الأنبياء.. شموس وأقمار للدنيا
إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الذين آمنوا وَعملوا الصالحات بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (يونس: 5)

    شرح الكلمات:

مرجع: رجع الرجل يرجع رجوعا ومرجعا: انصرف (الأقرب )

يبدأ: بَدَأَ بالشيء: افتتحه. بدأ بفلان: قدّمه. بدأ الشيءَ: أخذ فيه؛ أو قدّمه في الفعل. بدأ الشيءَ: أنشأه واخترعه. بدأ الله تعالى الخلق: خلقهم. بدأ من أرضه: خرج منها وتغرب. (الأقرب).

الخلق: الفطرة؛ الناس. (الأقرب). والخَلق: المخلوق (المفردات).

يعيد: أعاده إلى مكانه: أرجعه. أعاد الكلامَ: كرره. يقال: فلان لا يعيد ولا يُبدئ: إذا لم تكن له حيلة. (الأقرب)

الصالحات: مِنْ صَلَح الشيءُ يَصلُح: ضد فسد؛ أو زال عنه الفساد. (الأقرب)

القسط: القِسط بالكسر: العَدلُ، وهو من المصادر التي يوصف بها كالعدل، يقال:رجل قسط. يستوي فيه الواحد والجميع. والعدلُ: الحصةُ والنصيب؛ مكيالٌ يسع نصف صاع. (الأقرب )

شراب: كل ما يُشرب من المائعات أي الذي لا يتأتى فيه المضغ، حلالا كان أو حراما. ( الأقرب )

حميم: الحميمُ: القريب الذي تهتم بأمره؛ الصديقُ، والجمع أحمّاء. والحميمُ: الماءُ البارد عكس الماء الحار، والجمع حمائم. والحميمُ أيضا: القيظُ؛ المطرُ الذي يأتي بعد اشتداد الحر؛ العَرقُ. ( الأقرب).

التفسير:

وقوله تعالى: وَعْدَ اللَّهِ تقديره: وعدكم الله وعدًا حقا. ينبّه الله تعالى في الآية على ألا يغتَرّ الإنسان بالحرية التي يتمتع بها في الظاهر، إذ لا مناص له من الامتثال أمام الله ، في آخر المطاف.

كما بيّن فيها أن أنبياء الله سيفوزون في آخر الأمر، ذلك أن الله قد خلق الإنسان ليحظى بقربه -جل شأنه- كما صرح بذلك قائلاً: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ (الذاريات: 57) .. أي ليصبحوا عبادًا لي أنا وحدي. وإلى هذه الحقيقة يشير بقوله هنا وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا ، ويعلن أن كل هؤلاء الأناس المؤمنين سيتمتعون في النهاية بقربي ووصالي، وهكذا سوف تتحقق الغاية الحقيقيّة من بعث الأنبياء.

ولقوله تعالى إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ مفهومان أيضًا: مفهوم دنيويّ ومفهوم أُخرَويّ. والمفهوم الأول هو أنه تعالى سوف يعيد الإنسان بعد الموت إلى الحياة مرة أخرى. والمفهوم الثاني هو أنه تعالى لا ينفك يخلق أناسًا جُددًا يحفظون جهود الصلحاء الأوائل من الضياع. ذلك أنّ أحدًا لو قام بعمل خير دون أن يخلفه أحد فمن ذا الذي سينتفع من عمله هذا. لذلك أكد الله على أنه لا يزال يخلق خلقًا جديدًا، وهكذا ينتفع اللاحقون بما فعله السابقون.

وقوله تعالى: وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يحتوي على سر عظيم للازدهار الفردي والقومي على سواء. لقد فسّروا عمومًا “العمل الصالح” بمعنى “العمل الحسن” ولكن ليس هذا هو الواقع، بل معناه “العمل الحسن الملائم للموقف”. فليس مثلاً من الصلاح في شيء أن يصوم أحد حين خروجه لقتال العدو. إن الصيام عمل حسن لا شك في ذلك، ولكنّه لا يكون عملاً صالحًا في موقف يتطلب الخروج لملاقاة العدو، ولذلك قال النبي في إحدى الغزوات: “ذهب المفطرون اليوم بالأجر” (البخاري-كتاب الجهاد)، ذلك لأن الذين صاموا لم يعملوا شيئا وأما الذين أفطروا فبعثوا الركاب ونصبوا الخيام.

