تجار الدين يحاكمون أهل الله!

تجار الدين يحاكمون أهل الله!

فيض رسول

منذ أن وقف إبليس متجبرا أعلن قائلا: “لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ”.. وهو دائب على تنفيذ كلمته. ويتكرر أسلوبه عبر العصور، كلما بعث الله رسولا، أو أقام مصلحا تصدّت له ذرية إبليس، عملا بوصية أبيهم. وذرية إبليس هم أولئك الذين يلبسون مسوح الكهنوت، ويرتزقون من تجارة الدين، يحتمون خلف سلاطين الجور، ويختفون تحت ستار المناصب الدينية. وهم كسلفهم جرأة، بل وقاحة.. يتهجمون على رجال الله ويرمونهم بالكفر، والإرتداد، والمروق، والخروج، والتجديف، والزندقة، والإلحاد، والتعطيل، والإبتداع، والفسوق، والعصيان، والهرطقة.. وبكل ما يفرزه عقولهم الشريرة من اتهامات .. يخدعون بها العامة، ويعرقلون بها مهمة رجال الدين (الربانيين).إبليس الرجيم.. يفاخر آدم عليه السلام ويزعم أنه خير منه.!

أبو لهب الذميم.. يسب محمدًا ويرميه بالكذب! شرار الخلق في كل زمان يقذفون الأبرار الأطهار. هذا هو أسلوب أبليس وذريته منذ خلق الإنسان وإلى يومنا هذا.. أو على حد التعبير القرآني: “أَتَوَاصَوْا بِهِ” وكأنه صار قانونا لتمييز رجال الله المصلحين.. أن ينالوا قسطا كبيرًا من الإتهامات والأكاذيب والأباطيل.. من يد الملأ الذين استكبروا.. حكاما وكهنة.

وفي كتاب “الفطرة السليمة عن الأحمدية” للكاتب فيض رسول (رحمه الله)، يطرق هذا الموضوع.  وقد اقتبسنا لكم صفحات منه، تعرض أفعال بني إبليس مع أولياء الله منذ القرن الهجري الأول وحتى القرن الهجري الثالث عشر، ويتبين منها السنة الإبليسية الكهنوتية في محاربة رجال الله. “التقوى” عندما أوشك أعداء الإسلام على اغتيال الخليفة الراشد الثالث.. ذي النورين، والمبشَّر بالجنة.. سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه قال لقتَلته: “لو قتلتموني اليوم، فتذكروا ان المسلمين لن يتّحدوا بعدها في صلاتهم ولا في جهادهم ضد أعدائهم حتى آخر الأيام”.

ولا تزال هذه اللعنة تصاحبنا، فقد كثرت الطوائف التي يكفِّر بعضها بعضا، ويُسَاءُ الحال قرنا بعد قرن.. بما تطلّب ظهور المجددين أو المصلحين، ثم المهدي والمسيح الموعود .

القرن الأول الهجري

كانت هناك فئة كهنوتية في طور النشوء، ولها أتباع خاضعون لفكره، اتهمت هذه الطائفة الخليفة الثالث عثمان، والخليفة الرابع علي، والإمام الحسين بن علي.. رضي الله عنهم أجمعين.. اتهمتهم بالكفر والردة، ثم عملت على اغتيالهم.

القرن الثاني الهجري

وصموا الجُنَيْد، ومحمد الفقيه، والإمام مالك بن أنس، والإمام الشافعي.. بالكفر والإرتداد.. وكلهم رجال من أهل التُّقى والورع والعلم.

الإمام أبو حنيفة مؤسس مدرسة الفقه الحنفي، التي يقوم عليها إلى اليوم المذهب الحنفي، وهو أحد المذاهب الإسلامية السنية الكبرى.. رموا هذا الإمام بالكفر والإرتداد، فاعتقلوه، وحبسوه، وعذبوه، وسمّموه، ومات في سجوده بالسجن. وحفروا قبره فيا بعد، ونبشوا جثته، وأحرقوها، ودفنوا كلبًا في قبره، وجعلوه مرحاضا في بغداد. أعلن الكهنوت الجاهل أن كل الأحناف كفار خارجون عن ملّة الإسلام. ولما كان الحال هكذا، فإن الغالبية الكبرى من المسلمين غير العرب، بما فيهم علماؤنا المبدعون!: أبو الأعلى المودودي، والسير محمد إقبال، وأبو الحسن علي الندوي والأحناف.. كلهم كفار، وفقا لقول أسلافهم الروحيين، وإخوانهم العلماء في القرن الهجري الثاني.. ولما كان هذا غير ممكن، ثبت عليه الإتهام وأُدين بالفسوق.

