الهدف من عقاب الله.. الإصلاح لا الإنتقام.
  • إن بعض أهل الكتاب كانوا قد آمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم وقد قال القرآن الكريم ” بعض ” لأنهم كانوا يفرحون بما يتفق من القرآن مع عقائدهم ونظرياتهم ولكنهم كانوا ينكرون منه ما كان مخالفًا لعقائدهم.
  • وصف القرآن بكونه عربيا يعني أنه يحوي على مفاهيم واسعة.
  • قد رد الله تعالى على إعتراض الكفار حيث شدد القول بأننا لم نرسل الرسل من قبل إلا وكانوا لا يملكون الوسائل والأسباب لكنهم قد نجحوا في ذلك.
  • إن أكبر دليل على صدق النبي بأن يُرفض ويشكك به رغم كل البراهين التي تثبت صدقه

__

وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الأحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (الرعد: 37)

شرح الكلمـات:

الأحزابُ: جمعُ الحزبِ وهو: الطائفةُ؛ جماعةُ الناس؛ جُندُ الرجلِ وأصحابُه الذين على رأيه؛ النصيبُ؛ كلُّ قوم تشاكلت قلوبهم وأعمالهم فهم أحزاب وإن لم يلقَ بعضُهم بعضاً. (الأقرب)

التفسـير:

تؤكد هذه الآية على أن بعض أهل الكتاب كانوا قد آمنوا بالرسول خلال الفترة المكية أيضاً. وأرى أن قوله تعالى والذين آتيناهم الكتاب يفرحون إشارة إلى النجاشي ملك الحبشة وأصحابه الذين آمنوا عند هجرة بعض المسلمين إلى بلده. فحينما قرأ عليه سيدنا جعفر الطيّار  آيات من القرآن الكريم قال: هذا ما أؤمن به أنا أيضاً. وبما أن إيمانه لم يكن قد انكشف بعد تماماً، ولكنه كان هو وأصحابه يفرحون برؤية رقي المؤمنين الآخرين، لذا وصَفهم الله بقوله: (يفرحون بما أنزل إليك) ولم يقل بأنهم يؤمنون بهذا الكتاب.

وقد يكون قوله تعالى: الذين آتيناهم الكتاب إشارة إلى المسلمين أنفسهم حيث كانوا يفرحون بأنباء تبشّرهم بانتصار الإسلام وبعاقبتهم المحمودة.

أما قوله تعالى: ومن الأحزاب من يُنكر بعضَه فاعلم أن المراد من (الأحزاب) هو جميع الأمم التي يخاطبها النبي ولكنها لا تؤمن به. غير أن  المراد من الأحزاب هنا اليهود والنصارى والمشركون وغيرهم من الملل. وقد جاء الإنكار هنا بمعنى الرفض أو الاستغراب. وقد قال القرآن الكريم (بعض) لأنهم كانوا يفرحون بما يتفق من القرآن مع عقائدهم ونظرياتهم، ولكنهم كانوا ينكرون منه ما كان مخالفاً لعقائدهم وأفكارهم.

إن وصف القرآن بكونه (عربياً) لا يعني نزوله باللغة العربية فقط، إذ لا خصوصية للقرآن في ذلك لأن كل عربي يتحدث بها، إنما جاء هذا الوصف إشارة إلى ما تحتوي عليه كلمات القرآن من مفاهيم واسعة للغاية بحيث لا يقدر على الإتيان بها إلا الله جلّ شأنه، وأن أدنى تغيير فيها يَحُطُّ من عظمة القرآن وشأنه.