والحق أن الازدهار، سواء الفردي أو القومي، لا يتحقق أبدًا بالعمل الحسن وحده، وإنما بالعمل الصالح. ولكنّ المسلمين المتأخرين نَسَوا هذا السرّ، فكانت النتيجة أنه لما كان الإسلام بأمسّ الحاجة إلى جهاد عقلي كبير من قبل أتباعه رأى زعماؤهم الدينيون الكفايةَ في جلوسهم على السجاجيد، قابعين في البيوت، محركين حبات المسابح، متغافلين عن القيام بما لابد منه لتحقيق الرقي القومي. لقد كان من واجبهم عندئذ أن يسعَوا لخلق القوة العملية في المسلمين، وإصلاحِ أخلاقهم، وحثِّهم على تحصيل العلوم الجديدة، وعلى توحيد خط عملهم. ولكنهم لم يؤدُّوا واجبهم هذا، فلم تُغنِ صَلواتهم ولا صيامهم عن الإسلام شيئًا، كما ولم تُنج المسلمين من الهلاك والدمار. ذلك أن الله أناط وعد الفوز بالأعمال الصالحة، ولكنَّ أعمال هؤلاء الزعماء، وإن كانت ضمن ما يأمر به الدين، إلا أنها ما كانت ملائمة للظروف والأحوال. فبما أنهم خالفوا بذلك القانونَ الإلهي تضرروا هم بأنفسهم كما وأساءوا إلى باقي المسلمين.

هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (يونس: 6)

شرح الكلمات:

ضِياءً: الضوء أشد من النور في اللغة العربية، فقد جاء: الضوء لما هو بالذات كالشمس والنار، والنور لما هو بالعرض والاكتساب من الغير. والضياء: مصدرُ ضاء؛ وقيل: الضياء جمعُ ضوءٍ كَسوط وسِياطٍ. (الأقرب)

نورًا: علاوة على ما ذُكر أعلاه من معانٍ للنور فهناك معانٍ أخرى له، فقد ورد: النور: الضوءُ أيًا كان وهو خلاف الظلمة؛ أو شعاعُه (أي شعاع الضوء)؛ المنوِّرُ كقوله تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ؛ الذي يُبيِّن الأشياء؛ لقبُ النبي ؛ الوسمُ، يقال: ما به نورٌ .. أي وسمٌ (وبهاءٌ) (الأقرب) وفي بلادنا أيضًا يقولون في المعنى الأخير: فلان في وجهه نور .. أي آثار بركة وشرف. فقوله تعالى جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا يعني جعلها ذات ضياء، وجعله ذا نور.

قَدَّر: قدّر هنا بمعنى قدّر له أي قدر للشمس والقمر منازل (روح المعاني). وقدّر: صيّر وجعل، فالمعنى: جعل كلاً من الشمس والقمر ذا منازل، لأن الضمير (هـ) في (قدّره) يرجع إلى الشمس وإلى القمر أيضًا. والواقع أن الشمس أيضًا في حركة مستمرة، وإن لم تكن تتحرك حول الأرض كما كان القدماء يعتقدون. فقد أكدت البحوث العلمية أن الأرض هي التي تدور حول الشمس، مع تأكيد العلماء على أن الشمس أيضًا في حركة مستمرة مع كواكبها ضمن إطار مقدّر محسوب، وأن الجزم في تحديد طول هذه الحركة الشمسية أمر غيرُ يسير، فقد يكون مسار هذه الحركة طويلاً جدًا بحيث لن يقدروا تخمين مدتها ولا حتى في ملايين السنين.

يفصّل: فَصَّلَ الشيءَ: جعله فصولاً متمايزةً. فصّل الكلامَ: بيّنه.وفصَّل: ضدُّ أجمَلَ (الأقرب).

التفسير:

لقد ذكر الله في قوله لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ أمرًا غاية في اللطف، وهو أن سرعة حركةِ شيءٍ ما تُعرف فقط بقانون النسبة بين الشيء المتحرك وما حوله من الأشياء. وعلى سبيل المثال، إذا كنا مسافرين في قطار سريع تكون الأشياء حولنا في العربة متحركة أيضًا معنا بالسرعة نفسها في حين أننا لا نشعر بحركتها، ويُخيل إلينا وكأننا واقفون في نفس المكان. وهذا يعني أن كيفية الحركة وسرعتها إنما تُعرف بالنسبة، ولولا هذا الفارق النسبي لما عرفنا كيفية الحركة. وهذا ما يعلّمنا الله بقوله هذا، إننا إنما حددنا للشمس والقمر منازل ليتيسّر لكم العلم بعدد السنين والحساب .. بمعنى أن تدركوا وتشعروا برؤية حركة هذه الأجرام خارج الكرة الأرضية أنه قد مضى عليكم زمان، ولستم حيث كنتم من قبل. فلولا هذا الفارق، أي لولا وجود جرم فلكي متحرك آخر خارج الأرض نراه مرةً في موضع وتارةً في موضع آخر، لما تولد فينا إحساس بما يسمَّى بالزمن أو الوقت. ثم لولا حركة تلك الكرة بحسب قانون طبيعي معين، أو لولا دوران أجرام أخرى حولها طبقًا لنواميس محددة لاستحال علينا تقسيم هذا الإحساس بالوقت بمقادير معينة.

