الآخرة.. عالم انكشاف حقائق الأشياء
دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ ۚ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (يونس: 11)

 

شرح الكلمات:

دعوى: الدعوى تأتي بمعنى النداء يقال: دعاه دعاء ودعوىً: ناداه (الأقرب).

تحية: التحية السلام يقال حيّاه تحيةً: سلّم عليه بقوله: سلامٌ عليك، البقاءُ، والسلامةُ من الآفات، الُملك، وذلك أنهم في الجاهلية كانوا إذا تقلّد أحدهم الإمارةَ والملكَ قالوا: نال فلان التحيةَ أي التحية المختصة بالملوك وهي قولهم: أبيتَ اللعن (أي وقاك الله مما يعرّضك للطعن والهزيمة). والتحية من الله الإكرام والإحسان (الأقرب)

سلام: السلام اسمٌ من التسليم؛ الاستسلامُ للانقياد والطاعة. والسلام اسمٌ من أسماء الله لسلامته من النقص والعيب والفناء. (الأقرب)

التفسير:

تذكر الآية (أولاً) أنَّ المؤمنين عندما ينالون النِّعم في الآخرة سَيُسَبِّحون بصورةٍ عفوية سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ ، بمعنى ربنا أنت منزَّه من كل عيب وبريءٌ من كل نقص. (وثانياً) أنّهم سوف يتبادلون تحية “السلام عليكم”، أو يتلقّون من الله تعالى تحية السلام. (وثالثاً) أنه سوف يكون آخر كلامهم: الحمد لله رب العالمين.

وأما نداؤهم سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ بمجرّد وصولهم الجنة فذلك إنّما يكون لأنّ حقائق الأشياء ستُكشف عليهم عندئذٍ. مما لا شكَّ فيه أنَّ المؤمن يُسبّح ربه هنا في الدنيا أيضاً، ولكن هذا التسبيح يكون عن اعتقاد لا عن تجربة. إذ أنّه يسبّح ربه مثلاً عندما يرى قشر فاكهة مع أنه قد يساوره الظن أن لا فائدة من هذا القشر، أو حينما يجد حشرةً قد وصلت إلى فراشة دون أن يُدرك الحكمة من وراء وجودها هناك، أو حين يرى في البرية أعشاباً ذات أشواك وبدون أشواك دون أن يعرف الحكمة في ذلك. فبما أنَّ القياس يؤدي بنا في هذه الدنيا إلا الاعتقاد بأننا ما دمنا نجد حِكَماً إلهيّة في بعض الأشياء فلا بد من وجودها في أشياء أخرى وإن لم نُدركها، كما أنَّ كلام الله الحق يؤكّد لنا براءة الله من كل عيبٍ ونقص.. فلذلك كله نحن نؤمن بوجود حِكم في آلاف الأشياء التي لم نطّلع على الحِكَم الموجودة فيها، ونردّد التسبيح عند رؤيتها. ولكن التسبيح الذي سوف نردّده في الآخرة سيتم عن بصيرةٍ وخبرة. هنالك سوف يتبين لنا تماماً أنَّ كل شيء في الدنيا مهما حَقُر، وكل حادثٍ مهما ضَؤُلَ كان وراءه سببٌ وهدف، وكان له وقعٌ وتأثير فيما كان يحصل لأهل الدنيا من رٌقيٍّ أو انحطاط وما كان يلحق بهم من نفعٍ أو ضرر. ولما كانت أعمالنا التي نقوم بها في الدنيا سوف تتجسّد لنا في الآخرة فلا بدَّ أن تنكشف عندئذٍ لكل واحد منا حقيقة كل أمرٍ خفي من هذا العالم المادي وسوف نُقرُّ، بناءً على علمٍ وبصيرة، أنَّ كل شيء بل كل حركة في الدنيا كانت لهدفٍ وغاية، فلن يلبث أن يندفع هاتفاً سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ .

ثم إنَّ كل ما يصيب الإنسان من أذىً وضرر في الدنيا إنّما سببه هو عدمُ اطّلاعه على حقائق الأشياء. فإنَّ الزرنيخ مثلاً سُمٌّ فيه شفاءٌ من الأمراض، ولكن الذين لا إلمام لهم بعلم الطب قد يتعرَّضون للأذى إثر تناولهم كمية منه دون علمٍ ودراية. أو خذوا النار مثلاً فإنها تنفع في إعداد الطعام، ولكن الصبي الجاهل بمواصفاتها قد يعبث بها ويضرّ نفسه. وباختصار فإنَّ أنواع الأمراض مرجعها الجهل بحكمة الأشياء وحقائقها. أما في الجنة فكل الحقائق سوف تنكشف وكل الحِكَم سوف تتجلّى، ولذلك سينعمون فيها بسلامةٍ حقيقية، لأنهم بمعرفة حِكَم الأشياء سوف يتفادون أضرارها، ويتخلّصون من المصائب والآفات، وعليه فإنّهم بعد انطلاقهم التلقائي بالتسبيح عن علمٍ وبصيرة لدى انكشاف حقائق الأشياء عليهم في الآخرة لن يلبثوا أن يقولوا: هذا المكان سلامٌ في سلام. ذلك أنّهم بسبب إدراكهم حقائق الأشياء إدراكاً كاملاً سوف يتجنّبون استخدامها الخاطئ وسينتفعون بها بطريق سليم.