أما قوله تعالى: قل إنما أُمرتُ أن أعبد الله ولا أشرك به فقد وضّح به أن التوحيد هو خلاصة تعاليم كل نبي من الأنبياء السابقين، وهو المحور لتعاليمي أنا أيضاً، فكيف يمكن إذن أن أنحرف عن التوحيد؟

كما أن هذه الجملة تمثل ردّاً من النبي على مطالبة الكفار بإحداث تغيير في القرآن المشار إليها في قوله من ينكر بعضه ، حيث قال لهم: لستُ إلا مطيعاً للأوامر الإلهية، ولا أقول لكم إلا ما أؤمر به من الله تعالى. فلو غيَّرتُ القرآن من عند نفسي فكأنما ادعيتُ بكوني إلهاً. ولست لأفعل ذلك، لأنني مأمور أن أطيع الله وأعبده وحده.

ثم قال إليه أدعو أي أنني لم أزل أعلن منذ البداية أنني لست إلا داعياً إلى الله، فكيف يمكن إذن أن أغير القرآن إرضاءً لكم.

وبيّن بقوله وإليه مآبِ أنه لما كانت معاملتي ليست إلا مع الله تعالى، وما دام مصيري ليس إلا إليه جلّ وعلا، فكيف أتجاسر على مخالفة أوامره؟ فلا يهمني رضاكم أو سخطكم، فإيمانكم لن ينفع إلا أنفسكم ورفضكم لن يضرني شيئاً، فمن المستحيل أن أبدل كلام الله بغية رضاكم.

وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ الله مِنْ وَلِيٍّ وَلا وَاقٍ    (الرعد:38)

شرح الكلمـات:

عربيّاً: أعرَب الشيءَ: أبانه وأوضحهُ. أعربَ عن حاجته: أبان عنها. أعربَ كلامَه: حسَّنه وأفصَحَ ولم يلحَن في الإعراب. أعربَ بحجّته: أفصحَ بها (الأقرب) الإعرابُ: البيانُ (المفردات)  (راجع أيضاً شرح الكلمات للآية 4 من سورة يوسف).

أهواء: جمعُ هوىً. والهوى: إرادةُ النفس؛ ويُقالُ فلانٌ اتبعَ هواه.. إذا أُريدَ ذمُّه (الأقرب)

التفسـير:

إن وصف القرآن بكونه (عربياً) لا يعني نزوله باللغة العربية فقط، إذ لا خصوصية للقرآن في ذلك لأن كل عربي يتحدث بها، إنما جاء هذا الوصف إشارة إلى ما تحتوي عليه كلمات القرآن من مفاهيم واسعة للغاية بحيث لا يقدر على الإتيان بها إلا الله جلّ شأنه، وأن أدنى تغيير فيها يَحُطُّ من عظمة القرآن وشأنه.

يقال إنَّ أحد الأثرياء قال لأحد الأدباء أن يؤلف كتاباً ينافس به القرآن الكريم، فقال الأديب: هذا يتطلب راحة البال والوقت الكثير والبساتين الفيحاء الغنّاء، وقصراً به الخدم والمرافق كلها. فأمر له الثري بتوفير التسهيلات كلها، وضرب له مدة ستة أشهر بحسب رغبته. فبدأ يقضي الأيام في عيش هنِيّ وطعام شهيّ وزيّ جميل ونزهة ممتعة. وبعد انقضاء المدة المضروبة سأله الثري: أَرِني ماذا أعددت إلى الآن؟ فقدّم إليه كومة من الأوراق قائلاً: لم أجلس في هذه المدة عاطلاً، بل ما زلت عاكفاً على العمل بكل أمانة، وهذه الأوراق شهادة على صدق ما أقول. ولكني عاجز عن تأليف كتاب مثل القرآن لأنني كلما أمرّ بآية من آياته أجدها تبشر محمداً : سوف نهلك أعداءك وسنكتب الغلبة لأتباعك، فكيف أقطع في كتابي هذه الوعود لأحد، وكيف أفعل ذلك وأنا أعيش على ما تجود به أنت عليَّ. فلا تتوقع مني أن آتي بمثل القرآن.

هذا هو المراد من كون القرآن عربياً، إذ يحتوي على معان واسعة ومعارف سامية ونبوءات عظيمة تفوق قدرة البشر.

