الغرض من سَرد القرآن الكريم أحوال الأمـم السابقة
  • العقاب نتيجة منطقية للعمل.
  • ذكر أهوال عذاب الأمم السابقة للردع والموعظة.
  • معنى الأجل، وحالة الأنفس عند الحساب

__

وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آَلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (هود: 102 )

شرح الكلمات:

تتبيب: تبَّبَه: أهلكه (الأقرب).

التفسـير:

يؤكد القرآن الكريم مرة بعد أخرى أننا لم نُعاقب أية أمة إلا بسبب أعمالها، وليس ظلمًا وإجحافًا منا. والسبب لهذا التأكيد المتكرر من القرآن الكريم هو أن الله تعالى يعلم منذ الأزل أنه سيأتي على الناس زمان يقوم فيه بعض المتكلّفين رياءً بالدفاع عن تلك الأمم البائدة مدعين بأن الله تعالى قد ظلمهم وأغلظ عليهم العقاب، مع أنهم لم يرتكبوا ما ارتكبوه من أخطاءٍ إلا نتيجة قضاء الله وقدره! ولذلك نجد الله تعالى لم يتحدث في القرآن عن عقاب قومٍ إلا ونفى الظلم عنه، وهكذا أنكر ورفض وجود أي قضاء وقدر له من هذا القبيل، بأن يرفع سبحانه قومًا دونما استحقاق ويضع آخرين دون أيّ علّةٍ أو سبب.

كما أن كلمات القرآن هذه تشير إلى أن عقاب كل أمة يكون ملائمًا لحالتهم ونتيجةً منطقية لأعمالهم.

وأشار بقوله فما أغنتْ عنهم آلهتهم إلى أن كل ما في الكون من ماءٍ أو هواءٍ أو نارٍ فإنه ينفعهم، ولكن آلهتهم لا تملك لهم أي نفع. فمثلاً أيُّ شك في أن سيوف الكفار قد نفعتهم في حربهم ضد المسلمين حيث تسببت في استشهاد بعض أصحاب النبي ، ولكن متى نفعتهم آلهتهم بصورة عملية كهذه؟ فما أشدّهم غباءً حيث يتخذون ما لا يجلب لهم أي نفعٍ إلهًا.

وقوله تعالى لما جاء أمر ربك إشارة إلى أن زيف الآلهة الباطلة إنما ينكشف حينما يقضي الله بكشف بطلانها وبيان كونها مجرد أوهام لا تضر ولا تنفع، أما قبل ذلك فلا ينفكّ الناس يعزون إليها شتى المنافع والبركات، ولكن حين ينـزل القضاء من الله تعالى فلا يملكون حيالَهُ شيئًا، ويظهر بطلان شركهم للعيان.

وهنا يطرح سؤال نفسه: ما بال القرآن الكريم يعلن من جهة أن الآلهة الباطلة لا تملك نفعًا ولا ضرًّا، ومن جهةٍ أخرى يقول عنها وما زادوهم غيرَ تتبيب .. أي أن هذه الآلهة الباطلة زادتهم خسرانًا وهلاكًا؟

هنا يجب أن نعلم أن الضرر نوعان: خياري واضطراري. ومثال الضرر الخياري أن يُلحق أحد بصاحبه ضررًا عن قصدٍ وإرادة، ومثال الضرر الاضطراري أن يسقط السقف مثلاً على أحد ويهلكه، فلا دخل لأي إرادة من جهة السقف في هلاكه، إنما كان هذا نتيجةً طبيعيةً لسقوطه عليه.

وبعد فهم هذين النوعين من الضرر لا ينبغي أن يصعب على المرء إدراك مراد القرآن الكريم في هاتين العبارتين. فعندما ينفي القرآن الكريم أي ضرر من قبل الآلهة يعني به الضرر الخياري الذي يكون ناتجاً عن إرادة تلك الآلهة، وحينما يتحدث عمّا تلحقهم آلهتهم من ضرر فيقصد به الضرر الاضطراري الذي لا دخل لهذه الآلهة فيه. وأي شك في أن الآلهة الباطلة هي السبب الأكبر في إلحاق الضرر الاضطراري بالناس، لأن الإشراك بالله هو أكبر من أية جريمة أخرى (سورة لقمان: 14).

عندما أمر النبي عند فتح مكة بقتل بعضٍ من كبار المجرمين معلنًا أنه لا أمان لهم، أُهرع هؤلاء إلى الكعبة المشرفة وأمسكوا بغلافها لائذين بها، ظناً منهم أن آلهتهم التي وضعوها فيها سوف تحميهم، ولكنهم قُتلوا مع ذلك. (السيرة الحلبية، فتح مكة). ولو أنهم لم يفكروا هذا التفكير الخاطئ لربما لاذوا بالفرار ونجوا من القتل. وهكذا فإن قوله تعالى (فما زادوهم غير تتبيب) يعني أن فساد عقائد المشركين يؤدي إلى خلل وفسـاد في مكائـدهم أيضًا.

وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (هود: 103)

التفسـير:

لقد ذكر هنا الغرضَ من سَرد أحوال الأمم السابقة، وبيّن أنه إذا نزل العذاب بساحة قوم محا كل أثر لهم. فليحذر الذين يناصبون محمدًا العداء، فلا يسلكوا طريقًا يؤدي بهم إلى العذاب!

وكلمة (ظالمة) جاءت هنا بمعنى مشركة. فقد استخدم القرآن الكريم الظلم بمعنى الشرك في مواضع عديدة منه، كما أن هذا المعنى ثابت في أحاديث الرسول (البخاري، التفسير، الدخان)، والمراد من الآية أن العذاب الذي ينزل على قوم عند زوال التوحيد الحقيقي من بينهم يكون عذاباً مدمّرًا للغاية، أما الهلاك الذي ينزل بالأمم نتيجة العوامل الطبيعية فيحل بهم تدريجيًا ولا يكون شديداً مثل الأول.

إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً ِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآَخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (هود: 104)

التفسـير:

يمكن أن يتساءل هنا أحد: ما الفائدة من العذاب ما دام لا يعتبر بآية العذاب إلا الذي يخشى الآخرة من قبل، وأما الذي لا يخافها من قبل فلا يستفيد منها.

الجواب: يجب أن نتذكر جيداً أن كلمة (الآية) لا تعني هنا أن ذلك العذاب يكون دليلاً على عذاب الآخرة، وإنما جاءت (الآية) هنا بمعنى العبرة، وأيّ شك في أن العذاب الدنيوي إنما يكون عبرةً لمن يؤمن بوجود عذاب الآخرة. إذن فالآية تتحدث فقط عن المؤمنين بالآخرة وتقول: إن رؤية العذاب الدنيوي تذكّرهم بعذاب الآخرة، فيجدّون أكثر في السعي لكسب الدار الآخرة.

وقوله تعالى ذلك يومٌ مجموعٌ له الناس يعني أن ذلك اليوم في حد ذاته ضروري لتكميل روحانية الإنسان، فليس هو وسيلة لهدف آخر وإنما هو بنفسه مقصد وغاية. وهكذا بيّن أن جمع الخلق كلهم في يوم معين ليس بدون غاية، ولن يكون حادثاً اعتباطياً، بل سيتم بمشيئة إلهيةٍ ولهدف خاص هو كشف الحقائق كلها.

الحق أن القرآن الكريم يبيّن أن كل ما يصدر عن الإنسان من عمل فإنه لا يكون في الحقيقة عملاً خالصًا من لدنه وحده، بل تكون أعماله كلها متأثرة بعوامل كثيرة من قِبل الآباء والظروف السابقة لميلاده، أو مِن قِبل زملائه وأخلاقهم ومن قِبل الذين سيأتون بعده، ولا بد من النظر إلى هذه العوامل والتأثيرات كلها عند تقييم أي عمل من أعمال الإنسان.

فعلى سبيل المثال هناك شخص قد تعود على ارتكاب الجرائم، ولكن عادته هذه ناجمة عن خلل تكويني في مُخِّه وَرِثَـهُ عن أحد آبائه الأوائل الذي كان مجنونًا أو شبه مجنون. فلا نستطيع أن نقول بأنها جريمته فقط، بل لا بد أن نضع في الاعتبار الحالة العقلية لجدّه هذا، وإلا فسوف نكون مخطئين لا محالة في تقييم هذه الجريمة. وما دام الأمر كذلك فلا بد من يوم يُجمَع فيه الناس كافةً مع أعمالهم ليُنظر في الظروف التي ارتكبوها فيها، ذلك لكي يرى كل واحد منهم أعماله مع العلل والظروف التي تمّت فيها، فتنكشف له ولغيره حقيقة أعمالهم انكشافًا تامًا، فيدركون ويطمئنّون بأن التفاوت في جزاء الناس لا ظلم فيه ولا إجحاف، إنما هو عدل وقسط من الله تعالى الذي يردّ كل فعل يقترفه الإنسان إلى مسبباته الحقيقية والدوافع الإرادية وغير الإرادية التي تكمن وراءه.

وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (هود: 105).

شرح الكلمات:

لأجلٍ: لِلّام الجارّةِ اثنان وعشرون معنىً، والثامن منها موافقة (إلى) (أي أنها تكون بمعنى إلى) نحوُ: له أي إليه (الأقرب).