وبما أنّ السلام والأمان سيسودان في الجنة فسيبادرون إلى حمد الله أيضاً قائلين: الحمد لله الذي شرَّفنا بهذه الدرجة حيث أحرزنا المحاسن والكمالات جميعاً فلا تأتني أعمالنا إلا بنتائج طيبة فحسب.

ولو سُئلتُ: لماذا قال هنا الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ولم يكتفِ بقول الْحَمْدُ لِلَّهِ فإنّه يفي بالغرض أيضاً، فالجواب: إنَّ زيادة رَبِّ الْعَالَمِينَ كانت لأسباب مختلفة منها الاطّلاع على حِكم جميع الأشياء وإفادة الآخرين بها إنما هو ما يخصُّ الله تعالى وحده العالِم بضرورات كل عالَمٍ من العوالم. فلو عانى أحد مثلاً من الحرارة العالية في بلدٍ حار واشتكى من أذاها فإنّما يشتكي لأنه لا يعلم أنَّ تلك الحرارة ذات نفعٍ كبير لآلاف من الأشياء الأخرى. ولكن الذي يُدرك ذلك هو رب العالمين، الذي له علاقة وثيقة بكل شيء، والذي يسدُّ حاجات كل الموجودات. فالمؤمنون عندما يطّلعون في الآخرة على حقائق كل الأشياء وحِكَمها يُعلنون الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، أي لا جرم أنه ما كان لنا أن نعرف حقائق الدنيا بعلمنا المحدود وإنّما رب العالمين الذي لا يغيب عنه مثقال ذرّة، هو وحده القادر على أن يُحيط بعلمه حقيقة كل شيء. فالحمد لله رب العالمين.

وباختصار فإنَّ أنواع الأمراض مرجعها الجهل بحكمة الأشياء وحقائقها. أما في الجنة فكل الحقائق سوف تنكشف وكل الحِكَم سوف تتجلّى، ولذلك سينعمون فيها بسلامةٍ حقيقية، لأنهم بمعرفة حِكَم الأشياء سوف يتفادون أضرارها، ويتخلّصون من المصائب والآفات

  وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ ۖ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (يونس: 12)

شرح الكلمات:

استعجال: استعجله: حثَّه؛ أَمَرَه لأن يُعجِّل؛ طَلَبَ عجلته ولم يصبر إلى وقته. ومنه “مرَّ فلانٌ يستعجل” أي يكلّف نفسه العجلة؛ واستعجل فلاناً: سبقه وتقدَّمه. (الأقرب)

الخير: هو وجدان الشيء على كمالاته اللائقة؛ المال مطلقاً؛ الخيل؛ الكثيرُ الخير. (الأقرب)

قُضِيَ: قَضَى إليه الأمر: أنهاه وأبلغه (الأقرب) قضى إليه الحديثَ: أسمعه إياه، وقضى إليه الشيءَ: أوصله إليه. فالمراد من (قُضِيَ إليهم أجلهم) أُوصِلَ إليهم أجلهم أي موتهم.

أجل: الأجلُ: مدةُ الشيء ووقته الذي يحلُّ فيه، يُقال: ضربت له أجلاً (الأقرب).

طغيان: طَغِي يطغى وطغى ويطغِي طُغياناً وطِغياناً وطغىً: جاوز القدرَ والحد. طغى الكافرُ: إلا في الكفر. طغى فلان: أسرف في المعاصي والظلم.. طغى الماءُ: ارتفع. (الأقرب)

يعمهون: عَمِهَ الرجل: تردَّد في الضلال، وتحيّر في منازعة أو طريق. وقيل: العَمَهُ أن لا يعرف الطريق فهو عامِهٌ وجمعه عُمّهٌ، وعَمِهٌ للمبالغة وجمعه عَمِهون، يقال: عَمِهَ في طغيانه وتعامَهَ. وعن الزمخشري: العَمَهُ كالعَمى غير أنَّ العَمى عامٌ في البصر والبصيرة والعَمَه خاصٌ بالبصيرة، فلا يُقال: أَعْمَهُ العين. (الأقرب).

