قوة الخير

لا شك أن القوة شيء محمود، ولكن لا بد أن تُستعمل في الحق والدفاع عنه، وفي نصرة المظلوم ورفع المشاق عنه. ولا يتحقق هذا إلا إذا صاحبَ تلك القوة تقدّم روحي ونفسي وإنساني وأخلاقي بصورة شاملة حتى يشمل التقدم الإيماني.

أما إذا فقدت الإنسانية تعادل القوة والأخلاق والتوازن الإيماني والنفسي، وافتقرت إلى الرحمة والشعور والضمير، فإن القوة تصير أداة تدمير وشر بلاء وإهلاك. فالكبريرت يعطيك نارا، والخيار بيدك فإما أن تحرق بها بيتًا على سكانه، أو تطبخ بها طعامًا، أو تدفيء بها أجسادًا. وكذلك كل وسائل القوة لا تخرج عن هذه القاعدة. فالطائرة تستطيع أن تسافر بها إلى أنحاء المعمورة، وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس، وممكن أن تستعملها في إلقاء القنابل ورمي الصواريخ لإهلاك الحرث والنسل. فهذه المصنوعات لا ذنب لها، فإنها خاضعة لإرادة الإنسان وعقليته وأخلاقه، وهي في نفسها ليست خيرًا ولا شرًا بل كثيرًا ما تكون خيرًا فيحوِّلها الإنسان إلى شر بسوء استعماله إياها لتحقيق مآربه الشريرة الفاسدة.

قد ترتقي العقول وتبلغ درجات سامية في العلم والفهم والإختراع وبالتالي يرتفع الإنسان ثقافة ومجتمعًا ونهضةً، وتعلوا الأمم حضارة وصناعة ورفاهية، ثم يُقضى عليها، ويُحكم على تقدمها وحضارتها، وتقدمها الثقافي والتكنولوجي والعلمي بالزوال أو الإنحدار، لفسادها النفسي والروحي والخُلقي، ويتكرر ذلك في دورات التاريخ المختلفة وتجري عليها سنة الله وتُلعن من جراء فسادها.

إن العلوم الطبيعية قد منحت الإنسان القوة الجديرة لتحريك عجلة الرقي العلمي والتكنولوجي ولكنه يستعملها بعقل الاطفال والوحوش. فالفتوحات العلمية المدهشة تواجه تعاوتا مخجلا من طرف طفولتنا الإجتماعية حيث تواجه الإنسان في كل منعطف ومنعرج. فالواحد منا يستطيع أن يحادث زميله أو أحدًا من أفراد عائلته متواجدًا وراء القارات والبحار، ونرسم الصور بأشعة الليزر على جدران المباني الشامخة ونفعل أمورا شتى كانت منذ عهد قريب في مجال الخيال والخرافة. فإننا بالرغم من هذا التقدم لا نستطيع أن نتعرف على جيراننا الفقراء ونجالسهم ونبني روابط الصداقة والمحبة معهم.

لقد فرش الإنسان الشوارع بالمطاط، وأضفى على الصور حركة كي تُرَّفِه على أطفاله ويملأ طوفان الترف منزله وحياته اليومية. ولكنه لا يستطيع أن يرسم ابتسامة على شفاه المحتاجين أو يدخل السعادة على القلوب المحرومين.

إننا نرفع من وراء منبر “التقوى” دعوة صادقة لأبناء أمة المصطفى صلى الله عليه وسلم لتدبر هذا الطرح الذي يُعين المسلمَ البعيد عن العقل التّقليدي على تبيُّن ملامح الروح الإسلامية الحقيقية التي تحلم بها الساحة الفكرية والعقائدية.

ورغم أن الخزائن امتلأت بالمال، وفاضت البنوك بالعملات الهذهبية، وكثر المنتوج حتى رُمي في البحار، إلا أن الشعوب والأفراد تُركت تتضور جوعًا، بل يهلكون من قلة الطعام. بُذرت الفتن بين الشعوب لكي تُجنى أرباح من بيع الأسحلة، ويُسلب أمن الشعوب، وتُمتص عروقهم ودماؤهم.

