الإتيان بما لم يأت به الأوائل

الإتيان بما لم يأت به الأوائل

هاني طاهر

  • الخطأ بالإعتقاد أن الصحابة والتابعين قد ” أخطأوا في فهم الأحكام والعقائد لفترات زمنية طويلة.
  • إن القرآن الكريم لا تنقضي عجائبة.
  • الزعم أن الصحابة أجمعوا على ” الخطأ ” في القرآن الكريم  غير مقبول وتنقضه آيات عديدة.

__

 إنه لَوَهْمٌ تصوُّرُ أنَّ الصحابـة والتـابعين والأمةَ من بعدهم قد أخطأوا في فهم بعض الأحكام أو بعض العقائد، ثم  ظلّ هذا الخطأ مُتَّفَقًا عليه إلى أن جاء أحد “الفطاحل الجدد” فصحّح للأمة خطأها؛ لأن هذا التصوّر يتضمّن أن القرآن الكريم ليس كتابا مُبينًا، بل طلاسم لم تُفهم إلا بعد أكثر من ألف عام. وهذا يتنافى مع آيات قرآنية عديدة، مثل قوله تعالى:

  إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (يوسف 3)..

أي “أنه كتاب مَطالِبُه واضحة ومقرونة بالأدلة والبراهين”. (التفسير الكبير).. وبالتالي فهو سهل الفهم. وإذا كان هناك حُكم أو عقيدة ظلّت تُفهم خطأً طوال هذه القرون فهذا عِوَج، لكن الله تعالى يقول:

  قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ (الزمر 29).

يمكن أن يشذّ بعض الناس فيبتدعوا حكما جديدا، ويفهموا آية خطأ، ويستنتجوا منها ما لا تحتمل، أما عموم الصحابة ومَن تبعهم فلا.

من هنا فإن علينا أن نقدِّر التفسيرات المروية عن عموم الصحابة والمتعلقة بالأحكام خاصةً. مع إيماننا بقضية أخرى وهي أن القرآن الكريم لا تنقضي عجائبه، وأن آياته تحمل معاني عديدة تنكشف مع الزمن. لكنَّ الزعمَ أن الصحابة أجمعوا على الخطأ غير مقبول وغير معقول وتنقضه آيات عدّة.

القرآن الكريم لا تنقضي عجائبه، وأن آياته تحمل معاني عديدة تنكشف مع الزمن. لكنَّ الزعمَ أن الصحابة أجمعوا على الخطأ غير مقبول وغير معقول وتنقضه آيات عدّة.

ولا أقصد بذلك عصمة الصحابي، كما لا أتحدث عن الإجماع، بل المقصود هو استحالة اتفاق الصحابة على خطأ في فهم عقيدة أو حكم أو خُلق.

وسأضرب بعض الأمثلة على ذلك..

لو قال لنا أحدهم إن إبراهيم لم يَصِلْ مكة قط ولا إسماعيل، بل هذه القصة القرآنية افتراضية للعبرة! قلنا له: هوِّن عليك، فهذا ما ظلَّ يُروى لنا تواترا منذ زمن الرسول ، وقال به الصحابة أجمعون، وظلّوا يتتبعون آثاره ، ولو صحَّ قولك لما كان القرآن عربي. فهل نقدِّم وَهْمَك على هذه الحقائق؟

ولو قال لنا أحد: إن نصيب الأنثى ليس نصف نصيب شقيقها في الميراث، بل لهذه الآية معنى مختلف جدا لم ينتبه له أحد منذ رسول الله إلا أنا، وسأثبت لكم ذلك، قلنا له: ليس من الحكمة أن نضيّع وقتنا في مثل ذلك.

ولو قيل لنا:

وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا (المائدة 39)

لا يُقصد به القطع المادي، بل المعنوي فقط، قلنا: ولماذا ظلّ اكتشافك غامضا على الصحابة وتابعيهم؟ ولماذا لم يَقُل رسول الله لهم هذا قط؟ ولماذا تركوهم يقطعون أيدي الناس ظلمًا؟

ولو قال أحد: إن الآية

  فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً (النساء 4)

تمنع الزواج بأكثر من زوجة واحدة، لأن هناك آية تقول

وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ (النساء 130)..

قلنا: إذن، كان الصحابة جميعا على الباطل، وقد رآهم رسول الله يعددون وسكت عن مخالفتهم هذه الآية التي تحرم التعدد!! وهذا يعني أنه حتى النبي  أيضا لم يفقه ما فقهتَ!

لو تمعّنوا قليلا لوجدوا أنهم هم الذين يخالفون، لا نحن، وأننا نحن أكثر من تنطبق عليه قاعدة: منهجنا القرآن والسنة بفهم الصحابة، مع ما فيها من إشكالات في دقة المقصود من هذه القاعدة وفي طريقة المشايخ في تطبيقها.

