعدك”.

لقد تبين من هنا أن الختان كان مجرد علامة ظاهرية، أما العهد المتوقع وفاؤه من ذرية إبراهيم فكان أن يكونوا طاهري القلوب، مطمئني النفوس بسنن الله، عاملين بأحكامه كلها.

وقد وضَّح الأنبياء بعد موسى -عليهم السلام- أيضًا هذا الموضوع أيَّما توضيح، فقال النبي إرميا منذِرًا بني إسرائيل من عذاب الله: }كلُّ الأمم غُلْفٌ، وكلُّ بيتِ بني إسرائيل غُلُفُ القلوب… ها أيام تأتي يقول الرب، وأعاقبُ كلَّ مختون وأغلفَ{. (إرميا 9: 25-26)

والظاهر من هنا أن النبي إرميا لا يعتبر الختان البدني وفاءً للعهد، وإنما هو ختان القلب الذي يوفي العهد.

وخلاصة القول إن الله تعالى عاهد نسلَ إبراهيم بواسطته عهدًا وعَد فيه بأنه أولًا: سيُخرج من ذريته عباده المقربين الذين يكونون -بحسب التعبير القرآني- أئمة، أي أنبياء من أولي العزم؛ وثانيًا: أنه سيورثهم أرض كنعان فيملِكونها. والوحي الذي نزل على إبراهيم غير محفوظ بصورته الأصلية، وما نجد منه في الكتاب المقدس لا يعطي شرحًا وافيًا للختان، إلا أنني قد أَثبتُّ من سِفر موسى “اللاويين” ومن سِفْر النبي إرميا أن الختان لا يعني ختانًا ظاهريا فقط، بل يعني في الحقيقة تطهير القلب والطاعة الكاملة، وأن الختان البدني كان مجرد علامة ظاهرية لهذا.

وعلى ضوء هذا الشرح، فقوله تعالى: أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ يعني: يا بني إسرائيل، تَذكَّروا أنه قد تم بيني وبينكم عهدٌ، وقد وفّيتُ بما عاهدتكم عليه، فبعثنا فيكم الأنبياء متتابعين، وجعلنا فيكم ملوكا أيضا؛ ولكنكم لم توفوا هذا العهد من جانبكم، وصارت قلوبكم غير مختونة، ونسيتم أحكامي، واستولت على أفئدتكم خشيةُ غيري؛ فإن وفيتم بنصيبكم من العهد فإني مستعد للمضي في الوفاء بنصيبي منه، أما إذا توقعتم مني الوفاء به ونكثتم به دائما، فهذا خطأ منكم.

لقد سبق أن ذكرت أن هذا العهد الإبراهيمي قد أُعيدَ بعده على لسان أنبياء آخرين، فقد أُعيدَ على لسان موسى الذي أتى بالشريعة لبني إسرائيل، وهو عهد مشهور ومعروف بحيث ذكره الكتاب المقدس في عشرات المواضع، وأطلق عليه اسم “العهد” مرارا.

فقد ورد في سِفر الخروج 20 تفاصيل لأحكام الرب في الوصايا العشر التي تلقاها موسى ، ولعهد جديد لبني إسرائيل.

وإذا قرأنا التكوين 20 مع التثنية 5: 2، والتثنية 18: 18-19″ تبين لنا ما يلي:

أن الله تعالى دعا موسى إلى جبل سيناء أو “حوريب”، وأعطاه الوصايا العشر، وعقد مع بني إسرائيل عهدًا جديدا (التثنية5: 2).

وقال:

{في جميع الطريق التي أوصاكم بها الرب إلهكم تسلكون لكي تحيوا، ويكون لكم خير، وتطيلوا الأيام في الأرض التي تمتلكونها} (التثنية 5: 33).

عندما كانت الوصايا العشر تتنزل على موسى عند جبل حوريب أو سيناء كان جلال الله يتجلى على الجبل، وكان هناك بريق شديد، وأصواتُ رعدٍ مرعبة، فارتعب من ذلك بنو إسرائيل الذين كانوا قد خرجوا من خيامهم وجاءوا إلى سفح الجبل لعقد العهد مع الله تعالى، فطلبوا من موسى أن يسمع هو لكلام الرب ثم يخبرهم بما سمع، لأنهم يرتعدون ويخشون الموت من سماع هذا الكلام. (الخروج 20: 19).