والخطاب في قوله تعالى ولئن اتبعتَ أهواءهم… قد يكون موجهاً إلى كل إنسان، أو إلى الرسول . وإذا كان الخطاب موجّهاً إليه فقد جاء الله به تأكيداً لعظمته وجبروته جلّ وعلا. والمراد أنك لست بشيء في حد ذاتك، بل إنك كالناي الذي يُطلق ألحاناً جميلة لأن ملك السماء والأرض ينفخ فيه، ولو أنه ترك النفخ فيه عاد إلى سيرته الأصلية وصار قطعة خشب لا غير.

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ   (الرعد: 39)

شرح الكلمات:

إِذْن: الإذنُ: الإجازةُ؛ الإرادةُ؛ العلمُ (الأقرب)

أجَل: الأجلُ: مدةُ الشيء والوقتُ الذي يحلُّ فيه (الأقرب)

كتاب: الكتابُ: الحكمُ؛ الفرضُ؛ القدرُ (الأقرب)

التفسـير:

هذه الآية تعيد نفس الموضوع الذي نوقش في بضع آيات سابقة (من الآية 33الى37)، وهو أننا قد بعثنا الرسول في نفس الظروف التي بعثنا فيها الرسل من قبل. لقد كان الكفار يعترضون على النبي بقولهم: كيف يمكن أن يُبعث هذا رسولاً وهو قليل الحيلة وعديم الوسائل؟ فردّ الله عليهم:بأننا لم نرسل الرسل من قبل إلا وكانوا لا يملكون الوسائل والأسباب، كما كانوا معرَّضين لكل ما يحتاج إليه الإنسان من ضروريات وحاجات من أهل وأولاد، وكانوا يكدحون للإنفاق عليهم ويسهرون على رعايتهم، ولكنهم رغم لزوم الحاجات البشرية وفقدان أسباب الانتصار نجحوا في أهدافهم.

وقد ذكر زوجاتهم وأولادهم خاصةً لأن الذي ليس عنده زوجة وأولاد يمكن أن يستعد للتضحية بالحياة بشجاعة أكبر، ولكن صاحب الأهل سيتردد كثيراً في التضحية بالحياة ويعمل ألف حساب قبل الإقدام عليها. وكأن العقبات التي يواجهها الأنبياء في سبيل الله تعالى تكون مضاعفة، إذ يكونون عديمي الحيلة قليلي الأسباب، ومعهم الأهل والأولاد الذين يمثلون عائقاً آخر في سبيلهم، ومع ذلك ينجحون في أهدافهم. كذلك سيحدث الآن أيضاً وسيكون النجاح حليف محمد .

أما قوله تعالى: وما كان لرسولٍ أن يأتي بآية إلا بإذن الله فقد وضّح به أننا نحن الذين كتبنا لهم الغلبة وأظهرنا هذه الآية العظيمة تصديقاً لهم، ولكن هذا لا يعني أننا أظهرنا لهم الآيات بحسب رغبة المعارضين، كلا بل أريناهم من الآيات ما وجدناه ملائماً ومناسباً. مع العلم أن القرآن الكريم كلما ذكر مطالبة الكفار بالآية عنى به العذاب دائماً، إلا أن تكون هناك قرينة صارفة عن هذا المعنى. وهنا أيضاً جاءت الآية بمعنى العذاب.

هنا سؤال يطرح نفسه: إذا كان الله تعالى يبعث الرسل لإصلاح الناس فلماذا  لا يفوّض إليهم أمرَ عقاب العُصاة أيضاً، حتى لا يتجاسروا على معارضة الحق، شأن الحكومات التي تمنح موظفيها السلطة لإنزال العقاب بالمجرمين إلى حدٍ ما. فقال الله رداً على هذا السؤال: (لكل أجلٍ كتابٌ) .. أي أن الله تعالى لا يرتب الجزاء على الأعمال الإنسانية فحسب، بل أيضاً يراعي ما هو الجزاء المناسب في وقت معين، لصاحب العمل ولغيره. ولو أنه فوَّض أمر العقاب إلى الأنبياء -وهم لا يعرفون الغيب- فقد يخطئون في إنزال العقوبة بالناس فور مطالبتهم بالعذاب، وهكذا يبطلون الحكمة من وراء بعثتهم.