فمعنى قوله فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ هو أنهم متردّدون في طغيانهم وغَيّهم وسوف يبقون هكذا وأنّهم متحيّرون في أمرهم على الدوام.

التفسير:

لقد اختلف المفسِّرون كثيراً في قوله تعالى: لَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فقال بعضهم معناه: لو عجَّل لهم الشر كما هم يطلبون الشر لقُضي عليهم وهلكوا (الكشّاف). ولكن هذا المعنى لا يستقيم مع العقل والمنطق، إذ لو كانت كلمة (الخير) هنا بمعنى (الشر) كما يفسِّرونها، لاستخدَمَ الله هنا كلمة الشر لا الخير.

إنَّ الصعوبة التي تواجه المفسرين تكمن في أنهم يقولون: ما دام الناس يطلبون من الله الخير فكيف يمكن أن يُقابلهم بالشر، وإنّما لا بد من أن يُقابلهم بالخير والإنعام طالما يريدون هم خيراً.

الواقع أنهم قد وقعوا في هذه المشكلة لأنهم لم يتدبّروا كما ينبغي في كلمتي الخير والاستعجال، فلو أنهم أخذوا (الخير) بمعنى المال مطلقاً لحُلَّت المشكلة، لأن الآية ستعني عندئذٍ: أنَّ هؤلاء الذين يجمعون الأموال الدنيوية في عجلة وانهماك متناسين ربهم، ولو تعجّل ربهم أيضاً في عقابهم على جريمتهم هذه لقضى عليهم فوراً، ولكنه تعالى يمهلهم ليرجعوا إلى صوابهم ويتوبوا ويُصلحوا ما بهم إذا أرادوا. وهذا المعنى مستقيم لا اعتراض عليه. فمن كان جَمعُ الأموال هو جلّ اهتمامه في هذه الدنيا فإنّما يُثير غضب الله عليه، دون أدنى شك.

كما يمكن أن تفسَّر الجملة بمعنى آخر وهو: أنَّ الله يستعجل الناسَ بالخير ويسبقهم في المعاملة بالخير والحسنى، ولو أنه سارع مثلهم بالشرّ والعذاب لقُضيَ عليهم وانتهى أمرهم، ولكنه يستعجلهم في أمر الخير فقط بينما يُعاملهم على مهل في أمر العذاب. وفي هذه الصورة سيُعتبر الضمير (هم) في اسْتِعْجَالَهُم في حالة المفعولية، وأما عند اختيار المعنى الأول فسيعتبر الضمير في حالة الفاعلية. وكلا الاعتبارين جائز وصحيح بحسب قواعد اللغة العربية. ولو أخذنا بالمعنى الأول فسيعني قوله تعالى اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ أنَّ هؤلاء لا يجدون الفرصة للتوجّه إلى الله تعالى لشدّة انهماكهم في جمع مُتع الدنيا في عجلة وسرعة. فالذي يكون على عجلة من أمره لا يُبالي بأحدٍ مطلقاً، ولو حاول غيره لفت نظره إلى شيء آخر لما اكترث بقوله.

هذه الآية جاءت في الواقع ردّاً على تساؤل نشأ في خَلَدِ الكفار بأنَّ محمداً إذا كان نبياً صادقاً فلماذا إذن لا يعذّبنا ويقضي عينا؟ فقال الله تعالى: نعم، سيأتي العذاب حتماً، ولكنّا نمهلكم عسى أن يقبل الحق من كان من نصيبه قبوله.

ولقد ذكرتُ من قبل أنَّ من أساليب القرآن أن يحذف السؤال في معظم الأحيان مكتفياً بالإشارة إليه في الجواب، وهذه الآية خير مثال لذلك، فهي صريحة الدلالة على أن قول الله إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ وما يليه من الآيات ردٌّ على تساؤل الكفار: لماذا لا يقضي الله أمرنا بعجلة؟

وبقوله فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ وضح بأننا لو عجّلنا في صبّ العذاب عليهم للبثوا في طغيانٍ وعَمَهٍ بسبب هلاكهم على الضلال. ولكن ليس هذا هو دأبنا، إنّما نريد هدايتهم، فلا نؤاخذهم على الفور لننقذ من يمكن إنقاذه.