وعندما قالوا هذا قال الرب لموسى: حسنًا، سوف أباركهم ما داموا متبعين أحكامي، ولكني عندما أقيم نبيًا مثلك (أي: صاحبَ شريعة) فسوف أقيمه من إخوتهم (أي: لن يكون منهم)

لا شك أن موسى قال: {يُقِيمُ لَكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَبِيًّا مِنْ وَسَطِكَ مِنْ إِخْوَتِكَ مِثْلِي} (التَّثْنِيَة 18 : 15) ولكن هذا (أولًا) يتنافى مع قول الله لموسى بالضبط، وهو: {أُقِيمُ لَهُمْ نَبِيًّا مِنْ وَسَطِ إِخْوَتِهِمْ مِثْلَكَ}(التَّثْنِيَة 18: 18)، حيث لم يذكر هنا “مِن وسطك” بل ورد فقط: “مِن وسط إخوتهم”.

و(ثانيًا) إن عبارة “مِن وسطك مِن إخوتك” تصبح بلا معنى، إذ الخطاب هنا موجه إلى بني إسرائيل، فأن يقال لهم: “مِن وسطك” ثم “مِن إخوتك” يصير لغوًا بلا معنى. ما دام الله تعالى يقول لهم: سيُقام لهم نبي من إخوتهم، فهذا يعني أن هذا النبي لن يقام من بني إسرائيل بل سيكون من قوم غيرهم، ولو كان من بني إسرائيل فما كان من إخوتهم، بل كان منهم.

و(ثالثا): كان إعلانُ إقامةِ هذا النبي من إخوة بني إسرائيل عقابًا لهم، فإذا بُعث من أنفسهم، فأين العقاب إذن؟ حيث ورد قول موسى لبني إسرائيل:

{حَسَبَ كُلِّ مَا طَلَبْتَ مِنَ الرَّبِّ إِلهِكَ فِي حُورِيبَ يَوْمَ الاجْتِمَاعِ قَائِلاً: لاَ أَعُودُ أَسْمَعُ صَوْتَ الرَّبِّ إِلهِي وَلاَ أَرَى هذِهِ النَّارَ الْعَظِيمَةَ أَيْضًا لِئَلاَّ أَمُوتَ. قَالَ لِيَ الرَّبُّ: قَدْ أَحْسَنُوا فِي مَا تَكَلَّمُوا. أُقِيمُ لَهُمْ نَبِيًّا مِنْ وَسَطِ إِخْوَتِهِمْ مِثْلَكَ، وَأَجْعَلُ كَلاَمِي فِي فَمِهِ، فَيُكَلِّمُهُمْ بِكُلِّ مَا أُوصِيهِ بِهِ} (التثنية 18 :16-18).

يبدو من هذه الفقرة أن بني إسرائيل لما رفضوا سماع كلام الله المتعلق بالشريعة أغلق الله بابَ الشريعة عليهم، وقال عندما ستمسّ الحاجة إلى نبي مثل موسى، فسيقيمه من إخوتهم.

وبحسب هذا الوعد الإلهي حقق بنو إسرائيل كل نوع من الازدهار، واستمرت فيهم سلسلة النبوة من أجل الحفاظ على حياتهم الروحانية، كما نالوا الحكم على الأرض المقدسة فيما عدا فترة السبي القصيرة، ثم بعد مجيء المسيح انتقل زمام الحكم على الأرض المقدسة إلى أيدي طائفةٍ آمنت به من بني إسرائيل. وفي الآية القرآنية قيد التفسير قد ذكّر الله تعالى بني إسرائيل بأننا كنا قطعنا معكم عهدًا، ووعدناكم بحياة مباركة، ولقد وفَّينا بعهدنا معكم ما وفيتم بعهدكم معنا، والآن إن وفيتم بعهدكم هذا فنحن أيضا مستعدون للوفاء به.

وكما يوجد في القرآن الكريم ذِكر العهد الإبراهيمي، كذلك يوجد فيه ذكر العهد الموسوي أيضًا حيث قال الله تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (الأعراف 157- 158)

قوله تعالى سَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ…. يعني: سأكتب رحمتي للذين يعملون هذه الصالحات أيًا كان شعبهم.