هذا هو الفرق بين الحكومات الدنيوية وحكومة السماء. فالحكام الدنيويون يحددون عقوبة جريمة من الجرائم وينفذونها، ولكن الله لا يحدد عقوبة الجريمة فحسب، بل ويختار العقوبة المناسبة لكل موقف معين لأن إنزال العقوبة المناسبة في الموعد المناسب يلعب دوراً هاماً في تأثيرها ونتائجها. فالقرار الأفضل الذي لا عيب فيه هو أن لا تحدّد عقوبة جريمة ما فحسب، بل يجب أيضاً أن يحدَّد العقاب وموعد تنفيذه بحكمة.

لقد أخطأ المفسرون في فهم هذه الآية وقالوا بأن فيها تقديماً وتأخيراً، والتقدير عندهم هو: “لكل كتاب أجلٌ”. والحق أنه لا حاجة بنا لأي تقديم أو تأخير، وإنما الترتيب الصحيح هو كما ذكره القرآن بنفسه، والمعنى أن عند الله قراراً خاصاً لكل موعد ووقت. وهكذا بيّن معنىً لطيفاً جديداً ذكرتُه فيما سبق، وهو أن الله تعالى لا يمنح الأنبياء خيار العقاب لأنهم لا يعلمون الغيب، ولايعرفون ما هو القرار المناسب في الموعد المعيّن، هل يكون العفو أم يكون العقاب أم أنَّ تأخير العقاب هو الأنسب. والآية المقبلة تؤكد هذا المعنى.

يَمْحُوا الله مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ   (الرعد: 40)

شرح الكلمـات:

يمحو: محا الشيءُ: زال وذهب أثرُه. محا فلانٌ الشيءَ: أزاله وأذهب أثره (الأقرب).

يُثبت: أَثبَتَهُ: عرفه حق المعرفة؛ حبَسَه وجعله ثابتاً في مكانه لا يفارقه. أثبت الحقَّ: أكَّده. أثبت اسمه في الديوان: كتبه (الأقرب).

أمُّ: الأم: الوالدة. وأمُّ الشيء: أصلُهُ. أمُّ الطريق: معظمه (الأقرب).

التفسـير:

إن الله لا يعذب قوماً قبل حلول الموعد المناسب فحسب، بل قد يلغي العذاب لحكمة وإن حل موعده. إذ بيّن هنا نوعين من سنته عن العذاب: أولهما: يمحوا الله ما يشاء أي أن من أنباء العذاب ما يمحوه الله نهائياً، وثانيهما: (ويُثبت) أي أنه يُبقي نبأ الوعيد كما هو. ولكنه لا يعذِّب قوماً دونما ذنب، كما لا يزيد عما استوجبوه، وإن كان من الممكن أن يعذبهم أقل مما استوجبوه.

وعلى كل من أراد التخلق بأخلاق الله أن يضع هذا القانون في الحسبان دائماً. فالذين يريدون أن يسحقوا العدو عند الغضب، أو لا يريدون أن يعفوا عمن أساء إليهم.. فليعلموا أن سلوكهم منافٍ للصفات الإلهية، ولا يمكن أن يسمَّوا مسلمين صادقين.

هذا هو المراد من كون القرآن عربياً، إذ يحتوي على معان واسعة ومعارف سامية ونبوءات عظيمة تفوق قدرة البشر.