القرن الثالث الهجري

الإمام البخاري.. صاحب صحيح البخاري، أصح كتاب بعد القرآن كريم.. رموه أيضا بالكفر، وشهد على ذلك ثلاثة آلاف من (العلماء) الجهلة. ونفوه من بخارى إلى خارتانج، وهناك أيضا لم يَدَعُون في سلام، وفي كَرَبِهِ الشديد.. دعا الله تعالى.. فأراحه بالموت العاجل.

عالِمٌ عظيم آخر.. الإمام أحمد بن حنبل، سجنوه، وقيدوه في السلاسل الثقيلة، وأكرهوه على المسير في الأصفاد من طرسوس إلى بغداد، وتحت لفح الشمس المحرقة ضربوه بالسياط وهو صائم في رمضان.. وفي العشر الأواخر من الشهر. كل هذه الوحشية والقساوة من اكهنوت.. لأنه أبى التسليم بأن القرآن مخلوق مسائر مخلوقات الله. ومازال يرفض هذا القول تحت كل ضربة سوط تقع على ظهره حتى سقط مغشيا عليه.

أما علماء الصوفية الثمانية: ذو النون، وسهل التستري، وأحمد بن يحي، وأبو سعيد الخزاز، وابن الحنان، وأبو العباس بن عطا، أبو المحسن النوري الإمام النسائي.. فقد التُّهموا وطُوِّقوا. واتهموا إما بالكفر أو الإرتداد أو الفسوق أو الإلحاد أو ما شابه ذلك من التهم. ثم حبسوهم وصفّدوهم وعذّبوهم، ونصحوا الملك بإعدامهم حتى لا يُشيعوا الكفر في الأرض.

وعندما أوقفوهم أمام السيف النطع.. بادر النوري قائلا: “أنا أومن بتضحية النفس وخدمة بني الإنسان. ألتمس من الملك أن يأمر بضرب عنقي أولًا.. كي ينال رفاقي لحظات أطول من هذه الدنيا…” عندئذ أوقف الملك تنفيذ الإعدام، وأمر القاضي أن يعيد النظر في قضاياهم ويرفع الأمر إليه. كان تقرير القاضي قي صالحهم، جاء فيه: “هؤلاء الحكماء الأجلاءهم أصدق إيمانا بتوحيد الله من أي أحد أعرفه”. فأطلق الملك سراحهم مع الكثير من الإعتذار والتشريف والعطايا.

القرن الرابع الهجري

كان منصور الحلّاج أشهر صوفية الوقت. وكان في نشوة تأملاته الرحانية يجد نفسه أحيانا مستغرقا في اللاهوت فيصيح: “أنا الحق”. ولما كان الحلّاج يعيش في عصر الإسلام الغريب التحجر، فإن الكهنوت، من علماء ومشائخ، لم يستطيعوا إدراك أغوار الإسلام العميق لدى المتصوفة، فانقضوا عليه، واعتقلوه، وسجنوه، وجلدوه، وقطعوا أطرافه!، ثم صلبوه. أما الذي أوقعه في هذه الشدائد فقوله:

أنا من أُحِبُّ ومَن أحِبُّ أنا نحن جسدٌ واحدٌ له روحان فإذا رأيتني فقد رأيتَهُ وإذا رأيتَهُ فأنتَ تَرَاني وقبل صلبه، وقف الحلّاج يصلي وقال: “هؤلاء عبيدك الذين اجتمعوا متعطشين لقتلي من أجل دينك وابتغاء مرضاتك.. فاغفر لهم يا ربي، وارحمهم.. لأنك لو كَشَفْتَ لهم ما كشفتَ لي، ما فعلوا ما هم فاعلون، ولو أنك سَتَرْتَ عني ما سَتَرْتَه عنهم ما قاسيتُ هذا البلاء. فتباركتَ فيما تفعَلُ، وتباركتَ فيما تشاءُ” (نقلا عن الإسلام، ص 146، ألفرد جويللوم، بليكان)..

وكذلك اتهم بالكفر والإنشقاق الخروج الإمام أبو الحسن الأشعري والإمام أبو بكر الشبلي والإمام أبو عثمان الغربي.. وكلهم من علماء الإسلام الكبار.

القرن الخامس الهجري

ولم يفلت الإمام الغزالي الشهير، فقد وصمه (العلماء) بأنه ملحد، مفكر حر، مرتدّ، كتبه مخالفة للسلف وغير إسلامية. أمروا بحرق كتبه، ونهوا المسلمين عن قراءتها. وأمروا بقطع أعناق مريديه إن ظهر له مريدون. وبعد قرون أصبحت كتبه أكثر الكتب رواجا في العالم الإسلامي والمسيحي.

قيل بأن أسرة الغزالي وجدت قطعة من الورق في ردائه الذي مات فيه، كتب عليها: “هذا لستُ أنا، إنه القفص الذي عِشْتُ فيه الطير، والآن، بعد أن حررنا مولاي فقد انطلقتُ طائرا”.