ثم قال تعالى: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ ، لأن اليهود حرّموا كثيرًا من الطيبات لضيق صدورهم وقساوة قلوبهم، بينما أحلّ النصارى كثيرًا من الأشياء السيئة المحرمة مثل لحم الخنزير والدم وغيرهما.

وقوله تعالى: فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ يعني أن الذين يؤمنون به ويُعينونه باللسان والسيف ويتبعون نور القرآن الكريم الذي أُنزل عليه، فإن الفلاح مؤكد لهم ولا بد أن ينالوا نصيبهم من البركات المقدرة لجماعة محمد رسول الله ، وإن كانوا من غير العرب، لأنه ليس نبيَّ شعبٍ واحد، بل نبي الشعوب جميعها. وقد أشار الله تعالى إلى هذا المعنى نفسه في الآية التالية: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً (الأعراف:159)، أي أن المؤمنين بي كلهم سيرثون الجوائز التي وُعدتها، وليس أن شعبي فقط هو الذي سيتمتع بها.

لقد ذكر الله تعالى في الآيتين المذكورتين آنفًا من سورة الأعراف الوعدَ الموسوي، مبيّنًا أن في كتاب موسى نبأً بمجيء نبيٍّ أمّيٍّ، وأمرًا بالإيمان به، وأن طاعة ذلك النبي ذات صلة بتحقق الوعد الذي قُطع لموسى من أجل أمته، لأن الله تعالى كان قد أخبر موسى أنه بعد بعثة ذلك النبي الموعود لن يتحقق هذا الوعد لبني إسرائيل إلا للذين سيؤمنون به منهم، حيث ورد في الكتاب المقدس:

{أقيم لهم نبيًّا مِن وسط إخوتك مثلك، وأجعل كلامي في فمه، فيكلّمهم بكل ما أوصيه به. ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه} (التثنية 18:18-19).

والواضح من هذه الفقرة أن الوعد الذي قطعه الله تعالى مع موسى لبني إسرائيل كان أثرُه ممتدًّا إلى ما قبل بعثة ذلك النبي الموعود، أما بعد بعثته فينال بنو إسرائيل نعم الله تعالى إذا آمنوا بالنبي الموعود، وإلا استحقوا العقاب. وإلى هذا يشير قول الله تعالى: أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ الذي نحن بصدد تفسيره.

ثمة شبهتان يثيرهما البعض هنا؛ الأولى: أنّ الذين يكفرون بأي نبي ينالون العقاب، وقد بُعث بين موسى ونبينا كثير من الأنبياء الذين لم يؤمن بهم بنو إسرائيل، وهذا يعني أنهم قد نكثوا هذا العهد عندها، فكيف يكون هذا الوعد التوراتي خاصًّا بالنبي محمد ؟ والثانية: إذا كانت هذه النبوءة تخص النبي ، فإن عصر نبوة أنبياء بني إسرائيل قد انتهى بمبعثه ، فلماذا قيل لهم: أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ، سيّما أن النبوة يستحيل أن تنتقل إليهم ثانيةً وإن تابوا.

والرد على الشبهة الأولى هو: لا شك أن بني إسرائيل قد كفروا بأنبياء كثيرين قبل المصطفى ، لكنهم كانوا أنبياءهم القوميين. هذا أولاً، وثانيًا لا جرم أنهم كفّروهم أول الأمر، ولكنهم أدخلوا فيما بعد أحوالهم وقصصهم ووحيهم في مجموعة كتبهم المقدسة، فكان كفرُهم بهم مؤقتًا لم يُحدِث فُرقةً قومية، وهكذا لم يُحرموا من البركات المقرونة بأنبيائهم. كان مَثَلُهم كمَثَل العرب الذين كفروا بالرسول في بداية الأمر، ولكنهم آمنوا به في النهاية. لا شك أن طائفة من بني إسرائيل كفرت بنبيهم الأخير عيسى أشدَّ الكفر، ولم يؤمنوا به بعد ذلك أيضًا، ولكنه كان نبيًّا إسرائيليًّا على أية حال، ثم إن الطائفة التي آمنت بالمسيح من بني اسرائيل كانت امتدادًا للوعد الموسوي لهم، ولو أنهم استقاموا على العهد لظلت فيهم نعمة النبوة، لكنهم لم يفعلوا ذلك، فانتقلت النبوة إلى الطرف الآخر.