أما قوله تعالى وعنده أُم الكتب فاعلم أن أُم الشيء يعني أصله وحقيقته. ونظراً إلى هذا المعنى فيمكن أن تفسَّر الجملة كالآتي:

الأول: إن الله تعالى هو الأعلم بحكمة الأحكام الشرعية، لذا لا يمكن أن يهتدي الناس إلى الطريق السليم إلا بهديه. ذلك أن الإنسان خاضع لأهوائه النفسية وأطماعه الشخصية، لدرجة أنه لا يستطيع أبداً أن يتسامى عنها حتى يهتم بحاجات العالم كله. فلذا كل ما يقترحه من تعاليم وأحكام لا بدَّ أن تكون مشوبة بشوائب أهوائه وأطماعه. ولكن الله عالم بحاجات العالم كله، كما أنه عليم بما يخفيه المستقبل، لذلك فإن أحكامه كاملة وهدايته صحيحة سليمة من النقائص.

والمعنى الثاني هو أن جميع أحكام الشرع تدور حول صفات الله تعالى لأنها نابعة من هذه الصفات الإلهية، وهكذا يُصبح أصل الشريعة عند الله تعالى. وقد أشار بهذا إشارةً لطيفةً إلى أنه ليس بمقدور أحد أن يتحلى بالأخلاق العالية الفاضلة الحقيقية ما لم يكن سلوكه تابعاً للصفات الإلهية بشكل كامل. فمن أراد تقييم الأخلاق -خيرها وشرها- على ضوء الأعمال الإنسانية فقط فقد أخطأ. لأن الخير في الواقع ما يكون موافقاً للصفات الإلهية، والشر هو ما يكون مخالفاً لها. وهذا التعريف للأعمال يحل المشاكل التي يواجهها الفلاسفة في تعريف الخير والشر.

والمعنى الثالث هو أنه ما دام الله تعالى هو العليم بحكمة الشرع فيجب أن يكون خيار العقوبة أيضاً في يده هو سبحانه وتعالى. إذ نجد أن البعض يعادون الحق في البداية عداءً شديداً، ولكنهم يقبلونه فيما بعد. ومثال ذلك في تاريخ الإسلام هو عكرمة بن أبي جهل وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص رضوان الله عليهم. فالله وحده كان يعلم أن هؤلاء يستحقون النجاة من العذاب، رغم عدائهم، وأنهم سيوفَّقون في يوم من الأيام لخدمات جليلة للإسلام.

الله تعالى لا يمنح الأنبياء خيار العقاب لأنهم لا يعلمون الغيب، ولايعرفون ما هو القرار المناسب في الموعد المعيّن، هل يكون العفو أم يكون العقاب أم أنَّ تأخير العقاب هو الأنسب.

وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (الرعد: 41)

شرح الكلمـات:

نتوفّينّك: (انظر شرح الكلمات للآية 47 من سورة يونس).

بعض: بعضُ كل شيءٍ: طائفةٌ منه؛ وقيل جزءٌ منه، ويجوز كونُه أعظمَ من بقيته كالثمانية من العشرة (الأقرب).

التفسـير:

أي يا محمد، ما دام عقابنا يهدف إلى الإصلاح لا إلى الانتقام، فلا داعي للعجب إذا ألغينا بعض أنباء العذاب. فقد تشاهد بعض أنباء الوعيد يتحقق، بينما تجد بعضها الآخر يلغى، وليس في هذا ما يدعو إلى القلق، لأن الحساب النهائي في يد الله تعالى، وأن المعترضين على الأنباء التي تم إلغاؤها سوف يضطرون للمثول أمامه ، وعندئذٍ سوف تنكشف عليهم الحقيقة تماماً. إذن فيجب أن تُخضع  يا محمد، كلَّ أمر بحيث يحقق هذا الهدف الأسمى وهو البلاغ، وبأن لا تؤثر الانتقام والعقاب في كل حال، غاضاً النظر عن الغاية الحقيقية.

أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَالله يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ   (الرعد: 42)

شرح الكلمـات:

نأتي: أتاه: جاءه. أتى الأمرَ: فعله. أتى المكانَ: حضره. أتى على الشيء: أنفده وبلغَ آخِرَه. أتى عليه الدهر: أهلكه (الأقرب).

أطرافها: جمعُ طَرَفٍ وطَرْفٍ. والطرَفُ: حرفُ الشيءِ ونهايته؛ الناحيةُ؛ طائفةٌ من الشيء؛ الرجلُ الكريمُ. والطرْفُ: الكريمُ من الفتيان والرجال. الأطرافُ من الناسِ: خلافُ الرؤوس. الأطراف من الأرض: أشرافها وعلماؤها، هو من أطراف العرب.. أي من أشرافها وأهل بيوتاتها (الأقرب).

لا معقِّبَ لحكمه: أي لا رادَّ له ولا ناقضَ له (الأقرب).

التفسـير:

لقد دأب الكُتّاب المسيحيون على قولهم بأنه ليس في القرآن ما يؤكد أن محمداً قد أتى بأية آية وإنما اكتفى بادعائه بأنه سيأتي بها.(تفسير وهيري ج1، ص333). ولكن هذه الآية تشكل ردّاً حاسماً على زعمهم الخاطئ حيث يعلن الله فيها بأننا قد نريهم الآيات، ولكنهم لا يبصرونها إذ قال: أولم يروا أنّا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها ، بمعنى أن آثار انتصار الإسلام بدأت تلوح في الأفق طبقاً لنبوءات الكتب السالفة، وقد شرع الإسلام يغزو بيوت الكفار حيث إن أولادهم بدأوا ينضمون إلى جماعة المسلمين، ويسلم العبيد وعامة الناس، بل وعدد لا بأس به من علية القوم. فترى المؤمنين يشكّلون جميع طبقات المجتمع.

و”الأرض” هنا قد تعني “الجزيرة العربية”، والمعنى أن رسالة الإسلام تكتسب انتشاراً متزايداً في مختلف أنحاء الجزيرة. فقد أسلم أهل اليمن، والثابت تاريخياً أن بعضهم كانوا من اليهود والنصارى. كما آمن الغفاريون الذين كان منهم أبو ذر الغفاري، وأسلم أهل المدينة المنورة.

كما أن قوله تعالى نأتي الأرض ننقصها من أطرافها قد يكون إشارة إلى هلاك الكفار وفنائهم، لأن القرآن الكريم قد استخدم كلمة الإتيان بمعنى العقاب والهلاك، إذ قال: فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا (الحشر:3).  أي أنزل الله بهم العقاب بطرق لم يتصوروها. فمعنى الآية إذن أن كبارهم وعامتهم يتعرضون لصنوف العذاب، أو أن شتى أنحاء الجزيرة العربية عرضة لأنواع العذاب مما يكفي ليدرك به الكفار أن الله تعالى يُري آياته تأييداً للإسلام وتمهيداً لانتصاره.

والمراد من قوله تعالى: والله يحكم لا معقِّبَ لحكمه وهو سريع الحساب أنكم ما دمتم ترون أن الله تعالى يؤيد وينصر رسوله، فكيف تظنون أن أحداً يستطيع الحيلولة دون انتصاره. هل من أحد يقدر على إلغاء حكم الله تعالى.

وفي هذا درسٌ للمؤمن بأن عليه أن لا ينفك في طاعة أوامر الله تعالى غير مكترثٍ ولا قَلِقٍ لمكائد الأعداء.

وأما قوله تعالى والله سريع الحساب فليس المراد منه أنه تعالى يتعجل في محاسبة الناس، وإنما المعنى أنه لا يستعجل بالعذاب، ولكنه إذا قرر إهلاك قوم فلا يستغرق ذلك زمناً ولا يستطيع أحد  الحيلولة دون تنفيذ قراره.