والإمام ابن حرم، العلّامة الكبير، تستند كتاباته وأدلته إلى القرآن الكريم والحديث النبوي، وبينت أخطاء من هم دونه من العلماء والشيوخ، فتألّبوا عليه حتى نُفي الإمام ليموت في أحراش (لا بالا) بأسبانيا.

القرن السادس الهجري

كان حضرة عبد القادر الجيلاني من علماء الشريعة الإسلامية المعروفين، وبعد ذلك صار سلطان الصوفية، وامتد نفوذه الروحي زهاء 800 عام وإلى وقتنا هذا. قذفه بالخروج والإرتداد عن الإسلام العلامة أبو الفرج عبد الرحمان الجوزي، وسانده فئتان من المؤيدين في أفعاله الشنيعة ضده.

وكان العلاقة ابن رشد قاضي أشبيلية وقرطبة، فيلسوفا وطبيبا ورياضيا، ومؤلفا لشروح “أرسطاليس” المشهورة، ومصنفا لكتب أخرى كثيرة ومتنوعة. وهو أحد أعاظم العرب الخمسة في كتاب البروفسور فيليب حتِّي (العرب في التاريخ). نجح علماء زمانه في أن يرموه بالهرطقة والخروج، وعزلوه من مركزه الرفيع، ونفوه، وأحرقوا كتبه. وإن كانوا لم يقتلوه.. لأنه كان متبعا للشريعة في حياته حق الإتباع. وفيما بعد استدعوه، وردوا اعتباره جزئيا.

والصوفي الأندلسي العظيم، ممحيي الدين ابن عربي، كان يدعو قائلا:

“اللهم أدخلني في محيط أحذيتك اللانهائي”. وهذه هي أول عبارة في كتاب (ما هي الصوفية) الذي كتبه مارتن لانجز في القرن الرابع عشر الهجري 1975 عن رجل عاش في القرن السادس الهجري. ذلك هو الصوفي الذي أعلن كهنوت عصره أنه كافر، فاسق، المرتد الأعظم.

وهنالك شيخ صوفي عظيم آخر هو شيخ الإشراق شهاب الدين السهروردي، سجنوه ثم خنقوه حتى الموت.

وهناك أيضا صوفيان مشهوران.. هما فريد الدين العطار وشهيب حسن المغربي، تعرضا للمضايقة والإزعاج على يد العلماء والمولويين المتعصبين.

القرن السابع الهجري

كان الشيخ أبو الحسن الشاذلي والشيخ عزيز بن عبد السلام من أقطاب الصوفية وكتابها المعروفين، ومع ذلك رُميا بالتجديف. ونظام الدين أولياء، سلطان الأولياء المشهورين في الهند، والمدفون في دلهي، شجبوه لسماعه الموسيقى. وأثناء محاكمته قدم لهم الدليل على أن النبي استمع إلى الموسيقى، ولكن ذلك لم يكن كافيا لدى المفتي الحنفي المذهب والذي أصر على دليل يثبت أن الإمام أبا حنيفة استمع إلى الموسيقى!

والإمام ابن تيمية، العالم الجليل، سُجن في مصر زمنا طويلا، وعذّبوه حتى مات في السجن. وقُبيل وفاته بساعات جاءه وزير دمشق يستسمحه لأنه كان أول من تهجّم عليه. فقال الإمام الموشك على الموت: إني أصفح عنك وعن كل من عارضني، لأنهم لم يعرفوا أني كنت على حق. وأصفح عن الملك الناصر الذي أمر بسجني لأن مستشاريه لم يعرفوا الحقيقة.

وكان شمس التبريزي وليا كريما في عصره، وكان معلما لعدد ممن صاروا بعد ذلك أولياء. سلخوا جلده حيًا لأنه قال بأن التغني بالتسابيح حلال. وجلال الدين الرومي، الدرويش ذو الشهرة الواسعة، مؤسس الطريقة المولوية وصاحب “المثنوي” المعروف (فن شعري في الأدب الفارسي)، كفّروه وكلَّ الذين اتّبعوه.

القرن الثامن الهجري

كان هراطقة هذا القرن شخصيتان هاماتان. أحدهما الإمام ابن القيم الذي لم يسوِّ بين زيارة قبر إبراهيم عليه السلام في جبرون وزيارة الكعبة في مكة وزيارة المسجد النبوي وقبره في المدينة، فسجنوه، وحرقوه، عذبوه. وثانيهما الصوفي تاج الدين السبكي الذي هاجمه الكهنوت وأعنتوه.