لما فَقَدَ أصحاب هذه الحضارة الرغبة في الخير والصلاح، وضيعوا الأصول ولمبادئ الصحيحة، وزاغت قلوبهم وانحرفت، واعتلت أذواقهم، وازدهرت العلوم والمخترعات وأدت بهم إلى الكبر والضرر، فلم تزد تلك الإختراعات أصحابَها إلا جشعًا وسرعة في الإهلاك والإستهلاك، وزيادة في الإستعباد، وقهرًا للضعفاء. إن بذرة الحضارة الحديثة قد فسدت وخبثت طينتها وطبيعتها، ولم تصلح شجرتها ولم تطب ثمارها:

“وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ۖ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا” (الأعراف: 59).

لقد غرست الحضارة الغربية في تربة لم يكن عندها نبع عذب ولا رسالة هادية، ولا حكمة إلهية راشدة.. بل بنت أسسها على خرافات دينية وتعاويذ الكهنة وضلالات الرهبان. فنبذ أهاليها لباس التقوى ومبادئها وارتدوا ملابس الإلحاد والمادية. وضاق نظرهم حتى أنهم فهموا أسرار الكون من زاوية أسس واهية واكتفوا بالمشاهدات والمحسوسات، وتغافلوا عن نواميس الفطرة وقوانين الخالق، وانصرفوا عن عبادة الله إلى عبادة المادة والنفس والهوى:

“أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ” (الجاثية: 23)

ومما لا شك فيه أن التاريخ سيعيد نفسه:

“إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ” (الفجر: 8-14).

فإن العصر الذي لا يساند فيه التقدم الأخلاقي والروحي التقدمَ العلمي والتكنولوجي يصبح بؤرة الفساد من أقصى الأرض إلى أقصاها وبالتالي سيصّب عليه سوط عذال.

فكان على أبناء الأمة أن يقوموا برسالتهم في العصر الحديث ليجد العالم الدواء الشافي، ولاصراط الهادي، ولكن أنى لهم ذلك، وقد بعدوا عن الرسالة، وخلف بعدهم خلفًا أضاعوا الصلوات واتبعوا الشهوات، وعاشوا في اجواء غير إسلامية، واصطبغوا بعادات وأعمال كرهت الأمم فيهم، وضاع منهم العزم، وهرب منهم العقل. وكثرت روابطهم وجمعياتهم وما زادهم تفوقهم العَددي إلا فُرقة. وأصبحوا يحملون من الهموم والمآسي ما تسأم منه الجبال.

فعليكم يا أبناء أمة المصطفى أن تتخلصوا من رواسب عقولكم التي حسبتموها إيمانا، وافسحوا المجال للعقول كي تُظهر إبداعها كتى يُقبلَ الحق عن بيِّنة، ويختار من يختار عن قناعة. كما يجب فتح القلوب والآفاق.. فتح هداية لا فتح قتال في زمن البحث عن الذات، وعن إنسانية الإنسان، فهل أنتم فاعلون ذلك؟ وهل سيقدر عليه دعاتكم؟

إننا نرفع من وراء منبر “التقوى” دعوة صادقة لأبناء أمة المصطفى صلى الله عليه وسلم لتدبر هذا الطرح الذي يُعين المسلمَ البعيد عن العقل التّقليدي على تبيُّن ملامح الروح الإسلامية الحقيقية التي تحلم بها الساحة الفكرية والعقائدية.

فَلبُّوا نداء من اختاره الله عز وجل خادما لسنة خير الأنام لهذا العصر كي لا تكونوا من الحالمين المتشبثين بأمجاد صنعها الأجداد.

Share via
تابعونا على الفايس بوك