وإذا فسدت عقول العلماء في أمة لدرجة أنهم لا يستطيعون فهم أبسط الأمور وأوضحها فما بال العوام؟ وهذا دليل على أنهم بحاجة إلى هادٍ من عند الله، إذ لو لم يُبعث نبي في مثل ذلك العصر الحالك فما هو الوقت الأنسب لبعثته يا تُرى؟

   وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ   (الرعد: 43)

شرح الكلمـات:

مَكَرَ: مَكَرَهُ: خَدَعَه. مكر الله فلاناً: جازاه على المكر. قيل: المكرُ صرفُ الإنسان عن مقصِدِهِ بحيلةٍ، وهو نوعان: محمودٌ يُقصد فيه الخيرُ، ومذمومٌ يُقصد فيه الشرُّ (الأقرب).

تَكْسِب: كسب الشيءَ: جمعه. وكسب مالاً وعلماً: طَلَبَه وربحه. كسب الإثمَ: تحمّله. كسب لأهله: طلب المعيشةَ (الأقرب).

التفسـير:

أي كيف يمكن أن تنجحوا في مكائدكم مع أنه تعالى على علم بكل مكر تمكرونه. فلا بدّ أن يحبط خططكم أنتم جميعاً، شأن البصير الذي يكفي وحده لضرب جماعة من العميان.

وأما قوله تعالى سيعلم الكفار لمن عقبى الدار فيعني به أننا نحيط علماً بكل ما ينسجه الكفار من مكائد، ولكنهم لا علم لهم بالتدابير التي نتّخذها ضدهم، وعندما نصيبهم بالخسائر سيدركون من الذي يملك زمام أمرهم ومصيرهم.

والسين في قوله تعالى سيعلم الكفار للتأكيد والتقريب، فالمراد من الجملة أنهم سيعرفون حتماً أن المسلمين هم المنتصرون في آخر المطاف. كما أنَّ فيها إشـارة إلى أن رؤوس الكفر لن يموتـوا إلا بعد أن يروا انتصار النبي وازدهـاره.

والحق أن هاتين الشهادتين تتسببان في انتصار الأنبياء.. أعني الآيات السماوية المتجددة، والأنباء التي وردت في كتب الأنبياء الأولين…

وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسلاً قُلْ كَفَى بِالله شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ   (الرعد: 44)

التفسـير:

إن أعداء أي نبي يرفضون كل دليل يسمعونه منه، ويسعون للتشكيك حتى في أعظم البراهين وضوحاً وجلاءً، وهذا في حد ذاته يُشكِّل دليلاً على صدق النبي وعلى فساد عقول الكفار وسوء نيتهم. وإذا فسدت عقول العلماء في أمة لدرجة أنهم لا يستطيعون فهم أبسط الأمور وأوضحها فما بال العوام؟ وهذا دليل على أنهم بحاجة إلى هادٍ من عند الله، إذ لو لم يُبعث نبي في مثل ذلك العصر الحالك فما هو الوقت الأنسب لبعثته يا تُرى؟ إلى هذا المعنى يشير الله تعالى هنا موضحاً لرسوله أن الأعداء سوف يقابلونك بالرفض وإن رأوا كل آية وسمعوا كل دليل. فلا تتضايق من جهلهم هذا، بل قل لهم: إن ربي يؤكد صدقي بآياته المتجددة، فلن يضرني إنكاركم شيئاً. كما ويشهد على صدقي مَن عنده العلم الصحيح بالكتب السماوية، فما قيمة إنكاركم إزاء هاتين الشهادتين العظيمتين؟ والحق أن هاتين الشهادتين تتسببان في انتصار الأنبياء.. أعني الآيات السماوية المتجددة، والأنباء التي وردت في كتب الأنبياء الأولين، وليس هناك شهادة هي أقوى منهما، وإنَّ التركيز عليهما اليوم أيضاً يجعل الإسلام غالباً منتصراً مرة أخرى، إن شاء الله تعالى.

Share via
تابعونا على الفايس بوك