القرن التاسع الهجري

اتهم بالهرطقة مولانا عبد الرحمان جامي، الولي المعروف. ولسيد الجنبوري مؤسس الصوفية المهدوية، رموه بالكفر، لأنه ادعى بأنه مهدي الوقت. وكان الشيخ علائي قائد الحركة المهدية في البنغال، وأعلن العلماء وجوب عقابه وضرب عنقه.

القرن العاشر الهجري

استشهد مولانا أحمد البيهاري في دلهي، وهو الحكيم الجليل.. بتهمة الكتابات التجديفية. كما أن الصوفي بايزيد البسطامي ذهب إلى بشاور ليدعو إلى أفكاره، فقذفوه بالخروج والفسوق.

القرن الحادي عشر

كان الحكيم علي ثاني مجدد هذا القرن. وكانت مهمته بالطبع أن يقيم الاعوجاج الذي زحف إلى الدين خلال القرن. وقاده هذا إلى الصراع مع الكهنوت، فاتهموه بالهرطقة أمام المحكمة الأإمبراطورية بدلهي. ولقد نجا من العقوبة ولكنهم أبقوه في السجن. أما الصوفي الأرمني سرمد، الذي دخل الإسلام، وذهب إلى الهند، فقد أوقعته غرابة مسلكه في المتاعب مع العلماء والمولويين، وحكموا بضرب عنقه. ولما تقدم نحوه الجلاد شاهرًا سيفه، وكان ذلك أمام المسجد الجامع في دلهي، قرأ هذه الأبيات من شعره:

أيقظتنا ضجة من سبات العدم..

ففتحنا العيون

وإذا بليل المحن لم ينجل بعد، فعُدنا إلى النوم.

وكان محمد بن ابراهيم من رجال التفسير الفرس، وكانت كتاباته واضحة سهلة يفهمها الجميع، ولكن المولويين المتعصبين والعلماء الجهلة يريدون التفسير الديني في غلالة من الضباب وأدى هذا الخلاف في الرأي إلى أن يرموه بالكفر.

القرن الثاني عشر الهجري

كان مولانا معصوم علي شاه مير صوفيا من “دكا” بجنوب الهند، حيث وقع في مشادات دينية مع طبقة الكهنوت الذين أقنعوا الملك علي مراد خان أن هذا الصوفي فاسق وخائن للملة. وهكذا اغتيل الرجل، وقطعوا من أتباعه الآذان والأنوف، وحلقوا لهم اللحى.

وكان شاه ولي الله الدهلوي مجدد القرن، مترجم القرآن الكريم إلى اللغة الفارسية التي كانت لغة الهند الرسمية وقتئذ. أغضب هذا التصرف وجال الكهنوت، لأنه لم يجرؤ مسلم قط على ترجمة كلمة الله من العربية إلى أي لغة أخرى. وتآمروا على قتل المترجم، واستأجروا جماعة من الأشرار ليحيطوا به عند خروجه من المسجد بعد صلاة العصر، ولكنه نجا بأعجوبة إذ لم تتمكن العصابة من إيذائه، خرج سليما. ثم خمدت المعارضة ضده بالتدريج. وعالم الإسلام اليوم ينظر باحترام كبير إلى العالم الجليل ولي الله شاه.

أما مرزا مظهر خان جانان فقد كان شاعرًا صوفيا عظيما ومحبا للأدب. أُطلق عليه النار وقُتل. واعتبر ذلك من فعل المولويين المتعصبين… أما الشيخ محمد بن عبد الوهاب النجدي العربي من جزيرة العرب، والمصلح الإسلامي في عصره وموطنه، ومؤسس الحركة الوهابية، فقد قذفه المفتي وإمام الحرم المكي بالهرطقة. واليوم نجد العرب في المملكة العربية السعودية، بما فيهم الأسرة المالكة، من الوهابيين.

القرن الثالث عشر الهجري

المولوي عبد الله الغزنوي عالم إسلامي راسخ، وقع في المتاعب مع أشباه المتعلمين من شيوخ البلاط الأفغاني، فأخرجوه إلى المنفى في زمن أحد الأمراء. ولما عاد إلى موطنه في زمن الأمير التالي أذلوه وسجنوه حتى مات.

ومولانا محمد قاسم النانوتوي، تلميذ الشاه عبد الغني الدهلوي، مؤسس معهد ديوبند الشهير بالهند للدراسات الإسلامية. وكان مولانا قاسم قائدًا إسلاميا محبوبا، ومناظرًا شديد المراس أمام قادة الديانات الأخرى. أفتى بردّته وكفره اثنا عشر عالما من مكة واثنان وثلاثون من المدينة لقوله بأن بعث نبي جديد تابع للنبي محمد لا يبطل مقام النبي الأكرم بوصفه خاتم النبيين.

Share via
تابعونا على الفايس بوك