من أساليب القرآن أن يحذف السؤال في معظم الأحيان مكتفياً بالإشارة إليه في الجواب، وهذه الآية خير مثال لذلك، فهي صريحة الدلالة على أن قول الله إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ وما يليه من الآيات ردٌّ على تساؤل الكفار: لماذا لا يقضي الله أمرنا بعجلة؟

وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَىٰ ضُرٍّ مَّسَّهُ ۚ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (يونس: 13)

شرح الكلمات:

المسرفين: أسرف مالَه: بذَّره؛ وأسرف في كذا: جاوز الحدَّ فيه وأفرط؛ أخطَأَ؛ جهلَ؛ غفلَ (الأقرب).

التفسير:

هذه الآية تتحدَّث عما يطرأ على الإنسان من أحوال مختلفة عند الصدمة. فقوله تعالى لِجَنبِهِ إشارة إلى الخرور والسجود جزعاً وهلعاً، لأنَّ الإنسان إذا أُصيب بصدمةٍ شديدة تخاذلت رجلاه ولم يَقوَ على الوقوف فيسقط. كذلك قوله تعالى أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا إِشارة إلى الفزع والقلق البالغين، لأن الفاجعة تُقيمه مرةً وتقعده أخرى.. فلا يهدأ له بال في أي حال، ولا يقرّ له قرار. وليس ضرورياً جلوسه أو قعوده بالمعنى الحرفي.

لقد بيّن الله هنا أنَّ هؤلاء يلجّون من ناحية قولهم: لماذا يعذّبنا الله على تكذيبنا لهذا الرسول إذا كان من عنده حقاً، ومن ناحية أخرى تراهم لو مسّهم شيءٌ من العذاب رفعوا عقيرتهم فزعاً وهلعاً ونفد ما عندهم من صبرٍ وجَلَد.

وفي قوله تعالى: مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَىٰ ضُرٍّ مَّسَّهُ ذَكَرَ عادةً للكفار ليعلّمنا أخلاقاً إسلامية حيث ينصحنا أننا حين نستعين بأحد فيجب ألَّا ننصرف عنه إلا بعد الاستئذان منه وبعد ان نشكره على صنيعه، لأنه من اللؤم البالغ أن يستنجد الإنسان بأحد ثم ينصرف عنه دون أن يشكره على معروفه.

وقوله تعالى كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ يتضمَّن عدة دروس في الأخلاق: الأول: أن لا يطعن الإنسان في نيّة أحد. فهنا يُصرّح الله تعالى أنهم يفعلون ما يفعلون لأن أعمالهم تبدو لهم جميلة وحسنة، فإنّه عدَّهم من المسرفين ومع ذلك لا يطعن في نيّاتهم بل يقول: لقد فسدت رؤيتهم واختَلَّت عقولهم، فتتراءى لهم أعمالهم حسنة. أوَليس غريباً وعجيباً رغم هذا التعليم القرآني – أن نجد بين المسلمين من إذا اختلفوا مع إخوانهم في الرأي اختلافاً ضئيلاً بسطوا فيهم ألسنتهم وهاجموا نيّاتهم؟!

وقد يتساءل هنا أحد: ما دامت عقولهم مختلّة فلماذا يُعاقَبون إذن؟ والجواب أنَّ سبب  عقابهم مذكور في الآية نفسها. إنّه تعالى لا يقول إنَّ كل إنسان تُزيَّن له أعماله فيراها حسنة جميلة، بل يقول إنَّ المسرفين أنفسهم قد أتوا بأعمالٍ مسرفة غير معتدلة فكانوا هم المسؤولين عن عواقب هذا الإسراف، رضوا به أم لا، ولذلك لن ينجوا من العقاب.

والدرس الثاني هو أنَّ عذر النيّة الطيبة ليس مقبولاً في كل حال، بل يُعاقَب المرء أحياناً على جريمته وإن لم يقصد الشر لأحد، كما تذكر الآية، فإنها تعلن عقابهم مع التسليم بصحة نيّتهم. ويحدث هذا عندما تكون أعمال الإنسان نفسُها قائمة على فساد نيّته أو سكون الإنسان قادراً على تغيير مساره السّيء ولا يغيّره. فمثلاً عدم العلم بالشيء عذرٌ مقبول، ولكن إذا كان عدم العلم هذا سبب تكاسل المرء فيصبح عذراً غير مقبول ويُعاقَب صاحبه حيث يُقال له: لماذا تكاسلت ولم تجتهد لتحصيل العلم.

وفيما يتعلق بالنواميس الطبيعية فلا اعتبار فيها للنية أصلاً، فإذا تناول أحدٌ السم – أياً كانت نيّته – مات لا محالة. أما القوانين والأحكام الشرعية فإنها تأخذ النية في الاعتبار إلى حدٍ كبير.

Share via
تابعونا على الفايس بوك