أما اليهود فنسوا الجانب الروحاني لهذا العهد، أي طهارة القلب، وهكذا نقضوا عهد الله تعالى، وأما الذين آمنوا من بني إسرائيل بعيسى فتركوا الختان البدني، وبذلك تخلّوا عن علامة ذلك العهد، وهكذا لم يبق أي فريق من بني إسرائيل على عهدهم، فحوّل الله العهد إلى إخوتهم، بني إسماعيل.

وموجز القول إن كفر بني إسرائيل بالأنبياء الذين خلوْا من قبل سيدنا محمد كان كفرًا عابرًا مؤقتًا؛ إذ كانوا يعُدُّونهم فيما بعد من أنبيائهم القوميين، ما عدا المسيح الذي استمر معظمهم على الكفر به، ولكنه كان إسرائيليًا وجاء إلى بني إسرائيل أنفسهم، وكان يأمر باتّباع شريعة موسى كما هو ثابت من الإنجيل، وكان أول مَن آمنوا به هم مِن بني إسرائيل أنفسهم، وبالتالي فقد استمر هذا الوعد يتحقق لبني إسرائيل بصورة قومية عن طريق المؤمنين به . أما رسولنا فلم يكن كفرُهم به ككفرهم بأنبيائهم القوميين، لأنه لم يكن تابعًا للشريعة الموسوية، بل جاء بشريعة جديدة كما تنبّأَ موسى ؛ كما لم يكن مبعوثًا إلى بني إسرائيل، بل بعث للدنيا كافة، فلم يكن الدين الذي قام على يده امتدادًا للدين الموسوي، وما كان لبني إسرائيل أن يفتخروا به كقوم، بل كان دينه يمثّل نهايةً لعصر تفوقهم القومي، ومن أجل ذلك قال الله تعالى لهم: ما دمتم قد نكثتم عهدكم معي، فقد أنهيت عهدي معكم.

أما الرد على الشبهة الثانية فهو الآتي: لا شك أن سلسلة الأنبياء الإسرائيليين كانت قد انقطعت ببعثة الرسول ، ولا يمكن أن تُستأنف بشكلها السابق حتى ولو آمنوا بالرسول ، ومع ذلك كان بوسعهم أن ينالوا رحمات الله تعالى حسب قوله: أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ، فقد قال الله تعالى في القرآن الكريم:

وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ * يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (المائدة:66-68).

علمًا أن قوله تعالى مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ إشارة إلى الذين أسلموا من بني إسرائيل.

وتوضح هذه الآيات أن أصحاب التوراة والإنجيل لو آمنوا بما نزل لهدايتهم في الزمن الأخير، أي زمن الرسول ، واتقوا، لفتح الله عليهم أبواب الوحي من فوقهم، والرزق الطيب من الأرض من تحتهم، وحفظهم من عواقب سيئاتهم السابقة، أي يحقق الله لهم عهده معهم على هذا النحو، ويمّتعهم بالنعم السماوية والدنيوية. ثم يأمر الله تعالى رسوله أن يبلّغ هؤلاء الأمم حقَّ التبليغ لتتم الحجة عليهم، وليُنقَذ منهم مَن يمكن إنقاذه.

إذن، فرغم انتقال النبوة من بني إسرائيل إلى بني إسماعيل وفقًا لنبأ موسى ، إلا أن بني إسرائيل لو بدأوا الوفاء بعهدهم، فإن الله تعالى مستعد للوفاء بعهده معهم.

وثمة أمر لطيف في هذه الآية من سورة المائدة يشير إلى النبأ الوارد في سفر التثنية (18: 18)، وهو أن الله تعالى بعد أن حثَّ هنا بني إسرائيل على الإيمان بالهدي السماوي الجديد قال لرسوله :

يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ،

أي عليك بتبليغ كلّ ما أنزلناه عليك، وهي نفس الكلمات الواردة في نبأ التثنية 18:18 القائل: } وأجعل كلامي في فمه، فيكلّمهم بكلّ ما أوصيه به{.