ولو قال أحد: الإسلام يمنع من ضرب الزوجة كليا، أيًّا كانت طبيعة هذه الزوجة، وأن الضرب في آية (واضربوهن) لا يعني الضرب المادي أبدًا، بل يعني شيئا آخر، قلنا له: الضرب هو الضرب المعروف، وقد وضّحه الرسول وبيّن أنه الخفيف جدا، وبيّنت الآية أنه خيار من خيارات. ولو كان المقصود به شيئا آخر غير المتبادر إلى الذهن لفهمه الصحابة ولرُوي عن بعضهم على الأقل استنكاره الشديد لهذا الفهم.

هذه بعض الأمثلة نواجه بها المبدِعين! أو المبتدعين.

بيد أن بعض المتسرعين يظنون أن جماعتنا تخالف ما كان عليه الصحابة في كثير من الأمور، مثل وفاة المسيح والقول بنـزول شبيه المسيح لا المسيح نفسه وتفسير ختم النبوة وعلامات الساعة والناسخ والمنسوخ وقتل المرتد والجهاد الدفاعي ورجم الزاني المتزوج ونقض زواج المتعة من جذوره،  وتفسير الجن الشبحي وما يتعلق به مثل قصة سليمان .

ولو تمعّنوا قليلا لوجدوا أنهم هم الذين يخالفون، لا نحن، وأننا نحن أكثر من تنطبق عليه قاعدة: منهجنا القرآن والسنة بفهم الصحابة، مع ما فيها من إشكالات في دقة المقصود من هذه القاعدة وفي طريقة المشايخ في تطبيقها.

أما وفاة المسيح فإن الصحابة قالوا به، وحوارهم عند وفاة الرسول    يتضمن ذلك، ولكن مع هذا لنفرض –جدلا- أنهم لم يقولوا، فهذا لا يعني أنهم قالوا بحياته في السماء، بل يعني أنهم فوَّضوا ذلك إلى الله ولم يخوضوا فيه.

وأما علامات الساعة، ومنها نزول المسيح، فهي في غالبها نبوءات أوحِيَت إلى الرسول في كشوف ورؤى، وهي بحاجة إلى تأويل، ولم يكن الصحابة يأخذونها على ظاهرها، بل كانوا يفوِّضونها إلى الله، ويحاولون أن يجتهدوا في فهمها، ولكن ليس على طريقة المشايخ، بل على طريقة الفقه الحقيقي للنبوءات، بدليل أنهم ظنّوا، بل أيقن بعضهم أن ابن صياد هو الدجال مع أنه لم يُحيِ الموتى ولم تتبعه كنوز الأرض ولم يكن أعور العين.

وأما تفسير خاتم النبيين فإن عائشة رضي الله عنها تحدثت عن مثل ما نقول، وإن عموم الصحابة ظلوا يؤمنون بنـزول المسيح، وهو نبي، مع إيمانهم بختم النبوة، إذًا لا بد أن يكونوا قد فهموا أن ختم النبوة لا يستلزم عدم بعثة نبيّ تابع، بل إنه يتضمنه. ولو كانوا ينكرون ذلك لسألوا رسول الله حين تحدث عن نزول المسيح وقالوا: كيف ينـزل وأنت آخر الأنبياء يا رسول الله؟ لكنه لم يُروَ أي نصّ مثل هذا.

وأما الناسخ والمنسوخ فإن الصحابة لم يكونوا يقولون به حسب الفهم السائد اليوم، بل كانوا يقصدون به الاستثناء والتخصيص والتقييد. ولو كان الصحابة يؤمنون بالنسخ التقليدي لسألوا رسول الله عن الأحكام المنسوخة.

وأما الجهاد العدواني فحاشا لله أن يكون الصحابة قد قالوا به، بل حاربوا المعتدين، ولكن لما كان جلّ الناس معتدين في تلك الأيام فقد اختلط الأمر على من جاء بعدهم، ففي تلك الأيام لو قلتَ يجب قتال الناس كافة لكانت هذه العبارة عادية، لأن الناس عموما محاربون. مهما يكن، فإن سيرة الرسول وسيرة الصحابة تبيّن بوضوح أنه كان هناك تفريق بين المحاربين وبين المسالمين، ومعاهداتهم خير دليل.

… أننا أقرب الناس إلى النص القرآني، وأننا أكثر الناس أخذا بظاهر اللفظ، مع أخذنا أيضا بالمعاني العميقة الأخرى له، وأننا أكثر الناس «سلفيةً»، وأن فهمنا هو الأقرب إلى فهم الصحابة، وأننا أشدّ الناس محاربةً للشذوذ في التفسير….