فعلم التاريخ والحساب إذن منوط كله بهذين الكوكبين الشمس والقمر. أحدهما يدور بنفسه، والآخر يدور حوله أجرام أخرى. القمر يدور حول الكرة الأرضية فيمكننا بحركتِه من تقدير الأسابيع والشهور، وأما الشمس فتدور الأرض حولها محاذيةً لها، فنقدّر بذلك الأيام والسنين. كما أن علم الحساب أيضًا ذو علاقة وثيقة جدًا بحركة الأجرام السماوية.

وبذكر “السنين والحساب” نبَّهَنا الله تعالى إلى أمر روحاني لطيف ذلك أن السنين تساعد على معرفة مقدار الجهود المبذولة، وأما الحساب فيساعد على معرفة النتائج. فكل عمل يُعرَف نجاحه وفشله بطريقتين: كم بُذل فيه من جهود، وما هي النتيجة، وبدون هذين الأمرين لا يمكن معرفة نجاح أو فشل الناس في أعمالهم. فهناك مثلاً شخص ينسج ثوبًا في سنة، بينما ينسجه غيره في ساعتين فقط. ومعنى ذلك أن الأول لا يمكن أن يبلغ شأوَ الثاني. فثبت أن نجاح أحد أو فشله في العمل إنما يُعرف بالنظر إلى ما يوجد بين الجهود والنتائج من نسبة. وكلٌ من الأمرين ذو علاقة وثيقة بالشمس والقمر كما مرّ آنفًا. وكما أن هذين الجرمين الماديين يساعدان على علم السنين والحساب في العالم المادي، فكذلك هناك شموس وأقمار تمكّننا من معرفة السنوات والحسابات الروحانية. بمعنى أنه عن طريق هؤلاء يتولد لدى الناس شعور بالجهود والنتائج ويدركون قيمة الوقت فيما يتعلق بالأمور الروحانية. والحق أنه بدون الأنبياء عليهم السلام لا يمكن أبدا أن يتولد شعور حقيقي بالعالم الدِّيني، بل يبقى الناس في غفلة عن الروحانية ومقاييسها تماما، كما هو الوضع في العالم المادي حيث يستحيل على أهله الشعور بقيمة الوقت ومعرفة مقاديره دون الشمس والقمر. انظروا إلى حال منظفي المراحيض· أو غيرهم من الطبقات الدّنيا كيف انمحى في نفوسهم الإحساس بغاية الخلق الإنساني كلية. يعيشون هكذا أراذل منذ آلاف السنين. ليس لديهم أي إحساس بالرقي المادي، ناهيك عن الإحساس بالرقي الروحاني. فإذا قيل لهم: لماذا تعيشون؟ قالوا: هذا هو قدرنا. وكأنهم يعيشون تحت تأثير ليلة مظلمة لا نهاية لها غافلين نائمين.

فالحق أن الأنبياء هم بمثابة الشموس والأقمار للدنيا. يكشفون لأهلها عما يكمن في الفطرة الإنسانية من قدرات وكفاءات هائلة للرقي والتطور. وعلى أيديهم يتلقى الناس علوم العالم الروحاني ويقفون على درجات الرقي الروحاني، فيبذلون الجهود لنيلها ويجنون الثمار. أما بدونهم فلا يقدر أهل الدنيا على تحقيق أي رقي روحاني أبدا.

وقوله تعالى إلا بالحق يعني أنه لم يخلق السماوات والأرض عبثا دون غاية. فلم يدفعه فضولٌ لخلق جرم تلو جرم دون جدوى أو غاية، وإنما خلق كل هذا لهدف عظيم. فلزم إذن وجود شمس روحانية كما أن هناك شمسًا ماديةً.

والمراد من قوله تعالى يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أنه يبين ويشرح آياته، ولكن لا يمكن أن ينتفع بها إلا الذين يعلمون هذا النظام ويعرفون منازل الشمس والقمر، لأن الذي يجهل هذه التغيرات والاختلافات كيف يتأتَّى له العلم بعدد السنين والحساب؟ فالقاعدة أن الإنسان لا يستطيع الانتفاع بشيء يجهله. كذلك لا يستفيد في العالم الروحاني أيضًا إلا الذي يحصّل العلوم الروحانية ويتدبر في حقيقتها.

 

في القارة الهندية هناك طبقة من الناس لا عمل لهم منذ آلاف السنين إلا تنظيف مراحيض الناس. (الناشر)

Share via
تابعونا على الفايس بوك