التفسـير:

الأجل نوعان: أجلٌ يمكن نقله من مكانه، حيث له دائرة محددة يمكن أن يتقدم أو يتأخر فيها دون أن يتجاوزها، ومثاله عمر الإنسان، فيمكن أن يطول أو ينقص في دائرة معينة ولكن يستحيل أن يتعداها. وهناك أجلٌ آخر لا يحيد عن مكانه، وهو أجل خاص بعمر الكون، فهو معدود محدّد، فعندما يحين موعد فنائه لا يمكن أن يحيد عنه قيدَ أنملةٍ، فلا يتقدم أو يتأخر ولا للحظة واحدة.

لقد ذكر هنا الغرضَ من سَرد أحوال الأمم السابقة، وبيّن أنه إذا نزل العذاب بساحة قوم محا كل أثر لهم. فليحذر الذين يناصبون محمدًا العداء، فلا يسلكوا طريقًا يؤدي بهم إلى العذاب!

يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (هود: 106)

التفسـير:

أي أن ذلك الوقت هو وقت قيام الحساب الإلهي وصدور حكم الله تعالى، فلن يتكلم عندئذ أحد إلا بإذن الله جلّ جلاله.

إعلم أنه لا يُسمح للناس في المحاكم الدنيوية بالكلام إلا بأمر من الموظف المجاز وذلك منعاً للضجيج الناتج عن كلام الناس المتداخل، ولكن ليس هذا هو السبب في امتناع الناس عن الكلام يوم القيامة، بل إنهم لن يتكلموا إطلاقاً إلا مَن أذِنَ الله له، لأن كل نفس سوف تعرف أن لا جدوى من تقديم المعاذير أمام عالم الغيب. غير أن الله تعالى سوف يتولى بنفسه الدفاع عن عباده برحمته الكاملة ويسمح لهم بتقديم ما عندهم مما يمكن أن ينفعهم أو ينفع غيرهم في تخفيف جرائمهم أو تعظيم حسناتهم.

أما قوله تعالى فمنهم شقي وسعيد فاعلم أن الشقي هو من ليس فيه ميل إلى الخير ولا يتأثر قلبه من دواعيه. والسعيد من يميل إلى الخير بطبعه دونما تكلف أو رياء. وفي ذلك اليوم سوف يُكرَم السعيد لصدق إيمانه وسوف يُخذل الشقيُّ ويُهان.

فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (هود: 107)

شرح الكلمات:

زفير: زفَرَ يزفر زَفرًا وزفيرًا: أخرجَ نفَسَه بعد مدِّه إياه؛ وزفرت النار: سُمع صوت لتوقُّدها. والزفير: الداهيةُ؛ أولُ صوت الحمار (الأقرب).

شهيـق: شهق الرجل يشهـق شهـيقًا: تردَّدَ البكاءُ في صـدره. وشهيقُ الحمـار: آخر صوته. (الأقرب).

التفسـير:

لقد شبّه القرآن هنا الكفار بالحمار. وقد ذكر أحدَ أسباب هذا التشبيه في موضعٍ آخر منه بأنه كما لا يمكن للحمار أن يصير عالمًا بحمل الكتب على ظهره، بل  يبقى حمارًا كما هو، كذلك حال المعرضين عن الحق، فإنهم رغم علومهم الظاهرة، يبقون محرومين تماماً من المعرفة والروحانية الحقيقيتين.

ثم إن الحمار مشهور بغبائه،كما أنه حيوان جبان وفق قوله تعالى كأنهم حُمُرٌ مستنفرةٌ فرَّت من قسْورةٍ (المدّثّر: 51 و52). وهذا هو حال الكفار أيضاً. والحق أننا لو أمعنّا النظر لأدركنا أن هذين الأمرين يمثّلان أكبر عائق في سبيل إيمان الناس. ذلك إما أنهم لا ينتفعون بما يقدّم إليهم من علوم ومعارف بسبب حمقهم وغبائهم أو أنهم لا يقبلون الحق وقد استيقنته أنفسهم خوفاً من الجبّارين من القوم. وفي كلتا الصورتين يؤكدون شبَهَهم بالحمار.

وقوله تعالى لهم فيها زفير وشهيق يؤكد أن هذه الأصوات سوف تصدر عمن يدخلون في الجحيم. فاتضح من ذلك أن الآيات التي يبدو منها أن الجحيم هي التي سوف تُحدث هذه الأصوات إنما معناها الحقيقي أن هذه الأصوات سوف تصدر نتيجة بكاء أهل النار وعويلـهم.

Share via
تابعونا على الفايس بوك