وأما قتل المرتد، فلم يقل به الصحابة قط، بل قالوا بقتل المرتد المحارب؛ فهم الذين عاشوا قصة ذلك الأعرابي الذي قال للنبي أقِلْني بَيْعتي، وهم الذين عاشوا ظروف توقيع صلح الحديبية وشاهدوا كيف قَبِل الرسول بأن يترك المرتد المدينةَ ويذهب بحرية إلى مكة.

وأما رجم المتزوّج فأين قال الصحابةُ به؟ وأين أجمعوا عليه؟ هذه كلها ظنون. نعم، يبدو من بعض الروايات أن شيئا من هذا قد قال به البعض، ولكن هذه القضية بحاجة إلى شيء من الدقة، خصوصا أن الرسول قد رجم أحد الزناة، وحيث إن هذا الحكم قد نُفِّذ قبل نزول آية الجلد فقد اختلط الأمر على الفقهاء لاحقا.. فقولنا ليس أكثر من تبيان هذا الغموض الحاصل، وهو ليس فهما جديدا لنصّ.. فالخلاف مع الفكر التقليدي في هذه المسألة ليس في فهم آية، بل في وجود هذه الآية؛ فهم يقولون إن هناك آية منسوخة، ونحن نقول: ليس هنالك مثل ذلك، وموضوع هذا المقال هو في ابتداع فهم لنص يتعلق بالأحكام خاصة، وليس في اختراع النصوص أو إنكارها.

وأما الجن الشبحي فلا شك في أن الصحابة فهموا منه ما نفهمه نحن في الجماعة الإسلامية الأحمدية، بدليل أنهم يعرفون ظروف نزول سورة الجن، ويعرفون أنها متعلقة بأناس غرباء جاءوا خفيةً، ففهموا من ذلك أن الجنّ يُطلق على الغرباء في القرآن الكريم كما كانوا هم يُطلقونه على الغرباء أيضا.

وأما تفسير بعض معجزات الأنبياء وبعض القصص القرآني فنحن لا نصرّ على تفسير واحد لها أولا، وثانيا: لم تصلنا تفسيرات الصحابة حتى يُقال إننا نخالفهم، وثالثا: لا بد أن عموم الصحابة قد تركوا الخوض في تفاصيل شرح هذه المعجزات وهذه القصص. لذا فنحن في العموم لا نخالف أقوالهم.

وأما تحديد قبر المسيح وإثبات أن اللغة العربية هي أم اللغات وما شابه ذلك من أمور فليس فيها أي خلاف لما قال به الصحابة الذين فوّضوا هذه المسائل إلى الله ولم يبحثوا فيها. ولا شك أن مثل هذه الأمور قد أبقاها الله للمسيح الموعود لتُكشف في عصره لتكون دليلا على صدقه ولتأتي في وقتها المناسب ومكانها المناسب.

قد يقال هنا ما قيمة بعثة المسيح الموعود ما دمنا نتبع الصحابة؟

ولا شك أن مثل هذه الأمور قد أبقاها الله للمسيح الموعود لتُكشف في عصره لتكون دليلا على صدقه ولتأتي في وقتها المناسب ومكانها المناسب.

فنقول: حاشا لله أن تكون بعثة حضرته لنقض ما كان عليه الصحابة أو تصحيحه، بل لتصحيح الأخطاء التي وقعت لاحقا والتي صارت أفعى تريد ابتلاع الإسلام نتيجة الظروف، مثل قضية حياة المسيح في السماء التي فنّدها حضرته، وأثبت أن الإسلام هو الدين الحيّ الوحيد، وأن الصالحين من أتباعه هم فقط من يتلقى الوحي من الله. إلى غير ذلك من توضيح معاني قرآنية غابت عن الفقهاء في العصور المتأخرة.

المهم توضيحه في هذا المقال أننا أقرب الناس إلى النص القرآني، وأننا أكثر الناس أخذا بظاهر اللفظ، مع أخذنا أيضا بالمعاني العميقة الأخرى له، وأننا أكثر الناس “سلفيةً”، وأن فهمنا هو الأقرب إلى فهم الصحابة، وأننا أشدّ الناس محاربةً للشذوذ في التفسير، لذا نصرّ أن الوفاة هي الوفاة وليس الرفع وافيا، وأن الإكراه في الدين المحرَّم هو كل إكراه وليس نصفه، وأن الله لا يحب أي عدوان، وليس أنه يحبّ بعضه، وأن القطع يعني القطع المعروف إضافة إلى معانٍ أخرى، وأن الضرب هو الضرب المعروف أيضا، مع إمكانية حمله معاني أخرى، وأن سنة الرسول هامة في تفسير الآيات والأحكام القرآنية، وأننا نرفض تخطئـة الأمة عـبر تاريخها، وأننا لا نقبل الاستهزاء والاستخفاف بماضينا، وأنه لا داعي للإتيان بما لم تأتِ به الأوائلُ.

Share via
تابعونا على الفايس بوك