كما أن قوله تعالى: أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ يُستنبط منه أن باب النبوة غير التشريعية لم يغلق في الأمة المحمدية، ذلك أن الله تعالى يقول لبني إسرائيل هنا إنكم إذا وفيتم بعهدي، أي عملتم بأحكامي وآمنتم بمحمد نبيِّ هذا العصر، فسوف أوفي لكم بعهدكم، وقد سبق أن بيَّنّا أن ذلك العهد الإلهي كان بشأن بعثة أنبياء في بني إسرائيل؛ فثبت أن باب النبوة لم يُسَدّ في الأمة المحمدية، وإنما انتهى نزول الشريعة الآن، ويمكن الآن أيضًا بعثُ أنبياء غير تشريعيين تابعين وخادمين للقرآن الكريم ولمحمد رسول الله ، وإذا لم يكن هذا ممكنًا، فما معنى قول الله لبني إسرائيل: أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ؟ هذا القول لا يصحّ إلا إذا كان باب النبوة مفتوحًا للأمة المحمدية، فيَعِدُ الله بها مَن يؤمن من بني إسرائيل بمحمد رسول الله .

وليكن معلومًا أنه بحسب النبأ الموسوي السالف الذكر، كان باب النبوة التشريعية مسدودًا على بني إسرائيل؛ وكان باب النبوة التابعة للشريعة الموسوية فقط مفتوحًا، لأن عبارة سفر التثنية 18:18 تصرّح أن النبي المشرّع المثيل لموسى لن يأتي من بني إسرائيل، بل يأتي من إخوتهم بني إسماعيل، فكان أنبياء غير تشريعيين يبعثون بينهم قبل محمد المصطفى ، ولم يُسَدّ هذا الباب في وجههم بعد إيمانهم بنبوته ، ولذلك أخبرهم الله تعالى أنكم لو أوفيتم بعهدي الآن أيضا، فبإمكانكم نيل نصيبكم من هذه النعمة.

أما قوله تعالى وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ فـ(إياي) مفعول به لفعلٍ محذوف، وتقديره كالآتي: (وارهبوا إياي ارهبوا، فارهبونِ)، وكأن الله تعالى قد خوّفهم منه ثلاث مرات.

وقد يعترض بعض المتأثرين بفلسفة الغرب ويتساءل عن سبب هذا التأكيد المتكرر بخشية الله تعالى في القرآن الكريم.

والجواب أولاً: ليس الخوف شيئًا معيبًا، بل هو ضروري لخلْق التقوى، لأن الناس على أحوال، فبعضهم ينقادون بالحب، وبعضهم بالخوف، والله الذي يريد إصلاح العباد  لا بد أن يستخدم الحافزيْن كليهما: الخوف والحب. الفلسفة لا تقدر على إصلاح الإنسان، وإنما يتم الإصلاح بالعلاج نظرًا للمرض، فالذين قد فسدوا لا يمكن إصلاحهم إلا بتحذيرهم من العواقب الوخيمة لعيوبهم، ومن لم يراعِ ذلك فشل في إصلاح الناس.

وثانيًا: إن كلمة “رهب” لا يعني الخوف بالمفهوم العام، وإنما يعني الخوف المقرون بالسعي والجهد. تقول العرب: رهبت الناقة: أي جَهَدَها السيرُ. فالرهب هو الخوف الدافع إلى العمل، ولأجل ذلك يقال للعابد راهب.

وأودّ هنا دفع شبهة أخرى؛ يقال: كان إسماعيل الابن الأكبر لإبراهيم عليهما السلام، فلماذا حَرَم الله ذريّتَه من نِعَمه الخاصة لمدة طويلة؟ والجواب أن بني إسحاق، مهما ساءت أحوالهم فيما بعد، إلا أنهم ظلوا في الواقع حملةَ لواء الدين لمئات السنين، ومن أجل ذلك ورثوا أفضال الله الخاصة. أما بنو إسماعيل فما كانوا قد وصلوا إلى هذه المكانة قبل زمن سيدنا محمد رسول الله ، ولذلك نالوا الإنعام بقدر الحاجة. أجلْ، كان نبينا الجوهرة الكاملة في بني إسماعيل فسدّت كل نقص، ولما كان من المقدر أن يكون هو خاتم النبيين، فلزم أن يسبقه كل الأنبياء الذين نالوا النبوة مباشرة، ليأتي هو في آخرهم، ليسدّ باب النبوة التشريعية والمباشرة.

[1] يبدو أنه حصل هنا سهو، إذ الصحيح 41. (المترجم)
Share via
تابعونا على الفايس بوك